إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

أحاديث السحر للامام السيد موسى الصدر

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    من تفسير سورة البقرة (1) للامام السيد موسى الصدر

    بسم الله الرحمن الرحيم
    {إنّ الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم
    الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}.

    الحقيقة في المنطق القرآني نجد ثلاثة عناوين مختلفة: عنوان الكذب،
    وعنوان الكفر، وعنوان النفاق.
    الكذب، وهو من أسوأ السيئات، حتى وصفته بعض الأحاديث بأنه مفتاح الشرور
    كلها، الكذب هذا يقلب المقاييس ويهدم الشؤون الإجتماعية العامة، لأنّ علاقات
    البشر بعضهم مع البعض تعتمد على واقع حاجاتهم وواقع كفاءاتهم، والحاجات
    والكفاءات عندما تبرز بصدق بإمكانها أن تتفاعل فتجد أمام كل حاجة تلبية،
    وأمام كل كفاءة حاجة من الآخرين، وبالتالي يستقيم الأمر بين أبناء المجتمع
    الواحد ويتكون المجتمع.
    والكذب يقلب هذه المقاييس ويعطي صورة مشوّهة عن الحاجات وعن الكفاءات،
    وبالتالي العلاقات العامة تتوتر، والكذب ورد في القرآن الكريم في آيات عديدة
    نبحث فيها بالتفصيل في الحلقات القادمة. لكن الكذب عبارة عن القول والتعبير
    بخلاف ما هو الواقع.
    والعنوان الثاني الذي هو أصعب من الكذب، الذي هو الكفر. الكفر هو الكذب
    النفسي والكذب الذاتي، لأنّ الله (سبحانه وتعالى) عندما خلق البشر جعل لكل
    إنسان ولكل موجود ولكل شيء اتجاهاً معيّناً في الموكب الأبدي الذي يشكّل هذا
    الوجود.
    فكما أنّ كل سراج يرتبط بالمصنع كي يكون منيراً ويفيد الجمع، كذلك لكل
    معلول، إنساناً كان أم شيئاً إتجاهاً نحو العلة. حركة مرادة ومقصودة،
    فالإنسان المؤمن والإيمان في منطق القرآن فكرة وذاتية، كما يُفهم من الآيات
    المباركة: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
    لخلق الله} (الروم: 30).
    الإيمان فطرة في نفس كل إنسان، فإذا كان الإنسان منسجماً مع هذه
    الفطرة، فهو اتجاه صحيح في هذا الموكب الكوني، وبالتالي سبب لوحدة الكون في
    المجتمع وسبب للسير نحو الخير ونحو الغاية من الخلق. أما إذا تنكر الإنسان
    لواقع إيمانه فهو كافر، أي جاحد بموقفه الكوني، أو مدبر عن الموكب الكوني
    الذي يسير نحو الأبدية. وهذا يعني أنه شاذ في هذه القافلة، يضعف وحدة القافلة
    بل يخلق تناقضاً داخل المجتمع، بل هو يكوّن تناقضاً بين نفسه وإرادته وذاته
    الواعية وبين جسمه الذي يخضع للقوانين الإلهية. فالكافر متناقض مع نفسه ومع
    مجتمعه ومع الكون، والكافر المؤمن بعكس الإيمان نادر جداً لأنّ القرآن يعتبر
    أنّ الإيمان هو الفطرة، الكافر مناقض لفطرته، وإذا وجدنا بصورة نادرة إنساناً
    يؤمن بغير الإيمان الطبيعي، يؤمن بالحجر أو بالصنم أو يؤمن بالآلهة، إذا كان
    معذوراً في ذلك مخطئاً في هذه العقيدة، فهو كافر في المنطق القرآني.
    أما الكافر، هو الذي يتنكر لذاتيته ولإيمانه، وعندما يتنكر عن وعي
    ونداء ضميره نحو الإيمان فهو على حد تعبير القرآن الكريم: {وجحدوا بها
    واستيقنتها أنفسهم} (النمل: 14). فهو ينحرف عالماً وعامداً. ولذلك يعتبر
    القرآن أنّ الإنذار والنصيحة لا تنفعه: {ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم
    أم لم تنذرهم لا يؤمنون}، لأنه واعٍ في قلبه انحراف. {ختم الله على قلوبهم
    وعلى سمعهم}. من الطبيعي أنّ الله لا يختم قلب الإنسان إذا لم يرد الإنسان
    ذلك فإرادة الله تتحقق بإرادة الإنسان نفسه.. وهذا المنطق القرآني في جميع
    الأسباب الكونية. مثلاً عندما يقول القرآن الكريم: {أوحى ربك الى النحل أن
    اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون}، أي إرادة الله ضمن التسلسل
    الطبيعي للكون. {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة}. يعني
    إذا أراد هذا الإنسان أن ينحرف عالماً عامداً فهو ختم على قلبه، وإرادة الله
    تتجسد بإرادته، فالله سبحانه ختم على قلبه وعلى سمعه وعند ذلك خضوعاً لنكرانه
    وانسجاماً مع غروره الذي لا يخضع للإيمان لا ينفعه الإنذار، وبالتالي قلبه
    الذي يجب أن يكون منسجماً مع عقله مختوم، وسمعه الذي يجب أن يكون منسجماً مع
    بقية جوارحه مختوم. وبصيرته وبصره كلتاهما منسجمتان مع واقع ذاتيته، فهو في
    عذاب لأنه يناقض نفسه ويناقض مجتمعه ويناقض الكون، وهو في العذاب بعد هذه
    الحياة حيث أنّ الله هيأ له الحساب العسير.
    هذا هو الكافر ولكن المرحلة الأقصى والتي ركز عليها القرآن تركيزاً
    عنيفاً فهو المنافق، والذي يعدّه القرآن أسوأ هذه العناوين. وسنبحث في بحث
    آخر عن النفاق وعن النتائج لهذه المصيبة الكبرى للإنسان. أعتقد أنّ هذه
    الليلة نكتفي بهذا المقدار على أمل التحدث فيما بعد.
    والسلام عليكم.

    تعليق


    • #17
      من تفسير سورة البقرة (2) للامام السيد موسى الصدر

      بسم الله الرحمن الرحيم
      {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب
      المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من
      القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم
      كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهَوا فإنّ الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون
      فتنة ويكون الدين لله فإن انتهَوا فلا عدوان إلاّ على الظالمين. الشهر الحرام
      بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
      عليكم واتقوا الله واعلموا أنّ الله مع المتقين. وأنفقوا في سبيل الله ولا
      تُلقوا بأيديكم الى التهلكة وأحسنوا إنّ الله يحب المحسنين}.

      هذه الآيات المباركة تشتمل على مجموعة من الأحكام، التي تصون كيان
      الأمة، وتحفظ شرف الإنسان وكرامته، وكرامة مؤسساته الإنسانية التي وجدت
      لأجله.
      فمَن بحث حول تبرير القتال، وجعله كالدفاع، ووجوب عدم الشروع فيه، إلاّ
      إذا كان الشروع من العدو، واحترام الأماكن المقدسة إلاّ إذا كان الشروع من
      العدو، واحترام الأماكن المقدسة إلاّ عندما يتصدى العدو من خلالها لضرب
      الإنسان، والتجنب للفتنة، وعدم هتك حرمات الله كالشهر الحرام، إلاّ إذا حصل
      الإعتداء من خلاله على الإنسان، فعليه أن يدافع عن نفسه.
      مجموعة هذه الأحكام تؤكد أنّ الكرامة الحقيقية هي للإنسان، وإنّ الشهر
      الحرام والبيت الحرام، والنفس المحرّمة، حُفظت، وتحترم لأجل كرامة الإنسان،
      حتى إذا حصل التعدي على كرامة الإنسان، يبقى الإنسان هو المفضّل، وهو الأساس
      للدفاع عن النفس.
      وهناك أحكام كثيرة تُستفاد من خلال هذه الآية، كقوله تعالى: {فمن اعتدى
      عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، حيث يسنّ حقاً للمعتدى عليه، ولكنه
      يسمح له بالعفو إذا لم يؤدّ العفو الى طغيان الظالم والركون الى الذين ظلموا.

      هذه الأحكام العظيمة في بداية هذه الآية ذكرتها تمهيداً لتفسير هذه
      الآية المباركة التي كثر البحث عنها: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا
      بأيديكم الى التهلكة}.
      ومن الغريب أنّ هذه الجملة {لا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} وقعت سنداً
      في يد بعض الباحثين عندما يسأل عن الدخول في الحرب والجهاد، وإنّ هذا الدخول
      إلقاء للنفس في التهلكة، فكيف يجوز للإنسان الملتزم بالحكم القرآني أن يلقي
      بنفسه في التهلكة، ويدخل الحرب أو الدفاع أو الجهاد. وهذا التفسير في منتهى
      الغرابة، بينما الآية بالذات، نزلت ضمن آيات الجهاد والدفاع عن النفس. ووجود
      الآية في هذا السياق، يلقي عليها ضوءاً واضحاً من الفهم والتفسير. فمعنى
      الآية الكريمة {وأنفقوا في سبيل الله}، الإنفاق أمر عام ويشتمل بصورة خاصة في
      هذا المقام:
      الإنفاق بالنفس، والإعطاء للنفس في سبيل الله أشرف أنواع الإنفاق. فإذا
      أنفقنا من مالنا، أو جاهنا، أو تجربتنا، أو علمنا، فقد أنفقنا بعض ما عندنا.
      أما إذا أنفقنا نفسنا، فقد أنفقنا كل شيء. ولذلك جعلت الأحكام الشرعية الموت
      في سبيل الله سبباً لغفران الذنوب كافة. فالذي يُقتل في سبيل الله يغفر له
      ذنبه ما تقدم منه وما تأخر. والسبب في ذلك أنّ الإنسان عندما يتوب، يتنازل عن
      بعض رغباته.
      وعندما يقضي صلواته وصيامه وغير ذلك من واجباته، يصرف بعض طاقاته.
      ولكنه عندما يقدّم نفسه قرباناً في سبيل الله، فقد قدّم الأساس، وهذا يؤدي
      الى مغفرة ذنوبه. فالإنفاق في صورته الكاملة: الإنفاق بالنفس في سبيل الله.
      ولكن الكلمة تشتمل على أنواع من الإنفاق أيضاً.
      وبعد ذلك، وبعد التأكد من ضرورة تقديم النفس في سبيل الله، يقول القرآن
      الكريم: {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة}. وجاءت هذه الجملة بمنزلة النتيجة
      من الجملة الأولى. عندما نرى أنّ الإنفاق في سبيل الله سبب لعدم إلقاء النفس
      في التهلكة. لأننا إذا امتنعنا عن الجهاد فسوف نمكّن الظالم والظالمين
      للسيطرة علينا. ووقعنا في هلاك دائم، أما إذا أنفقنا أنفسنا في سبيل الله
      أبعدنا عن أنفسنا خطر التهلكة، لأننا دخلنا من خلال الشهادة، حياة أبدية،
      وأبعدنا عن أمتنا الموت الأبدي والهلاك الأبدي، والذل الأبدي. وهذا يربط بين
      الجملتين: أنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة ربطاً وثيقاً
      لا مجال للشك فيه. ويربط بين هذه الآية وبين آيات القتال التي تعتمد جميعها
      على أساس العدل ودفع الإعتداء. ولذلك فالآية تُختم بهذه الجملة الرائعة
      القاعدة {وأحسنوا إنّ الله يحب المحسنين}.
      فكلمة لا تلقوا بأيديكم الى التهلكة معناها نقيض ما يفهمه بعض
      الباحثين، حيث يؤكد أنّ الدخول في الجهاد وخوض غمار الموت في سبيل الله هو
      البعد عن التهلكة، لا الجلوس في البيت والإمتناع عن الدفاع عن النفس وعن
      الأمة.
      وهكذا، نجد أنّ الدفاع من صميم الإحسان، ومن صميم رد الإعتداء، ومن
      صميم التقوى، ومن صميم الإنفاق في سبيل الله.
      فنسأل الله أن ننفق أنفسنا وكل ما نملك في سبيل الله حتى نبعد عن
      أنفسنا خطر الذل، وعن أمتنا خطر الموت البطيء والذل.
      وهكذا، نحن أعزاءنا وشبابنا الذين ينفقون أنفسهم في سبيل الله فيبعدون
      عن أنفسهم وعنا خطر التهلكة الإلهية إنهم من المحسنين، الله يحب المحسنين.
      والسلام عليكم ورحمة الله.

      تعليق


      • #18
        من تفسير سورة البقرة (3) للامام السيد موسى الصدر

        بسم الله الرحمن الرحيم
        {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإنّ الله يعلمه وما للظالمين من
        أنصار. إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم
        ويكفّر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير. ليس عليك هداهم ولكن الله
        يهدي مَن يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلاّ ابتغاء وجه الله
        وما تنفقوا من خير يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون}.

        لقد كنا في الليلة الماضية في الحديث عن الإنفاق بالنفس في سبيل الله،
        وإنّ هذا الإنفاق يبعد عن الإنسان خطر التهلكة، والآن نعود الى الإنفاق بغير
        النفس، من الإنفاق بالمال أو الجاه أو التجربة أو الصحة أو كل ما يملكه
        الإنسان، كما تؤكد ذلك الآية الكريمة في أول القرآن {ومما رزقناهم ينفقون}
        (البقرة: 3).
        قلنا إنّ الإنفاق في سبيل الله يبعد عن الإنسان خطر الإلقاء في
        التهلكة، وهذا الترابط في الإنفاق بالنفس اتضح في الحلقة السابقة، والحقيقة
        إنّ الترابط بين الأمرين ثابت في غير الإنفاق بالنفس أيضاً، لأننا إذا أنفقنا
        في سبيل الله من المال أو من كل ما نملك فقد أبعدنا عن نفسنا وعن مجتمعنا خطر
        التهلكة، والتهلكة في هذا الفهم هي التهلكة الإجتماعية، والعقد التي تحصل في
        المجتمعات، فالمجتمعات تنعقد وتتناقض وتنفجر، وتحصل الثورات والصعوبات ،
        وتتعقد الأنفس نتيجة للظلم الإجتماعي، ونتيجة للتفاوت الطبقي، ونتيجة لاحتكار
        بعض من أبناء المجتمع خيرات المجتمع جميعها، أو احتكارهم واغتصابهم لحقوق
        الآخرين، عندما يحصل في المجتمع انفجار فالإنفجار يعود الى مشاعر القلق
        والعقدة التي تنمو في نفوس الطبقات الكادحة، والطبقات الكادحة إنما تُحرم
        نتيجة الوضع الإجتماعي المسيطر على المجتمع، فإذا شعرت الطبقات المرفهة بوجود
        هذا الفرق وبضرورة المساعدة والإنفاق والإحسان فبعمله يرفع مستوى الطبقات
        الكادحة أولاً، وبذلك يمكّن تلك الطبقات من المشاركة في الحياة الإجتماعية،
        وبالتالي من رفع مستوى الحياة الإجتماعية التي يتمتع بها المحسِن والمحسَن
        إليه على حد سواء، وهذا مفهوم قوله تعالى في الآيات التي قرأناها في هذه
        الليلة المباركة.
        {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} وقوله تعالى: {وما تنفقوا من خير يوفّ
        إليكم}، فمعنى الكلمتين أنّ المحسن إذا أحسن الى الطبقات الكادحة عن طريق
        الإنفاق الفردي، أو الإنفاق الجماعي أو وضع نظام يؤمن الحياة السعيدة للطبقات
        الكادحة، بذلك يشركهم في تحمل المسؤولية وفي رفع مستوى الحياة الإجتماعية،
        فيتمتع الجميع بهذا المستوى، ويكون خيراً للمحسِن وللمحسَن إليه يوفّى إليه
        الخير كما يوفّى الى الآخرين، ومن جانب آخر إمتناعه من هذا الإحسان يجعل
        العقدة نامية في نفوس الكادحين إذ يبعدهم أولاً عن المشاركة في رفع حياة
        المجتمع، وبذلك يشارك في إبقاء مستوى المجتمع متدنياً فيخسر هو قبل أن يخسر
        الآخرون.
        ثم ابتعاده عن الآخرين في المشاركة يلقيهم في العقد النفسية وفي
        الأمراض التي تنتج عن الفقر والأمراض النفسية والمادية التي تحصل نتيجة للضعف
        والكدح والفقر، ولا تبقى مقتصرة على أولاد الفقراء بل تسري وتتعدى الى جميع
        أبناء المجتمع، فيعود الضرر الى الجميع، والعقد النفسية المتراكمة في الطبقات
        الكادحة النابعة عن الظلم الإجتماعي تؤدي الى الأحقاد. والى تراكم الأحقاد،
        والى التذمر، وبالتالي الى الثورة والإنفجار من الداخل فيعرّض المجتمع
        والإنسان الذي امتنع عن الإحسان الى التهلكة.
        فقوله تعالى أنفقوا في سبيل الله نتيجته الطبيعية أنّ الإنفاق إلقاء
        للنفس في التهلكة، وهذا هو المفهوم من الآية الكريمة، ونتيجة الآية الكريمة
        {وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون}. فالإمتناع عن الإنفاق يؤدي
        الى الظلم الإجتماعي الذي يعود الى الممتنع عن الإحسان قبل أن يعود الى مَن
        امتنع عن الإحسان إليه، كما أنّ إلقاءه في التهلكة هو نتيجة طبيعية من
        الإمتناع عن الإحسان لأنه يعرّض المجتمع للتهلكة.
        هذا المفهوم من الإنفاق أنّ الإنفاق يرفع مستوى الحياة الإجتماعية،
        ويعمّم الخير ومشاعر الخير، والإمتناع عنه يعرّض المجتمع للظلم والتهلكة
        الإجتماعية، والعُقَد والأمراض، هو مفهوم آخر ما عدا جزاء الله في الآخرة،
        ونحن نعتقد كما يؤكد لنا القرآن الكريم أنّ جزاء الله خير وأبقى، وما عند
        الله أوفى.
        فالإحسان الى المتعبين بالصورة الفردية أو بالصورة الجماعية، له نتائج
        في هذه الحياة الى جانب نتائجه في تلك الحياة والحياة الآخرة.
        والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

        تعليق


        • #19
          من تفسير سورة البقرة (4)للامام السيد موسى الصدر

          بسم الله الرحمن الرحيم
          {وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تُظلمون} (272).
          {وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم الى التهلكة وأحسنوا إنّ
          الله يحب المحسنين} (195).

          أيها الإخوة المؤمنون: قال الله تعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
          {وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تُظلمون}.
          قال كثير من المفسرين: إنّ جزاء الإنفاق يوفّى الى المنفق يوم القيامة،
          حيث يجد الإنسان جزاء عمله دون ظلم أو حرمان أو سهو في الحساب يوم القيامة.
          هذا المعنى صحيح وينسجم مع الآيات القرآنية الأخرى. ولكننا على ضوء
          معلوماتنا الإجتماعية، وعلى ضوء تطور العلم الإجتماعي يمكننا أن نفهم هذه
          الآية بصورة أخرى: وهي أنّ الإنفاق إنعاش للعائلات الفقيرة والفئات الكادحة
          التي لا تملك وسائل كافية للحياة الكريمة. وبالتالي، فالإنفاق يؤدي الى تأمين
          هذه الحياة لها، وتوفير الصحة والتغذية والتعليم والتربية لأولادها. ونتيجة
          هذا الإنفاق، إننا بإنفاقنا شاركنا وأشركنا عنا جديدة في بناء مجتمعنا، وفي
          رفع مستواه. وعندما يرتفع مستوى المجتمع، يستفيد منه كل إنسان، المنفق
          والمنفَق عليه دون تفاوت. وحتى المنفِق يستفيد من المجتمع الأرقى، حسب حياته
          ونشاطاته الواسعة، أكثر من المنفَق عليه.
          فالإنفاق عاد بخيره. الى المنفِق هنا، وفي الحياة الدنيا قبل الآخرة،
          وبمادته قبل معناه. فكلما ينفق الإنسان من خير، يوفّى إليه فوراً. وبالعكس،
          أي عندما يترك الإنسان المتمكن الإنفاق، فمعنى ذلك أنه أهمل مجموعات من
          المواطنين وتركهم يتخبطون في فقرهم، ومرضهم، وجهلهم، ولا يشاركون في بناء
          مجتمعهم. وهذا يؤدي الى حرمان المجتمع ككل من طاقاتهم. وعدم بلوغه المستوى
          المطلوب. والذين يخسرون من هذا هو المنفِق قبل المنفَق عليه. ثم إنّ هذا
          الوضع يجعلهم معرّضين للأمراض التي لا تقف عند أولاد الفقراء، بل تتجاوزهم
          الى جميع المواطنين، والى الأمراض الأخلاقية والمسلكية، الناتجة عن الفقر
          أيضاً.
          وبعد ذلك فإنّ العُقد النفسية التي تتكون في مثل هذا الوضع، والمشاعر
          السلبية التي تُنبت في مثل هذه المجتمعات غير العادلة، تعرّضها للهزات،
          والإنفجارات التي لا ترحم، ولا تعدل، وتهدر من ثروات المجتمع بصورة لا واعية،
          الكثير والكثير.
          وعلى ضوء هذا البحث نتلو الآية الكريمة مرة أخرى: {وما تنفقوا من خير
          يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون}، فنجد معنى آخر لكلمة {يوفّ إليكم} ولكلمة
          {وأنتم لا تُظلمون}. والمعنى الجديد أيضاً ليس خارجاً عن المدلول الإستعمالي
          للكلام، وهو ينسجم مع مواضيع أخرى من كتاب الله، ومن جملتها الآية الكريمة:
          {وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم الى التهلكة}، حيث أنّ الجملة
          الثانية، نتيجة حتمية للجزء الأول، وتأكيد على أنّ عدم الإنفاق تعرّض للهلاك
          الجماعي، لما يترتب عليه من المشكلات الأخلاقية والإجتماعية.
          وعندما اعتبرنا مفهوماً شاملاً للإنفاق، فإنّ الآية الثانية، تشمل
          الإنفاق بالنفس أيضاً، كما يؤكد ذلك ورود الآية الكريمة في سياق آيات الجهاد،
          فيصبح المعنى مبدأ عاماً إسلامياً، هو أنّ المطلوب من الإنسان أن يقدّم من
          ماله، ومن فكره، ومن طاقته، ومن نفسه، في سبيل الله. ومن سبل الله خدمة خلقه
          الذين كلهم عيال الله. ويكون الإنسان بذلك قدّم صورة مشرقة الى الله (سبحانه
          وتعالى) الذي هو خير مَن يعطى له.
          أما إذا امتنع عن هذا البذل وهذا الشرف، فقد تعرّض للهلاك، فيؤخذ ماله،
          أو طاقته، أو فكره، أو نفسه، بصورة أخرى، وهي صورة انفجار المجتمع، أو سيطرة
          الأعداء، أو غير ذلك. فتلازم الإنفاق، وعدم الهلاك هنا، مثل تلازم الإنفاق
          وعدم الظلم في الآية الأولى.
          والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

          تعليق


          • #20
            من تفسير سورة البقرة (5) للامام السيد موسى الصدر

            بسم الله الرحمن الرحيم
            {إن تُبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تُخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم
            ويكفّر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير. ليس عليك هداهم ولكنّ الله
            يهدي مَن يشاء وما تُنفقوا من خير فلأنفسكم وما تُنفقون إلاّ ابتغاء وجه الله
            وما تُنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تُظلمون. للفقراء الذين أُحصروا في
            سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم
            بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تُنفقوا من خير فإنّ الله به عليم.
            الذين يُنفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا
            خوف عليهم ولا هم يحزنون}.

            طالما أننا كنا في الحديث عن الإنفاق بالنفس وعن الإنفاق بالمال، علينا
            أن نعود فنتذكر أنّ من أنواع الإنفاق هو الإنفاق بالعلم أو التجربة أو
            الخبرة، فهذا الإنفاق له أثره الإجتماعي الكبير، كما أنّ المطلوب من الإنسان
            المؤمن بالله أن لا يكون أنانياً يريد الشيء لنفسه، فالشيء الذي له في
            الحقيقة أمانة بيده من الله، فعندما ولدنا لم نكن نملك شيئاً فقدّم لنا ربنا
            كل هذه النعم، وقد استفدنا هذه النعم الإلهية من الظروف الإجتماعية المختلفة
            من وراثة وتجربة للآخرين، ووجود للمشترين والأمن والخبرة والأوضاع العامة.
            فقد شارك في ثروتنا وفي خبرتنا وفي علمنا وثقافتنا، المجتمع بجميع أبنائه،
            والماضي بجميع الذين حاولوا وعملوا وقدّموا تجارب للآخرين، كما أنّ المستقبل
            شارك في الإمكانات لطموحنا إليه، ولمخططاتنا لتأمين حياة أولادنا والأجيال
            القادمة، وهكذا نجد أنّ كل ما نملكه من مال أو جاه فهو ناتج عن الجهد الجماعي
            الحاضر والماضي والمستقبل. وما نملكه من الخبرة والثقافة والعلم، فقد تعلمناه
            من خلال الكتب والأساتذة والمدارس التي أمّنها لنا الآخرون الماضون والآباء،
            وهكذا نجد أنفسنا أننا مدينون بعمل الآخرين، فإذا أردنا أن نحتكر ما نملك
            لأنفسنا، فقد احتكرنا ما ليس من حقنا، فعلينا أن ننفق من علمنا ومن خبرتنا
            ومن خدماتنا. كما أنّ الواجب علينا أن ننفق من أموالنا، وبعبارة أخرى يريد
            القرآن الكريم أن يجعل الإنسان مؤمّماً يعتبر نفسه مُلكاً للأمة، كما يعبّر
            عنه القرآن في هذه الآية {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} (الحديد: 7) فما
            نملكه استخلاف من الله، علينا أن ننفقه. ومن جانب آخر، فإنّ تقديم النفس
            والمال والجاه خير لنا وسعادة لدنيانا ولأخرانا، كما ظهر من خلال الحلقتين
            السابقتين، وهذا المفهوم يظهر بشكل بارز في واجبات الإنسان الصائم بعد أن
            يفطر فمن أوجب الواجبات زكاة الفطرة، وقد ورد في الأحاديث الشريفة أنّ زكاة
            الفطرة تصون حياة الإنسان. وهذا من الطبيعي، كما برز من خلال الحلقتين
            السابقتين، أنّ الإنفاق سلامة للنفس، وسلامة للمجتمع، وأنّ ترك الإنفاق يؤدي
            الى ظلم إجتماعي، ويؤدي الى إلقاء النفس في التهلكة، وبذلك عندما يريد
            الإسلام أن يجعل سعادة الإنسان مكتملة يوم العيد يفرض عليه أن يقدّم الصدقة،
            زكاة الفطرة، بمقدار كل فرد من أفراد عائلته للفقراء، حتى يُشرك الآخرين في
            فرحة العيد، وحتى يتمّم تجارب رمضان من التحسس بآلام الآخرين، وحتى يؤمّن
            حياة المجتمع من قِبل الإحسان والصدقات.
            وهنا نصل الى هذه النقطة لكي نتأكد أنّ الإنسان في هذا العيد بالذات،
            عندما يرى كثيراً من أبناء هذه الأمة واقفين في صفوف القتال، يُنفقون أنفسهم
            وأموالهم وحياتهم وشبابهم وأطرافهم للموت في سبيل الدفاع عن الأمة. فالصدقة
            الحقيقية هي التي تجعل هذه الأموال في خدمتهم، فعلى المسلمين في هذا العيد
            قدر المستطاع، وبمقدار ما يتمكنوا، أن يساهموا بأموالهم وبطاقاتهم، وبالمعدات
            والأمتعة والأغذية والأدوية وجميع خدماتهم واختصاصاتهم أن يؤمّنوا للمقاتلين،
            فهم الذين بإنفاقهم للنفس يحفظون لأمتهم، ولنا بصورة خاصة، الخروج من
            التهلكة، أما إذا تخلّفنا عنهم - لا سمح الله - فهذا معناه إبقاء الأمة في
            حالة الذل، وفي حالة سيطرة الظالمين، وفي حالة عدم تملّكها لتقرير مصيرها.
            فيا أيها الإخوة المؤمنون، إجعلوا العيد خالداً لأمتكم عن طريق دعم
            المقاتلين، واجعلوا عائلات المقاتلين في أعياد كما أنتم في مثل تلك الأعياد،
            واجعلوا العيد عيداً إنسانياً لتحرير الإنسان العربي والإنسان المسلم من جراء
            الظلم والطغيان والتخلّف وعدم التحسس بآلام الآخرين.
            هكذا يكون العيد قد حلّ علينا بصورة كاملة ومفرحة، وعند ذلك نفرح ونحمد
            الله على ذلك.
            والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

            تعليق


            • #21
              بسم الله الرحمن الرحيم

              شكرا جزيلا الشيخ ابو محمد العاملي على هذا الموضوع


              اللهم يا راد يوسف على يعقوب ... رد إلينا سيدنا الصدر السجين
              يا الله

              تعليق


              • #22
                .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الله يبارك فيك اخي الفاضل على هذه المشاركات القيمه والتي تفيدنا فجزاك الله خير الجزاء واحسنتم.

                تعليق


                • #23
                  من تفسير سورة آل عمران للامام السيد موسى الصدر (6)

                  الايات 92-95 من سورة آل عمران
                  المواضيع الواردة في هذه الآيات التي تُليت، مواضيع عديدة ومتفاوتة، وهي
                  مترابطة أيضاً، ولكنها خارجة عن حصيلة ندوة واحدة. ولذلك، أفضّل أن أختار في
                  هذه الندوة، بداية هذه الآيات التي تُليت، والتي تبدأ بهذه الآية الكريمة:
                  بسم الله الرحمن الرحيم
                  {لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبون وما تُنفقوا من شيء فإنّ الله
                  به عليم. كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه من
                  قبل أن تُنزَّل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فمَن
                  افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون. قل صدق الله فاتّبعوا
                  ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}.

                  هذه الآيات الأربع، تحدّد معالم مبدأ إسلامي، بل مبدأ عقلاني كبير، هو
                  أساس التحرك في حياة الإنسان. فعندما نقول: {لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما
                  تحبّون} نعني بالبر، كل كمال من مادي أو معنوي، روحي أو جسمي، فكري أو عاطفي.
                  كما أنّ كلمة {تُنفقوا} تعني البذل مما نحب، من مال أو جاه، أو تجربة، أو
                  تنازل عن الراحة، أو عن الأنانية، أو أمثال ذلك.
                  فالآية تؤكد أنّ الإنسان في سبيل الكمال، أي كمال كان لا يمكن أن يبلغ
                  الكمال إلاّ فكري أو عاطفي. كما أنّ كلمة {تُنفقوا} تعني البذل مما نحب، من
                  مال أو جاه، أو تجربة، أو تنازل عن الراحة، أو عن الأنانية، أو أمثال ذلك.
                  فالآية تؤكد أنّ الإنسان في سبيل الكمال، أي كمال كان لا يمكن أن يبلغ
                  الكمال إلاّ إذا أراد أن يتمسك بكل ما يحب، فيحتفظ براحته، وبماله، وبجاهه،
                  وبمكانه، فلا يمكن أن يبلغ البر نهائياً، ولا يمكن أن يخطو خطوة نحو الكمال
                  إطلاقاً.
                  إبتداءاً من الفلاح، عندما يريد أن يحصد كميات كبيرة من القمح، فهو
                  بحاجة الى أن يتنازل عن كمية أقل منها بدرجات من القمح. فيدفن هذه الكمية تحت
                  الأرض، على أمل أنّ هذه الكمية التي دُفنت تحت الأرض، والتي ضحى بها، وتنازل
                  عنها، سوف تتحول بعد موتها وبعد فنائها الى كميات كبيرة من القمح، فقد بلغ
                  الفلاح، البر، أي مئات من الكيلوات من القمح، بعد أن أنفق قسماً قليلاً مما
                  يحب من القمح. وهكذا الذي يشتغل بالأعمال، والتجارة لا يمكن أن يبلغ الأرباح
                  إذا لم يغامر ولم يضع رأسماله معرّضاً للخطر.
                  كذلك الطالب، عندما يريد أن يبلغ درجة من العلم، وكمالاً من الثقافة،
                  فعليه أن يسهر الليل، وأن يتعب، وأن يسافر، وأن يضغط على نفسه لكي يحتفظ ببعض
                  ما يدرس، يحفظه ويفكر فيه حتى يتثقف ويكتمل.
                  إذاً، على صعيد علمي تجاري، زراعي، الإنسان لكي يصل الى مرحلة كاملة،
                  لا بد من أن يضحي.
                  كذلك في حياته الإجتماعية، الإنسان الفرد يشعر بحريات، لكن عندما يريد
                  أن يشكّل "عائلة" أي أن يوسع نفسه، أن يحوّل الفرد الى جماعة صغيرة، أن ينجب،
                  أن يعيش حياة أسعد، فلا بد من أن يتنازل عن بعض حرياته، وأن يلتزم ببعض
                  القيود، بأن أنفق مما يحب. كذلك بالنسبة الى المجتمع الكبير، وما نقول في
                  المسائل الإجتماعية والفكرية والعاطفية، والمادية، نقول في المسائل المعنوية.

                  فالإنسان عندما يريد أن يكتمل وأن يقترب الى الله (سبحانه وتعالى)، لا
                  بد من أن يتنازل عن أنانياته، وأن يحطّم قيوده الخاصة، وأن يجمّد أصنامه. أي
                  أنّ الإنسان يرتبط في حياته العادية بأشياء مما يحب. فإذا يريد أن يكتمل فلا
                  بد أن يقطع صلته بهذه الأمور واحداً تلو الآخر حتى يتسع ويكتمل ويبلغ الكمال،
                  أي القرب من الله (سبحانه وتعالى). وهذا أساس ديني ثابت. لكي لا يبالغ
                  الإنسان في هذا المبدأ فيتنازل ويضحي ويتقشف أكثر من اللزوم. تأتي الآية
                  الثانية فوراً قائلة: {كل الطعام كان حِلاً لبني إسرائيل إلاّ ما حرّم
                  إسرائيل على نفسه من قبل أن تُنزَّل التوراة قل فأتوا بالتوراة فأتلوها إن
                  كنتم صادقين فمَن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق
                  الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً}.
                  مشيرة هذه الآيات الى أنّ للتنازل حدوداً. فالإنسان لا يجوز أن يتنازل
                  عن كل ما يحب لمجرد أن ترك ما يحب يؤدي الى الكمال. بل ترك ما يجب أن يتركه
                  في سبيل ما هو أوسع وأشمل، ترك المحرم، ترك المكروه، ترك المحذور. هذا هو
                  المطلوب. وليس التصوف الذي يقول بترك كل ما يرغب إليه الإنسان ولو كان مباحاً
                  حلالاً. فالمبدأ الإسلامي يقول: {إنّ الله يحب أن يرى آثار نعمته على عبده}
                  ويقول أيضاً: {إنّ لله مباحات يحب أن يأخذ بها العبد}.
                  على هذا الأساس، أن يحجّر الإنسان على نفسه بعض المحللات، وهذا أيضاً
                  محظور. فكما أنّ ترك المحرمات مطلوب. ممارسة المباح مطلوب، حدود وضعت خلال
                  هذه الآيات. للآية الأولى المطلق التي تؤكد أننا لا يمكن أن نصل الى الكمال
                  إلاّ مع الإنفاق مما نحب. ودون شك أنّ الصيام إنفاق مما نحب، إنفاق من
                  الراحة، إنفاق من الرغبة، إنفاق على الفقراء، وإنفاق للشهوات، وهذا كمال،
                  وأصدق أنواع الكمال.
                  ولذلك، فهذه الآية تتناسب جداً مع صيام المؤمنين. كما أنّ الحدود التي
                  وردت في الآيات الأخرى بارزة في آية كريمة أخرى، عندما يقول القرآن الكريم:
                  {ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك، ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء: 92)
                  الإعتدال، والعدالة مبدآن إسلاميان لا ينفصلان.
                  نسأل الله أن نمارس، وأن نقف، وأن نتوفق للعمل بهما.
                  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                  تعليق


                  • #24
                    من تفسير سورة آل عمران (مفهوم المعاد) للامام السيد موسى الصدر (7)

                    بسم الله الرحمن الرحيم
                    {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أنّ
                    بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذّركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد}.آل عمران
                    (30)

                    بسم الله الرحمن الرحيم: {وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا قالوا
                    أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون} (فصّلت: 21).
                    وفي هذه الحلقة، نتمكن من إلقاء الأضواء على المحاسبة الإلهية، وعلى
                    مفهوم المعاد والجنة والنار، في أبعادها العامة، تاركاً البحث في التفاصيل
                    للعلم المختص بها.
                    نتمكن من ذلك، بعد معرفة المعادلة القرآنية حول مساواة الإنسان لسعيه،
                    وبعد التذكر للغاية من الموت والحياة، وغير ذلك مما أشير إليه في الحلقات
                    الثلاث السابقة.
                    أولاً: إنّ العمل عندما يصدر عن الإنسان، يبقى في العالم دون فناء، أو
                    تقلص. يبقى بصورته الأصلية، أو المتطورة. وينعكس على الإنسان، لأنه صادر عنه،
                    وأنه عاش العمل من خلال نيته، ومن خلال سعيه. وهذا هو مفهوم تسجيل العمل على
                    الكتاب الذي يخرجه ربنا إليه منشوراً يوم القيامة، ومعنى شهادة الأيدي
                    والأرجل والجلود. وهذا هو معنى إلزام الطائر في عنق الإنسان، وغير ذلك من
                    التعبيرات، التي نراها في هذه الآيات {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه
                    ونُخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم
                    عليك حسيباً} (الإسراء: 13 و 14).
                    وقوله تعالى: {حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلوده بما
                    كانوا يعملون} (فصّلت: 20).
                    وهذا العمل أيضاً ينعكس على العالم، مهما كان العمل صغيراً، فلا يمكن
                    أن يحدث في الكون حادث، إلاّ ويتفاعل وينعكس ويؤثر على مختلف الموجودات. وهذا
                    أيضاً هو مفهوم تسجيل العمل في الكتاب، كتاب الكون الذي ورد في القرآن
                    الكريم.
                    وبقاء الفعل لا يحتاج دركه الى أكثر من دقة في الحقائق الكونية الثابتة
                    التي اكتشفها العلم، ويؤكدها العقل والتجربة. يبقى العمل بعد صدوره، بكمّه
                    وبنوعيته وبآثاره.
                    ثانياً: إنّ هذه المساعي والأعمال الصادرة عن الإنسان، هي بمنزلة ترسيم
                    تدريجي للوحة، هي لوحة وجود الإنسان وحياته. فكل موقف منه هو بمنزلة ريشة
                    تتحرك لترسم صورة. واللوحة في الحقيقة، هي مجموعة الريشات المستعملة، أو قل
                    إنّ الذات الإنسانية، عدّاد يعدّ الحركات، ويحفظها، ويجسدها، ويصونها خلال
                    الزمن.
                    ثالثاً: والجزاء، هو معايشة الإنسان في الآخرة، لأعماله التي صدرت عنه
                    في الحياة الدنيا، وآثار هذه الأعمال. ومن الطبيعي أنّ صورة العمل في العالم
                    الآخر، تختلف عن صورته هنا، ولكنهما عن حقيقة واحدة يعبّران، وعن هذه الحقيقة
                    يكشفان، كالماء عندما يتجمد، أو يتبخر.
                    فالإنسان في الآخرة يجد ما عمل من خير أو شر محضراً. يعرفهما، ويميزهما
                    بدقة، ويدرك مسؤوليته عنهما. وبالتعبير القرآني {كفى بنفسك اليوم عليك
                    حسيباً}.
                    والحقيقة، أنّ العذاب والثواب هناك، هما خلاصة الأعمال والتصرفات
                    الصادرة عن الإنسان، لا أنهما جزاء يختلف في النوعية والحقيقة، عن الأعمال.
                    يحصل في عالمنا مثلها، مثلاً: السجن أو الغرامة للسارق، أو لكل مَن خالف
                    قوانين السير. فالسجن والمال حقيقتان تختلفان عن السرقة أو السير المخالف
                    للقانون. بل العذاب، هو صورة علوية، ملكوتية، للأعمال الصادرة عن الإنسان.
                    ولعلنا نتمكن أن ندرك بدقة صورة كريهة للعمل السيئ الذي يصدر عن شخص في غطاء
                    جميل. فلنفكر في اغتصاب حق أو إيذاء بريء، أو كبرياء على الناس، على
                    المستويات العالية، ثم ندرك صورها الواقعية، وبشاعة تلك الصورة، بشيء من
                    الدقة. وهكذا، نرى جانب الثواب، وترابطه مع العمل الصالح في حياتنا هذه.
                    رابعاً: ومعنى ذلك أنّ جزاء كل عمل حاصل مع العمل مباشرة ودون تأخير،
                    وفي حال حصوله، ولكن حصوله في العالم، والغطاء الجميل الذي يغطيه، وظروف هذا
                    العالم، ودوافع العمل، والمنافع الحاصلة منه، والغفلة، وغير ذلك، تمنع عن
                    رؤية حقيقة العمل، وبالتالي عن الجزاء. وحسب التعبير القرآني: {لقد كنت في
                    غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} (ق: 22).
                    فلندرك أنّ التحرك له من الأبعاد الخالدة، والصور الباقية المتتابعة،
                    ما يجعلنا نفكر في المسؤولية الإلهية، وفي تأثير العمل على أنفسنا، أو على
                    العالم. نفكر في ذلك كله طويلاً، قبل الإقدام على العمل.
                    وأخيراً، نختم هذه الأمور بمثال، ولنتصور الفاكهة التي نضجت وهي كاملة،
                    أو معيوبة. لكي نتأكد أنّ سلامة هذه الفاكهة، أو عيبها، ليست وليدة يوم
                    الحصاد. بل هي نتيجة سعي المزارع ساعة السقي، أو عدمه، وساعة مكافحة الأمراض
                    وخدمة الشجر، أو تركهما. فالعيب أثر مباشر لكسل المزارع، ساعة السقي، أو وقت
                    الكفاح للأمراض وغير ذلك. وليست وليدة الساعة الأخيرة. وهكذا الجزاء، ليس
                    نتيجة العمل والوضع يوم المعاد، بل هو أثر فعلنا في هذه الدنيا. فنحن هنا، إذ
                    نتصرف نعيش فعلنا، ونعيش جزاء فعلنا، ولكننا في غفلة عن رؤية الجزاء دون
                    العمل. وسنرى ذلك يوم القيامة.
                    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                    تعليق


                    • #25
                      السلام عليكم ورحمة الله

                      شكرا" على هذة الخطوة الجميلة اخ ابو محمد والله يعطيك العافية وتقديم الكثير الكثير في اي حديث يخص الأمام الصدر ونسأل الله تعالى ان يعيد امامنا المغيب سالما "ونشاركه اعمال شهر رمضان ونصلي خلفه صلاة انشاء الله تحياتي .. وشكري لك من جديد والله يفتح قلبي لكل من يتلفظ بأسم الأمام والله ولي التوفيق.

                      تعليق


                      • #26
                        مفهوم المعاد (2) للامام السيد موسى الصدر

                        بسم الله الرحمن الرحيم
                        {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون
                        تجارة عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيماً. ومَن يفعل
                        ذلك عدواناً وظلماً فسوف نُصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً}.النساء (29
                        - 30)

                        الملاحظ في هذه الآية أنّ القرآن الكريم بصدد تأسيس مبدأ عامل وشامل في
                        الإقتصاد عندما ينهي عن أكل الأموال بغير التجارة الناتجة عن التراضي، ومبدأ
                        التجارة المطلقة الخاضعة للتراضي من الطرفين، لا خاضعة من طرف واحد.
                        مبدأ عام لا يخضع إلا للقيود الواردة في القرآن الكريم وفي أماكن أخرى
                        من جهل أو ظلم أو غش أو غير ذلك من الأمور، ما عدا هذه القيود فإنه مبدأ عام
                        يسمى في الحقوق بأصالة حاكمية الإرادة، فالإنسان حر في أن يتعامل على ضوء
                        المصالح من خلال شكل يختاره، أو أي حد يختاره، شرط أن لا يكون استغلال أو
                        استثمار أو إكراه أو ضغط من طرف على طرف آخر.
                        هذا المبدأ واضح في الآية الكريمة، ولكن في هذه الآية ملاحظتان
                        إجتماعيتان كبريان: الأولى، التعبير الجميل: {لا تأكلوا أموالكم بينكم
                        بالباطل}. فقد يسند القرآن الكريم الأموال الموجودة بين أيدي الناس الى
                        الناس، فكأن ما لكل فرد هو للجميع رغم أنّ القرآن الكريم يؤكد على الملكية
                        الشخصية، ولكن مع ذلك كون المال بيد الإنسان من منطق القرآن أمانة، ورغم عدم
                        جواز تصرّف شخص آخر في هذا المال فهو مال للجميع.
                        فبهذه السورة يحاول القرآن الكريم أن يؤكد أنّ هذا المجال رغم ملكيته
                        لفرد، فهو كالمال الثابت للجماعة، فإذا احترم إحترم مال الجماعة، وإذا لم
                        يحترم وأكل بالباطل فقد خسرت الجماعة هذا المال.
                        وهذا الأسلوب القرآني وارد في أماكن مختلفة من القرآن الكريم، بالنسبة
                        للأولاد والأموال وبالنسبة الى المصالح الإجتماعية وغير ذلك.
                        عندما يجعل أموال الناس، وكفاءة الناس، وخصائص الناس، وحاجات الناس
                        للجماعة فلا يفرّق القرآن الكريم بين الفرد والجماعة. والمبدأ الأبرز من هذا
                        المبدأ ذيل الآية عندما يقول، بعد أن يتمم المبدأ العام: {لا تأكلوا أموالكم
                        بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم}. يضيف القرآن الكريم هذه
                        الجملة: {ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيماً}. من الظاهر {لا تقتلوا
                        أنفسكم} يعني لا تنتحروا أو إذا قلنا أنفسكم مثل مبدأ أموالكم هي نفس كل
                        إنسان فلا تقتلوا أنفسكم، يعني لا تقتلوا بعضكم بعضاً إنّ الله كان بكم
                        رحيماً. هذا المعنى الظاهر، ولكن وجود هذه الفقرة مباشرة وضمن آية واحدة، بعد
                        كلمة {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، تلقي هذه الكلمة أضواء جديدة على
                        مفهوم المبدأ الأول، ولعل الواضح من هذه المقارنة أنّ القرآن الكريم يريد أن
                        يقول إنكم أيها المؤمنون إذا أكلتم أموالكم بينكم بالباطل وما جعلتم مبادلتكم
                        بالتراضي فسوف تتعرضون للمقاتلة الداخلية.
                        الأخطار التي تتعرض المجتمعات لها من جراء عدم احترام أموال الناس وأكل
                        الأموال بالباطل والرغبة في استثمار القوي للضعيف، وفي اغتصاب القوي من
                        الضعيف، هذا الوضع يعرّض المجتمع للخطر أو للإنتحار الداخلي، وللمقاتلة بين
                        أبناء المجتمع بعضهم مع بعض. وهذا الأسلوب القرآني وارد في آيات الصدقات،
                        مثلاً عندما يقول القرآن الكريم في الآية: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا
                        بأيديكم الى التهلكة} (البقرة: 195)، عدم الإنفاق يعرّض المجتمع للهلاك، وهذا
                        الشيء الذي نشاهده في المجتمعات التي ليس فيها العدالة، تتعرّض هذه المجتمعات
                        للإنقسامات وللثورات وللإنفجارات الداخلية، وتتعرّض بالتالي للتهلكة كما
                        يسمّيه القرآن الكريم.
                        هذا أيضاً عندما يكون المجتمع متنكراً للنظام الصحيح الصادر عن
                        التراضي، والقائم على العدل بين أبنائه في مبادلة الأموال، يتعرّض هذا
                        المجتمع بدون شك للمقاتلة الداخلية، أو على حد تعبير القرآن الكريم قتل النفس
                        الذي يحصل نتيجة لهذه الأوضاع والمخالفات.
                        ومن الطبيعي أن يكون في نهاية الآية: {إنّ الله كان بكم رحيماً}. وهنا
                        يوضح في هذه النقطة ما ورد في الآية الأخرى {ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً}
                        مَن يفعل ذلك يعني يقتل نفسه، أو يعني أكل أمواله بينهم بالباطل، {ومَن يفعل
                        ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً} في الدنيا ونصليه ناراً في الآخرة،
                        كنتيجة طبيعية للإنحراف الحاصل من الأعمال، وكان ذلك على الله يسيراً.
                        والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                        تعليق


                        • #27
                          مفهوم المعاد (3) للامام السيد موسى الصدر

                          بسم الله الرحمن الرحيم
                          {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلاّ مَن ظُلم وكان الله سميعاً
                          عليماً}.النساء ( 148)

                          ِ أيضاً، مثل كل ليلة، هذه الآيات تحتوي على مجموعة مبادئ وأبحاث
                          وتعاليم. وندواتنا المتواضعة، لا تحتمل كل هذه الأبحاث. ونتشرف بأن نفكر،
                          ونقف متأملين بعض الشيء أمام الآية الأولى من هذه الجولة، وهي الآية التي
                          تلاها الأستاذ شريف الأخوي، حفظه الله، في هذا الوقت المبارك: {لا يحب الله
                          الجهر بالسوء من القول}.
                          السوء من القول، يعني القول السيئ. عندما يجهر به الإنسان، لا يحب الله
                          هذا الجهر. وهذا يعني، الغِيبة، لأنّ الغِيبة هي جهر بالقول السيئ. عندما
                          يذكر الإنسان أخاه الإنسان، بالقول السيئ فقد جهر بالسوء من القول. وهذا موقف
                          لا يحبه الله. وسبب عدم حب الله له لأنّ هذا الموقف هو يضر الإنسان أقصى ضرر
                          ممكن. والسبب في ذلك، أنّ الغِيبة، أو ما عبّر عنه القرآن الكريم في هذه
                          الآية: {الجهر بالسوء من القول} عبارة عن ذكر الإنسان أخاه بما يكرهه أو
                          يغضبه أو يشينه.
                          وهذا يعني، أنّ الإنسان بكلمته يكشف عيوب الناس، ويفضح الغائبين،
                          ويزعزع ثقة الناس فيهم. وإذا تعمّقنا في هذا الموقف، وأخذنا بعين الإعتبار
                          أنّ الإنسان يعيش بين مجتمعه ويخدم مجتمعه، ويستفيد مجتمعه من كفاءاته،
                          بثقتهم، بثقة الناس في الإنسان. فعندما نراجع الطبيب لمعالجة مريض، ثقتنا في
                          الطبيب تدعونا الى مراجعته، أما إذا لم نكن واثقين من سلوك طبيب فإننا لا
                          نرجع إليه أبداً. كذلك مراجعتنا للمعلّم، أو للمهندس، أو للبائع، أو للعالم
                          الديني، أو للحاكم، يعتمد كل ذلك على ثقتنا به.
                          فالثقة بالشخص، وجوده، حياته، فائدته للمجتمع، مشاركته في الحياة
                          العامة. أما إذا انتزعت الثقة، فمعنى ذلك أنه مات، على الصعيد الإجتماعي. فقد
                          المجتمع هذا الشخص.
                          {ولا يغتب بعضكم بعضاً} (الحجرات: 49) يضيف القرآن الكريم مفلسفاً هذا
                          النهي بقوله: {أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} (الحجرات: 12).
                          والحقيقة، أنّ الغِيبة، تماماً، منزلتها منزلة مَن يقص لحماً من أخيه
                          الميت، أو أخيه الغائب. عند ذلك بإمكاننا أن نشبّه أنّ الإنسان الذي يعيش ضمن
                          مجتمعه بثقة المجتمع فيه. فالثقة، وجوده، وكل غيبة له، وذكره بالسوء من القول
                          طعن، وطعنة في حياته الإجتماعية. أو قص قطعة من جسمه، وقطعة من لحمه. وهذا
                          يعني أنّ الغيبة تؤدي الى إماتة الإنسان إجتماعياً. والى فقد ثقة الناس،
                          وزعزعة حياة الناس والقضاء على الثروات الإجتماعية المتوفرة داخل المجتمع.
                          ومن الطبيعي أنّ الذي يغتاب غائباً، ويساهم في موته الإجتماعي يضرّ
                          نفسه. لذلك، عبّر القرآن الكريم: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه} فكأنه يقتل
                          أخاه. وكذلك في الروايات الواردة في المعراج أنّ الرسول (عليه الصلاة
                          والسلام) رأى ليلة المعراج أنّ قوماً يقصّون لحومهم بالمقاريض فيأكلونها،
                          فسأل عن ذلك، فقالوا له: هؤلاء هم المغتابون. نفس الصورة التي نراها في هذه
                          الآية، أنّ الإنسان بالغيبة يأكل لحمه، أو لحم أخيه.
                          الغيبة هذه من المصائب الإجتماعية التي يُبتلى بها المجتمع المتخلّف،
                          الذي يعيش الفراغ. فلا يجد ما يشتغل فيه وما يسلبه، إلاّ التحدث عن الغائبين،
                          ويؤنس حياته الخاصة والعامة، بذكر الآخرين، وهو لا يدري أنه يحطّم مجتمعه.
                          حرمة الغيبة لا تعني عدم جواز غيبة الظالمين وانتقاد الظالمين، ولذلك
                          القرآن الكريم يستثني قائلاً: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلاّ مَن
                          ظُلم}.
                          فالغيبة محرّمة، ولكن حرمة الظلم أكثر. حتى أنّ الغيبة تجوز بالنسبة
                          الى الظالمين. وإلاّ فالظالم إذا بقي محفوظ الجانب، لا يُنتقد، ولا يقال عنه
                          شيء، ولا يعاب في المجتمعات سراً وعلانية، فسوف يستمر في طغيانه وظلمه. وسوف
                          يبقى ظالماً، ويتعرّض المجتمع لتعميم ظلمه. ولذلك، فغيبة الظالم كنبذ الظالم،
                          جائزة. والله (سبحانه وتعالى) هو الرقيب على ذلك.
                          والقرآن الكريم يضيف: {وكان الله سميعاً بصيراً}، ولا بد من الإضافة
                          الى أنّ الغيبة أخف من التهمة. فالغيبة هي ذكر عيب موجود في الإنسان الغائب،
                          أما التهمة فهي ذكر عيب غير موجود في الإنسان الغائب. بدون شك، أنّ التهمة
                          تركيب من الغيبة ومن الكذب، فلها ما للعيبين معاً من النتائج والمساوئ.
                          وشهر رمضان، الذي يجعل الإنسان يمنع نفسه عن الرغبات، يسهّل للإنسان أن
                          يمتنع عن الغيبة. وقد ورد في الأحاديث: "رب صائم ليس له من صومه إلاّ الجوع
                          والعطش". الذي يصوم ويغتاب، هذا يتعذب بالعطش والجوع: ولكن صيامه لا يوصله
                          الى التقوى المطلوبة من الصيام.
                          نسأل الله أن يعصمنا من هذا العيب الكبير، الذي ينبع عن مرض في النفس،
                          وعن سوء في الخُلُق، وعن عجز وضعف في القلب، وعن حقد سافر ودفين في الذات.
                          نسأل الله أن يصوننا عن ذلك، رغم أنّ هذا المرض منتشر جداً في
                          مجتمعاتنا، ونسميه أسماء مختلفة، من نقد، ونكتة ومزاح، وسهرة، وأنس. ولكن
                          نحطّم أنفسنا بأنفسنا، ونخرب بيوتنا بأيدينا. وبتعبير القرآن الكريم نأكل
                          لحوم إخواننا وهم غائبون.
                          نسأل الله أن يصوننا من ذلك.
                          والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                          تعليق


                          • #28
                            مفهوم المعاد (4) للامام السيد موسى الصدر

                            بسم الله الرحمن الرحيم
                            {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله مَن اتّبع رضوانه سبل
                            السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنه ويهديهم الى صراط
                            مستقيم}.المائـدة (15 - 16)

                            إنّ مطالعة الآيات القرآنية تضع أمام الإنسان صورة الرسالة الإلهية،
                            التي حملها الأنبياء، وفي أوصاف تتكرر مع كل نبي ومع كل رسالة. وهي صفات:
                            الهداية، والنور، والوضوح، والكتاب، والحكمة، والتزكية. وعندما نقارن هذه
                            الرسالة الموجهة الى الإنسان مع تصوير الخلق، ومراحلها في الآيات الأخرى
                            نقترب من إدراك الهدف من الرسالة، ومن إرسال الرسل.
                            {بسم الله الرحمن الرحيم. سبح اسم ربك الأعلى. الذي خلق فسوّى. والذي
                            قدّر فهدى} (الأعلى: 1-3).
                            نتلو الآيات، ونرى أنّ الخلق هو بداية لمراحل التسوية، والتقدير،
                            والهداية، وأنّ الوجود كله يتحرك في اتجاه واعٍ، يبدأ بالتكوين والتنوع ثم
                            يوضع لكل شيء حد وقدر. ويكتمل بتحمل كل شيء دوره واهتدائه الى مسؤوليته. وهذا
                            الإهتداء في الموجودات كلها، هو الذي ينفي العبث واللهو، والتفاهة في الخلق.
                            وينفي القرآن الكريم عن الخلق، في أماكن أخرى، اللهو واللعب نفياً
                            قاطعاً. وقيام الموجودات بدورها الكوني في المصطلح القرآني، يسمى بـ"السجود"،
                            و"الصلاة"، في آيات كثيرة. نتلو منها هذه الآيات: {ألم ترَ أنّ الله يسجد له
                            منَ في السماوات ومَن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب
                            وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} (الحج: 18).
                            وهذه الآية: {سبّح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}
                            (الحديد: 1).
                            وهذه الآية: {ألم ترَ أنّ الله يسبّح له مَن في السماوات والأرض والطير
                            صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} (النور: 41).
                            إنّ هذه الصورة الواقعية الرائعة، التي يرسمها القرآن الكريم عن الخلق،
                            وكأن الكون كله حياة، وحركة، وتناسق، وتناغم في الأدوار، ووحدة في الجوهر وفي
                            الهدف. إنّ هذه الصورة، تقارنها صورة مقترحة على الإنسان، عندما يطبّقها يصبح
                            منسجماً مع الكون، ناجحاً، ويخرج عن الغربة، وعن الفشل في حياته، وعن هذه
                            الصورة يعبّر القرآن الكريم بالهداية وبالنور. كما تتضمن الصورة، الصلاة،
                            والتسبيح، والسجود.
                            فلقد هدى الله الإنسان، بواسطة الأنبياء والكتب الى مسؤولياته، والى
                            سبل كماله وسعادته في حياته، وحدّد الهدف في الآية التي تلوناها الى مراحل
                            ثلاث:
                            1- الإهتداء الى سبل السلام.
                            2- الخروج من الظلمات الى النور.
                            3- والهداية الى الصراط المستقيم.
                            فالسلام، وهو ضد الحرب والتصادم بين الإنسان وبين نفسه، وبينه وبين
                            الإنسان، أي الناس وبينه وبين الموجودات.
                            السلام هذا، يحصل عندما يمارس الإنسان دوره الطبيعي، المتناسب والمنسّق
                            مع الأدوار الكونية الأخرى. حيث أنّ كل دور يكمل الأدوار الأخرى، ويكتمل بها.
                            وهذا التكامل المتبادل، حقيقة السلام المطلوب، وسبله، هي التعليمات الإلهية
                            التي تقدَّم للإنسان بواسطة الأنبياء. والسلام هذا، في نفس الإنسان وفي
                            المجتمع وفي الوجود، قاعدة للمرحلة الثانية من هدف الرسالة، وهي الخروج من
                            الظلمات الى النور.
                            من الظلمات بمختلف أنواعها: من الجهل، والمرض، والتأخر، والظلم والفقر،
                            الى النور: بجميع إشعاعاته، من علم، وصحة، وتقدّم، وعدل وكفاية. إنّ السلام
                            أساس لكل عمل إصلاحي، ولكل فكر سليم. فالنفس الحاقدة، لا تقبل التقدم
                            والكمال. والمجتمع المتناقض المتفسخ من الداخل، لا يصلح لتنمية بذور التقدّم.

                            وأخيراً، نصل الى المرحلة الثالثة من الهدف، وهي الوصول الى الصراط
                            المستقيم.
                            وإذا لاحظنا أنّ التعاليم الدينية، تؤكد في كلمة {إنّ ربي على صراط
                            مستقيم}، وندرك أبعاد هذا الصراط، الذي هو أقرب وأدق طرق الكمال، وأكثر
                            انسجاماً مع الوجود كل الوجود. ففي هذا الصراط تتجند طاقات الفرد والجماعة
                            دون أن تهدر، من الفرد، أو من الجماعة، أية طاقة.
                            فنسأل الله أن يهدينا الى الصراط المستقيم {صراط الذين أنعمت عليهم غير
                            المغضوب عليهم ولا الضالين}.
                            والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                            تعليق


                            • #29
                              مفهوم المعاد (5) الامام السيد موسى الصدر

                              بسم الله الرحمن الرحيم
                              {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله مَن اتّبع رضوانه سبل
                              السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنه ويهديهم الى صراط مستقيم}المائـدة
                              (15 - 16)

                              إنّ كلمة النور في هذه الآية، يجب الوقوف عندها، والسؤال عن سبب
                              تكرارها في معرض التعبير عن الكتب السماوية جميعها، وعن دعوة الأنبياء
                              جميعهم.
                              فقد ورد في الإنجيل وفي التوراة وفي القرآن، وفي جميع كتب السماء، كلمة
                              النور، والهدى، والكتاب. وإذا لاحظنا مفهوم النور، أي الوضوح والصفاء، نصل
                              الى مسألة هي من صميم ضرورة دعوة الأنبياء، والإيديولوجية الغيبية.
                              الحقيقة، أنّ استعراض الآيات التي قرأناها في الحلقة السابقة، واكتشاف
                              أنّ المطلوب من الإنسان أن يكون منسجماً مع الكون كله، وأنه يؤدي دوره
                              الكوني، إنّ استعراض الآيات هذه، يجعلنا نتأكد من وجود روابط واقعية بين
                              الإنسان ونفسه، وبينه وبين بني نوعه، وبينه وبين الموجودات.
                              وهذه الروابط قديمة قِدم الإنسان، مخلوقة مع خلقه. ومن أنّ الدين هو
                              إبراز هذه الروابط، والتعاليم التي تنظّمها وتنمّيها. ولذلك، رأينا في سورة
                              الرحمن، وفي معرض النعم الإلهية، أنّ كلمة {علّم القرآن} متقدمة على كلمة
                              {خلق الإنسان}، تأكيداً على أنّ الوظائف والعلاقات التي وردت في القرآن،
                              والتي يبرزها ويكشف عنها القرآن، هي حقيقة كونية، أزلية، وليست أموراً وضعية
                              مدروسة، موضوعة بواسطة الإنسان.
                              ومن جهة أخرى، إذا أراد الإنسان أن يضع قوانين كاملة لتنظيم علاقاته
                              بالموجودات لا بد له أن يعتمد القوانين السماوية، لأنّ أي قانون وضعي يتأثر
                              بالثقافة المحدودة، والعواطف الخاصة، والمصالح الشخصية المختصة بواضعه، مهما
                              حاول التجرد. وهذه الأوصاف تجعله غير صالح للتطبيع الكامل، والتنظيم الكامل.
                              وبعبارة أخرى هذه الأوصاف تجعل في المبدأ القانوني، شوائب من الظلام. أما
                              المبدأ، الذي هو النور، والصفاء، والوضوح دون شائبة، من ثقافة محدودة أو
                              مصلحة خاصة، أو عاطفة شخصية، فهو المبدأ الذي يأتي من السماء، ولا يتأثر بهذه
                              العوامل. ناهيك عن مشكلة عدم الإطلاق، والنسبية، التي أشرنا إليها في الحلقات
                              السابقة.
                              والآن نلخص ما أشرنا إليه في هاتين الحلقتين. وفيما يؤكد عليه القرآن
                              الكريم في مباحث النبوة، تمهيداً للبحث عن التفاصيل:
                              أولاً: إنّ رسالة الأنبياء جميعاً واحدة.
                              ثانياً: إنّ لكل موجود، وظيفة كونية، حتى أنّ لجسم الإنسان، لقلبه،
                              لأعصابه، لمعدته، لعينه، لسمعه، وظيفة كونية ثابتة.
                              والمطلوب من الإنسان، إنسان الإرادة، إنسان التفكر، الإنسان المخيّر،
                              وبين الموجودات. ووضع الإنسان في القافلة الكونية، التي تبدأ من الأزل،
                              وتستمر حتى الأبد. لذلك، فعليه أن ينظّم علاقاته مع الموجودات، ويبدأ بالخروج
                              من الظلمات الى النور، فيدخل في الصراط المستقيم.
                              رابعاً: إنّ الرسالة الإلهية، هي الإيديولوجية الوحيدة، التي لا تشوبها
                              شائبة الأرض، والنقص. بل كلها كمال، ونور، وكتاب.
                              خامساً: وبملاحظة ما ورد في حلقة الغيب والشهود، نضيف أنّ الطريق أمام
                              الإنسان، لا نهاية له، فطموحه كبير، والطموح الكبير يستدعي التحرك الدائم
                              والتقدم الدائم.
                              هذا هو المبدأ العام في مبحث الرسالة والنبوة، أو ما تسميه الكتب
                              السماوية السابقة "ملكوت السماء".
                              والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                              تعليق


                              • #30
                                الخلق (1) للامام السيد موسى الصدر

                                بسم الله الرحمن الرحيم
                                {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء
                                ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولنّ الذين
                                كفروا إن هذا إلاّ سحر مبين} هــود (7)

                                في هذه الآية نلاحظ أولاً: أنّ خلق السماوات والأرض وُضع في ستة أيام.
                                من الطبيعي أنّ اليوم في هذا المكان لا يعني النهار، لأنّ النهار من مواليد
                                الشمس، وقبل الخلق لم تكن من شمس ولا قمر لكي يتكوّن الليل والنهار.
                                إذاً، معنى اليوم كما نقول في مصطلحاتنا العربية: أيام الخلافة
                                الراشدة، أيام العباسيين، أيام العثمانيين، أو نقول: "الدهر يومان يوم لك
                                ويوم عليك". المفهوم من اليوم هو العهد، هو الفترة الطويلة التي لا تقدّر
                                بسنوات عدة.
                                قد تكون معادلة لملايين السنوات، أو أقل أو أكثر من ذلك. وبتعبير آخر
                                مفهوم ستة أيام في هذه الآية، كما يظهر من الآيات الأخرى التي تقسّم الخلق،
                                مفهوم الستة أيام، أي ستة مراحل.
                                إذاً، مفهوم بداية الآية أنّ الله (سبحانه وتعالى) هو الذي خلق
                                السماوات والأرض في ستة مراحل، لا في دفعة واحدة، ففي مرحلة كانت المجموعة
                                الشمسية، ثم مرحلة الإنفصال وبرودة الأرض حسب النظريات العلمية المطروحة في
                                هذا الوقت، وبالتدريج تكوين الأقوات، أي المياه والنبات وخلق الإنسان
                                بالتدريج.
                                في ست مراحل خُلقت السماوات والأرض، والسماوات مفهومها الكرات ما عدا
                                الأرض. الكرات السماوية والمسافات الشاسعة التي تحيط بنا من كل جانب.
                                إذاً، الخلق كان في مراحل، وهذه مطابقة للنظريات العلمية التي وصل
                                إليها الإنسان، في هذه المرحلة، ولا نقصد بذلك تطبيق الآية الى نظريات، إنما
                                نريد أن نفهم الآية الكريمة على ضوء معلوماتنا التي تلقي أضواء لفهم الآية
                                الكريمة. ثم تأتي هذه الجملة: {وكان عرشه على الماء}، كلمة العرش بمعنى
                                الكرسي للملوك وللحكام، هذه الكلمة استُعملت في القرآن الكريم بالنسبة الى
                                الله تشبيهاً، كما ورد في الآية الكريمة: {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5).
                                ولكن العرش لا يعني بالنسبة الى الله الكرسي، أو المكان الذي يجلس فيه ربنا،
                                تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فهو لا يجسَّم، لا يشبهه شيء، ليس كمثله شيء،
                                ليس هو جسم يُنظر إليه أو يحتاج الى حيّز أو الى مكانة.
                                إذاً، مفهوم العرش يختلف عن مفهوم العرش الطبيعي، ويمكن أن يكون المراد
                                بالعرش السيطرة، كما يُفهم من الآية الأخرى {وسع كرسيه السماوات والأرض}
                                (البقرة: 255). إنّ الحاكم أقوى سلطة على عرشه والله (سبحانه وتعالى) هو
                                مسلّط على السماوات والأرض، أو على حد التعبير القرآني قيّوم السماوات والأرض
                                والعرش، بمعنى الإحاطة على الخلق، في هذه الآية وضع على الماء، ولعل الغاية
                                من هذا التعبير أنّ الماء كان بداية الخلق من حيث الزمان، كان الماء أولاً ثم
                                جاءت الأقوات والأرزاق وخلق الإنسان ومن ناحية خلق الإنسان من الخلية نجد أنّ
                                القسم الأكبر من الخلية هو الماء، فالماء يشكّل القسم الأكبر من وجود
                                الإنسان، ومن وجود الحيوانات، ومن وجود كل موجود حي في العالم.
                                هذا بالإضافة الى الأصل الأول، وهو خلق السماوات والأرض في مراحل
                                عديدة، بداية الخلق وتصوير لصورة الخلق والغاية من هذا العرض: {ليبلوكم أيكم
                                أحسن عملاً}. عندما يطرح القرآن هذه الفكرة الأساسية عن الخلق، أي التدرج
                                والدقة والإعتماد على الأسس العلمية، تجعل هذه المبادئ صورة أمام الإنسان
                                العامل الذي يريد أن ينجح.
                                فالإنسان الذي يشعر أنه يعيش في مثل هذه الأجواء عليه أن يضع حياته
                                ولمشاريعه ولنشاطاته خطة عمل معتمدة على الأصول العلمية، ومعتمدة أيضاً على
                                المراحل والخطة الزمنية، فلا ينجح الإنسان في الحياة التي تقوم في العالم
                                المكونة على مراحل، وفي العالم الذي جعل الله لكل شيء قدراً، يقول القرآن
                                الكريم: الإنسان الذي يريد أن ينجح يجب أن يعمل على هذه الأسس، ومعنى ذلك أنّ
                                الله بهذا الخلق فتح ميداناً لسباق الإنسان مع أخيه الإنسان لا لصراعه معه،
                                لكي يتمكن من التحرك على ضوء الخلق وعلى ضوء النجاح.
                                مقابل هذا الخلق، ومقابل هذا الإنعكاس من الخلق على الإنسان المؤمن
                                الذي يعتمد أسس الخلق للتحرك، نجد المنحرفين يقولون: {إنكم مبعوثون من بعد
                                الموت ليقولنّ الذين كفروا إن هذا إلاّ سحر مبين}. يستنتجون من ذلك أنّ
                                المحاسبة مستحيلة، لأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان بعد الموت من جديد. مع العلم
                                أنّ الخلق الأول أيضاً خلق من لا شيء، وكان تكوين الخلق من الماء أو بالتعبير
                                القرآني {وكان عرشه على الماء}.
                                إذاً، هذه الآية الى جانب النتيجة التربوية في التحرك والتخطيط ووضع
                                الخطة الزمنية للحياة، تؤكد من جديد إمكانية المحاسبة، ولما للمحاسبة والمعاد
                                من تأثير على الإنسان من دقة في العمل وشعور بالمسؤولية في الحياة.
                                آية تربوية معجزة تؤثر دون شك على روح الصائمين الكرام الذين جعل شهر
                                رمضان طهارة في نفوسهم وفي أجسادهم ونوراً في عقولهم وحياً في قلوبهم لإدراك
                                هذه المعاني السامية.
                                والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


                                ``

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                                يعمل...
                                X