اهداء لمن يدعون ان ولاية علي حصنهم
{صراط الذين أنعمت عليهم}، أي اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بنعمة الوعي والإيمان والانفتاح على الحقيقة والالتزام بها، ولا تجعلنا نسير في الطريق الذي يجعلنا تحت تأثير غضبك، {غير المغضوب عليهم}، والمغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق وجحدوه، مثلما ورد عن بعض الناس في القرآن الكريم: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل:14]، وهو الذي يعرف الحق ولكنه يجحده وينكره ويبتعد عنه، فهو عندما ينحرف لا ينحرف عن جهلٍ بالطريق الذي لا بد له أن يسير فيه، ولكنه ينحرف تحت تأثير شهواته وأهوائه وأطماعه. {ولا الضالين} التائهين الذين لا يعرفون الحق ولا يعرفون الباطل، كالذي يسير في الصحراء دون أن يكون هناك أية خطوط وأية علامات تدله على الطريق، فهذا يتخبط في المتاهات ولا يعرف إلى أين يصل، لأن الصحراء متشابهة في رمالها وفي آفاقها، وليست هناك أية وسيلة تدله على الهدف والغاية.
وهداية الله تعالى تتحدد من خلال ما أعطاه الله للإنسان من وسائل الهداية، فقد أعطاه العينين اللتين يبصر بهما، والأذنين اللتين يسمع بهما، واللسان الذي يسأل به، والرِجلين اللتين يسير بهما نحو الهدف، كما أنه أعطاه العقل الذي يجمع ذلك كله، فكل هذه الحواس تعتبر من الوسائل التي تعطي للعقل المقدمات التي يحللها ويستنتج النتائج على أساسها ويحدد بذلك طريق السير، وإذا عجز العقل عن إدراك النتائج فهناك أهل الخبرة، فعلى الإنسان أن يسأل أهل العلم بذلك: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43].
فالهداية المقصودة هنا ليست بمعنى أن الله يجعل الهداية فيك كما يخلق في جسمك العين والسمع والبصر، بل تعني أنّ الله هيّأ لك وسائل الهداية، ولذا يقول تعالى: {إنّا هديناه السبيل ـ يعني فتحنا له الطريق ودللناه عليه ـ إما شاكراً وإما كفوراً} [الإنسان:3]، فإما يشكر نعم الله أو يكفر بها. وهناك آية أخرى في هذا المجال يقول فيها تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد:10]، والنجد هو الطريق، ما يعني أنّنا بينّا له طريق الخير وطريق الشر، قلنا له امشِ في طريق الخير، والذي لا يمشي فيه، فهو الذي يُسيء إلى نفسه.
وهناك آية أخرى أيضاً في هذا المجال يقول تعالى فيها: {وإن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه} [الأنعام:151]، أي أنّ الطريق المستقيم موجود أمامكم، وهو طريق توحيد الله الذي يدلكم على رسالة الرسول، وعلى اليوم الآخر، ويرشدكم إلى مسؤولياتكم وإلى ما يؤدي بكم إلى الهلاك أو إلى النجاة، {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل}، يعني الطرق الملتوية، {فتفرق بكم عن سبيله}، تضيعكم عن الطريق الصحيح الذي يؤدي بكم إلى النتائج المحمودة.
وهنا نلاحظ أنّ الله سبحانه خاطب النبي(ص) وطلب منه الاستقامة، والنبي هو الذي يدلّنا على خط الاستقامة، ومع ذلك، أراد الله سبحانه أن يبيّن أن المطلوب من الأنبياء أن يستقيموا على الخط الذي حدّده الله كما عليكم أن تستقيموا، فالله يقول للنبي(ص) في آياته: {فاستقِم كما أُمِرت} [هود:112]، بحيث أمره بأن ينطلق في دعوته وفي كل حركته ونشاطه من أجل أن يؤكد ما أراده الله منه، ممّا يحبه الله ليفعله، وممّا يبغضه ليتركه، {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا}، أيضاً هي دعوة للذين تابوا عن الكفر وعن الشرك ليستقيموا معه على الخط، ولا ينحرفوا ولا يطغوا، والطغيان هو تجاوز الحد والارتفاع عن المستوى الطبيعي للأشياء، {إنه بما تعملون بصير} فالله يريد أن يقول للنبي(ص) وللمسلمين معه، إنكم تحت رقابة الله، وإن الله يبصر كلّ خطواتكم التي تتحركون بها، سواء كانت هذه الخطوات خطوات الفكر في ما يلتزمه من أفكار، أو خطوات القلب في نبضاته في ما ينفتح عليه من مشاعر وأحاسيس وعواطف، أو في مسألة حركة الإنسان في حياته.
وهناك آية أخرى تتحدّث عن النبي(ص) كيف كان يقدم نفسه إلى الناس، فهو لا يقدم نفسه على أنه فوق البشر وإن كان في ما أعطاه الله من فضائل وألطاف يرتفع في ملكاته عن الناس وأنه هو النور كله، وقد جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومع ذلك كان يقدم نفسه بهذه الطريقة البسيطة المتواضعة {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم} [الكهف:110]، جسدي كأجسادكم، فأنا أمرض كما تمرضون، وأفرح كما تفرحون، وأحزن كما تحزنون، وأجوع كما تجوعون، وأشبع كما تشبعون، وأتألم كما تتألمون، كما هي طبيعة الجسد، ولكن هناك فرق بيني وبينكم، وهو أن الله أكرمني واصطفاني وجعلني في موقع تلقّي الوحي من قِبَلِهِ، {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد}وهذا ما أوحى به الله إلى كل أنبيائه.
ولذلك، نجد أن دعوة الأنبياء كلّهم، وكما حدّثنا القرآن، كانت: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف:59] وهي دعوة التوحيد، وقد فرّع على خط التوحيد كل الإسلام في تفاصيل العقيدة والشريعة والمنهج والحركة، {فاستقيموا إليه} في هذه الوحدانية، وحاولوا أن تتحركوا في خطها، فابدأوا من التوحيد وتحركوا من خلاله في كل أموركم، بحيث يكون الله في داخل كل الأمور؛ فعندما تفكر انفتح على الله، واجعل الله في حركة فكرك وفي كل مفردات كلامك وأجواء وخطوات عملك، وعلاقاتك ومواقفك. وهناك كلمة للإمام علي(ع) يقول فيها: "ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله معه وخلفه وأمامه..."، فعندما يرى الإنسان حيواناً يفكر من الذي خلقه، وعندما يرى إنساناً يفكِّر من الذي أعطاه العقل، كذلك عندما يرى الزرع والبحار والأشجاء وكل شيء، فيرى قدرة الله وعظمته في كل واحدة من هذه المخلوقات، والله أرادنا أن نعرفه من خلال خلقه: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً} [آل عمران:191]، وهذا يجعل الإنسان يعي ربه في كل شيء حوله في مقابل الناس الذين يشغلهم ما حولهم عن الله، وهذا الفرق بين الإنسان الغافل والإنسان الواعي، لأن الإنسان الغافل إذا رأى شيئاً استغرق فيه وشغله ذلك عن كل الحقائق، بينما الإنسان الواعي إذا رأى أي شيءٍ فإنه يستغرق في الله سبحانه وتعالى الذي خلقه.
وهذه عظمة الإمام علي(ع)، أنّه كان دائماً مشغولاً بالله، حتى باع نفسه لله، ونزلت فيه الآية عندما بات على فراش النبي(ص) ليلة الهجرة: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} [البقرة:207]، وكانت كل حياته لله سبحانه وتعالى. ولذلك نلاحظ أنّه عندما ضربه ابن ملجم وهو في الصلاة، قال بسم الله وبالله، ذكر الله كنهاية لحياته كما كان في كل حياته. ومن عمق هذا التفكير الدائم بالله انطلقت هذه الكلمة التي تدل على الأفق الذي اتّسع لعلي(ع) في رحاب الله: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"، أي لو انكشفت كل السموات وكل الغيوب، فلن يتغير عندي شيء، لأني عشت كل عمري وأنا أبصر الله في كل شيء حولي ومعي وفي اتجاهي.
لم يكن علي(ع) يرى سوى الله تعالى، حتى إنّه يعظِّم رسول الله من أجل أنه رسول الله وليس لأنه ابن عمّه، وكذلك كان حب الرسول(ص) لعلي(ع) ينطلق من خلال حب علي لله، وهذا ما قاله النبي(ص) في وقعة خيبر: "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". ومن كلمات الأمير(ع) في دعاء كميل يقول: "فهبني يا إلهي وربي، صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك"، عذبني يا رب فلا مشكلة عندي، لكن العذاب سيكون حاجزاً بيني وبينك، فأنا لا أقدر على فراقك، لأني كنت أعيش معك في الدنيا، "وهبني يا إلهي صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك". وفي دعاء آخر يقول: "ولئن أدخلتني النار لأخبرن أهل النار أني أحبّك". هذا هو الإمام علي بن أبي طالب(ع) وهذه عظمة الإمام علي بن أبي طالب التي تنطلق من أنه عاش مع الله وكانت كل حياته لله.
ولذلك، عندما نريد أن نحب الإمام علي بن أبي طالب، علينا أن نحب الله، نحبه في علي، بعض الناس يُغالون في علي، علي(ع) كان يعفّر خدّه في التراب بين يدي الله سبحانه وتعالى، ومما ينقل في سيرة الإمام علي(ع) أنه كان في حرب صفين ليلة الهرير، عندما اصطدم الجيش مع بعضه البعض، واستفقدوا علياً(ع)، وعندما بحثوا عنه رأوه يصلي بين الصفين "بين العسكر"، فاستغربوا، وقالوا له: يا أمير المؤمنين هل هذا وقت صلاة ونحن نخاف عليك؟ فقال لهم: "علام قاتلناهم، إنّما نقاتلهم على الصلاة".
لذلك نرى بعض الناس يقولون نحب علياً(ع) ولكنهم لا يصلّون ولا يطيعون الله في ما أمرهم، وهذا عكس ما أراده الإمام علي(ع)، فقد أرادنا علي أن نحبّه لنحبّ الله سبحانه، وفي هذا يقول الإمام الباقر(ع): "حسب الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاّه ثم لا يكون فعّالاً، فلو قال إني أحبُّ رسول الله(ص) ورسول الله خير من علي ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه"، ثم قال(ع): "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، والله ما تُنال ولايتنا إلا بالعمل والورع"، يعني الورع عن محارم الله، وهذا هو خط الاستقامة. ونرجو أن يوفقنا الله لنستكمل الحديث في الأسبوع القادم إنشاء الله. والحمد لله رب العالمين.
مفهـوم الاستقامـة
لو أردنا أن نعرّف الإسلام بكلمة يمكن أن تحكم كل سلوك الإنسان في حياته، فلا نجد أفضل من كلمة الاستقامة، وهي تعني أن ينطلق الإنسان من النقطة التي آمن بها ليتحرّك في اتجاهها إلى نهاية المطاف، دون أن ينحرف يميناً أو شمالاً، وهذا ما نستوحيه من آيات سورة الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم}، فقد علّمنا الله سبحانه أن نطلب منه أن يهدينا وأن يرشدنا إلى الطريق المستقيم، لأن هناك طرقاً ملتوية عندما يدخلها الإنسان لا يعرف كيف يخرج منها، أما الطريق المستقيم، فأنت تعرف نهايته منذ البداية، وهذا ما يريدنا الله أن نبتهل إليه ليرشدنا إليه.
{صراط الذين أنعمت عليهم}، أي اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بنعمة الوعي والإيمان والانفتاح على الحقيقة والالتزام بها، ولا تجعلنا نسير في الطريق الذي يجعلنا تحت تأثير غضبك، {غير المغضوب عليهم}، والمغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق وجحدوه، مثلما ورد عن بعض الناس في القرآن الكريم: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل:14]، وهو الذي يعرف الحق ولكنه يجحده وينكره ويبتعد عنه، فهو عندما ينحرف لا ينحرف عن جهلٍ بالطريق الذي لا بد له أن يسير فيه، ولكنه ينحرف تحت تأثير شهواته وأهوائه وأطماعه. {ولا الضالين} التائهين الذين لا يعرفون الحق ولا يعرفون الباطل، كالذي يسير في الصحراء دون أن يكون هناك أية خطوط وأية علامات تدله على الطريق، فهذا يتخبط في المتاهات ولا يعرف إلى أين يصل، لأن الصحراء متشابهة في رمالها وفي آفاقها، وليست هناك أية وسيلة تدله على الهدف والغاية.
وهداية الله تعالى تتحدد من خلال ما أعطاه الله للإنسان من وسائل الهداية، فقد أعطاه العينين اللتين يبصر بهما، والأذنين اللتين يسمع بهما، واللسان الذي يسأل به، والرِجلين اللتين يسير بهما نحو الهدف، كما أنه أعطاه العقل الذي يجمع ذلك كله، فكل هذه الحواس تعتبر من الوسائل التي تعطي للعقل المقدمات التي يحللها ويستنتج النتائج على أساسها ويحدد بذلك طريق السير، وإذا عجز العقل عن إدراك النتائج فهناك أهل الخبرة، فعلى الإنسان أن يسأل أهل العلم بذلك: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43].
فالهداية المقصودة هنا ليست بمعنى أن الله يجعل الهداية فيك كما يخلق في جسمك العين والسمع والبصر، بل تعني أنّ الله هيّأ لك وسائل الهداية، ولذا يقول تعالى: {إنّا هديناه السبيل ـ يعني فتحنا له الطريق ودللناه عليه ـ إما شاكراً وإما كفوراً} [الإنسان:3]، فإما يشكر نعم الله أو يكفر بها. وهناك آية أخرى في هذا المجال يقول فيها تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد:10]، والنجد هو الطريق، ما يعني أنّنا بينّا له طريق الخير وطريق الشر، قلنا له امشِ في طريق الخير، والذي لا يمشي فيه، فهو الذي يُسيء إلى نفسه.
وهناك آية أخرى أيضاً في هذا المجال يقول تعالى فيها: {وإن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه} [الأنعام:151]، أي أنّ الطريق المستقيم موجود أمامكم، وهو طريق توحيد الله الذي يدلكم على رسالة الرسول، وعلى اليوم الآخر، ويرشدكم إلى مسؤولياتكم وإلى ما يؤدي بكم إلى الهلاك أو إلى النجاة، {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل}، يعني الطرق الملتوية، {فتفرق بكم عن سبيله}، تضيعكم عن الطريق الصحيح الذي يؤدي بكم إلى النتائج المحمودة.
وهنا نلاحظ أنّ الله سبحانه خاطب النبي(ص) وطلب منه الاستقامة، والنبي هو الذي يدلّنا على خط الاستقامة، ومع ذلك، أراد الله سبحانه أن يبيّن أن المطلوب من الأنبياء أن يستقيموا على الخط الذي حدّده الله كما عليكم أن تستقيموا، فالله يقول للنبي(ص) في آياته: {فاستقِم كما أُمِرت} [هود:112]، بحيث أمره بأن ينطلق في دعوته وفي كل حركته ونشاطه من أجل أن يؤكد ما أراده الله منه، ممّا يحبه الله ليفعله، وممّا يبغضه ليتركه، {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا}، أيضاً هي دعوة للذين تابوا عن الكفر وعن الشرك ليستقيموا معه على الخط، ولا ينحرفوا ولا يطغوا، والطغيان هو تجاوز الحد والارتفاع عن المستوى الطبيعي للأشياء، {إنه بما تعملون بصير} فالله يريد أن يقول للنبي(ص) وللمسلمين معه، إنكم تحت رقابة الله، وإن الله يبصر كلّ خطواتكم التي تتحركون بها، سواء كانت هذه الخطوات خطوات الفكر في ما يلتزمه من أفكار، أو خطوات القلب في نبضاته في ما ينفتح عليه من مشاعر وأحاسيس وعواطف، أو في مسألة حركة الإنسان في حياته.
وهناك آية أخرى تتحدّث عن النبي(ص) كيف كان يقدم نفسه إلى الناس، فهو لا يقدم نفسه على أنه فوق البشر وإن كان في ما أعطاه الله من فضائل وألطاف يرتفع في ملكاته عن الناس وأنه هو النور كله، وقد جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومع ذلك كان يقدم نفسه بهذه الطريقة البسيطة المتواضعة {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم} [الكهف:110]، جسدي كأجسادكم، فأنا أمرض كما تمرضون، وأفرح كما تفرحون، وأحزن كما تحزنون، وأجوع كما تجوعون، وأشبع كما تشبعون، وأتألم كما تتألمون، كما هي طبيعة الجسد، ولكن هناك فرق بيني وبينكم، وهو أن الله أكرمني واصطفاني وجعلني في موقع تلقّي الوحي من قِبَلِهِ، {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد}وهذا ما أوحى به الله إلى كل أنبيائه.
ولذلك، نجد أن دعوة الأنبياء كلّهم، وكما حدّثنا القرآن، كانت: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف:59] وهي دعوة التوحيد، وقد فرّع على خط التوحيد كل الإسلام في تفاصيل العقيدة والشريعة والمنهج والحركة، {فاستقيموا إليه} في هذه الوحدانية، وحاولوا أن تتحركوا في خطها، فابدأوا من التوحيد وتحركوا من خلاله في كل أموركم، بحيث يكون الله في داخل كل الأمور؛ فعندما تفكر انفتح على الله، واجعل الله في حركة فكرك وفي كل مفردات كلامك وأجواء وخطوات عملك، وعلاقاتك ومواقفك. وهناك كلمة للإمام علي(ع) يقول فيها: "ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله معه وخلفه وأمامه..."، فعندما يرى الإنسان حيواناً يفكر من الذي خلقه، وعندما يرى إنساناً يفكِّر من الذي أعطاه العقل، كذلك عندما يرى الزرع والبحار والأشجاء وكل شيء، فيرى قدرة الله وعظمته في كل واحدة من هذه المخلوقات، والله أرادنا أن نعرفه من خلال خلقه: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً} [آل عمران:191]، وهذا يجعل الإنسان يعي ربه في كل شيء حوله في مقابل الناس الذين يشغلهم ما حولهم عن الله، وهذا الفرق بين الإنسان الغافل والإنسان الواعي، لأن الإنسان الغافل إذا رأى شيئاً استغرق فيه وشغله ذلك عن كل الحقائق، بينما الإنسان الواعي إذا رأى أي شيءٍ فإنه يستغرق في الله سبحانه وتعالى الذي خلقه.
وهذه عظمة الإمام علي(ع)، أنّه كان دائماً مشغولاً بالله، حتى باع نفسه لله، ونزلت فيه الآية عندما بات على فراش النبي(ص) ليلة الهجرة: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} [البقرة:207]، وكانت كل حياته لله سبحانه وتعالى. ولذلك نلاحظ أنّه عندما ضربه ابن ملجم وهو في الصلاة، قال بسم الله وبالله، ذكر الله كنهاية لحياته كما كان في كل حياته. ومن عمق هذا التفكير الدائم بالله انطلقت هذه الكلمة التي تدل على الأفق الذي اتّسع لعلي(ع) في رحاب الله: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"، أي لو انكشفت كل السموات وكل الغيوب، فلن يتغير عندي شيء، لأني عشت كل عمري وأنا أبصر الله في كل شيء حولي ومعي وفي اتجاهي.
لم يكن علي(ع) يرى سوى الله تعالى، حتى إنّه يعظِّم رسول الله من أجل أنه رسول الله وليس لأنه ابن عمّه، وكذلك كان حب الرسول(ص) لعلي(ع) ينطلق من خلال حب علي لله، وهذا ما قاله النبي(ص) في وقعة خيبر: "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". ومن كلمات الأمير(ع) في دعاء كميل يقول: "فهبني يا إلهي وربي، صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك"، عذبني يا رب فلا مشكلة عندي، لكن العذاب سيكون حاجزاً بيني وبينك، فأنا لا أقدر على فراقك، لأني كنت أعيش معك في الدنيا، "وهبني يا إلهي صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك". وفي دعاء آخر يقول: "ولئن أدخلتني النار لأخبرن أهل النار أني أحبّك". هذا هو الإمام علي بن أبي طالب(ع) وهذه عظمة الإمام علي بن أبي طالب التي تنطلق من أنه عاش مع الله وكانت كل حياته لله.
ولذلك، عندما نريد أن نحب الإمام علي بن أبي طالب، علينا أن نحب الله، نحبه في علي، بعض الناس يُغالون في علي، علي(ع) كان يعفّر خدّه في التراب بين يدي الله سبحانه وتعالى، ومما ينقل في سيرة الإمام علي(ع) أنه كان في حرب صفين ليلة الهرير، عندما اصطدم الجيش مع بعضه البعض، واستفقدوا علياً(ع)، وعندما بحثوا عنه رأوه يصلي بين الصفين "بين العسكر"، فاستغربوا، وقالوا له: يا أمير المؤمنين هل هذا وقت صلاة ونحن نخاف عليك؟ فقال لهم: "علام قاتلناهم، إنّما نقاتلهم على الصلاة".
لذلك نرى بعض الناس يقولون نحب علياً(ع) ولكنهم لا يصلّون ولا يطيعون الله في ما أمرهم، وهذا عكس ما أراده الإمام علي(ع)، فقد أرادنا علي أن نحبّه لنحبّ الله سبحانه، وفي هذا يقول الإمام الباقر(ع): "حسب الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاّه ثم لا يكون فعّالاً، فلو قال إني أحبُّ رسول الله(ص) ورسول الله خير من علي ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه"، ثم قال(ع): "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، والله ما تُنال ولايتنا إلا بالعمل والورع"، يعني الورع عن محارم الله، وهذا هو خط الاستقامة. ونرجو أن يوفقنا الله لنستكمل الحديث في الأسبوع القادم إنشاء الله. والحمد لله رب العالمين.
تعليق