إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..4 والاخيرة

    الليلة الثامنة عشرة
    علي (عليه السلام) بقلمه ولسانه
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله كما يحب أن يحمد، وصلى الله على سيدنا محمد وآله خير البرية.
    قال الله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة)(1).
    أيها الإخوان: لقد ذكرنا في الليالي الماضية شيئا من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) حول نفسه ومواهبه ومزاياه ومواقفه، الليلة: نستمع إلى شيء من خطبه (عليه السلام) المشتملة على فضائله وفواضله، وخصائصه، ومكارم أخلاقه، وبعبارة أخرى نستمع إلى تاريخ حياته من لسانه، ونقرأ كتابا خاصا كتبه (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف والي البصرة وهو من جلائل كتبه ورسائله ومشاهيرها، وقد رأيت ترجمته بلغات عديدة، ويمتاز هذا الكتاب عن غيره لأنه بقلم رئيس حكومة كان يحكم على نصف الكرة الأرضية، وحياة الناس ومماتهم بين شفتيه، وكنوز الذهب والفضة تحت يده، ومع ذلك كله ومع تلك الإمكانيات اختار لنفسه أبسط معيشة وأزهد حياة لا يستطيع أي فرد من أفراد البشر أن يسلك طريقته ويكون مثله، ضع يدك على من شئت وقارن بين حياته وحياة أمير المؤمنين فيظهر لك صدق هذا الكلام، وتعرف أن الإمام هو الرجل الوحيد في مواهبه ومزاياه.
    نستمع إلى كلامه ونقرأ كتابه بقلمه، فإنه أعرف بنفسه من غيره، ومهما ظهرت نفسيات الإنسان وصفاته واطلع عليها الناس ومع ذلك فإن في حياة الإنسان الداخلية والخارجية أسرارا وسرائرا وخفايا ونوايا لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالى والإنسان نفسه، فالإنسان أبصر بنفسه من غيره وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة)(2).
    لم يقصد الإمام (عليه السلام) من بيان هذه الأمور تزكية نفسه بل بيان حقائق عن شخصيته لا يستطيع أحد أن يناقشه فيها أو يكابر.
    وهنا نقتطف من خطبه الشيء اليسير ومن رسائله رسالة واحدة وفيها الكفاية.
    الخطبة الشقشقية
    أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم منها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها المؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده (ثم تمثل بقول الأعشى):
    شتان ما يومي على كورها ويوم حيان أخي جابر
    فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها(3) ويخشن مسها.
    ويكثر العثار فيها.
    والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم.
    وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا.
    فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهنٍ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة(4) الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله.
    وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ينثالون علي من كل جانب.
    حتى لقد وطئ الحسنان.
    وشق عطفاي, مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى, وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)(5).
    بلى والله لقد سمعوها ووعوها.
    ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها.
    أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر.
    وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها.
    ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز...
    (قالوا) وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا فأقبل ينظر فيه قال له ابن عباس رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين لو أطردت خطبتك من حيث أفضيت.
    فقال: هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرت!!
    قال ابن عباس: فوالله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) بلغ منه حيث أراد.
    قوله: (كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم)، يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها وإن أرخى عليها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها، يقال: أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه وشنقها أيضا، ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق.
    ومن كلام (عليه السلام)
    ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله) أني لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها.
    ولقد قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإن رأسه على صدري، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي.
    ولقد ولّيت غسله (صلّى الله عليه وآله) والملائكة أعواني، فضجت الدار، والأفنية ملأٌ يهبط وملأٌ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم (الهينمة: الصوت الخفي) يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه.
    فما أحق به مني حياً وميتاً؟ فأنفذوا بصائركم، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم.
    فوالذي لا إله إلا هو إني لعلى جادة الحق وإنهم لعلى مزلة الباطل أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
    ومن كلام له (عليه السلام)
    والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً، وأُجرّ في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيءٍ من الحطام.
    وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها، والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بُرّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً وكرر علي القول مردّداً، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقي فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها.
    فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه؟ وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذى؟ ولا أئن من لظى؟ وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها، كأنما عُجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت.
    فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية.
    فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط أنت؟ أم ذو جنة أم تهجر؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت افلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها! ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى؟ نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين.
    ومن خطبة له (عليه السلام)
    أما بعد أيها الناس.
    فأنا فقأت عين الفتنة، ولم تكن ليجرأ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، وأشتد كلبها، فاسألوني قبل أن تفقدوني فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ويموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور وحوازب الخطوب لأطرق كثير من السائلين وفشل كثيراً من المسؤولين.
    ومن خطبه له (عليه السلام)
    أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم.
    وأدّيت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم.
    وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا.
    وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا.
    لله أنتم! أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم في الطريق، ويرشدكم السبيل؟
    ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبراً وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى، بكثير من الآخرة لا يفنى.
    ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء؟ يسيغون الغصص ويشربون الرنق.
    قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم، وأحلهم دار الأمن، بعد خوفهم؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين أبن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة؟ (قال ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء).
    ثم قال (عليه السلام): أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه أحيوا السنة وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فأتبعوه (ثم نادى بأعلى صوته: ) الجهاد...
    الجهاد عباد الله.
    ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج.
    ومن كلام له (عليه السلام)
    لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وأنتم تريدوني لأنفسكم، أيها الناس، أعينوني على أنفسكم، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته، حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً.
    ومن كتاب له (عليه السلام)
    إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها: أما بعد يا بن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
    ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه ألا: وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد.
    فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبيّ طمراَ.
    بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين.
    ونعم الحكم الله وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فدجها التراب المتراكم؟، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق.
    ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة.
    ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع.
    أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أو أكون كما قال القائل:
    وحسبك داءً أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد
    أأقنع من نفسي بان يقال أمير المؤمنين؟ ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش.
    فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها.
    أو أترك سدى أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة.
    وكأني بقائلكم يقول: إذا كان (هذا) قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان.
    ألا: وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد.
    والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن اطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد.
    إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلت من حبائلك، واجتنيت الذهاب في مداحضك.
    أين القرون الذين غررتهم بمداعبك؟ أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك؟ ها هم رهائن القبور ومضامين اللحود.والله لو كنت شخصاً مرئياً وقالباً حسياً لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلى التلف وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر.
    هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ حبائلك وُفّق.
    والسالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه عني.
    فو الله لا أذل لك فتستذلني، ولا أسلس لك فتقوديني.
    وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها.
    أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ويأكل علي من زاده فيهجع؟ قرت إذاً عينه! إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية.
    طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها! وعركت بجنبها بؤسها.
    وهجرت في الليل غمضها حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم.
    وهمهمت بذكر ربهم شفاههم وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)(6) فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك.
    في كتاب الأنوار النعمانيه عن كتاب المناقب مسنداً إلى صعصعة بن صوحان: أنه دخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) لما ضرب فقال: يا أمير المؤمنين أنت أفضل أم آدم أبو البشر؟ قال علي (عليه السلام) تزكية المرء نفسه قبيح.
    لكن قال الله تعالى لآدم: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)(7)، وأنا أكثر الأشياء أباحها لي وتركتها وما قاربتها.
    ثم قال: أنت أفضل يا أمير المؤمنين أم نوح؟ قال علي: إن نوحاً دعا على قومه، وأنا ما دعوت على ظالمي حقي، وابن نوح كان كافراً، وابناي سيد شباب أهل الجنة.
    وقال: أنت أفضل أم موسى؟ قال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أرسل موسى إلى فرعون فقال: (إني أخـــاف أن يقتلون) حتى قال الله تعالى: (لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون)(8) قال: (رب إني قتلت منهم نفســــاً وأخاف أن يقـــتلون)(9) وأنا ما خفت حين أرسلني رسول الله بتبليغ سورة البراءة أن أقرأها على قريش في الموسم مع إني كنت قتلت كثيراً من صناديدهم، فذهبت بها وقرأتها عليهم وما خفتهم.
    ثم قال: أنت أفضل أم عيسى بن مريم؟ قال علي: عيسى كانت أمه في بيت المقدس فلما جاء وقت ولادتها سمعت قائلاً يقول: أخرجي، هذا بيت العبادة لا بيت الولادة، وأنا أمي فاطمة بنت أسد لما قرب وضع حملها كانت في الحرم فانشق حائط الكعبة وسمعت قائلاً يقول: أدخلي فدخلت في وسط البيت، وأنا ولدت فيه، وليس لأحد هذه الفضيلة، لا قبلي ولا بعدي.

    (1) سورة القيامة، الآية: 14.
    (2) سورة القيامة، الآية: 14.
    (3) وفي نسخة أخرى: كلمها.
    (4) وفي نسخة أخرى: خضم.
    (5) سورة القصص، الآية: 83.
    (6) سورة المجادلة، الآية: 22
    (7) سورة البقرة، الآية: 35.
    (8) سورة القصص، الآية: 33.
    (9) سورة النمل، الآية: 10.

    تعليق


    • #17
      الليلة التاسعة عشرة
      علي (عليه السلام) ينعى نفسه
      بسم الله الرحمن الرحيم
      الحمد لله حمد الشاكرين على المصيبة وصلى الله على محمد وآله المظلومين.
      قال الله تعالى: (من الـــمؤمنيـــن رجالاً صدقـــوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)(1).
      نبدأ حديثنا من هذه الليلة حول شهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلقد سبق أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخبر علياً بأنه يفوز بالشهادة في سبيل الله، ففي يوم أحد تأسف الإمام أمير المؤمنين على حرمانه الشهادة في ذلك اليوم فقال له النبي: إنها من ورائك.
      ويوم الخندق لما ضربه عمرو بن عبدود على رأسه كانت الدماء تسيل على وجهه الشريف فقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يشد جرحه ويقول له: أين أنا يوم ضربك أشقى الآخرين على رأسك ويخضب لحيتك من دم رأسك؟؟
      وخطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في آخر جمعة من شهر شعبان وذكر ما يتعلق بشهر رمضان، فقام علي (عليه السلام) وقال: ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجل، ثم بكى النبي فقال (عليه السلام): ما يبكيك؟ فقال: يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر! كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك، قال الإمام: وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك... الخ.
      وكان الإمام (عليه السلام) كثيراً ما يخبر الناس بشهادته واختضاب لحيته الكريمة بدم رأسه، وحينما أتاه عبد الرحمن بن ملجم ليبايعه نظر علي في وجه طويلاً، ثم قال: أرأيتك إن سألتك عن شيء وعندك منه علم هل أنت مخبر عنه؟ قال: نعم، وحلفه عليه فقال: أكنت تواضع الغلمان وتقوم عليهم وكنت إذا جئت فرأوك من بعيد قالوا: قد جاءنا ابن راعية الكلاب؟؟ فقال: اللهم نعم.
      فقال له: مررت برجل وقد أيفعت (صرت يافعاً) فنظر إليك نظراً حاداً فقال: أشقى من عاقر ناقة ثمود؟ قال: نعم قال: قد أخبرتك أمك أنها حملت بك في بعض حيضها؟ فتعتع هنيئة ثم قال: نعم.
      فقال الإمام: قم فقام، قال (عليه السلام): سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (قاتلك شبه اليهودي بل هو اليهودي).
      وقد تكرر منه (عليه السلام) أن رأى ابن ملجم فقال: أريد حياته ويريد قتلي، وفي تلك السنة الأخيرة من حياته والشهر الأخير من حياته كان يخبر الناس بشهادته فيقول: ألا وإنكم حاجوا العام صفاً واحداً، وآية (علامة) ذلك أني لست فيكم.
      فعلم الناس أنه ينعى نفسه، ولم يكتفِ (عليه السلام) بذلك بل كان يدعو على نفسه ويسأل من الله تعالى تعجيل الوفاة، وتارة كان يكشف عن رأسه وينشر المصحف على رأسه ويرفع يديه للدعاء قائلاً: اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملوني، أما أن تخضب هذه من هذا ـ ويشير إلى هامته ولحيته.
      وقبل الواقعة أخبر (عليه السلام) أبنته أم كلثوم بأنه رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يمسح الغبار عن وجهه ويقول: يا علي لا عليك، قضيت ما عليك.
      وكان الإمام قد بلغ من العمر ثلاثاً وستين سنة، وفي شهر رمضان من تلك السنة كان الإمام يفطر ليلة عند ولده الحسن وليلة عند ولده الحسين وليلة عند ابنته زينب الكبرى زوجة عبد الله بن جعفر وليلة عند أبنته زينب الصغرى المكناة بأم كلثوم.
      وفي الليلة التاسعة عشر كان الإمام (عليه السلام) في دار ابنته أم كلثوم فقدمت له فطوره في طبق فيه: قرصان من خبز الشعير، وقصعة فيها لبن حامض، فأمر الإمام ابنته أن ترفع اللبن، وأفطر بالخبز والملح، ولم يشرب من اللبن شيئاً لأن في الملح كفاية، وأكل قرصاً واحداً، ثم حمد الله وأثنى عليه، و قام إلى الصلاة، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلى الله تعالى، وكان يكثر الدخول والخروج وينظر إلى السماء ويقول: هي، هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله.
      ثم رقد هنيئة وانتبه مرعوباً وجعل يمسح وجهه بثوبه، ونهض قائماً على قدميه وهو يقول: اللهم بارك لنا في لقائك.
      ويكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ثم صلى حتى ذهب بعض الليل، ثم جلس للتعقيب، ثم نامت عيناه وهو جالس، ثم انتبه من نومته مرعوباً، وقالت أم كلثوم: قال لأولاده: إني رأيت في هذه الليلة رؤيا هالتني وأريد أن أقصها عليكم قالوا: وما هي؟ قال: إني رأيت الساعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك، وإنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان، فهلم إلينا فما عندنا خير لك وأبقى.
      قال: فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا، ثم أقبل عليهم يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر قالت أم كلثوم: لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها الليلة التي وعدت بها، ثم يعود إلى مصلاه ويقول: اللهم بارك لي في الموت.
      ويكثر من قول: (أنا لله وأنا إليه راجعون) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ويصلى على النبي (صلّى الله عليه وآله) ويستغفر الله كثيراً قالت أم كلثوم فلما رأيته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والاستغفار أرقت معه ليلتي وقلت: يا أبتاه ما لي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ قال: يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة ثم قال: (أنا لله وأنا إليه راجعون).
      فقلت يا أبا ما لك تنعى نفسك منذ الليلة؟ قال: بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل قالت أم كلثوم: فبكيت فقال لي يا بنية لا تبكي فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلي النبي (صلّى الله عليه وآله) ثم إنه نعس وطوى ساعة ثم استيقظ من نومه، وقال: يا بنية إذا قرب الأذان فأعلميني.
      ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قالت أم كلثوم: فجعلت أرقب الأذان فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء، وقام ولبس ثيابه وفتح بابه ثم نزل إلى الدار وكان في الدار إوز قد أهدي إلى أخي الحسين (عليه السلام) فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن، وصحن في وجهه.
      وكان قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (عليه السلام): لا إله إلا الله، صوائح تتبعها نوائح، وفي غداة غد يظهر القضاء.
      فقلت: يا أبتاه هكذا تتطير؟ فقال: بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به.
      ولكن قول جرى على لساني ثم قال: يا بنية بحقي عليك إلا ما أطلقتيه، وقد حبست ما ليس له لسان، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض.
      فلما وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه فتعلق الباب بمئزره فانحل مئزره حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول:
      أشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكــــــا
      ولا تجزع من المــوت إذا حــل بناديكــــــا
      كما أضحك الدهـــــــر كذاك الدهر يبكـــيكا
      ثم قال: اللهم بارك لنا في الموت اللهم بارك لنا في لقائك قالت أم كلثوم: وكنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلك قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة قال: يا بنية ما هو بنعاء ولكنها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً، فامسكي عن الجواب، ثم فتح الباب وخرج قالت أم كلثوم: فجئت إلى أخي الحسن (عليه السلام) فقلت: يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا وهو قد خرج في هذا الليل الغلس فالحقه فقام الحسن بن علي (عليه السلام) وتبعه فلحق به قبل أن يدخل الجامع فأمره الإمام بالرجوع فرجع.
      وأما عدو الله: عبد الرحمن بن ملجم فكان على رأي الخوارج وكانت بينه وبين قطام حب وغرام، وقطام قد قتل أبوها وأخوها وزوجها في النهروان، وقد امتلأ قلبها غيظاً وعداءً لأمير المؤمنين وأراد ابن ملجم أن يتزوجها فاشترطت عليه أن يقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فاستعظم هذا الأمر وطلبت منه ثلاثة آلاف دينار وعبداً وقينة (جارية) وينسب إليه هذه الأبيات:
      فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة كمهر قطام من فصيح وأعجم
      ثلاثة آلاف وعبد وقيـــنــــــة وضرب علي بالحسام المصمم
      وقيل إنه تعاهد هو ورجلين على قتل معاوية وعمرو بن العاص واختار الثالث قتل معاوية، فقصد البرك بن عبد الله التميمي مصر ليقتل ابن العاص، ولم يخرج ابن العاص تلك الصبيحة فأرسل رجلاً يقال له: خارجة بن تميم، فلما وقف في المحراب صربه البرك ظناً منه أنه ابن العاص فمات خارجة من تلك الضربة.
      وأما الآخر ويقال له: العنبري فإنه قصد الشام يقصد قتل معاوية وتعرف بمعاوية وجعل يدخل عليه ويلاطف له في الكلام وينشده الأشعار حتى صارت صبيحة يوم التاسع عشر من شهر رمضان وجاء معاوية للصلاة وثار إليه العنبري ورفع السيف ليضرب عنقه فأخطأ الضربة فوقع السيف على إلية معاوية، ولم يقتل من ضربته بل جرح جرحاً برء بالمعالجة.
      وأما عبد الرحمن بن ملجم فقد جاء تلك الليلة وبات في المسجد ينتظر طلوع الفجر ومجيء الإمام للصلاة وهو يفكر حول الجريمة العظمى التي قصد ارتكابها ومعه رجلان: شبيب بن بحرة ووردان بن مجالد يساعدانه على قتل الإمام.
      وسار الإمام إلى المسجد فصلى في المسجد، ثم صعد المأذنة ووضع سبابته في أذنيه وتنحنح، ثم أذن، فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته، ثم نزل عن المأذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره، ويكثر من الصلاة على النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة، يرحمك الله، قم إلى الصلاة المكتوبة ثم يتلو: (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر).
      لم يزل الإمام يفعل ذلك حتى وصل إلى ابن ملجم وهو نائم على وجهه وقد أخفى سيفه تحت إزاره فقال له الإمام: يا هذا قم من نومك هذا فإنها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان، ونومة أهل النار بل نم على يمينك فإنها نومة العلماء، أو على يسارك فإنها نومة الحكماء، أو نم على ظهرك فإنها نومة الأنبياء.
      نعم، الشمس تشرق على البر والفاجر والكلب والخنزير وكل رجس وقذر، والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يفيض من علومه على الأخيار والأشرار وينصح السعداء والأشقياء ولا يبخل عن الخير حتى لأشقى الأشقياء، ويرشد كل أحد حتى قاتله!! ثم قال له الإمام: لقد هممت بشيء تكاد السماوات أن يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك ثم تركه، واتجه إلى المحراب، وقام قائماً يصلي، وكان (عليه السلام) يطيل الركوع والسجود في صلاته، فقام المجرم الشقي لإنجاز أكبر جريمة في تاريخ الكون!! وأقبل مسرعاً يمشي حتى وقف بازاء الاسطوانة التي كان الإمام يصلي عليها، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وسجد السجدة الأولى ورفع رأسه منها فتقدم اللعين وأخذ السيف وهزه ثم ضربه على رأسه الشريف فوقعت الضربة على مكان الضربة التي ضربه عمر بن عبدود العامري.
      فوقع الإمام على وجهه قائلاً: بسم الله وعلى ملة رسول الله ثم صاح الإمام: قتلني ابن ملجم قتلني ابن اليهودية، أيها الناس لا يفوتكم ابن ملجم.
      أخبر الإمام عن قاتله كيلا يشتبه الناس بغيره فيقتلون البريء، كما قتل في حادثة قتل عمر بن الخطاب جماعة من الأبرياء المساكين الذين هجم عليهم عبيد الله بن عمر وقتلهم.
      حتى في تلك اللحظة يحافظ الإمام على النظام وعلى حياة الناس، نبع الدم العبيط من هامة الإمام وسال على وجهه المنير، وخضب لحيته الكريمة وصدق كلام الرسول ووقع ما أخبر به، لم يفقد الإمام وعيه وما انهارت أعصابه بالرغم من وصول الضربة إلى جبهته وبين حاجبيه، فجعل يشد الضربة بمئزره ويضع عليها التراب، ولم يمهله الدم فقد سال على صدره وأزياقه، وعوضاً من التأوه والتألم والتوجع كان يقول (صلوات الله عليه): فزت ورب الكعبة! هذا ما وعد الله ورسوله! وصدق الله ورسوله! استولت الدهشة والذهول على الناس، وخاصة على المصلين في المسجد، وفي تلك اللحظة هتف جبرائيل بذلك الهتاف السماوي.
      لم نسمع في تاريخ الأنبياء أن جبرائيل هتف يوم وفاة نبي من الأنبياء أو وصي من الأوصياء، ولكنه هتف ذلك الهتاف لما وصل السيف إلى هامة الإمام وهو بعد حي، هتف بشهادته كما هتف يوم أحد بفتوته وشهامته يوم قال: لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار.
      فاصطفت أبواب الجامع وضجت الملائكة في السماء بالدعاء وهبت ريح عاصف سوداء مظلمة ونادى جبرائيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى وانفصمت والله العروة الوثقى قتل ابن عم محمد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) قتل الوصي المجتبى قتل علي المرتضى، قتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء.
      فلما سمعت أم كلثوم نعي جبرائيل لطمت على وجهها، وخدها وشقت جيبها وصاحت: واأبتاه واعلياه وامحمداه واسيداه.
      وخرج الحسن والحسين فإذا الناس ينوحون وينادون: واإماماه واأمير المؤمنيناه، قتل والله إمام عابد مجاهد لم يسجد لصنم قط وكان أشبه الناس برسول الله.
      فلما سمع الحسن والحسين (عليهما السلام) صرخات الناس ناديا: واأبتاه واعلياه ليت الموت أعدمنا الحياة، فلما وصلا إلى الجامع ودخلا وجدا أبا جعدة بن هبيرة ومعه جماعة من الناس وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام في المحراب ليصلي بالناس.
      فلم يطق على النهوض، وتأخر عن الصف وتقدم الحسن (عليه السلام) فصلى بالناس، وأمير المؤمنين (عليه السلام) صلى إيماء من جلوس وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمته يميل تارة ويسكن أخرى والحسن (عليه السلام) ينادي: واانقطاع ظهراه! يعز ـ والله ـ علي أن أراك هكذا ـ ففتح الإمام (عليه السلام) عينه.
      وقال: يا بني لا جزع على أبيك بعد اليوم! هذا جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وأمك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون فينتظرون قدوم أبيك، فطب نفساً وقر عيناً وكف عن البكاء، فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء.
      ثم إن الخبر شاع في جوانب الكوفة وانحشر الناس حتى المخدرات خرجن من خدرهن إلى الجامع ينظرون إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن (عليه السلام) ورأس أبيه في حجره وقد غسل الدم عنه، وشد الضربة وهي بعدها تشخب دماً ووجهه قد زاد بياضاً بصفرة وهو يرمق السماء بطرفه، ولسانه يسبح الله ويوحده، وهو يقول أسألك يا رب الرفيع الأعلى.
      فأخذ الحسن (عليه السلام) رأسه في حجره فوجده مغشياً عليه فعندها بكى بكاء شديداً وجعل يقبل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده فسقط من دموعه قطرات على وجه أمير المؤمنين (عليه السلام) ففتح عينيه فرآه باكياً.
      فقال له الإمام (عليه السلام): يا بني يا حسن ما هذا البكاء؟ يا بني لا روع على أبيك بعد اليوم! يا بني أتجزع على أبيك وغداً تقتل بعدي مسموماً مظلوماً؟ ويقتل أخوك بالسيف هكذا؟ وتلحقان بجدكما وأبيكما وأمكما؟ فقال له الحسن (عليه السلام): يا أبتاه ما تعرفنا من قتلك؟ ومن فعل بك هذا؟ قال (عليه السلام): قتلني ابن اليهودية: عبد الرحمن بن ملجم المرادي فقال: يا أباه من أي طريق مضى؟ قا لا يمضي أحد في طلبه فإنه سيطلع عليكم من هذا الباب.
      وأشار بيده الشريفة إلى باب كنده.
      ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه ثم أغمي عليه ساعة والناس ينتظرون قدوم الملعون من باب كنده، فاشتغل الناس بالنظر إلى الباب ويرتقبون قدوم الملعون وقد غص المسجد بالعالم ما بين باكٍ ومحزون فما كان إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت، من الناس وقد جاءوا بعدو الله ابن ملجم مكتوفاً هذا يلعنه وهذا يضربه.
      فوقع الناس بعضهم على بعض ينظرون إليه فأقبلوا باللعين مكتوفاً وهم ينهشون لحمه بأسنانهم، ويقولون له: يا عدو الله ما فعلت؟ أهلكت أمة محمد (صلّى الله عليه وآله) وقتلت خير الناس.
      وإنه لصامت وبين يديه رجل يقال له حذيفة النخعي بيده سيف مشهور وهو يرد الناس عن قتله وهو يقول هذا قاتل الإمام علي (عليه السلام) حتى أدخلوه إلى المسجد.
      وكانت عيناه قد طارتا في أم رأسه كأنهما قطعتا علق وقد وقعت في وحهه ضربة قد هشمت وجهه وأنفه والدم يسيل على لحيته وعلى صدره، وهو ينظر يميناً وشمالاً وعيناه قد طارتا في أم رأسه وهو أسمر اللون وكان على رأسه شعر أسود منشوراً على وجهه كأنه الشيطان الرجيم.
      فلما جاءوا به أوقفوه بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما نظر إليه الحسن (عليه السلام): قال له: يا ويلك يا لعين! يا عدو الله! أنت قاتل أمير المؤمنين ومثكلنا بإمام المسلمين؟ هذا جزاؤه منك حيث آواك وقربك وأدناك وآثرك على غيرك؟ وهل كان بئس الإمام لك حتى جازيته هذا الجزاء يا شقي؟؟ فلم يتكلم بل دمعت عيناه.
      فقال له الملعون: يا أبا محمد أفأنت تنقذ من في النار؟ فعند ذاك ضج الناس بالبكاء والنحيب.
      فأمر الحسن (عليه السلام) بالسكوت ثم التفت الحسن (عليه السلام) إلى الذي جاء به حذيفة فقال له: كيف ظفرت بعدو الله وأين لقيته؟ فقال: يا مولاي كنت نائماً في داري إذ سمعت زوجتي الزعقة، وناعياً ينعي أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول: تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله أعلام التقى قتل ابن عم محمد المصطفى قتل علي المرتضى قتله أشقى الأشقياء.
      فأيقظتني وقالت لي: أنت نائم؟ وقد قتل إمامك علي بن أبي طالب.
      فانتبهت من كلامها فزعاً مرعوباً وقلت لها: يا ويلك ما هذا الكلام؟ رض الله فاك! لعل الشيطان قد ألقى في سمعك هذا أن أمير المؤمنين ليس لأحد من خلق الله تعالى قبله تبعه ولا ظلامة، فمن ذا الذي يقدر على قتل أمير المؤمنين؟ وهو الأسد الضرغام والبطل الهمام والفارس القمقام فأكثرت علي وقالت: إني سمعت ما لم تسمع وعلمت ما لم تعلم، فقلت لها: وما سمعت فأخبرتي بالصوت.
      ثم قالت: ما أظن أن بيتاً في الكوفة إلا وقد دخله هذا الصوت.
      قال: وبينما أنا وهي في مراجعة الكلام وإذا بصيحة عظيمة وجلبة وقائل يقول: قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فحس قلبي بالشر فمددت يدي إلى سيفي وسللته من غمده، وأخذته ونزلت مسرعاً، وفتحت باب داري وخرجت، فلما صرت في وسط الجادة نظرت يميناً وشمالاً فإذا بعدو الله يجول فيها، يطلب مهرباً فلم يجد، وإذا قد انسدت الطرقات في وجهه، فلما نظرت إليه وهو كذلك رابني أمره فناديته: من أنت وما تريد؟ لا أم لك! في وسط هذا الدرب؟ فتسمى بغير اسمه، وانتمى إلى غير كنيته فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من منزلي قلت: وإلى أين تريد لأن تمضي في هذا الوقت؟ قال إلى الحيرة، فقلت: ولم لا تقعد حتى تصلي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) صلاة الغدة وتمضي في حاجتك؟ فقال: أخشى أن أقعد للصلاة فتفوتني حاجتي.
      فقلت: يا ويلك إني سمعت صيحة وقائلاً يقول قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فهل عندك من ذلك خبر؟ قال: لا علم لي بذلك.
      فقلت له: ولم لا تمضي معي حتى تحقق الخبر وتمضي في حاجتك؟ فقال: أنا ماض في حاجتي وهي أهم من ذلك.
      فلما قال لي مثل ذلك القول قلت: يا لكع الرجال حاجتك أحب إليك من الجسس لأمير المؤمنين وإمام المسلمين؟ وإذا والله يا لكع ما لك عند الله من خلاق.
      وحملت عليه بسيفي وهممت أن أعلو به، فراغ عني فبينما أنا أخاطبه وهو يخاطبني إذ هبت ريح فكشفت إزاره وإذا بسيفه يلمع تحت الإزار وكأنه مرآة مصقولة.
      فلما رأيت بريقه تحت ثيابه قلت: يا ويلك ما هذا السيف المشهور تحت ثيابك؟ لعلك أنت قاتل أمير المؤمنين فأراد أن يقول: لا.
      فأنطق الله لسانه بالحق فقال: نعم، فرفعت سيفي وضربته فرفع هو سيفه وهم أن يعلوني به فانحرفت عنه فضربته على ساقيه فأوقعته ووقع لجينه ووقعت عليه وصرخت صرخة شديدة وأردت أخذ سيفه فمانعني عنه، فخرج أهل الحيرة فأعانوني عليه حتى أوثقته وجئتك به، فهو بين يديك جعلني الله فداك فاصنع به ما شئت.
      فقال الحسن (عليه السلام): الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه ثم انكب الحسن (عليه السلام) على أبيه يقبله وقال: يا أباه هذا عدو الله وعدوك قد أمكن الله منه.
      ففتح عينيه (عليه السلام) وهو يقول: أرفقوا بي يا ملائكة ربي.
      فقال له الحسن (عليه السلام): هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك.
      ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه.
      فقال له بضعف وانكسار صوت ورأفة ورحمة: يا هذا لقد جئت عظيماً، وارتكبت أمراً عظيماً، وخطباً جسيماً، أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا، فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء؟ فدمعت عينا ابن ملجم وقال يا أمير المؤمنين: أفأنت تنقذ من في النار.
      قال له: صدقت ثم التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: إرفق يا ولدي بأسيرك.
      وارحمه وأحسن إليه واشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً وفزعاً؟؟ فقال له الحسن (عليه السلام) يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟ فقال: نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرماً وعفواً! والرحمة والشفقة من شيمتنا! بحقي عليك فاطعمه يا بني مما تأكله! واسقه مما تشرب! ولا تقيد له قدماً ولا تغل له يداً! فإن أنتا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وإن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو عنه وأنا أعلم بما أفعل به.
      ولقد أحسن وأجاد المرحوم السيد جعفر الحلي (ره):
      لبس الإسلام أبراد الســــــواد يوم أردى المرتضى سيف المرادي
      ليلة ما أصبحت إلا وقـــــــــد غلب الغي على أمر الرشــــــــــــاد
      والصلاح انخفضت أعلامـــه وغدت ترفع أعلام الفســـــــــــــــاد
      ما رعى الغادر شهر الله فـي حجة الله على كل العبــــــــــــــــــاد
      وببيت الله قـــد جدّ لـــــــــــه ساجداً ينشج من خوف المعــــــــاد
      يا ليال أنـــزل الله بهــــــــــــا ســـــــــــور الذكر على أكرم هادي
      مُحيت فيك على رغم العـــــلىآية في فضلها الذكر ينــــــــــــــادي
      قتلوه وهــو في محرابـــــــه طاوي الأحشاء عن مـــــــــاء وزاد
      سل بعينيه الدجى هـــل جفتـا عن بكا أو ذاقتا طعم الرقـــــــــــاد؟
      وسل الأنجم هــل أبصرنـــــه ليلة مضطجعاً فوق الوســـــــــــاد؟
      وسل الصبح هــل صادفـــــه ملّ من نوح مـذيب للجمــــــــــــاد؟
      عاقر الناقة مع شقـــوتــــــه ليس بالأشقى مـن الرجس المـرادي
      فـلقــد عمم بالسيف فـتــــــى عمّ خلق الله طراً بالأيـــــــــــــــادي
      فبكتــــه الأنس والجن معـــــاًوطيور الجـــــــومع وحش البوادي
      وبكاه الملأ الأعلى دمـــــــــــاًوغدى جبريل بالويل ينـــــــــــــادي
      هـــدمت والله أركان الهــدى حيث لا من منــذر فينا وهـــــــــادي

      (1) سورة الأحزاب، الآية: 23.

      تعليق


      • #18
        الليلة العشرون
        علي (عليه السلام) طريح الفراش
        بسم الله الرحمن الرحيم
        أيها الأخوان: في مثل صبيحة هذا اليوم وقعت الحادثة الكبرى التي ذكرنا عنها اليسير ليلة أمس، لا يملك القلم واللسان بياناً لشرح الواقعة والدهشة التي استولت على الناس إثر استماع الصيحة السماوية وانتشار الخبر في الكوفة بأسرع ما يكون، وأقبلت الجماهير تتراكض إلى المسجد (محل الحادثة) حتى المخدرات خرجن من خدورهن، وغص المسجد الجامع بالناس، فلا ترى إلا صفق الأيدي على الرؤوس ولا تسمع إلا أصوات النياحة وصرخات الناس، وقد أزدحم الناس حول الإمام ينظرون إلى ذلك البطل الذي كان يخوض غمار الموت، وكانت الأسود تخاف من باسه واسمه، ينظرون إليه وقد أبيض وجهه من نزف الدم، وصلى الإمام صلاة الصبح من جلوس، ثم قال احملوني إلى منزلي.
        فحملوه والناس حوله يبكون وينتحبون، وكان الحسن والحسين أشد الناس بكاء وحزناً، فكان الحسين (عليه السلام) يبكي ويقول: يا أبتاه من لنا بعدك؟ لا يوم كيومك إلا يوم رسول الله، من أجلك تعلمت البكاء، يعز ـ والله ـ علي أن أراك هكذا.
        فعزاه الإمام وسلاه، ومسح دموع ولده ووضع يده على قلب ولده وقال: يا بني ربط الله على قلبك وأجزل لك ولأخوتك عظيم الأجر.
        أقبلت بنات رسول الله وسائر بنات الإمام وجلسن حول فراشه ينظرن إلى أسد الله وهو بتلك الحالة، فصاحت زينب الكبرى وأختها: أبتاه من للصغير حتى يكبر؟ ومن للكبير بين الملأ؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا ترقا! فضج الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب، وشاركهم الإمام وفاضت عيناه بالدموع.
        اجتمع الأطباء والجراحون فوصفوا للإمام اللبن، لأن سيف ابن ملجم كان مسموماً، فكان اللبن طعامه وشرابه، ودعي الإمام بولديه وجعل يقبلهما ويحصنهما لأنه علم أنه سيفارقهما وكان يغمى عليه ساعة بعد ساعة، فناوله الحسن قدحاً من اللبن فشرب منه قليلاً، ثم نحاه عن فمه وقال: احملوه إلى أسيركم! ثم قال للحسن: يا بني بحقي عليك إلا ما طيبتم مطعمه ومشربه وارفقوا به إلى حين موتي! وتطعمه مما تأكل، وتسقيه مما تشرب حتى تكون أكرم منه!! وكان اللعين ابن ملجم محبوساً في بيت، فحملوا إليه اللبن وأخبروه بعطف الإمام وحنانه على قاتله، فشرب اللعين اللبن.
        قال محمد بن الحنيفة: بتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي وقد نزل السم إلى قدميه، وكان يصلي تلك الليلة من جلوس ولم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن نفسه، ويخبرنا بأمره إلى طلوع الفجر، فلما أصبح استأذن الناس عليه، فأذن لهم بالدخول، فدخلوا عليه واقبلوا يسلمون عليه وهو يرد (عليهم السلام) ثم يقول: أيها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني، وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم!! فبكى الناس بكاء شديداً، وأشفقوا أن يسألوه تخفيفاً عنه فقام إليه حجر بن عدي الطائي وقال:
        فيا أسفي على المولى النقي أبي الأطهار حيدرة الزكي
        قتله كـــــافر حنــــــث زنيم لعين فاســـــق نغل شـــــقي
        إلى آخر أبياته، فلما بصر الإمام وسمع شعره قال له: كيف بك إذا دعيت إلى البراءة مني؟ فما عساك أن تقول؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إرباً إرباً، وأضرم لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك!! فقال (عليه السلام): وفقت لكل خير يا حجر، جزاك الله عن أهل بيت نبيك.
        ثم قال هل من شربة لبن؟ فأتوه بلبن فشربه كله، فذكر (عليه السلام) ابن ملجم وأنه لم يترك له من اللبن شيئاً فقال: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، أعلموني أني شربت الجميع، ولم أبق لأسيركم شيئاً من هذا! ألا: وإنه آخر رزقي من الدنيا! فبالله عليك ـ يا بني ـ إلا ما سقيته مثل ما شربت، فحمل إليه اللبن فشرب.
        كان الناس متجمهرين على باب الإمام ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام في حق ابن ملجم، فخرج إليهم الإمام الحسن وأمرهم عن قول أبيه بالانصراف، فانصرف الناس، وكان الأصبغ بن نباته جالساً فلم ينصرف، فخرج الإمام الحسن مرة ثانية وقال: يا أصبغ أما سمعت قولي عن أمير المؤمنين؟ قال: بلى، ولكني رأيت حاله، فأحببت أن أنظر إليه فاسمع من حديثاً، فاستأذن لي رحمك الله.
        فدخل الحسن ولم يلبث أن خرج فقال له: أدخل.
        قال الأصبغ فدخلت فإذا أمير المؤمنين معصب بعصابة، وقد علت صفرة وجهه على تلك العصابة، وإذا هو يرفع فخذاً ويضع أخرى من شدة الضربة وكثرة السم.
        فقال لي: يا أصبغ أما سمعت قول الحسن عن قولي؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين، ولكني رأيتك في حالة فأحببت النظر إليك، وأن أسمع منك حديثاً.
        فقال لي: أقعد، فما أراك تسمع مني حديثاً بعد يومك هذا!! إعلم يا أصبغ: أني أتيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عائداً كما جئت الساعة فقال: يا أبا الحسن أخرج فناد في الناس: الصلاة جامعة، واصعد المنبر وقم دون مقامي بمرقاة، وقل للناس: ألا: من عق والديه فلعنة الله عليه، ألا:من أبق مواليه فلعنة الله عليه، ألا: من ظلم أجيراً أجرته فلعنة الله عليه! يا أصبغ: ففعلت ما أمرني به حبيبي رسول الله، فقام من أقصى المسجد رجل فقال: يا أبا الحسن تكلمت بثلاث كلمات أوجزتهن (اختصرتهن) فلم أرد جواباً حتى أتيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقلت ما كان من الرجل.
        قال الأصبغ: ثم أخذ بيدي وقال: يا أصبغ أبسط يدك، فبسطت يدي، فتناول أصبع من أصابع يدي وقال: يا أصبغ كذا تناول رسول الله الحسن ألا: وإني وأنت أبوا هذه الأمة، فمن عقنا فلعنة الله عليه، ألا وإني وأنت موليا هذه الأمة فعلى من أبق عنا لعنة الله، ألا: وإني وأنت أجيرا هذه الأمة، فمن ظلمنا أجرنا فلعنة الله عليه، ثم قال: آمين.
        فقلت آمين.
        قال الأصبغ: ثم أغمي عليه ثم أفاق فقال لي: أقاعد أنت يا أصبغ؟ قلت: نعم يا مولاي قال: أزيدك حديثاً آخر؟ قلت نعم زادك الله من مزيدات الخير، قال: يا أصبغ: لقيني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بعض طرقات المدينة وأنا مغموم، قد تبين الغم في وجهي، فقال لي: يا أبا الحسن أراك مغموماً؟ ألا أحدثك بحديث لا تغتم بعده أبداً؟؟ قلت: نعم.
        قال: إذا كان يوم القيامة نصب الله منبراً يعلو منبر النبيين والشهداء ثم يأمرني الله أن أصعد فوقه ثم يأمرك الله أن تصعد دوني بمرقاة ثم يأمر الله ملكين فيجلسان دونك بمرقاة، فإذا استقللنا على المنبر لا يبق أحد من الأولين والآخرين إلا حضر، فينادي الملك الذي دونك بمرقاة: معاشر الناس ألا: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا أدفع مفاتيح الجنة إلى محمد، وإن محمداً أمرني أن أدفعها إلى علي بن أبي طالب، فاشهدوا لي عليه.
        ثم يقوم ذلك الذي تحت ذلك الملك بمرقاة منادياً يسمع أهل الموقف: معاشر الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا مالك (خازن) النيران، ألا: إن الله ـ بمنه وكرمه وفضله وجلاله ـ قد أمرني أن أدفع مفاتيح النار إلى محمد وإن محمداً قد أمرني أن أدفعها إلى علي بن أبي طالب فاشهدوا لي عليه.
        فآخذ مفاتيح الجنان والنيران، يا علي فتأخذ بحجزتي(1)، وأهل بيتك يأخذون بحجزتك، وشيعتك يأخذون بحجزة أهل بيتك.
        قال الإمام: فصفقت بكلتا يدي وقلت: وإلى الجنة يا رسول الله؟ قال: إي ورب الكعبة..

        (1) الحجزة بضم الحاء: الإزار أو معقد الإزار.

        تعليق


        • #19
          علي (عليه السلام) يفارق الحياة
          بسم الله الرحمن الرحيم
          عظم الله أجوركم بمصيبة سيدنا وإمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ففي هذه الليلة قضى نحبه وفارق الحياة، وقد انطوت صفحات تلك الحياة المشرقة، واستراح الإمام من أيدي الناس وأفواههم وانتهت أيام مسؤوليته.
          فقد جمعوا له أطباء الكوفة ومن جملتهم: أثير بن عمرو بن هاني السكوني فلما نظر إلى جرح رأس الإمام طلب رئة شاة حارة فاستخرج منها عرقاً ثم نفخه ثم استخرجه، وإذا عليه بياض الدماغ كأنه قطن مندوف فقال: يا أمير المؤمنين اعهد عهدك وأوص وصيتك فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك.
          قال محمد بن الحنيفة: لما كانت ليلة إحدى وعشرين جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم ثم قال لهم: الله خليفتي عليكم، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأوصاهم بلزوم الإيمان..
          وتزايد ولوج السم في جسده حتى نظرنا إلى قدميه وقد احمرتا جميعاً، فكبر ذلك علينا وأيسنا منه.
          ثم عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبى أن يشرب، فنظرنا إلى شفتيه يختلجان بذكر الله، ثم نادى أولاده كلهم بأسمائهم واحداً بعد واحد وجعل يودعهم وهم يبكون فقال الحسن: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: يا بني إني رأيت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منامي قبل هذه الكائنة بليلة فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذى من هذه الأمة فقال لي: أدع عليهم فقلت: اللهم أبدلهم بي شراً مني وأبدلني بهم خيراً منهم.
          فقال لي رسول الله: قد استجاب الله دعاك، سينقلك إلينا بعد ثلاث.
          وقد مضت الثلاث، يا أبا محمد أوصيك ويا أبا عبد الله خيراً، فأنتما مني وأنا منكما، ثم ألتفت إلى أولاده الذين من غير فاطمة (عليها السلام) وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسين، ثم قال: أحسن الله لكم العزاء، ألا وإني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه ولاحق بحبيبي محمد (صلّى الله عليه وآله) كما وعدني، فإذا أنا مت ـ يا أبا محمد ـ فغسلني وكفني وحنطني ببقية حنوط جدك رسول الله، فإنه من كافور الجنة جاء به جبرائيل إليه، ثم ضعني على سريري، ولا يتقدم أحد منكم مقدم السرير، واحملوا مؤخره، واتبعوا مقدمه، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر، فحيث قام سريري فهو موضع قبري، ثم تقدم ـ يا أبا محمد ـ وصل علي ـ يا بني يا حسن ـ وكبر علي سبعاً، واعلم أنه لا يحل ذلك على أحد غيري إلا على رجل يخرج في آخر الزمان اسمه: القائم المهدي من ولد أخيك الحسين يقيم اعوجاج الحق.
          فإذا أنت صليت علي ـ يا حسن ـ فنح السرير عن موضعه ثم اكشف التراب عنه، فترى قبراً محفوراً، ولحداً مثقوباً وساجة منقوبة، فأضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري فتفقدني فإنك لا تجدني وإني لاحق بجدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأعلم يا بني: ما من نبي يموت وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا ويجمع الله عز وجل بين روحيهما وجسديهما، ثم يفترقان فيرجع كل واحد منهما إلى موضع قبره وإلى موضعه الذي حط فيه.
          ثم أشرج اللحد باللبن (جمع لبنة) وأهِل التراب عليُّ ثم غيِّب قبري.
          وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وصية أخرى هي من جلائل وصاياه أوصى بها أولاده في مثل هذه الليلة، روى الصدوق في الفقيه عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت وصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين أوصى إلى أبنه الحسن (عليه السلام) وأشهد على وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمد وجميع ولده ورؤساء أهل بيته وشيعته ثم دفع إليه الكتاب والسلاح ثم قال: يا بني أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودفع إلي كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعه إلى أخيك الحسين (عليه السلام) ثم أقبل على أبنه الحسين فقال: وأمرك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تدفعه إلى ابنك علي بن الحسين ثم أقبل إلى إبنه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال له: وأمرك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تدفع وصيتك إلى ابنك محمد بن علي فأقرأه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومني السلام، ثم أقبل على أبنه الحسن فقال: يا بني أنت ولي الأمر بعدي وولي الدم فإن عفوت فلك، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم، ثم قال أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
          أوصيكما بتقوى الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للأجر (للآخرة) وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.
          أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي (وأهلي) ومن بلغهم كتابي هذا من المؤمنين بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم (بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم) فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين (وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين) ولا قوة إلا بالله، انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يُهوّن الله عليكم الحساب، والله الله في الأيتام لا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار، والله الله في القرآن فلا يسبقكم إلى العمل به غيركم، والله الله في جيرانكم فإن الله ورسوله أوصيا بهم (فإنه وصية نبيكم) ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا، الله الله في الصلاة! فإنها خير العمل وإنها عمود دينكم، الله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب ربكم، الله الله في صيام شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام هدى ومطيع له مقتد بهداه والله الله في ذرية نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم الذين لم يحدثوا حدثاً ولم يؤوا محدثاً فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أوصى بهم، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم، والمؤوي للمحدث، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن قال: أوصيكم بالضعيفين: نسائكم وما ملكت أيمانكم، ثم قال: الصلاة، الصلاة، الصلاة، ولا تخافن في الله لومة لائم، يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، قولوا للناس حسناً كما أمركم الله عز وجل، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم أشراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.
          وعليكم بالتواصل والتباذل والتبار وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم، وأستودعكم الله خير مستودع، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
          يا بني عبد المطلب: لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أمير المؤمنين.
          ألا: لا تقتلن بي إلا قاتلي انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.
          هكذا ينهي الإمام (عليه السلام) أولاده عن إقامة المجازر والمذابح لأجل الطلب بدمه كما كان الأمر في قضايا عثمان، يقول: لا تقتلوا إلا قاتلي.
          ينهاهم عن التحقيق عن أصل الفتنة ورجال المؤامرة وأسباب الفساد ويأمرهم بالاكتفاء بالقصاص من القاتل، ثم ينهي عن قطع أعضائه.
          ثم عرق جبين الإمام فجعل يمسح العرق بيده فقالت أبنته زينب: يا أبه أراك تمسح جبينك؟ قال: يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه.
          فقامت زينب وألقت بنفسها على صدر أبيها وقالت: يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء وقد أحببت أن أسمعه منك، فقال: يا بنية، الحديث كما حدثتك، أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً..
          ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحسين وقال: يا أبا محمد ويا أبا عبد الله كأني بكما وقدج خرجت عليكما من بعدي الفتن من ههنا وههنا فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين يا أبا عبد الله أنت شهيد هذه الأمة، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه.
          ثم أغمي عليه وأفاق وقال: هذا رسول الله، وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله، وكلهم يقولون: عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون، ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال: أستودعكم الله جميعاً، سددكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله، وكفى بالله خليفة، ثم قال: وعليكم السلام يا رسل ربي، ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)(1) .
          وما زال يذكر الله، ويستشهد الشهادتين، ثم استقبل القبلة، وغمض عينيه ومدد رجليه ويديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم قضى نحبه!! فعند ذلك صرخت زينب بنت علي وأم كلثوم وجميع نسائه وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود، وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم أهل الكوفة أن أمير المؤمنين قد فارق الحياة، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة فارتجت الكوفة بأهلها، وكثر البكاء والنحيب والضجيج بالكوفة وقبائلها وجميع أقصارها، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتغير أفق السماء، وسمع الناس أصواتاً وتسبيحاً في الهواء، واشتغلوا بالنياحة على الإمام.
          ثم قام أولاده لتجهيزه ليلاً، ولما جردوه عن ثيابه، وجدوا على جسده الشريف آثار ألف جراحة من قرنه إلى قدميه وهي الجراحات التي أصابته في سبيل الله في الحروب، وكان الحسن يغسله والحسين يصب عليه الماء، وكان (عليه السلام) لا يحتاج إلى من يقلبه، بل كان يتقلّب كما يريد الغاسل يميناً وشمالاً، لأن الملائكة كانت تقلّبه وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك.
          ثم نادى الحسن بأخته زينب وأم كلثوم وقال: يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله، فبادرت زينب مسرعة حتى أتته به، فلما فتحته فاحت الدار وجميع الكوفة، ولما حنطوه لفوه بخمسة أثواب ثم وضعوه على السرير وتقدم الحسن والحسين إلى السرير من مؤخره وإذا مقدمه قد ارتفع، ولا يرى حامله، وكان حاملاه جبرائيل وميكائيل، فما مر بشيء على وجه الأرض إلا انحنى له.
          وضجت الكوفة بالبكاء والنحيب، وخرجت النساء خلف الجنازة لاطمات فمنعهن الحسن وردهن إلى أماكنهم، والحسين يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أنا لله وأنا إليه راجعون، يا أبتاه واإنقطاع ظهراه، من أجلك تعلمت البكاء، إلى الله المشتكى.
          أمر الإمام الحسن الناس بالإنصراف، ولم يبق إلا أولاد أمير المؤمنين وعدد قليل من أخص أصحابه المعتمد عليهم، فابتعدوا عن الكوفة في جوف الليل قاصدين النجف، وإذا بمقدم السرير قد وضع، فوضع الحسن والحسين مؤخر السرير، وقام الحسن وصلى مع جماعة على أبيه فكبر سبعاً كما أمر أبوه، ثم زحزح السرير، وكشف التراب وإذا بقبر مقبور ولحد مشقوق وساجة منقورة مكتوب عليها: هذا ادخره نوح النبي للعبد الصالح الطاهر بن المطهر.
          ولما أرادوا إنزاله إلى القبر سمعوا هاتفاً يقول: أنزلوه إلى التربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب، فدهش الناس من سماع الهاتف، وانتهى الدفن قبل الفجر، وأخفوا قبره كما أوصى به، لأنه (عليه السلام) كان يعلم من عداوة الخوارج والأعداء له، فقد روي في منتخب التواريخ أن الحجاج بن يوسف نبش في النجف آلاف القبور يفتش عن جثمان علي (عليه السلام) ولكنه لم يعثر عليه، ولم يزل القبر مخفياً عن الناس لا يعرف به إلا أولاد الإمام وأخصاء الشيعة إلى أيام هارون الرشيد.
          قال عبد الله بن حازم: خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة نتصيد فصرنا إلى ناحية الغري، فرأينا ظبيات، فأرسلنا إليها الصقور والكلاب، فحاولتها ساعة، ثم لجأت الظباء إلى الأكمة فسقطت عليها، فسقطت الصقور والكلاب، فتعجب الرشيد من ذلك ثم أن الظباء هبطت من الأكمة فسقطت الصقور والكلاب فرجعت الظباء إلى الأكمة، فتراجعت عنها الكلاب والصقور ففعلت ذلك ثلاثة، فقال هارون: أركضوا فمن لقيتموه آتوني به؟ فأتيناه بشيخ من بني أسد، فقال هارون ما هذه الأكمة؟ قال: إن جعلت لي الأمان أخبرتك! قال: لك عهد الله وميثاقه أن لا أهيجك ولا أؤذيك.
          قال الشيخ حدثني أبي عن أبيه أنهم كانوا يقولون: هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام) جعله الله حرماً لا يأوي إليه أحد إلا أمن.
          فنزل هارون ودعى بماء فتوضأ وصلى عند الأكمة وتمرغ عليها وجعل يبكي، وأمر ببناء القبة على القبر، ومن ذلك اليوم لم يزل البناء في تطور وهو الآن صرح بديع متلألئ، وبناء مشيد من قبة ذهبية ومنارتين ذهبيتين، ومشهد عظيم وضريح فخم في داخله صندوق لا يثمن، والبقعة مزينة بهدايا الملوك والسلاطين على مر القرون، وقد بني المشهد على أحسن هندسة وأبدع فن معماري وأجمل نقوش يتوصل إليها الفكر البشري.
          والمعلقات الموجودة والذخائر المكنونة والهدايا الثمينة لا يمكن تقديرها وتثمينها، ويقصد القبر الشريف ملايين من الناس من شرق الأرض وغربها، وكذلك الوفود والسواح من المسلمين.
          تأبين علي
          ولما فرغوا من دفن الإمام (عليه السلام) قام صعصعة بن صوحان يؤبن الإمام بهذه الكلمات، فوقف على القبر ووضع إحدى يديه على فؤاده والأخرى قد أخذ بها التراب وضرب به رأسه ثم قال: بأبي لأنت وأمي يا أمير المؤمنين هنيئاً لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم جهادك وظفرت برأيك، وربحت تجارتك، وقدمت على خالقك فتلقاك ببشارته، وحفتك ملائكته، واستقررت في جوار المصطفى فأكرمك الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيك المصطفى وشربت بكأسه الأوفى، فأسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرك، والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك، فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه أحد، وجاهدت في سبيل ربك بين يدي أخيك المصطفى حق جهاده، وقمت بدين الله حق القيام حتى أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام وأنتظم الإيمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام، بك أعتدل ظهر المؤمنين واتضحت أعلام السبل، وأقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك، سبقت إلى إجابة النبي (صلّى الله عليه وآله) مقدماً مؤثراً، وسارعت إلى نصرته، ووقيته بنفسك ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بك كل جبار عنيد، وذل بك كل ذي بأس شديد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى، وقتل بك أهل الضلال من العدى، فهنيئاً لك يا أمير المؤمنين كنت أقرب الناس من رسول الله قربى وأولهم سلماً وأكثرهم علماً وفهماً.
          فهنيئاً لك يا أبا الحسن، لقد شرف الله مقامك، وكنت أقرب الناس إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نسباً، وأولهم إسلاماً وأوفاهم يقيناً، وأشدهم قلباً، وأبذلهم لنفسه مجاهداً، وأعظمهم في الخير نصيباً، فلا حرمنا الله أجرك، ولا ذلنا بعدك، فوالله لقد كانت حياتك مفاتيح للخير ومغالق للشر، وإن يومك هذا مفتاح كل شر ومغلاق كل خير، ولو أن الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة.
          ذكر ابن أبي الحديد أن صعصعة بن صوحان العبدي رثا أمير المؤمنين علياً بهذه الأبيات:
          ألا، من لي بأنسك يا أخيـــــــا ومــن لي أن أبثك ما لديـــا؟
          طوتك خطوب دهر قد تولــــى لذاك خطوبه نشراً وطيـــــا
          فلو نشرت قواك لي المنايـــــا شكــوت إليك ما صنعت إليا
          بكيتك يا علي بدرّ عينـــــــــي فلم يغن البكاء عليك شيـــــا
          كفى حزناً بدفنك ثم إنــــــــــي نفضـت تراب قبرك من يديا
          وكانت في حياتك لي عظـــــاة وأنت اليوم أوعظ منك حيــا
          فيا أسفي عليك وطول شوقي ألا لو أن ذلك رد شيــــــــــا
          ثم بكى بكاءً شديداً وأبكى كل من كان معه، وعدلوا إلى الحسن والحسين ومحمد وجعفر والعباس ويحيى وعون وعبد الله، فعزوهم في أبيهم وانصرف الناس ورجع أولاد أمير المؤمنين إلى الكوفة ولم يشعر بهم أحد:
          قم ناشد الإسلام عن مصابـــــــه أصيـب بالنبي أم كتابــــــه
          بلى قضى نفـس النبي المصطفى وأدرج الليلة في أثوابـــــه
          فاصفر وجــــه الدين لاصفـراره وخضــب الإيمان لختضابـه
          قتلتم الصلاة في محرابهــــــــــا يا قاتليه وهو في محرابـــه
          ثم عمدوا إلى عبد الرحمن بن ملجم فقتلوه، وهجم الناس على قطام وقطعوها بالسيوف ونهبوا دارها وأحرقوا جثتها وجثة أبن ملجم.
          في ناسخ التواريخ لما توفي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقتل أبن ملجم، خرج أبن عباس إلى الناس فقال: إن أمير المؤمنين توفي، وقد ترك لكم خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم، وإن كرهتم فلا أحد على أحد، فبكى الناس وقالوا: بل يخرج إلينا.
          فخرج الإمام الحسن وعليه ثوب أسود، واعتلى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، ولم يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، وكان رسول الله يوجهه برايته، فيكفيه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه.
          ولقد توفي في الليلة التي نزل فيها القرآن، وعرج فيها بعيسى بن مريم، والتي قبض فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطيته أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس..

          (1) سورة النحل، الآية: 128.

          تعليق


          • #20
            ختام واعتذار
            أيها الإخوان لقد قضينا معكم هذه الليالي الثمينة بالتحدث عن شخصية الإمام أمير المؤمنين، وقد كان حديثنا يدور حول ترجمة حياته المتلألئة وذكرنا ما تيسر، وأود أن أحيطكم علماً وأحلف لك يميناً لا حنث فيه بأني لم أذكر عشراً من معشار فضائل الإمام ومناقبه، فلقد فاتنا التكلم عن قضاء أمير المؤمنين ومعجزاته وكثير من خططه الحربية وسياسته الحكيمة وترجمة زوجاته وأولاده وبناته وكلماته القصار وآثاره الطيبة الخالدة، ومن الله نسأل أن يحقق الآمال ونتدارك ما قد فات.
            وسلام الله على أمير المؤمنين يوم ولد في الكعبة ويوم مات شهيداً في سبيل الله ويوم يبعث حياً للشفاعة.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم.
            وعلى الجميع مراجعتها بين الحين والاخر
            وارجو التمعن بها والتفحص
            وذاك لعلوم جَمَ هنا
            امنياتي
            خادم الزهراء ع
            عقيل

            تعليق


            • #21
              احسنتم وبارك الله بكم

              تعليق

              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
              حفظ-تلقائي
              x

              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

              صورة التسجيل تحديث الصورة

              اقرأ في منتديات يا حسين

              تقليص

              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
              أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, 02-05-2025, 07:21 AM
              ردود 2
              17 مشاهدات
              0 معجبون
              آخر مشاركة ibrahim aly awaly
              بواسطة ibrahim aly awaly
               
              أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, 02-05-2025, 09:44 PM
              استجابة 1
              12 مشاهدات
              0 معجبون
              آخر مشاركة ibrahim aly awaly
              بواسطة ibrahim aly awaly
               
              يعمل...
              X