تكمله الى تعرف على امير المومنين
اضافه الى الموضوع
(1)
من الميلاد حتى الهجرة
في الثالث عشر من رجب ؛ وقبل البعثة بعشر سنين : ولد هذا الشعاع الهادي والنموذج الأرقى ؛ علي بن أبي طالب عليه السلام .
ولد في البيت الحرام ليطهره من الأصنام بعد حين بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتحلت عيناه بالنور عند الكعبة ، ودرجت قدماه بالسير في رحاب أبيه ، وكانت أمه فاطمة بنت أسد ، وأبوه أبو طالب شيخ البطحاء وعمّ النبي ؛ هاشميين ، فهو هاشمي من هاشميين ، وكان لهذا أثر بعيد في عرف القوم ، يريدون بذلك النسب المحض والنقاء الخالص، فكان له ما أرادوا من فخر وسؤدد .
وكفله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صباه ، كما كفل أبو طالب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صباه ، فكأنه أراد مكافأة عمه في ذلك ، أو الإعراب له عن وفاته له عند ضيق ذات يده ، وتضخم عائلته وولده ، فنشأ عليّ في ظلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغذوه بتربيته ، ويوجهه بسيرته ، فيقتبس منه حسن السمت ورتابة الهدي .
وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان عليّ عليه السلام : أول القوم إسلاما ، وهو بذلك أقدمهم إيمانا وهو في العاشرة من عمره ، أو أكثر من ذلك بقليل . بعث النبي يوم الأثنين وأسلم عليّ يوم الثلاثاء ، وقد قبل النبي إسلامه
16
صبيا ، وتلك إحدى كراماته في الأقل ، واحتضنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتضان الأخ الشقيق لأخيه ، وأقام على تربيته أولا بأول ، فقد ربيّ ـ إذن ـ في حجر الإسلام ، ورضع من ثدي الإيمان ثاني أثنين هو وخديجة بنت خويلد زوج النبي وأم المؤمنين ، ولم يسجد لصنم قط شأن أترابه ، ولم يألف حياة الأصنام كما ألفها سواه ، فقيل : كرّم الله وجهه ، وهذه كرامة أخرى تضاف الى كرامات سبقت ، وفضائل تقدمت منذ قليل : ولادته في الكعبة ، ونشأته في حجر النبي صلى ا لله عليه وآله وسلم ، وقبول إسلامه مبكرا « فامتاز بين السسابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة ، وامتاز كذلك بأنه نشأ في منزل الوحي بأدق معاني هذه الكلمة وأضيقها » (1) .
وكان عليّ في أول عهده بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلبث هذا التأمل الدائم في تفكير محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويترصد هذه الخلوة الروحية لديه ، وهو يقلب وجهه في السماء ، ويتجه بضميره لله في حالة من الخشوع والترقب والابتهال ، حتى إذا فجأه الوحي ، وعى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الانقطاع الكلي الى ما يوحى إليه ، وتبصّر في هذا التلاحم ـ الغريب على حياة العرب ـ بينه وبين الله تعالى ، وإذا بنفسه تمتلأ غبطة بما يشاهد ، وإذا بالرؤى تزدحم عليه فيما يجد ، حياة روحية خالصة .
والاندماج متواصل مع الوحي ، ومناخ جديد يربط الأرض بالسماء ، فمحمد يتلقى من السماء ما يبلغه الى الأرض بكل أمانة ، والسماء تمدّه بأنبائها ، والأرض ـ بعد ـ ساكنة لم تتحرك ، والحياة هادئة لم تضطرب ، ماذا عسى أن يكون بعد هذا الهدوء ، وما عسى أن ينفجر بعد ذلك السكون ، ذلك ما يحدده مستقبل الرسالة . وعليّ عليه السلام يلمح هذا بعين الناقد البصير ، ويفقهه الفقه كله ، تصل إليه هذه النفحات ،
(1) الدكتور طه حسين | الفتنة الكبرى 1 | 151 .
17
وتغمره تلك الامدادات ، فيفتح لها قلبه ويستقبلها استقبال الفاتحين ، فتتوهج في ذاته هذه الشعلة التي لا تنطفىء أبدا ، ويسري في عروقه هذا الدم الجديد ، فيضطم عليه صدره حريصا ، وتتفجر الحكمة في قلبه ، فتمحضه الإيمان المطلق محضا ، ويقبل على هذا الدين فيلتهم تعاليمه من ينابيعها الأولى ، ويسبغ مفاهيمه عقليا ومناخا نفسيا ، فينصهر فيه إنصهارا تاما ، ويستولي عليه إستيلاء حثيثا ، هذا الانصهار وذلك الاستيلاء منذ عهد مبكر في الإسلام كانا أساسا صلبا لما بنى عليه الإمام حياته المستقبلية في قيادته العليا للإسلام فيما بعد .
وكان لعبادة النبي الصادقة ، وهينمته الهادئة : آناء الليل وأطراف النهار ذلك الأثر البليغ في حياته الليلية عند المناجاة ، وخشوعه المترامي في الذات ، فتراه مطرقا مفكرا حينا ، ومسّبحا متبتلا حينا آخر، وهو في جدّ مستمر وجهد جهيد لا يجد إلى الراحة سبيلا .
وكابد عليّ ما كابد محمد من شظف العيش ، ومرارة الجوع والظمأ ، وكان أسوة له في مكاره الدهر وعاديات الزمن ، ومحمد يعلن دعوته في حذر ، ويعرض رسالته في أناة ، فلا هي علنية كما يشاء الإعلان ، ولا هي سرية بحيث لم تعرف ، ولكنها شيء بين ذلك ، حتى إذا نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (1) جمع النبي بني هاشم وعرض عليهم الإسلام ، فكان مشهدا عاطفيا مؤثرا ، مجتمع الأهل والعشيرة والأقربين ، ولكنه كان مثيرا ومتوترا في الوقت نفسه ، فعليّ يولم لهذا الجمع بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقدم لهم ما أولم ، ولو قدّم لأحدهم لأتى عليه كله ، ولكنه الشبع للجميع ، ويسقيهم ما طاب وطهر فيتملكهم الري ، فينطلق أبو لهب قائلا : ( سحركم والله محمد ) وينفّض الجمع ،
(1) سورة الشعراء ، الآية : 214 .
18
والنبي لا يعبأ بهذا الهراء ، ولكنه يجمعهم ثانية ، ويطلب إليهم بيسر : « قولوا لا إله إلا الله تفلحوا » الشهادة فحسب ، ويطلب المؤازرة أيضا ، ويستنفر الضمائر بشيء من المودّة حينا ، ومن التلويح بشيء آخر حينا ؛ فمن ذا يسانده ويعاضده عل أن يكون أخاه ووزيره وخليفته من بعده ، وهذا شيء جديد ، بأمر جديد ، وقد وجم القوم ، ولاحت إمارات الغضب يمثلّها أبو لهب فيقول : ألهذا جمعتنا يا محمد ، تبا لك ولما جمعتنا له ، وينزل قوله تعالى : ( تبّت يدآ ابي لهب وتبّ ) (1) وتظهر ضحكات الهزء والسخرية حينا ، حينما ينعم عليّ له بالاجابة ثائرا : « لا يحزنك والله إعنات القوم فعليهم ضلالهم ، وإني يا رسول الله عونك ، أنا حرب على من حاربت » . إجابة بالرضا من وجه ، وإعلان للنضال من وجه آخر ، وهما معا يبدءان العمل بين محمد وعلي ، فيعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للملأ من قريش مخاطبا عليا : « أنت أخي ووزيري وخليفتي من بعدي » فيلتفت ممثل قريش لأبي طالب عاتباً : » مرحاً لك فقد أمّر إبنك عليك« وتتكرر هذه البادرة مرات لا يستجيب لها إلا علي بن أبي طالب عليه السلام فيمنحه النبي ما منح من الأخوّة والوزارة والوصية والإستخلاف بحسب تعدد النصوص الروائية المستفيضة .
وتبدأ أيام النضال ، وحياة المجابهة ، فقد اشتدت قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذه العصابة اليسيرة من أهل بيته وصحابته ممن آمن معه من ضعفاء القوم ، فالأذى لا يبرح ، والعبث لا يهدأ ، والسخرية في القول والعمل يتحدان بمنظور واحد ، والخوف يملأ نفوس المسلمين ، فلا النهار مشرق القسمات ، ولا الليل ضاحك الأسارير ، ولم تقف قريش عند هذا التجاوز ، ولكنها آمعنت في التضييق ، فتعاهدت فيما
(1) سورة المسد ، الآية : 1 .
19
بينهما ، وكتبت الصحيفة السوداء في مقاطعة النبي وأهل بيته ، وألجأت بني هاشم الى شعب أبي طالب ، لا يكلمهم أحد ، ولا يصهر إليهم أحد ، ولا معاملة من بيع أو شراء ، ويشارك عليّ محمدا في هذه المحنة بجميع أبعادها وأقسى ظروفها وشتى مآسيها ، فهما كبني هاشم لا يأكلان إلا الجشب ، ولا يلبسان إلا الخشن ، ولا يتصلان بأحد إلا لماما ، ولا يصل إليهم أحد إلا لماما أيضا ، وتؤثر المقاطعة أثرها ، ويبلغ الحصار شدّته ، ولا سبيل إلا الصبر ، ويموت كافل محمد ومراسله الى قريش أبو طالب ، فيشتّد عليه الطلب ، وتشتد عليه قريش أيضا قسوة وكرها ومقاومة ، وعليّ الى جنبه يتجرع مرارة الغيظ .
عليّ في مكة ـ والحالة هذه ـ ينظر ظواغيت قريش وجبابرة الارض يكيلون للنبي حقدا لا ينتهي ، ويوجهون من الأذى ما لا يحتمل ، في كل شيء : في نفسه وأسرته وصحابته حتى يقول : « ما أودذي نبيّ مثلما أوذيت » يوضع الشوك في طريقه ، وترسل الحجارة عليه من خلفه ، ويصبّ الفرث والدم والسلا على ظهره ، وهو في الكعبة يسجد لله ، يستمع إلى قوارص القول ، ويصكّ بنوابي الكلم ، ويقذف بالداهية العظمى ، وعليّ يبصر هذا ويألم له أشد الألم ، وقد يدافع أصدق الدفاع .
ولم يكن هذا وحده يؤرق عليا ، فهناك ما يضاهيه أو يزيد عليه، فقد كان ينظر الى هؤلاء المستضعفين في مكة : ياسرا وسمية أبوي عمار ، يصبّ عليهم العذاب صبا ، حتى يموتوا تحت العذاب شهداء ، ويمثل بهم أقسى تمثيل لم يشهد له العرب مثيلا من قبل ، ويشاهد عمارا إبنهما ، وقد عذب عذابا شديدا حتى كادت تزهق نفسه ، ويضطره هؤلاء إلى كلمة الكفر ، فيقولها بلسانه ، وقلبه عامر بالإيمان ، وينزل القرآن
20
بذلك يسدده ويسليه ( إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (1) .
وينظر الى هذا الضعيف المسكين بلال الحبشي ، وقد استولى عليه الطاغوت القرشي يرهقه من أمره عسرا ، وهو يسفه آلهة قريش ، فتلحّ عليه بالإشراك فيأبى ذلك ويقول : « أحد . أحد » ولا يصلون معه الى ما يرضيهم ، فيكررون الكيد إثر الكيد ، ويضاعفون التعذيب والنكال ، ويعاودون الضغط والإكراه ، وهو صامد في وجه هذا ، وثائر في وجه ذلك ، كان عليّ يأرق لهذه المشاهد ويأسى لهؤلاء المستضعفين : عمار وأبويه وبلال وخبّاب بن الأرت ، وغيرهم ممن شرح الله صدره للإسلام ، فتمتلىء نفسه غيظا وكمدا ، وتنفجر عينه دمعا ودما ، وتتحرق روحه حزنا وألما ، ولكنه يتذرع بالصبر الذي أمر به النبي ، ولكن مناظر العذاب والتعذيب بين الحديد والنار ولفح الهجير ، تبقى مخلفات في ذاته ، وتحكم سياجا على تفكيره ، ويدفعه ذلك فيما بعد أن ينصب نفسه علما لهذا الدين يحارب أعداءه ، فالنصر آت عن قريب ، وإن تطاولت قريش بجبروتها ، ومخزوم في علوها ، وثقيف في زهوها ، ولا بد للمحنة أن تنجلي .
ويوحى الى النبي بهجرة المستضعفين من آله وصحابته الى الحبشة مرة وأخرى ، فيهاجر من هاجر ، يدعو الى الحق ويبشر بالدين الجديد وكان في طليعتهم شقيق علي جعفر بن أبي طالب ، ويبقى علي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى التوجيه ، ويصمد للأحداث الجسام ، فما كان له أن يهاجر ويترك أخاه فهو إلى جنبه حتى النهاية وقد كان ذلك . ولكن الأسى يحزّ في النفس ، ولكنه الأسى لا اليأس ، والألم لا القنوط ، فيركب ما ركبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاعب ، يواكبه الإصرار والتحدي ،
(1) سورة النحل ، الآية : 106 .
ق 2
عليٌ فارس المهمّات الصعبة
أفاقت قريش من سكرتها بعد بدر ، ووصلت فلولها المنهزمة إلى مكة لتجد العير موقوفة في دار الندوة وفيها المتاع والتجارة والمال ، ومشى سراة قريش إلى أبي سفيان بحسبها بغية التجهز لحرب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأجاب إلى ذلك أبو سفيان كما أجاب أصحاب العير ، وأظهرت قريش التجلّد ، فلم تندب قتيلاً ، ولم تبك أحداً من رجالها ، ومنعت النساء من النياحة ، الشباب من الإخلاد إلى العاطفة ، واستنصروا الأحابيش مشى فيهم عمرو بن العاص ، وابن الزبعرى ، وأبو عزة الجمحي ، فتألب العرب ، وإستعد الجمع ، يريدون حرب محمد ، والثأر لبدر ، وخرجت قريش بالظعن ، وكثرت العدة والأسلحة ، وساروا بمائتي فرس ، وهم ثلاثة آلاتف في ثلاثة ألاف بعير ، في أهبة متكاملة وفيهم سبعمائة دارع ، ووصل النبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قباء فأسرّ به إلى سعد بن الربيع ، فقال له سعد : والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير.
ووصلت الجموع المعتدية أطراف المدينة في الخامس من شوال للسنة الثالثة من الهجرة ، وكانت المعركة يوم السبت السابع من شوال للعام نفسه.
أستخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدوم هذا الجمع المتألب ، فقال :
37
حسبنا الله ونعم الوكيل ، اللهم : بك أحول ، وبك أصول.
والتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين ، وهو يريد الأنصار ، وقال : أشيروا عليّ ، فأشير عليه أولاً بالمكث في المدينة ، وجعل النساء والذراري في الأطام ، وطلب آخرون الخروج من المدينة إلى عدوهم ، فهي إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الغنيمة ، ونزل على هذا الرأي ، وندم من أشار بهذا الرأي ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدججاً بالسلاح ، فتلاوموا فيما بينهم ، وأرادوا الرأي الأول فقال صلى الله عليه وآله وسلم : قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم ، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ».
وكان هذا الإلجاء من المسلمين أول الخور والفشل ، ولكن النبيّ وعدهم بالنصر ما صبروا ، واتبعوا تعليماته ، ونزلوا بأحد قبال المشركين ، وصفّ النبي أصحابه ، وجعل الرماة على الجبال وألزمهم بالثبات فيه ، مهما كانت ظروف الحرب ، وجعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة.
وأعطت قريش اللواء لبني عبد الدار ، ولواء المسلمين بيد علي عليه السلام ، فانتزعه النبي منه ، وأعطاه مصعب بن عمير ، وقيل أعطى غيره لمصعب بن عمير لأنه من بني عبد الدار. وبقي اللواء بيد عليّ. وأقبلت هند زوج أبي سفيان وصواحبها يحرضن على القتال :
نحن بنات طارق إن تقبلوا نعانق نمشي على النمارق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وبرز طلحة بن أبي طلحة في لواء المشركين وطلب البراز فخرج
38
له عليٌ عليه السلام وتجاولا بين الصفين ، ورسول الله تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة ، فالتقيا ، وبدره عليٌ بضربة على رأسه فمضى السيف حتى فلق هامته إلى أن انتهى إلى لحييه فوقع ، فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبّر تكبيراً عالياً وكبّر المسلمون ، وسقط لواء المشركين وتشجع المسلمون ، وبرز بنو عبد الدار سبعتهم واحداً بعد واحد يتساقطون حول اللواء بسيف علي حتى حمله أرطاة بن عبد شر حبيل فقتله علي ، وحمله غلام بني عبد الدار فقتله عليً ، وسقط اللواء فانهزم المشركون ، ونادت نساؤهم بالويل والثبور ، وليس دون أخذهن من شيء ، ورأى المسلمون الفتح ، وأشتغلوا شيئاً ما بالغنيمة ، فتخلى القسم الأكبر من الرماة عن الجبل ، ودخلوا العسكر ، وخالفوا الرسول الذي عهد إليهم :
« أحمو ظهورنا ، وإن غنمنا فلا تشركونا ».
ونظر خالد بن الوليد إلى الجبل وعليه شرذمة قليلون فمال على المسلمين وكرّ بالخيل عليه ، فجالد من بقي من الرماة ساعة ، وقتل قائدهم عبد الله بن جبير ، فانتقضت صفوف المسلمين ، وهجم عليهم خالد وعكرمة بن أبي جهل من خلفهم ، واختلط الحابل بالنابل ، وعمّت الفوضى العسكرية ، فأصبح المسلم يقتل أخاه المسلم ولا يعلم بذلك ، واشتدّ الهرج بالمسلمين ، وكثر الفرار من قبل أجلّة الصحابة ، وأسلم النبي وهو في العريش ، وثبت معه سبعة أو تسعة ، و تحلق المشركون عليه من كل جانب ، ونادى مناديهم قتل محمد ، وعظم ذلك على المسلمين واشتدت المحنة بهم ، وثبت رسول الله في نفر من أهل بيته وأصحابه وفي طليعتهم عليٌ وأبو دجانة الأنصاري ، وأصعد المسلمون في الجبل فإعتصموا به ، وعلي ومصعب بن عمير وأبو دجانة يذبون عن
39
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتجه ابن قميئة إلى مصعب بن عمير فيضرب يده اليمنى فيقطعها ، ويأخذ اللواء باليسرى فيقطعها ، ويضمه إلى عضديه ، فينفذ الرمح في صدره ، ويقتل مصعب ويسقط لواء المسلمين ، ويرفعه عليٌ ، والقتل فاش في المسلمين ، ورحى الحرب تدور بهم ، فتستأصل شأفتهم ، وقد احتوش المشركون حمزة بن عبد المطلب ، ويرميه وحشي بمزراق فيثبته ، ويقتل في المعركة ، وتدّب إليه هند بحنقها وحقدها ،فتقطع أفنه وأذنيه وتقتلع عينيه ، وتشق بطنه وتستخرج كبده فتلوكها.
وحمي الوطيس ، وفرّت الرجال عن النبي إلا بضعاً منهم ، وباشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذٍ القتال بنفسه ، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله ، وأنكسرت سية قوسه ، وأدميت جبهته ، وأصيبت رباعيته ، وأقبلت كتائب المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزحف نحو رسول الله ، وقد كثر الفرار بين يديه من أصحابه ، وكانت كتيبة بني كنانة أشدّها عليه ، فالتفت رسول الله إلى علي وقال : ياعلي اكفني هذه الكتيبة ، فحمل عليها وإنها لتقارب خمسين فارساً ، وعليٌ راجل فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه هكذا مراراً ، حتى قتل بني سفيان بن عوف الأربعة ، وسواهم إلى تمام العشرة ، ممن لا يعرف اسمه ، فقال حبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا محمد : إن هذه المواساة لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وما يمنعه وهو مني وأنا منه ، فقال حبرائيل ، وأنا منكما.
وأشتد القتال على علي ، وهو يذب بالسيف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنادى جبرائيل من قبل السماء :
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ
40
وذكر عليٌّ عليه السلام ، يوم أحد وهجمة الكتائب على الرسول ، فقال :
« لقد رأيتني يومئذٍ وإني لأذبّهم في ناحية ، وإن أبا دجانة لفي ناحية يذبّ طائفة منهم ، حتى فرّج الله ذلك كله ، ولقد رأيتني ، وانفردت منهم يومئذٍ فرقة خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل ، فدخلت وسطهم بالسيف فضربت به ، وأشتملوا عليّ حتى أفضيت إلى آخرهم ، ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت ، ولكن الأجل استأخر ، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً ».
وقتل عليٌ مضافاً لهذا جملة من علية القوم كأبي الحكم بن الأخنس بن شريق ، وأمية بن أبي حذيفة وسواهما بعد خطوب ومعارك حامية.
ولم يكن القتال وحده كل همّه في أحد ، بل كان عين رسول الله الساهرة في أحداثها ، فهو الذي التمس حمزة لرسول الله فوجده قتيلاً ، وهو أول الستة أو الأربعة عشر الذين ثبتوا مع رسول الله ليس غير ، وهو أول المبايعين الثمانية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الموت ، وهو أول الواقفين إلى حنب رسول الله من بداية الحرب إلى نهايتها.
وتحاجز الفريقان ، وقال أبو سفيان : أعل هبل ، يوم بيوم بدر ، فأجيب :
الله أعلى وأجل.
وإستردّت قريش بعض أنفاسها بهذا النصر الموقوت ، ولم تشأ أن توغل في الاثم فتبقى أكثر مما بقيت ، أو تقاتل أكثر مما قاتلت ، فما يدريها فلعل الدائرة تكون عليها ، فتركت المعركة جانباً ، واكتفت بما
ق3
عليٌّ رفيق النبي في حربه وسلمه
بلى تخلف عليٌّ عليه السلام مرة واحدة عن غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه لم يتخلف بالمعنى الدقيق ، وإنما استخلف ، وذلك في غزوة تبوك.
فقد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الروم قد جمعت له ، فأوحى الله تعالى إليه أن يسير إليهم ويستنفر لذلك الناس ، وأعلمه أنه لا حرب ولا قتال في هذه الغزوة ، وإنما ينتدب الناس للاختبار والإمتحان ، وكان القيظ شديداً ، والثمار قد أينعت ، فنهعض من نهض معه ، وتخلف عنه الكثيرون بقيادة عبد الله بن أبي ابن سلول ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سار بثلاثين ألفاً في أهبة وإعداد ، على أن عسكر ابن أبي ابن سلول في ثنية الوداع لم يكن بأقل العسكرين كما يقول ابن سعد في الطبقات وابن هشام في المغازي.
واستخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام على المدينة ، إذ لا حاجة ملّحة إليه بعد إنبائه بأنه لا يمنى بقتال ، وكان هذا الاستخلاف له ما يبرره سياسياً وقيادياً ، فقد كانت المدينة يرجف بها المنافقون ، ويغدو عليها سراً هؤلاء اليهود ، وكان بنو غنم بن عوف قد بنوا مسجد ضرار ، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي فيه ، وكانوا يظهرون الإيمان ويسرّون النفاق ، فقد بني هذا المسجد في قبال مسجد قبا ، وقد بني أيضاً إرصاداً
69
لأبي عامر الفاسق الذي أمرهم ببنائه لأنه ذاهب إلى قيصر ليأتي بجنود يخرج بها محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ، وكان هؤلاء المنافقون يتوقعون وعده ، فمات قبل أن يبلغ ملك الروم ، وانصرف النبي من تبوك ، فنزل قوله تعالى :
( والّذين اتّخذوا مسجداً ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصاداً لّمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكذبون * لا تقم فيه أبدا لّمسجد أسّس على التقوى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه فيه رجالٌ يحبّون أن يتطهّروا والله يحبّ المطّهّرين ) (1).
فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحرق هذا المسجد وهدمه.
وهذا السيل الجارف من النفاق كما تراه يسلك سبلاً شتى بازاء تحقيق مآربه الضالّة ، ولا بدّ للنبيّ من الحذر منه؛ فاستخلف علياً عليه السلام ليحمي المدينة من هؤلاء ، وليمنعها من غارات الأعراب ، وليقيم سنن الدين الحنيف من ينابيعه كما يريد الرسول ، وليؤكد صلاحية الإمام علي للقيادة والمرجعية.
ومع هذا الحذر وهذه اليقظة ، وصدق الدوافع في استخلاف عليّ على المدينة ، فقد دبّت حسيكة النفاق ، وأشاع المنافقون ما أرادوا ، وقالوا : ما خلّفه إلا استثقالاً له وتخففاً منه ، ومتى كان علي ثقيل الظل على رسول الله؟ ويقال : أن علياً عليه السلام أخذ سلاحه وتبع الرسول وهو معسكر في الجرف ، فقال : يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني ، وتخففت مني ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم كذبوا ، ولكن خلفتك لما تركت ورائي ، فارجع واخلفني في أهلي وأهلك ، « أفلا ترضى يا علي
(1) سورة التوبة ، الآيتان : 107 ، 108.
70
أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ».
فرجع عليٌّ إلى المدينة ظافراً بهذا الوسام ، فعظم في عين من أعظمه ، وأبتلي بالحقد والحسد مرة أخرى على هذه المنزلة ، فكان حارساً أميناً فيما استودع ، وساهراً يقظاً على ما استخلف بالمعنى العلمي الدقيق للإستخلاف ، فيما عبر عنه النبي بالحرف الواحد : « فأنت خليفتي في أهل بيتي ، ودار هجرتي وقومي ».
ولما انتهى النبي إلى تبوك توافد عليه رؤساء الروم وزعماؤهم وحكامهم ، فأعطوه الجزية عن يدوهم صاغرون ، فحقن دماءهم وأموالهم وكرّ راجعاً إلى المدينة بعد إقامة عشرين ليلة في تبوك.
ولا تسل عما جرى له في طريق العودة ، حينما مكر به المنافقون وبرفقته حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر ، فقد مكروا وأرادوا طرحه من العقبة ، وطلب إليه بعض المسلمين ضرب أعناقهم ، وقد علمهم جميعاً ، وقال : أكره أن تتحدث الناس أن محمداً قد وضع يده في أصحابه ، وسماهم لعمّار وحذيفة وقال اكتماهم. وكانوا أربعة وعشرين رجلاً ، وعرفهم حذيفة بأعيانهم فكان أعرف الناس برؤوس المنافقين ، وكذلك كان عمّار ، واتصل النبأ بعلي عليه السلام فعرف ذلك ، واستوى بين يدي النبي ، وقد حمل الرسالة ، وأدى الأمانة ، وأحسن الإستخلاف.
* * *
ولم يكن عليٌّ عليه السلام رفيق محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حربه وسلمه ، وأخاه في الشدة والرخاء فحسب ، بل كان قائد جملة من سراياه التي أمر بها ، وأعطاه نيابته فيها ، فيرجع بالظفر ، وفي طليعتها سرية « ذات السلسلة » فقد أعطى النبي الراية علياً عليه السلام بعد أن رجع بها اثنان من أصحابه لا يلويان على شيء.
اضافه الى الموضوع
(1)
من الميلاد حتى الهجرة
في الثالث عشر من رجب ؛ وقبل البعثة بعشر سنين : ولد هذا الشعاع الهادي والنموذج الأرقى ؛ علي بن أبي طالب عليه السلام .
ولد في البيت الحرام ليطهره من الأصنام بعد حين بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتحلت عيناه بالنور عند الكعبة ، ودرجت قدماه بالسير في رحاب أبيه ، وكانت أمه فاطمة بنت أسد ، وأبوه أبو طالب شيخ البطحاء وعمّ النبي ؛ هاشميين ، فهو هاشمي من هاشميين ، وكان لهذا أثر بعيد في عرف القوم ، يريدون بذلك النسب المحض والنقاء الخالص، فكان له ما أرادوا من فخر وسؤدد .
وكفله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صباه ، كما كفل أبو طالب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صباه ، فكأنه أراد مكافأة عمه في ذلك ، أو الإعراب له عن وفاته له عند ضيق ذات يده ، وتضخم عائلته وولده ، فنشأ عليّ في ظلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغذوه بتربيته ، ويوجهه بسيرته ، فيقتبس منه حسن السمت ورتابة الهدي .
وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان عليّ عليه السلام : أول القوم إسلاما ، وهو بذلك أقدمهم إيمانا وهو في العاشرة من عمره ، أو أكثر من ذلك بقليل . بعث النبي يوم الأثنين وأسلم عليّ يوم الثلاثاء ، وقد قبل النبي إسلامه
16
صبيا ، وتلك إحدى كراماته في الأقل ، واحتضنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتضان الأخ الشقيق لأخيه ، وأقام على تربيته أولا بأول ، فقد ربيّ ـ إذن ـ في حجر الإسلام ، ورضع من ثدي الإيمان ثاني أثنين هو وخديجة بنت خويلد زوج النبي وأم المؤمنين ، ولم يسجد لصنم قط شأن أترابه ، ولم يألف حياة الأصنام كما ألفها سواه ، فقيل : كرّم الله وجهه ، وهذه كرامة أخرى تضاف الى كرامات سبقت ، وفضائل تقدمت منذ قليل : ولادته في الكعبة ، ونشأته في حجر النبي صلى ا لله عليه وآله وسلم ، وقبول إسلامه مبكرا « فامتاز بين السسابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة ، وامتاز كذلك بأنه نشأ في منزل الوحي بأدق معاني هذه الكلمة وأضيقها » (1) .
وكان عليّ في أول عهده بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلبث هذا التأمل الدائم في تفكير محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويترصد هذه الخلوة الروحية لديه ، وهو يقلب وجهه في السماء ، ويتجه بضميره لله في حالة من الخشوع والترقب والابتهال ، حتى إذا فجأه الوحي ، وعى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الانقطاع الكلي الى ما يوحى إليه ، وتبصّر في هذا التلاحم ـ الغريب على حياة العرب ـ بينه وبين الله تعالى ، وإذا بنفسه تمتلأ غبطة بما يشاهد ، وإذا بالرؤى تزدحم عليه فيما يجد ، حياة روحية خالصة .
والاندماج متواصل مع الوحي ، ومناخ جديد يربط الأرض بالسماء ، فمحمد يتلقى من السماء ما يبلغه الى الأرض بكل أمانة ، والسماء تمدّه بأنبائها ، والأرض ـ بعد ـ ساكنة لم تتحرك ، والحياة هادئة لم تضطرب ، ماذا عسى أن يكون بعد هذا الهدوء ، وما عسى أن ينفجر بعد ذلك السكون ، ذلك ما يحدده مستقبل الرسالة . وعليّ عليه السلام يلمح هذا بعين الناقد البصير ، ويفقهه الفقه كله ، تصل إليه هذه النفحات ،
(1) الدكتور طه حسين | الفتنة الكبرى 1 | 151 .
17
وتغمره تلك الامدادات ، فيفتح لها قلبه ويستقبلها استقبال الفاتحين ، فتتوهج في ذاته هذه الشعلة التي لا تنطفىء أبدا ، ويسري في عروقه هذا الدم الجديد ، فيضطم عليه صدره حريصا ، وتتفجر الحكمة في قلبه ، فتمحضه الإيمان المطلق محضا ، ويقبل على هذا الدين فيلتهم تعاليمه من ينابيعها الأولى ، ويسبغ مفاهيمه عقليا ومناخا نفسيا ، فينصهر فيه إنصهارا تاما ، ويستولي عليه إستيلاء حثيثا ، هذا الانصهار وذلك الاستيلاء منذ عهد مبكر في الإسلام كانا أساسا صلبا لما بنى عليه الإمام حياته المستقبلية في قيادته العليا للإسلام فيما بعد .
وكان لعبادة النبي الصادقة ، وهينمته الهادئة : آناء الليل وأطراف النهار ذلك الأثر البليغ في حياته الليلية عند المناجاة ، وخشوعه المترامي في الذات ، فتراه مطرقا مفكرا حينا ، ومسّبحا متبتلا حينا آخر، وهو في جدّ مستمر وجهد جهيد لا يجد إلى الراحة سبيلا .
وكابد عليّ ما كابد محمد من شظف العيش ، ومرارة الجوع والظمأ ، وكان أسوة له في مكاره الدهر وعاديات الزمن ، ومحمد يعلن دعوته في حذر ، ويعرض رسالته في أناة ، فلا هي علنية كما يشاء الإعلان ، ولا هي سرية بحيث لم تعرف ، ولكنها شيء بين ذلك ، حتى إذا نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (1) جمع النبي بني هاشم وعرض عليهم الإسلام ، فكان مشهدا عاطفيا مؤثرا ، مجتمع الأهل والعشيرة والأقربين ، ولكنه كان مثيرا ومتوترا في الوقت نفسه ، فعليّ يولم لهذا الجمع بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقدم لهم ما أولم ، ولو قدّم لأحدهم لأتى عليه كله ، ولكنه الشبع للجميع ، ويسقيهم ما طاب وطهر فيتملكهم الري ، فينطلق أبو لهب قائلا : ( سحركم والله محمد ) وينفّض الجمع ،
(1) سورة الشعراء ، الآية : 214 .
18
والنبي لا يعبأ بهذا الهراء ، ولكنه يجمعهم ثانية ، ويطلب إليهم بيسر : « قولوا لا إله إلا الله تفلحوا » الشهادة فحسب ، ويطلب المؤازرة أيضا ، ويستنفر الضمائر بشيء من المودّة حينا ، ومن التلويح بشيء آخر حينا ؛ فمن ذا يسانده ويعاضده عل أن يكون أخاه ووزيره وخليفته من بعده ، وهذا شيء جديد ، بأمر جديد ، وقد وجم القوم ، ولاحت إمارات الغضب يمثلّها أبو لهب فيقول : ألهذا جمعتنا يا محمد ، تبا لك ولما جمعتنا له ، وينزل قوله تعالى : ( تبّت يدآ ابي لهب وتبّ ) (1) وتظهر ضحكات الهزء والسخرية حينا ، حينما ينعم عليّ له بالاجابة ثائرا : « لا يحزنك والله إعنات القوم فعليهم ضلالهم ، وإني يا رسول الله عونك ، أنا حرب على من حاربت » . إجابة بالرضا من وجه ، وإعلان للنضال من وجه آخر ، وهما معا يبدءان العمل بين محمد وعلي ، فيعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للملأ من قريش مخاطبا عليا : « أنت أخي ووزيري وخليفتي من بعدي » فيلتفت ممثل قريش لأبي طالب عاتباً : » مرحاً لك فقد أمّر إبنك عليك« وتتكرر هذه البادرة مرات لا يستجيب لها إلا علي بن أبي طالب عليه السلام فيمنحه النبي ما منح من الأخوّة والوزارة والوصية والإستخلاف بحسب تعدد النصوص الروائية المستفيضة .
وتبدأ أيام النضال ، وحياة المجابهة ، فقد اشتدت قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذه العصابة اليسيرة من أهل بيته وصحابته ممن آمن معه من ضعفاء القوم ، فالأذى لا يبرح ، والعبث لا يهدأ ، والسخرية في القول والعمل يتحدان بمنظور واحد ، والخوف يملأ نفوس المسلمين ، فلا النهار مشرق القسمات ، ولا الليل ضاحك الأسارير ، ولم تقف قريش عند هذا التجاوز ، ولكنها آمعنت في التضييق ، فتعاهدت فيما
(1) سورة المسد ، الآية : 1 .
19
بينهما ، وكتبت الصحيفة السوداء في مقاطعة النبي وأهل بيته ، وألجأت بني هاشم الى شعب أبي طالب ، لا يكلمهم أحد ، ولا يصهر إليهم أحد ، ولا معاملة من بيع أو شراء ، ويشارك عليّ محمدا في هذه المحنة بجميع أبعادها وأقسى ظروفها وشتى مآسيها ، فهما كبني هاشم لا يأكلان إلا الجشب ، ولا يلبسان إلا الخشن ، ولا يتصلان بأحد إلا لماما ، ولا يصل إليهم أحد إلا لماما أيضا ، وتؤثر المقاطعة أثرها ، ويبلغ الحصار شدّته ، ولا سبيل إلا الصبر ، ويموت كافل محمد ومراسله الى قريش أبو طالب ، فيشتّد عليه الطلب ، وتشتد عليه قريش أيضا قسوة وكرها ومقاومة ، وعليّ الى جنبه يتجرع مرارة الغيظ .
عليّ في مكة ـ والحالة هذه ـ ينظر ظواغيت قريش وجبابرة الارض يكيلون للنبي حقدا لا ينتهي ، ويوجهون من الأذى ما لا يحتمل ، في كل شيء : في نفسه وأسرته وصحابته حتى يقول : « ما أودذي نبيّ مثلما أوذيت » يوضع الشوك في طريقه ، وترسل الحجارة عليه من خلفه ، ويصبّ الفرث والدم والسلا على ظهره ، وهو في الكعبة يسجد لله ، يستمع إلى قوارص القول ، ويصكّ بنوابي الكلم ، ويقذف بالداهية العظمى ، وعليّ يبصر هذا ويألم له أشد الألم ، وقد يدافع أصدق الدفاع .
ولم يكن هذا وحده يؤرق عليا ، فهناك ما يضاهيه أو يزيد عليه، فقد كان ينظر الى هؤلاء المستضعفين في مكة : ياسرا وسمية أبوي عمار ، يصبّ عليهم العذاب صبا ، حتى يموتوا تحت العذاب شهداء ، ويمثل بهم أقسى تمثيل لم يشهد له العرب مثيلا من قبل ، ويشاهد عمارا إبنهما ، وقد عذب عذابا شديدا حتى كادت تزهق نفسه ، ويضطره هؤلاء إلى كلمة الكفر ، فيقولها بلسانه ، وقلبه عامر بالإيمان ، وينزل القرآن
20
بذلك يسدده ويسليه ( إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (1) .
وينظر الى هذا الضعيف المسكين بلال الحبشي ، وقد استولى عليه الطاغوت القرشي يرهقه من أمره عسرا ، وهو يسفه آلهة قريش ، فتلحّ عليه بالإشراك فيأبى ذلك ويقول : « أحد . أحد » ولا يصلون معه الى ما يرضيهم ، فيكررون الكيد إثر الكيد ، ويضاعفون التعذيب والنكال ، ويعاودون الضغط والإكراه ، وهو صامد في وجه هذا ، وثائر في وجه ذلك ، كان عليّ يأرق لهذه المشاهد ويأسى لهؤلاء المستضعفين : عمار وأبويه وبلال وخبّاب بن الأرت ، وغيرهم ممن شرح الله صدره للإسلام ، فتمتلىء نفسه غيظا وكمدا ، وتنفجر عينه دمعا ودما ، وتتحرق روحه حزنا وألما ، ولكنه يتذرع بالصبر الذي أمر به النبي ، ولكن مناظر العذاب والتعذيب بين الحديد والنار ولفح الهجير ، تبقى مخلفات في ذاته ، وتحكم سياجا على تفكيره ، ويدفعه ذلك فيما بعد أن ينصب نفسه علما لهذا الدين يحارب أعداءه ، فالنصر آت عن قريب ، وإن تطاولت قريش بجبروتها ، ومخزوم في علوها ، وثقيف في زهوها ، ولا بد للمحنة أن تنجلي .
ويوحى الى النبي بهجرة المستضعفين من آله وصحابته الى الحبشة مرة وأخرى ، فيهاجر من هاجر ، يدعو الى الحق ويبشر بالدين الجديد وكان في طليعتهم شقيق علي جعفر بن أبي طالب ، ويبقى علي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى التوجيه ، ويصمد للأحداث الجسام ، فما كان له أن يهاجر ويترك أخاه فهو إلى جنبه حتى النهاية وقد كان ذلك . ولكن الأسى يحزّ في النفس ، ولكنه الأسى لا اليأس ، والألم لا القنوط ، فيركب ما ركبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاعب ، يواكبه الإصرار والتحدي ،
(1) سورة النحل ، الآية : 106 .
ق 2
عليٌ فارس المهمّات الصعبة
أفاقت قريش من سكرتها بعد بدر ، ووصلت فلولها المنهزمة إلى مكة لتجد العير موقوفة في دار الندوة وفيها المتاع والتجارة والمال ، ومشى سراة قريش إلى أبي سفيان بحسبها بغية التجهز لحرب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأجاب إلى ذلك أبو سفيان كما أجاب أصحاب العير ، وأظهرت قريش التجلّد ، فلم تندب قتيلاً ، ولم تبك أحداً من رجالها ، ومنعت النساء من النياحة ، الشباب من الإخلاد إلى العاطفة ، واستنصروا الأحابيش مشى فيهم عمرو بن العاص ، وابن الزبعرى ، وأبو عزة الجمحي ، فتألب العرب ، وإستعد الجمع ، يريدون حرب محمد ، والثأر لبدر ، وخرجت قريش بالظعن ، وكثرت العدة والأسلحة ، وساروا بمائتي فرس ، وهم ثلاثة آلاتف في ثلاثة ألاف بعير ، في أهبة متكاملة وفيهم سبعمائة دارع ، ووصل النبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قباء فأسرّ به إلى سعد بن الربيع ، فقال له سعد : والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير.
ووصلت الجموع المعتدية أطراف المدينة في الخامس من شوال للسنة الثالثة من الهجرة ، وكانت المعركة يوم السبت السابع من شوال للعام نفسه.
أستخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدوم هذا الجمع المتألب ، فقال :
37
حسبنا الله ونعم الوكيل ، اللهم : بك أحول ، وبك أصول.
والتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين ، وهو يريد الأنصار ، وقال : أشيروا عليّ ، فأشير عليه أولاً بالمكث في المدينة ، وجعل النساء والذراري في الأطام ، وطلب آخرون الخروج من المدينة إلى عدوهم ، فهي إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الغنيمة ، ونزل على هذا الرأي ، وندم من أشار بهذا الرأي ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدججاً بالسلاح ، فتلاوموا فيما بينهم ، وأرادوا الرأي الأول فقال صلى الله عليه وآله وسلم : قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم ، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ».
وكان هذا الإلجاء من المسلمين أول الخور والفشل ، ولكن النبيّ وعدهم بالنصر ما صبروا ، واتبعوا تعليماته ، ونزلوا بأحد قبال المشركين ، وصفّ النبي أصحابه ، وجعل الرماة على الجبال وألزمهم بالثبات فيه ، مهما كانت ظروف الحرب ، وجعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة.
وأعطت قريش اللواء لبني عبد الدار ، ولواء المسلمين بيد علي عليه السلام ، فانتزعه النبي منه ، وأعطاه مصعب بن عمير ، وقيل أعطى غيره لمصعب بن عمير لأنه من بني عبد الدار. وبقي اللواء بيد عليّ. وأقبلت هند زوج أبي سفيان وصواحبها يحرضن على القتال :
نحن بنات طارق إن تقبلوا نعانق نمشي على النمارق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وبرز طلحة بن أبي طلحة في لواء المشركين وطلب البراز فخرج
38
له عليٌ عليه السلام وتجاولا بين الصفين ، ورسول الله تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة ، فالتقيا ، وبدره عليٌ بضربة على رأسه فمضى السيف حتى فلق هامته إلى أن انتهى إلى لحييه فوقع ، فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبّر تكبيراً عالياً وكبّر المسلمون ، وسقط لواء المشركين وتشجع المسلمون ، وبرز بنو عبد الدار سبعتهم واحداً بعد واحد يتساقطون حول اللواء بسيف علي حتى حمله أرطاة بن عبد شر حبيل فقتله علي ، وحمله غلام بني عبد الدار فقتله عليً ، وسقط اللواء فانهزم المشركون ، ونادت نساؤهم بالويل والثبور ، وليس دون أخذهن من شيء ، ورأى المسلمون الفتح ، وأشتغلوا شيئاً ما بالغنيمة ، فتخلى القسم الأكبر من الرماة عن الجبل ، ودخلوا العسكر ، وخالفوا الرسول الذي عهد إليهم :
« أحمو ظهورنا ، وإن غنمنا فلا تشركونا ».
ونظر خالد بن الوليد إلى الجبل وعليه شرذمة قليلون فمال على المسلمين وكرّ بالخيل عليه ، فجالد من بقي من الرماة ساعة ، وقتل قائدهم عبد الله بن جبير ، فانتقضت صفوف المسلمين ، وهجم عليهم خالد وعكرمة بن أبي جهل من خلفهم ، واختلط الحابل بالنابل ، وعمّت الفوضى العسكرية ، فأصبح المسلم يقتل أخاه المسلم ولا يعلم بذلك ، واشتدّ الهرج بالمسلمين ، وكثر الفرار من قبل أجلّة الصحابة ، وأسلم النبي وهو في العريش ، وثبت معه سبعة أو تسعة ، و تحلق المشركون عليه من كل جانب ، ونادى مناديهم قتل محمد ، وعظم ذلك على المسلمين واشتدت المحنة بهم ، وثبت رسول الله في نفر من أهل بيته وأصحابه وفي طليعتهم عليٌ وأبو دجانة الأنصاري ، وأصعد المسلمون في الجبل فإعتصموا به ، وعلي ومصعب بن عمير وأبو دجانة يذبون عن
39
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتجه ابن قميئة إلى مصعب بن عمير فيضرب يده اليمنى فيقطعها ، ويأخذ اللواء باليسرى فيقطعها ، ويضمه إلى عضديه ، فينفذ الرمح في صدره ، ويقتل مصعب ويسقط لواء المسلمين ، ويرفعه عليٌ ، والقتل فاش في المسلمين ، ورحى الحرب تدور بهم ، فتستأصل شأفتهم ، وقد احتوش المشركون حمزة بن عبد المطلب ، ويرميه وحشي بمزراق فيثبته ، ويقتل في المعركة ، وتدّب إليه هند بحنقها وحقدها ،فتقطع أفنه وأذنيه وتقتلع عينيه ، وتشق بطنه وتستخرج كبده فتلوكها.
وحمي الوطيس ، وفرّت الرجال عن النبي إلا بضعاً منهم ، وباشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذٍ القتال بنفسه ، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله ، وأنكسرت سية قوسه ، وأدميت جبهته ، وأصيبت رباعيته ، وأقبلت كتائب المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزحف نحو رسول الله ، وقد كثر الفرار بين يديه من أصحابه ، وكانت كتيبة بني كنانة أشدّها عليه ، فالتفت رسول الله إلى علي وقال : ياعلي اكفني هذه الكتيبة ، فحمل عليها وإنها لتقارب خمسين فارساً ، وعليٌ راجل فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه هكذا مراراً ، حتى قتل بني سفيان بن عوف الأربعة ، وسواهم إلى تمام العشرة ، ممن لا يعرف اسمه ، فقال حبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا محمد : إن هذه المواساة لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وما يمنعه وهو مني وأنا منه ، فقال حبرائيل ، وأنا منكما.
وأشتد القتال على علي ، وهو يذب بالسيف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنادى جبرائيل من قبل السماء :
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ
40
وذكر عليٌّ عليه السلام ، يوم أحد وهجمة الكتائب على الرسول ، فقال :
« لقد رأيتني يومئذٍ وإني لأذبّهم في ناحية ، وإن أبا دجانة لفي ناحية يذبّ طائفة منهم ، حتى فرّج الله ذلك كله ، ولقد رأيتني ، وانفردت منهم يومئذٍ فرقة خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل ، فدخلت وسطهم بالسيف فضربت به ، وأشتملوا عليّ حتى أفضيت إلى آخرهم ، ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت ، ولكن الأجل استأخر ، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً ».
وقتل عليٌ مضافاً لهذا جملة من علية القوم كأبي الحكم بن الأخنس بن شريق ، وأمية بن أبي حذيفة وسواهما بعد خطوب ومعارك حامية.
ولم يكن القتال وحده كل همّه في أحد ، بل كان عين رسول الله الساهرة في أحداثها ، فهو الذي التمس حمزة لرسول الله فوجده قتيلاً ، وهو أول الستة أو الأربعة عشر الذين ثبتوا مع رسول الله ليس غير ، وهو أول المبايعين الثمانية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الموت ، وهو أول الواقفين إلى حنب رسول الله من بداية الحرب إلى نهايتها.
وتحاجز الفريقان ، وقال أبو سفيان : أعل هبل ، يوم بيوم بدر ، فأجيب :
الله أعلى وأجل.
وإستردّت قريش بعض أنفاسها بهذا النصر الموقوت ، ولم تشأ أن توغل في الاثم فتبقى أكثر مما بقيت ، أو تقاتل أكثر مما قاتلت ، فما يدريها فلعل الدائرة تكون عليها ، فتركت المعركة جانباً ، واكتفت بما
ق3
عليٌّ رفيق النبي في حربه وسلمه
بلى تخلف عليٌّ عليه السلام مرة واحدة عن غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه لم يتخلف بالمعنى الدقيق ، وإنما استخلف ، وذلك في غزوة تبوك.
فقد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الروم قد جمعت له ، فأوحى الله تعالى إليه أن يسير إليهم ويستنفر لذلك الناس ، وأعلمه أنه لا حرب ولا قتال في هذه الغزوة ، وإنما ينتدب الناس للاختبار والإمتحان ، وكان القيظ شديداً ، والثمار قد أينعت ، فنهعض من نهض معه ، وتخلف عنه الكثيرون بقيادة عبد الله بن أبي ابن سلول ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سار بثلاثين ألفاً في أهبة وإعداد ، على أن عسكر ابن أبي ابن سلول في ثنية الوداع لم يكن بأقل العسكرين كما يقول ابن سعد في الطبقات وابن هشام في المغازي.
واستخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام على المدينة ، إذ لا حاجة ملّحة إليه بعد إنبائه بأنه لا يمنى بقتال ، وكان هذا الاستخلاف له ما يبرره سياسياً وقيادياً ، فقد كانت المدينة يرجف بها المنافقون ، ويغدو عليها سراً هؤلاء اليهود ، وكان بنو غنم بن عوف قد بنوا مسجد ضرار ، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي فيه ، وكانوا يظهرون الإيمان ويسرّون النفاق ، فقد بني هذا المسجد في قبال مسجد قبا ، وقد بني أيضاً إرصاداً
69
لأبي عامر الفاسق الذي أمرهم ببنائه لأنه ذاهب إلى قيصر ليأتي بجنود يخرج بها محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ، وكان هؤلاء المنافقون يتوقعون وعده ، فمات قبل أن يبلغ ملك الروم ، وانصرف النبي من تبوك ، فنزل قوله تعالى :
( والّذين اتّخذوا مسجداً ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصاداً لّمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكذبون * لا تقم فيه أبدا لّمسجد أسّس على التقوى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه فيه رجالٌ يحبّون أن يتطهّروا والله يحبّ المطّهّرين ) (1).
فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحرق هذا المسجد وهدمه.
وهذا السيل الجارف من النفاق كما تراه يسلك سبلاً شتى بازاء تحقيق مآربه الضالّة ، ولا بدّ للنبيّ من الحذر منه؛ فاستخلف علياً عليه السلام ليحمي المدينة من هؤلاء ، وليمنعها من غارات الأعراب ، وليقيم سنن الدين الحنيف من ينابيعه كما يريد الرسول ، وليؤكد صلاحية الإمام علي للقيادة والمرجعية.
ومع هذا الحذر وهذه اليقظة ، وصدق الدوافع في استخلاف عليّ على المدينة ، فقد دبّت حسيكة النفاق ، وأشاع المنافقون ما أرادوا ، وقالوا : ما خلّفه إلا استثقالاً له وتخففاً منه ، ومتى كان علي ثقيل الظل على رسول الله؟ ويقال : أن علياً عليه السلام أخذ سلاحه وتبع الرسول وهو معسكر في الجرف ، فقال : يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني ، وتخففت مني ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم كذبوا ، ولكن خلفتك لما تركت ورائي ، فارجع واخلفني في أهلي وأهلك ، « أفلا ترضى يا علي
(1) سورة التوبة ، الآيتان : 107 ، 108.
70
أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ».
فرجع عليٌّ إلى المدينة ظافراً بهذا الوسام ، فعظم في عين من أعظمه ، وأبتلي بالحقد والحسد مرة أخرى على هذه المنزلة ، فكان حارساً أميناً فيما استودع ، وساهراً يقظاً على ما استخلف بالمعنى العلمي الدقيق للإستخلاف ، فيما عبر عنه النبي بالحرف الواحد : « فأنت خليفتي في أهل بيتي ، ودار هجرتي وقومي ».
ولما انتهى النبي إلى تبوك توافد عليه رؤساء الروم وزعماؤهم وحكامهم ، فأعطوه الجزية عن يدوهم صاغرون ، فحقن دماءهم وأموالهم وكرّ راجعاً إلى المدينة بعد إقامة عشرين ليلة في تبوك.
ولا تسل عما جرى له في طريق العودة ، حينما مكر به المنافقون وبرفقته حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر ، فقد مكروا وأرادوا طرحه من العقبة ، وطلب إليه بعض المسلمين ضرب أعناقهم ، وقد علمهم جميعاً ، وقال : أكره أن تتحدث الناس أن محمداً قد وضع يده في أصحابه ، وسماهم لعمّار وحذيفة وقال اكتماهم. وكانوا أربعة وعشرين رجلاً ، وعرفهم حذيفة بأعيانهم فكان أعرف الناس برؤوس المنافقين ، وكذلك كان عمّار ، واتصل النبأ بعلي عليه السلام فعرف ذلك ، واستوى بين يدي النبي ، وقد حمل الرسالة ، وأدى الأمانة ، وأحسن الإستخلاف.
* * *
ولم يكن عليٌّ عليه السلام رفيق محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حربه وسلمه ، وأخاه في الشدة والرخاء فحسب ، بل كان قائد جملة من سراياه التي أمر بها ، وأعطاه نيابته فيها ، فيرجع بالظفر ، وفي طليعتها سرية « ذات السلسلة » فقد أعطى النبي الراية علياً عليه السلام بعد أن رجع بها اثنان من أصحابه لا يلويان على شيء.
تعليق