ركبت سيارتي، و انطلقت متجها نحو وطني الحقيقي، المليء بالجراثيم و الأوبئة و الأسقام !
يقول المثل : من يطلع من داره يقل مقداره !
لا أعرف مدى صحة هذا المثل، لكنه في أحيان ليست بالقليلة ينطبق علي !
سرت و الشارع و نور الشمس المستتر خلف طبقة من الغيوم الماطرة، أدوس على بحيرات المطر الصغيرة التي خلفتها الغيوم بعد نوبة بكاء قصيرة..أظنها كانت تبكي انتهاء الإجازة !
و أنا أقترب من المستشفى، شعرت بارتياح عجيب !
و الأعجب هي الأفكار التي داعبت دماغي الناعس !
كنت معتادا على السهر طيلة الـ 14 يوما التي قضيتها بعيدا عن الوطن، في إجازة من الطب !
( إنه أول أيام العمل، الصغار ذهبوا لمدارسهم و الكبار إلى أعمالهم، و بالتأكيد فإن العيادة ستكون شاغرة و هادئة، و سأحظى ببعض النوم في الغرفة! ما ألذ النوم في صباح أول أيام العمل ! أين أنت يا سرير ! )
ذهبت إلى العيادة مباشرة، قبل ترتيب أشيائي في خزانة غرفتي، راغبا في إلقاء نظرة سريعة مثلجة للصدر على (العيادة الشاغرة) و إبلاغ الممرضة عن مكان تواجدي (أو نومي) حتى تتصل بي فيما لو حدث و أن جاء مريض ما في هذا اليوم الأول !
أحلام دماغ نعسان !
أول نظرة ألقيتها على العيادة ، تبعتها تنهيدة ، و تمتمة :
( يا فتّاح يا عليم ! )
على ذلك السرير كانت تستلقي المريضة رقم واحد، و زميلي كان قد انتهى لتوه من فحص مريضه الأخير، و سلّمني زمام الأمور قائلا :
" العالم فوضى! الجناح مزحوم ، لا أسرّة شاغرة ! "
أما في غرفة الملاحظة، فترك تحت رعياتي - بعد الله - مريضين مصيبان بنزلة معوية !
(أصبحنا و أصبح الملك لله !)
تركت حقيبتي على المنضدة المجاورة، و باشرت العمل من الدقيقة قبل الأولى !
المريضة رقم واحد، أول الغيث ، كانت مريضة مصابة بالفشل الكلوي المزمن، تجري غسيلا بيريتونيا ست مرات يوميا، و أتت تشكو آلام حادة في البطن و ارتفاع شديد في درجة الحرارة !
" ألو ، صباح الخير، أنا الطبيب المنسي ! "
" صباح الخير أيها الطبيب ! كل عام و أنت بخير ! "
" و أنت ِ بخير، إليك ِ هدية العيد ! "
بالتأكيد توقّعت رئيسة الممرضات ما هو نوع الهدية التي سأهديها لها!
" مريضة مصابة بالفشل الكلوي ، و التهاب في الغشاء البيريتوني ، أدخلتها إلى الجناح و ستصلكم بعد قليل ! "
لم يكن في القسم غير سريرين اثنين شاغرين، حجزتُ لمريضتي هذه أحدهما، و ادخرت الآخر ..للمطرة الأخرى !
أزمة ربو شديدة جدا، نقل المريض بها من مستشفى آخر إلينا، لعدم توفّر الأسرّة !
" ألو، سأدخل مريضا ثان ٍ ، بأزمة ربو حادة ، و قد يحتاج إلى الملاحظة عن كثب ! "
" دكتور، لا يوجد سرير ثالث! تذكّر ذلك ! "
و كما يجري السيل المنحدر من أعلى سفح جبل ، تدفّق المرضى إلى عيادتي بغزارة !
أليس هذا يوم عمل ؟؟
ألا يذهب الصغار إلى المدارس؟؟
ألا يذهب الكبار إلى العمل ؟؟
ألم تنته إجازة الجميع !
بلى ! لقد انتهت ! و لأنها انتهت ، عدنا للعمل، و عدنا للعمل يعني عدنا للعمل !
تصر والدة أحد المريضين النائمين في غرفة الملاحظة على إرقاد المريض في المستشفى !
" يا دكتور إنه متعب منذ أسبوع ! أدخله ليتلقى المزيد من العلاج "
" سيدتي لا يوجد سرير شاغر ! أين أضعه ؟"
" ألست الطبيب ؟ دبّر الأمر..! يجب أن يدخل المريض إلى المستشفى الآن ! "
من الطبيب فينا ؟؟
عجبا !
طفلة يأتي بها والدها محمولة على ذراعيه
" ما الأمر ؟ "
" آلام حادة في البطن يا دكتور "
أفحص على المريضة، و تساورني الشكوك بأنها الزائدة الدودية الملتهبة !
لابد من إدخال المريض !
نحن بحاجة إلى سرير !
يأتي مريض آخر، مصاب بآلام شديدة في العظام...
" كنت ُ هنا يوم أمس، و لكني رفضت الرقود في المستشفى معتقدا بأنني سأتحسن مع الوقت، و لكني لا أزال متعبا ، لذا عدتُ لأرقد عندكم ! "
سبحان الله !
" لا يوجد سرير شاغر ! سأبقيك في غرفة الملاحظة حتى يشغر سرير ! "
كلمات لم يقتنع بها فذهب يشتكي عند أحد معارفه ، الموظفين في المستشفى !
و يأتي الموظّف ( يتوسّط ) له عندي !
ربّاه !
" لا يوجد سرير شاغر ! "
هل كنت إلا بشرا طبيبا ! أنى لي أن أختلق سريرا ؟
لو كان ذلك يندرج ضمن قدراتي العجيبة لأختلقت واحدا لي و نمت عليه من أول الصباح !
قرب نهاية مناوبتي، حضرت المريضة التالية!
مصابة بمرض سيولة الدم، و تنزف من أنفها الجريح منذ أيام !
لأجل هذه يجب أن أختلق سريرا من أي شيء !
اتصلت بالجناح و كررت سؤالي الغبي :
" ألم يغادر أحد المرضى المرخصين من المستشفى ؟ لدي أربعة مرضى في الإنتظار ! "
" ليس بعد يا دكتور منسي، اصبروا قليلا بعد ! "
و تنتهي ساعات عملي في العيادة، و أسلم زمام الأمور إلى زميلي أخيرا :
" لا يوجد أسرّة شاغرة حتى الآن ، و لديك أربعة مرضى بحاجة إلى إرقاد ! دبّر لهم أسرّة ! "
يقول المثل : من يطلع من داره يقل مقداره !
لا أعرف مدى صحة هذا المثل، لكنه في أحيان ليست بالقليلة ينطبق علي !
سرت و الشارع و نور الشمس المستتر خلف طبقة من الغيوم الماطرة، أدوس على بحيرات المطر الصغيرة التي خلفتها الغيوم بعد نوبة بكاء قصيرة..أظنها كانت تبكي انتهاء الإجازة !
و أنا أقترب من المستشفى، شعرت بارتياح عجيب !
و الأعجب هي الأفكار التي داعبت دماغي الناعس !
كنت معتادا على السهر طيلة الـ 14 يوما التي قضيتها بعيدا عن الوطن، في إجازة من الطب !
( إنه أول أيام العمل، الصغار ذهبوا لمدارسهم و الكبار إلى أعمالهم، و بالتأكيد فإن العيادة ستكون شاغرة و هادئة، و سأحظى ببعض النوم في الغرفة! ما ألذ النوم في صباح أول أيام العمل ! أين أنت يا سرير ! )
ذهبت إلى العيادة مباشرة، قبل ترتيب أشيائي في خزانة غرفتي، راغبا في إلقاء نظرة سريعة مثلجة للصدر على (العيادة الشاغرة) و إبلاغ الممرضة عن مكان تواجدي (أو نومي) حتى تتصل بي فيما لو حدث و أن جاء مريض ما في هذا اليوم الأول !
أحلام دماغ نعسان !
أول نظرة ألقيتها على العيادة ، تبعتها تنهيدة ، و تمتمة :
( يا فتّاح يا عليم ! )
على ذلك السرير كانت تستلقي المريضة رقم واحد، و زميلي كان قد انتهى لتوه من فحص مريضه الأخير، و سلّمني زمام الأمور قائلا :
" العالم فوضى! الجناح مزحوم ، لا أسرّة شاغرة ! "
أما في غرفة الملاحظة، فترك تحت رعياتي - بعد الله - مريضين مصيبان بنزلة معوية !
(أصبحنا و أصبح الملك لله !)
تركت حقيبتي على المنضدة المجاورة، و باشرت العمل من الدقيقة قبل الأولى !
المريضة رقم واحد، أول الغيث ، كانت مريضة مصابة بالفشل الكلوي المزمن، تجري غسيلا بيريتونيا ست مرات يوميا، و أتت تشكو آلام حادة في البطن و ارتفاع شديد في درجة الحرارة !
" ألو ، صباح الخير، أنا الطبيب المنسي ! "
" صباح الخير أيها الطبيب ! كل عام و أنت بخير ! "
" و أنت ِ بخير، إليك ِ هدية العيد ! "
بالتأكيد توقّعت رئيسة الممرضات ما هو نوع الهدية التي سأهديها لها!
" مريضة مصابة بالفشل الكلوي ، و التهاب في الغشاء البيريتوني ، أدخلتها إلى الجناح و ستصلكم بعد قليل ! "
لم يكن في القسم غير سريرين اثنين شاغرين، حجزتُ لمريضتي هذه أحدهما، و ادخرت الآخر ..للمطرة الأخرى !
أزمة ربو شديدة جدا، نقل المريض بها من مستشفى آخر إلينا، لعدم توفّر الأسرّة !
" ألو، سأدخل مريضا ثان ٍ ، بأزمة ربو حادة ، و قد يحتاج إلى الملاحظة عن كثب ! "
" دكتور، لا يوجد سرير ثالث! تذكّر ذلك ! "
و كما يجري السيل المنحدر من أعلى سفح جبل ، تدفّق المرضى إلى عيادتي بغزارة !
أليس هذا يوم عمل ؟؟
ألا يذهب الصغار إلى المدارس؟؟
ألا يذهب الكبار إلى العمل ؟؟
ألم تنته إجازة الجميع !
بلى ! لقد انتهت ! و لأنها انتهت ، عدنا للعمل، و عدنا للعمل يعني عدنا للعمل !
تصر والدة أحد المريضين النائمين في غرفة الملاحظة على إرقاد المريض في المستشفى !
" يا دكتور إنه متعب منذ أسبوع ! أدخله ليتلقى المزيد من العلاج "
" سيدتي لا يوجد سرير شاغر ! أين أضعه ؟"
" ألست الطبيب ؟ دبّر الأمر..! يجب أن يدخل المريض إلى المستشفى الآن ! "
من الطبيب فينا ؟؟
عجبا !
طفلة يأتي بها والدها محمولة على ذراعيه
" ما الأمر ؟ "
" آلام حادة في البطن يا دكتور "
أفحص على المريضة، و تساورني الشكوك بأنها الزائدة الدودية الملتهبة !
لابد من إدخال المريض !
نحن بحاجة إلى سرير !
يأتي مريض آخر، مصاب بآلام شديدة في العظام...
" كنت ُ هنا يوم أمس، و لكني رفضت الرقود في المستشفى معتقدا بأنني سأتحسن مع الوقت، و لكني لا أزال متعبا ، لذا عدتُ لأرقد عندكم ! "
سبحان الله !
" لا يوجد سرير شاغر ! سأبقيك في غرفة الملاحظة حتى يشغر سرير ! "
كلمات لم يقتنع بها فذهب يشتكي عند أحد معارفه ، الموظفين في المستشفى !
و يأتي الموظّف ( يتوسّط ) له عندي !
ربّاه !
" لا يوجد سرير شاغر ! "
هل كنت إلا بشرا طبيبا ! أنى لي أن أختلق سريرا ؟
لو كان ذلك يندرج ضمن قدراتي العجيبة لأختلقت واحدا لي و نمت عليه من أول الصباح !
قرب نهاية مناوبتي، حضرت المريضة التالية!
مصابة بمرض سيولة الدم، و تنزف من أنفها الجريح منذ أيام !
لأجل هذه يجب أن أختلق سريرا من أي شيء !
اتصلت بالجناح و كررت سؤالي الغبي :
" ألم يغادر أحد المرضى المرخصين من المستشفى ؟ لدي أربعة مرضى في الإنتظار ! "
" ليس بعد يا دكتور منسي، اصبروا قليلا بعد ! "
و تنتهي ساعات عملي في العيادة، و أسلم زمام الأمور إلى زميلي أخيرا :
" لا يوجد أسرّة شاغرة حتى الآن ، و لديك أربعة مرضى بحاجة إلى إرقاد ! دبّر لهم أسرّة ! "
تعليق