السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة ..........
"خلود أصحاب الكبائر في النار"
فهذه المسألة هي من أهم مسائل العقيدة لأنها تؤثر في عمل الإنسان، وتغرس فيه الخوف من عذاب الله تعالى، وتجعل صلته بالله أقرب، وتجعل قلبه تقيا نقيا من الشوائب والمعاصي والذنوب، فكثيرا ما وجدنا من المخالفين وخصوصا على الشبكة العنكبوتية ما يكتبون حول هذه المسألة ويحاولون النصرة لقول مذهبهم، ويحاولون الإساءة للمذهب الإباضي بهذه المسألة ويعتبرونه تشددا في الدين!!
وعلماء المذهب الإباضي المتقدمين والمتأخرين قد أفرودا في هذه المسألة خصوصا المطولات فجزاهم الله خيرا وعوضهم به أجرا، ومن المتأخرين سماحة شيخنا العلامة بدر الدين أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله تعالى وأمد في عمره ونفعنا بعلمه، وذلك في كتابه "الحــق الدامــغ".
حيث من قرأ كتاب "الحق الدامغ" بقلبه دون تعصب لن يجد في الكتاب إلا الحق بإذن الله تعالى، أما من قرأه بتعصب فسيحاول بكل جهده دحض ما جاء في الكتاب بدون دليل ولا واضح سبيل، وأما من سمع عن الكتاب ولم يقرأه أصلا فتجد هؤلاء يطعنون في الكتاب وهم لم يقرأوه وهذا لا يجوز، حيث أنهم يسمعون من الناس ويتناقلون ذلك دون أدنى إطلاع على الكتاب، لا يأخذ بقول الناس إلا الجاهل السفيه، أما إذا قرأ ما جاء به الكتاب فله أن يتكلم بعده بما شاء، والله سبحانه هو أعلم بما في صدور العالمين، فمن أراد الله به خيرا فقهه في الدين.
ولست هنا لأزيد على ما قاله العلماء في مؤلفاتهم لأني لست أهلا لذلك، ولكني تطفلت قليلا بتسهيل ما كتبوه وإيضاح الفكرة الصحيحة بأسلوب مبسط مع الدليل القطعي، فعسى الله أن ينفع به وأن يأخذ به من لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يخاف من إعلان كلمة الحق إلا من كان لا يخش الله تعالى، فعسى الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به كافة المسلمين، فلعلهم يقوموا من غفلتهم فينتبهوا إن كان الله أراد بهم خيرا، والله ولي التوفيق.
فمسألة الخلود اختلف فيها العلماء، فطائفة قليلة منهم من قال بانقطاع العذاب للموحد والمشرك كابن القيم ومن سار على نهجه، ومنهم من قال بانقطاع العذاب للموحدين فقط وهو مذهب جمهور أهل السنة قاطبة.
فذهبت الطائفة الأولى بقول انقطاع العذاب عن الموحد والمشرك، فلم يكفيهم القول بانقطاع العذاب عن الموحد فقط وإنما قالوا بفناء النار حتى عن المشرك!! فسبحان الله عما يشركون، هذا بهتان عظيم، فالأمة أجمعت على أن المشرك خالدا في النار كما جاء ذلك في القرآن والسنة، والأدلة صريحة غير قابلة للتأويل.
ومن أدلتهم التي اتخذوها هي قوله تعالى: "قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم"
وقوله سبحانه: "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد".
فأدلتهم هذه لا تعني قطعا بانقطاع العذاب عن المشرك، لأن المراد بالسموات والأرض هنا ليست الدنيوية وإنما الأخروية، كما قال الله تعالى:"يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار"
فدليلهم باطل وعن الدليل عاطل، فلو كان دليلهم كذلك، لكان انقطاع النعيم في الجنة للمؤمنين مقرونا ببقاء السموات والأرض كما في سورة هود في الآية التي تليها بقوله تعالى: "وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك"
فهل سماء الآخرة تفنى؟؟ وهل يفنى نعيم المؤمنين في الجنة؟؟ كما ينتهي عذاب المشركين في النار وكما تفنى النار على حسب الذي ذكره ابن القيم ومن قال بقوله!!
وأما باقي جمهور أهل السنة ذهبوا إلى خلود المشركين، وانقطاع العذاب عن الموحدين، وقالوا على أن صاحب الكبيرة الموحد يدخل النار فيعذب فيها على قدر معصيته ثم يخرج منها إلى الجنة واستندوا إلى قوله تعالى: "إلا ما شاء ربك" وغيرها من الآيات التي أتت على نفس السياق، واستندوا من السنة على أحاديث آحادية لاتفيد القطع في مسائل العقيدة، واستندوا إلى العقل بقولهم إذا كان الموحد المسلم يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويأتي الصالحات ولكن لديه كبيرة من الكبائر مصر عليها، هل يعقل دخوله النار خالدا فيها كخلود المشركين، فأين رحمة الله تعالى بعباده وأين ذهبت أعمال العبد الصالحة؟
واستند بعضهم إلى قوله تعالى في سورة القلم: "أفنجعل المسلمين كالمجرمين، مالكم كيف تحكمون"
ونجعل تفسير هذه الآيات لأهل التفسير، ومنهم الشيخ محمد بن علي الصابوني في كتابه "صفوة التفاسير" يقول في تفسير هذه الآيتين:(أفنجعل المسلمين كالمجرمين)؟ الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي أفنساوي بين المطيع والعاصي، والمحسن والمجرم؟ (مالكم كيف تحكمون)؟ تعجب منهم، حيث أنهم يسوون المطيع بالعاصي، والمؤمن بالكافر، فإن مثل هذا لا يصدر عن عاقل. انتهى كلامه.
واستدلوا أيضا بغفران الذنوب لغير التائب يوم القيامة بقوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ"
فقالوا أن الله لا يغفر للمشركين، وأنه يغفر لمن يشاء من العصاة من المسلمين الموحدين، حيث إذا شاء غفر لهم وإذا شاء عذبهم على تلك الكبيرة.. كما ذهب إلى هذا القول الشيخ الصابوني في صفوة التفاسير، وهذا خطأ، حيث تأويلهم هذا غير واضح، فذهب علماء التفسير إلى عدة أقوال، وقول سماحة شيخنا الخليلي في هذه الآية، بأن الآية جاءت تحث المشركين على الدخول في الإسلام، وتخبرهم بأن الله تعالى لا يغفر لكم إن كنتم مصرين على الشرك، وإنما يغفر للمسلمين ذنوبهم، فهذا حث للمشركين على المسارعة والعودة إلى الله تعالى، وتدل باقي الآيات التي تحث العصاة والذين أسرفوا على أنفسهم بالمسارعة إلى التوبة النصوح وعدم الإصرار على المعصية، كما سنذكر هذه الآيات الدالة على ذلك في المباحث القادمة، والتي تدل على أن الله لا يغفر إلا للتائب، ولو كان ما يقولونه صحيح، فأين عدل الله؟؟ إذا كان الله سيغفر للبعض دون البعض فهذا ظلم، فحاشا لله أن يكون ظالما، فقد نفى الظلم عن نفسه، وإنما دلت الأدلة بأن الله يغفر لمن تاب وأناب وعمل صالحا ثم اهتدى.
ومنهم من أخذ قوله تعالى حجة بينه لغفران الذنوب: "وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"
بل هذا دليل ضدهم بأن الذين يعملون الصاحات والمعاصي لا يقبل منهم إلا بالتوبة لا بالإصرار، يقول الشيخ الصابوني في صفوة التفاسير:(وآخرون اعترفوا بذنوبهم) أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة، قال الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك، لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول، لسائر الغزوات بالعمل السيىء، وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة (عسى الله أن يتوب عليهم) أي لعل الله يتوب عليهم،
قال الطبري: و (عسى) من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي على ما وصفت (إن الله غفور رحيم) أي ذو عفوٍ لمن تاب، عظيم الرحمة لمن أناب. انتهى كلامه
هذا باختصار ما استندوا عليه من أدلة وسيأتي الرد بإذن الله تعالى على هذا كله في المبحث الذي يليه، والله الموفق إلى كل خير.
أما مذهب الإباضية فقد وافقوهم على خلود المشركين في النار، وخالفوهم في القول بخروج العصاة من النار بعد تعذيبهم قدر معاصيهم، وقالوا أن العاصي يخلد في جهنم مثل ما يخلد المشرك، ولكن عذابه يكون أخف من المشرك، لأن النار دركات كما أن للجنة درجات، فهذه أقوال كلا المذهبين، وهنا سنذكر أدلة الإباضية القطعية على مسألة الخلود بالعقل والنقل بمشيئة الله تبارك تعالى.
أولا: تعريف الخلود:
الخلود هو البقاء الدائم، قال صاحب لسان العرب: "الخلد دوام البقاء في دار لا يخرج منها، خَلَدَ/يَخْلُد/خُلدًا وخلود بقي وأقام، ودار الخلد الآخرة لبقاء أهلها فيها، وخلده الله وأخلده تخليدا وقد أخلد الله أهل دار الخلد فيها وخلدهم".
ومنه قوله تعالى: "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون"
استند أصحابنا الإباضية عليهم رضوان الله تعالى إلى الكثير من الآيات التي أتت صريحة واضحة في مسألة خلود صاحب الكبيرة في النار إذ أنه لا يمكن للعقل البشري المسلم إلا أن يستسلم لها دون نقاش ولاجدل، لأن القرآن هو كلام الله وحيه وتنزيله فهو واضح غاية الوضوح، لذلك فهو لا يعتريه النقص ولا الخلل ولكن عقولنا القاصرة هي التي عجزت عن إدارك حقيقة هذا الكتاب المبارك، الذي أعز الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبه رفع الله قدر الإسلام، فكان أعز كتاب وأصدق كلام وأقوم حجة على الذين لا يؤمنون به، جاء ليهدينا إلى الحق وإلى سواء السبيل، وجاء راسما لنا طرق الهداية والوقاية من الهلاك في الدنيا والآخرة، فسار السلف الصالح ماشيا على خطى هذا الكتاب وعلى نهج المصطفى الأواب، فكانوا أشد الناس خشية وخوفا من الله تعالى، قال تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، وكانوا أعبد الناس وأزهدهم وأتقاهم وأورعهم، وأخوفهم من الوقوع في المعاصي، وأسرعهم إلى التوبة وأكثرهم ذكرا لله تعالى تسبيحا واستغفارا وتحميدا، لذلك صدق فيهم قوله سبحانه: "كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون".
وما هذا كله إلا لأنهم سلكوا مسلك الحق، واتبعوا هدي القرآن الذي أنار الله به قلوبهم وأبصارهم فكانوا أهل تقوى وورع، لا يخشون إلا الله سبحانه وتعالى.
يقول الإمام العلامة نور الدين السالمي في منظومته "غاية المراد في نظم الإعتقاد":
"وأنه من أطاع الله يدخله *** جناته أبدا لا يبتغي نقلا"
"ومن عصاه ففي النيران مسكنه *** ولم يجد مفزعًا عنها فينتقلا"
ويقول رحمه الله في منظومته "أنوار العقول" في خلود أهل الجنة والنار:
"ومن عصى ولم يتب يخلدُ *** في النار دائما بهذا نشهدُ"
"وكافر بنعمة من فرقا *** ما بين ذي شرك ومن قد فسقا"
"أعني لدى الخلود والفرق نشا *** لدى منازل العذاب وفشا"
"كذاك من قال بأنه يجي *** وقت على النار بلا تأجج"
"وهكذا من قال كل يدخل *** فيها سعيد وشقي يبطل"
"ومن يقل دار الخلود فانية *** أو أهلها ففاسق علانية"
"هذا إذا ما كان بالتأويل *** والشرك في الرد على التنزيل"
ثانيا: الأدلة من القرآن على خلود صاحب الكبيرة:
1) قوله تعالى: "ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون"
هذه الآية هي رد صريح على من قال أن صاحب الكبيرة يعذب على قدر معصيته ثم يخرج منها إلى الجنة، قالوا بأنها عقيدة يهودية ولم تعني المسلمين، ولكن لو نظرنا إلى الآية بعين الإعتبار لوجدنا أن القرآن يخاطب الناس كافة ويحذرهم من أن يسيروا سير الأمم السابقة، وأن لا ينقادوا إلى ما يقوله غيرهم من الديانات الأخرى، فنعم الآية تعني اليهود لكونهم ظنوا أنهم إذا أعرضوا عن عبادة الله سيدخلون النار لأيام معدودة، وما هذه إلا أماني لن يجدوها يوم القيامة، فيجب علينا كمسلمين أن لا ننجر وراء الأماني، فالشيطان هو من يزين للإنسان هذه الأماني لكي يجرؤا على معصية الله تعالى لأن الأمنية تقول بأن الموحد لا يمكن أن يخلد في النار كخلود المشركين.
2) قوله تعالى: "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون"
فالآية الكريمة دلت دلالة صريحة على أن النار لا تكون لأيام معدودة كما هي أماني أهل الكتاب، وجاء بعدها قوله سبحانه بأن من كسب سيئة فهو في النار خالدا فيها، ولم يقل من أشرك بالله فقط وإنما عمم ذلك باكتساب السيئة أي الوقوع في الكبيرة، والوقوع في الكبيرة دل على أن صاحبه في النار إلى الأبد ولم يقل لأيام أو أنه سيخرج بعدها إلى الجنة فالآية صريحة بذلك إلا من عمي قلبه وزين له الشيطان أنه سيخرج من النار بعد أيام معدودة كما زين لأهل الكتاب، والدليل الآخر على خلود أصحاب الكبائر وأنهم لن يدخلوا الجنة هي الآية التي تليها،"والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" فالآية دلت دلالة قاطعة على أن الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات وأنهم خالدون فيها، فلم يقل للذين أسرفوا على أنفسهم وارتكبوا السيئات، ولم يقل للذين أسلموا فحسب، وإنما قال للذين آمنوا وعملوا الصالحات، فهنا حدد عمل الصالحات دون السيئات لأنه لا يمكن للمؤمن أن يجمع بين الصالحات والمعاصي في آن واحد، نستنتج من الآية السابقة أن الأماني بالخروج من النار إنما هو تزيين الشيطان للإنسان بأنه سيخرج من النار إلى الجنة مع أن الله وعد الجنة للمؤمنين والمتقين لا العاصين المسرفين على أنفسهم، وأما من اعتقد بالخروج من النار فهو قد أخذ عقيدة يهودية ما أنزل الله بها من سلطان.
3) قوله تعالى: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"
4) قوله تعالى: "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين"
فالآية تدل على الخلود في النار بمجرد المعصية لله ولرسوله، ولم يذكر الشرك بل حدد المعصية، فإذا أي معصية لله تعالى ولرسوله تعد كبيرة فصاحبها في النار خالدا فيها مادام أنه مات غير تائب منها، فهذا وعد الله لمن عصاه أو عصى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيدخله النار خالدا فيها أبدا، فلماذا نحاول دحض ما جاء به القرآن وتأويل الآيات على غير ما قاله الله!! فكل هذا أماني يزينها الشيطان لعباد الله لكي يضلوا عن الصراط المستقيم.
5) قوله تعالى: "ومن يقتل مؤمنا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما"
فالكبيرة هنا هي قتل المؤمن، ومن المعلوم أن القتل ليس بشرك وإنما معصية يعاقب صاحبها إن لم يتب منها توبة نصوحا بدخوله جهنم خالدا فيها غير مؤقت لأيام معدودة كما زعم اليهود ذلك، فالله تعالى توعده بجهنم خالدا فيها ويغضب عليه ويلعنه ويعد له عذابا عظيما، أبعد هذا الوعيد بأربعة عقوبات للقاتل هل يعقل دخوله الجنة والآية تقول صريحة بدخوله النار خالدا فيها ولم يأتِ في الآية ما يدل على خروجه من النار.
6) قوله تعالى: "والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلمًا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"
ذكر الله تعالى في هذه الآية أن العصاة الذين اكتسبوا السيئات هم في النار خالدين فيها، مالهم من الله من عاصم، فإذا الآية تخاطب الموحدين وليس المشركين فحسب، وتحذرهم من الوقوع في المعاصي لأنها ستردي بهم في النار خالدين فيها غير خارجين.
7) قوله تعالى: "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا"
فمعصية الله ومعصية الرسول توصل العبد إلى جهنم مالم يتب عن الذي أتاه، والآية دلت على أن دخوله جهنم يكون خالدا فيها أبدا، لا كما يدعي الكثير من المسلمين اليوم بدخول جهنم لأيام معدودة ثم ينتقلون إلى الجنة، والله يخاطبنا في كتابه على أنهم خالدين فيها أبدا، ولكن هوى النفس يدعو إلى تأويل الآيات إلى غير مرادها وما هذه إلا أماني لن تفيد العبد يوم القيامة ولا تنقذه من عذاب الله إذ أن الآيات صريحة واضحة ستكون حجة على من فسرها بحسب هوى نفسه، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير.
8) قوله تعالى: "إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وماهم عنها بغائبين"
هنا قسم الله الناس إلى فريقين "فريق في الجنة وفريق في السعير" حيث دلت الآية على أن هناك فريق بررة وهم المتقون باتفاق أنهم في نعيم دائم غير منقطع، وأن الفجار أي العصاة الفجرة والكفار هم في جحيم، وأتبعها الله بقوله: "وما هم عنها بغائبين" أي أنهم ما كثون فيها أبدا.
وهناك الكثير من الأدلة على ذلك ولكن نكتفي بما ذكرناه خشية الإطالة، فنستنتج من الآيات السابقة أن الله توعد النار لمن أشرك به ولمن عصاه أو عصى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يأتِ دليل صريح على أن العاصي لا يخلد في النار، بل كل الأدلة تقول بخلوده كحال المشركين، لأنه لا يمكن أن تختلط المعاصي مع الطاعات وأن الله لا يتقبل إلا من المتقين كما دل عليه قوله تعالى: "إنما يتقبل الله من المتقين"، فالتقوى درجة يتقبل الله بها أعمال العبد وأما العاصي فلا تقبل أعماله إلا بعد توبته من جميع الذنوب، وجاءت الأدلة في الكتاب والسنة على أن الجنة أعدت للمتقين، والعصاة لم ولن يصلوا إلى درجة التقوى مالم يتوبوا قبل موتهم، لأن التقوى هي الإقبال على الطاعات واجتناب المنكرات، وأما من قال من المسلمين بأن الموحد العاصي يعذب على قدر معصيته فهذه مثل ما قلنا سابقا بأنها أماني كأماني أهل الكتاب واليهود إذا أنهم ظنوا أنهم سيعذبون لأيام معدودة، وما هذا إلا اغترار منهم وأماني لا تفيدهم يوم القيامة، ولكن الشيطان نجح في وعده لله تعالى أنه سيغوي عباد الله إلا المخلصين منهم، لأن المخلصين في عبادة الله أتقياء فلا يستطيع إغوائهم، ونجد أن الله تعالى حذرنا من الإغترار بمثل هذه الأماني وأن لا نلتفت إليها وذلك في قوله: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا"
وقد وعد الله تعالى عباده المؤمنون المتقون بجنات عدن خالدين فيها أبدا، فلم يأت دليل على أن الجنة للعاصين ولا للمسلمين كافة، وإنما جاءت الأدلة على أن الجنة للمتقين الذين تابوا وأصلحوا وآمنوا وعملوا الصالحات ومن ذلك قوله تعالى: "إن للمتقين مفازا" وقوله: "إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" وقوله: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ" وقوله: "وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ" وقوله: "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ" وقوله تعالى: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً" وقوله سبحانه: "أم نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" وقوله: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ" وقوله سبحانه: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ" وقوله جل شأنه: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ" وقوله: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ"، وقوله سبحانه: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ".
فكل هذه الآيات تدل دلالة قطعية على أن الجنة للمتقين، وليست لكافة المسلمين لأن المسلمين لم يصلوا إلى درجة التقوى وإنما المؤمنون هم الذين وصلوا إلى درجة التقوى.
يقول الحق سبحانه وتعالى: "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا"، فهناك فرق بين الإسلام وبين الإيمان، فالإسلام نطق بالشهادتين والإيمان هو التطبيق العملي لما جاء به الكتاب والسنة، لذلك نجد أن الله تعالى امتدح المؤمنون المتقون ووعدهم بالنعيم الأبدي في جنات خلد جزاء لهم بما كانوا يعملون، وأما الذين عصوا الله فهم في النار خالدين فيها لأنهم فجار عصاة، ففي قوله تعالى: "أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" تفرقة بين الفاجر والتقي، لأنه لا يمكن وضع التقي والفاجر في نفس الميزان ونفس المنزلة،فوعد الله الفجار بالنار كما وعد المتقين بالجنة، فإذا قلنا بدخول العاصي الجنة بعد أن يعذب على قدر معصيته فهذا يقتضي أن يكون تقيا لأن الجنة للمتقين، فهل سنجد جوابا على ذلك ممن يدعون أن العاصي سيدخل الجنة؟؟!!
"خلود أصحاب الكبائر في النار"
فهذه المسألة هي من أهم مسائل العقيدة لأنها تؤثر في عمل الإنسان، وتغرس فيه الخوف من عذاب الله تعالى، وتجعل صلته بالله أقرب، وتجعل قلبه تقيا نقيا من الشوائب والمعاصي والذنوب، فكثيرا ما وجدنا من المخالفين وخصوصا على الشبكة العنكبوتية ما يكتبون حول هذه المسألة ويحاولون النصرة لقول مذهبهم، ويحاولون الإساءة للمذهب الإباضي بهذه المسألة ويعتبرونه تشددا في الدين!!
وعلماء المذهب الإباضي المتقدمين والمتأخرين قد أفرودا في هذه المسألة خصوصا المطولات فجزاهم الله خيرا وعوضهم به أجرا، ومن المتأخرين سماحة شيخنا العلامة بدر الدين أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله تعالى وأمد في عمره ونفعنا بعلمه، وذلك في كتابه "الحــق الدامــغ".
حيث من قرأ كتاب "الحق الدامغ" بقلبه دون تعصب لن يجد في الكتاب إلا الحق بإذن الله تعالى، أما من قرأه بتعصب فسيحاول بكل جهده دحض ما جاء في الكتاب بدون دليل ولا واضح سبيل، وأما من سمع عن الكتاب ولم يقرأه أصلا فتجد هؤلاء يطعنون في الكتاب وهم لم يقرأوه وهذا لا يجوز، حيث أنهم يسمعون من الناس ويتناقلون ذلك دون أدنى إطلاع على الكتاب، لا يأخذ بقول الناس إلا الجاهل السفيه، أما إذا قرأ ما جاء به الكتاب فله أن يتكلم بعده بما شاء، والله سبحانه هو أعلم بما في صدور العالمين، فمن أراد الله به خيرا فقهه في الدين.
ولست هنا لأزيد على ما قاله العلماء في مؤلفاتهم لأني لست أهلا لذلك، ولكني تطفلت قليلا بتسهيل ما كتبوه وإيضاح الفكرة الصحيحة بأسلوب مبسط مع الدليل القطعي، فعسى الله أن ينفع به وأن يأخذ به من لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يخاف من إعلان كلمة الحق إلا من كان لا يخش الله تعالى، فعسى الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به كافة المسلمين، فلعلهم يقوموا من غفلتهم فينتبهوا إن كان الله أراد بهم خيرا، والله ولي التوفيق.
فمسألة الخلود اختلف فيها العلماء، فطائفة قليلة منهم من قال بانقطاع العذاب للموحد والمشرك كابن القيم ومن سار على نهجه، ومنهم من قال بانقطاع العذاب للموحدين فقط وهو مذهب جمهور أهل السنة قاطبة.
فذهبت الطائفة الأولى بقول انقطاع العذاب عن الموحد والمشرك، فلم يكفيهم القول بانقطاع العذاب عن الموحد فقط وإنما قالوا بفناء النار حتى عن المشرك!! فسبحان الله عما يشركون، هذا بهتان عظيم، فالأمة أجمعت على أن المشرك خالدا في النار كما جاء ذلك في القرآن والسنة، والأدلة صريحة غير قابلة للتأويل.
ومن أدلتهم التي اتخذوها هي قوله تعالى: "قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم"
وقوله سبحانه: "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد".
فأدلتهم هذه لا تعني قطعا بانقطاع العذاب عن المشرك، لأن المراد بالسموات والأرض هنا ليست الدنيوية وإنما الأخروية، كما قال الله تعالى:"يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار"
فدليلهم باطل وعن الدليل عاطل، فلو كان دليلهم كذلك، لكان انقطاع النعيم في الجنة للمؤمنين مقرونا ببقاء السموات والأرض كما في سورة هود في الآية التي تليها بقوله تعالى: "وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك"
فهل سماء الآخرة تفنى؟؟ وهل يفنى نعيم المؤمنين في الجنة؟؟ كما ينتهي عذاب المشركين في النار وكما تفنى النار على حسب الذي ذكره ابن القيم ومن قال بقوله!!
وأما باقي جمهور أهل السنة ذهبوا إلى خلود المشركين، وانقطاع العذاب عن الموحدين، وقالوا على أن صاحب الكبيرة الموحد يدخل النار فيعذب فيها على قدر معصيته ثم يخرج منها إلى الجنة واستندوا إلى قوله تعالى: "إلا ما شاء ربك" وغيرها من الآيات التي أتت على نفس السياق، واستندوا من السنة على أحاديث آحادية لاتفيد القطع في مسائل العقيدة، واستندوا إلى العقل بقولهم إذا كان الموحد المسلم يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويأتي الصالحات ولكن لديه كبيرة من الكبائر مصر عليها، هل يعقل دخوله النار خالدا فيها كخلود المشركين، فأين رحمة الله تعالى بعباده وأين ذهبت أعمال العبد الصالحة؟
واستند بعضهم إلى قوله تعالى في سورة القلم: "أفنجعل المسلمين كالمجرمين، مالكم كيف تحكمون"
ونجعل تفسير هذه الآيات لأهل التفسير، ومنهم الشيخ محمد بن علي الصابوني في كتابه "صفوة التفاسير" يقول في تفسير هذه الآيتين:(أفنجعل المسلمين كالمجرمين)؟ الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي أفنساوي بين المطيع والعاصي، والمحسن والمجرم؟ (مالكم كيف تحكمون)؟ تعجب منهم، حيث أنهم يسوون المطيع بالعاصي، والمؤمن بالكافر، فإن مثل هذا لا يصدر عن عاقل. انتهى كلامه.
واستدلوا أيضا بغفران الذنوب لغير التائب يوم القيامة بقوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ"
فقالوا أن الله لا يغفر للمشركين، وأنه يغفر لمن يشاء من العصاة من المسلمين الموحدين، حيث إذا شاء غفر لهم وإذا شاء عذبهم على تلك الكبيرة.. كما ذهب إلى هذا القول الشيخ الصابوني في صفوة التفاسير، وهذا خطأ، حيث تأويلهم هذا غير واضح، فذهب علماء التفسير إلى عدة أقوال، وقول سماحة شيخنا الخليلي في هذه الآية، بأن الآية جاءت تحث المشركين على الدخول في الإسلام، وتخبرهم بأن الله تعالى لا يغفر لكم إن كنتم مصرين على الشرك، وإنما يغفر للمسلمين ذنوبهم، فهذا حث للمشركين على المسارعة والعودة إلى الله تعالى، وتدل باقي الآيات التي تحث العصاة والذين أسرفوا على أنفسهم بالمسارعة إلى التوبة النصوح وعدم الإصرار على المعصية، كما سنذكر هذه الآيات الدالة على ذلك في المباحث القادمة، والتي تدل على أن الله لا يغفر إلا للتائب، ولو كان ما يقولونه صحيح، فأين عدل الله؟؟ إذا كان الله سيغفر للبعض دون البعض فهذا ظلم، فحاشا لله أن يكون ظالما، فقد نفى الظلم عن نفسه، وإنما دلت الأدلة بأن الله يغفر لمن تاب وأناب وعمل صالحا ثم اهتدى.
ومنهم من أخذ قوله تعالى حجة بينه لغفران الذنوب: "وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"
بل هذا دليل ضدهم بأن الذين يعملون الصاحات والمعاصي لا يقبل منهم إلا بالتوبة لا بالإصرار، يقول الشيخ الصابوني في صفوة التفاسير:(وآخرون اعترفوا بذنوبهم) أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة، قال الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك، لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول، لسائر الغزوات بالعمل السيىء، وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة (عسى الله أن يتوب عليهم) أي لعل الله يتوب عليهم،
قال الطبري: و (عسى) من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي على ما وصفت (إن الله غفور رحيم) أي ذو عفوٍ لمن تاب، عظيم الرحمة لمن أناب. انتهى كلامه
هذا باختصار ما استندوا عليه من أدلة وسيأتي الرد بإذن الله تعالى على هذا كله في المبحث الذي يليه، والله الموفق إلى كل خير.
أما مذهب الإباضية فقد وافقوهم على خلود المشركين في النار، وخالفوهم في القول بخروج العصاة من النار بعد تعذيبهم قدر معاصيهم، وقالوا أن العاصي يخلد في جهنم مثل ما يخلد المشرك، ولكن عذابه يكون أخف من المشرك، لأن النار دركات كما أن للجنة درجات، فهذه أقوال كلا المذهبين، وهنا سنذكر أدلة الإباضية القطعية على مسألة الخلود بالعقل والنقل بمشيئة الله تبارك تعالى.
أولا: تعريف الخلود:
الخلود هو البقاء الدائم، قال صاحب لسان العرب: "الخلد دوام البقاء في دار لا يخرج منها، خَلَدَ/يَخْلُد/خُلدًا وخلود بقي وأقام، ودار الخلد الآخرة لبقاء أهلها فيها، وخلده الله وأخلده تخليدا وقد أخلد الله أهل دار الخلد فيها وخلدهم".
ومنه قوله تعالى: "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون"
استند أصحابنا الإباضية عليهم رضوان الله تعالى إلى الكثير من الآيات التي أتت صريحة واضحة في مسألة خلود صاحب الكبيرة في النار إذ أنه لا يمكن للعقل البشري المسلم إلا أن يستسلم لها دون نقاش ولاجدل، لأن القرآن هو كلام الله وحيه وتنزيله فهو واضح غاية الوضوح، لذلك فهو لا يعتريه النقص ولا الخلل ولكن عقولنا القاصرة هي التي عجزت عن إدارك حقيقة هذا الكتاب المبارك، الذي أعز الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبه رفع الله قدر الإسلام، فكان أعز كتاب وأصدق كلام وأقوم حجة على الذين لا يؤمنون به، جاء ليهدينا إلى الحق وإلى سواء السبيل، وجاء راسما لنا طرق الهداية والوقاية من الهلاك في الدنيا والآخرة، فسار السلف الصالح ماشيا على خطى هذا الكتاب وعلى نهج المصطفى الأواب، فكانوا أشد الناس خشية وخوفا من الله تعالى، قال تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، وكانوا أعبد الناس وأزهدهم وأتقاهم وأورعهم، وأخوفهم من الوقوع في المعاصي، وأسرعهم إلى التوبة وأكثرهم ذكرا لله تعالى تسبيحا واستغفارا وتحميدا، لذلك صدق فيهم قوله سبحانه: "كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون".
وما هذا كله إلا لأنهم سلكوا مسلك الحق، واتبعوا هدي القرآن الذي أنار الله به قلوبهم وأبصارهم فكانوا أهل تقوى وورع، لا يخشون إلا الله سبحانه وتعالى.
يقول الإمام العلامة نور الدين السالمي في منظومته "غاية المراد في نظم الإعتقاد":
"وأنه من أطاع الله يدخله *** جناته أبدا لا يبتغي نقلا"
"ومن عصاه ففي النيران مسكنه *** ولم يجد مفزعًا عنها فينتقلا"
ويقول رحمه الله في منظومته "أنوار العقول" في خلود أهل الجنة والنار:
"ومن عصى ولم يتب يخلدُ *** في النار دائما بهذا نشهدُ"
"وكافر بنعمة من فرقا *** ما بين ذي شرك ومن قد فسقا"
"أعني لدى الخلود والفرق نشا *** لدى منازل العذاب وفشا"
"كذاك من قال بأنه يجي *** وقت على النار بلا تأجج"
"وهكذا من قال كل يدخل *** فيها سعيد وشقي يبطل"
"ومن يقل دار الخلود فانية *** أو أهلها ففاسق علانية"
"هذا إذا ما كان بالتأويل *** والشرك في الرد على التنزيل"
ثانيا: الأدلة من القرآن على خلود صاحب الكبيرة:
1) قوله تعالى: "ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون"
هذه الآية هي رد صريح على من قال أن صاحب الكبيرة يعذب على قدر معصيته ثم يخرج منها إلى الجنة، قالوا بأنها عقيدة يهودية ولم تعني المسلمين، ولكن لو نظرنا إلى الآية بعين الإعتبار لوجدنا أن القرآن يخاطب الناس كافة ويحذرهم من أن يسيروا سير الأمم السابقة، وأن لا ينقادوا إلى ما يقوله غيرهم من الديانات الأخرى، فنعم الآية تعني اليهود لكونهم ظنوا أنهم إذا أعرضوا عن عبادة الله سيدخلون النار لأيام معدودة، وما هذه إلا أماني لن يجدوها يوم القيامة، فيجب علينا كمسلمين أن لا ننجر وراء الأماني، فالشيطان هو من يزين للإنسان هذه الأماني لكي يجرؤا على معصية الله تعالى لأن الأمنية تقول بأن الموحد لا يمكن أن يخلد في النار كخلود المشركين.
2) قوله تعالى: "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون"
فالآية الكريمة دلت دلالة صريحة على أن النار لا تكون لأيام معدودة كما هي أماني أهل الكتاب، وجاء بعدها قوله سبحانه بأن من كسب سيئة فهو في النار خالدا فيها، ولم يقل من أشرك بالله فقط وإنما عمم ذلك باكتساب السيئة أي الوقوع في الكبيرة، والوقوع في الكبيرة دل على أن صاحبه في النار إلى الأبد ولم يقل لأيام أو أنه سيخرج بعدها إلى الجنة فالآية صريحة بذلك إلا من عمي قلبه وزين له الشيطان أنه سيخرج من النار بعد أيام معدودة كما زين لأهل الكتاب، والدليل الآخر على خلود أصحاب الكبائر وأنهم لن يدخلوا الجنة هي الآية التي تليها،"والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" فالآية دلت دلالة قاطعة على أن الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات وأنهم خالدون فيها، فلم يقل للذين أسرفوا على أنفسهم وارتكبوا السيئات، ولم يقل للذين أسلموا فحسب، وإنما قال للذين آمنوا وعملوا الصالحات، فهنا حدد عمل الصالحات دون السيئات لأنه لا يمكن للمؤمن أن يجمع بين الصالحات والمعاصي في آن واحد، نستنتج من الآية السابقة أن الأماني بالخروج من النار إنما هو تزيين الشيطان للإنسان بأنه سيخرج من النار إلى الجنة مع أن الله وعد الجنة للمؤمنين والمتقين لا العاصين المسرفين على أنفسهم، وأما من اعتقد بالخروج من النار فهو قد أخذ عقيدة يهودية ما أنزل الله بها من سلطان.
3) قوله تعالى: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"
4) قوله تعالى: "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين"
فالآية تدل على الخلود في النار بمجرد المعصية لله ولرسوله، ولم يذكر الشرك بل حدد المعصية، فإذا أي معصية لله تعالى ولرسوله تعد كبيرة فصاحبها في النار خالدا فيها مادام أنه مات غير تائب منها، فهذا وعد الله لمن عصاه أو عصى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيدخله النار خالدا فيها أبدا، فلماذا نحاول دحض ما جاء به القرآن وتأويل الآيات على غير ما قاله الله!! فكل هذا أماني يزينها الشيطان لعباد الله لكي يضلوا عن الصراط المستقيم.
5) قوله تعالى: "ومن يقتل مؤمنا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما"
فالكبيرة هنا هي قتل المؤمن، ومن المعلوم أن القتل ليس بشرك وإنما معصية يعاقب صاحبها إن لم يتب منها توبة نصوحا بدخوله جهنم خالدا فيها غير مؤقت لأيام معدودة كما زعم اليهود ذلك، فالله تعالى توعده بجهنم خالدا فيها ويغضب عليه ويلعنه ويعد له عذابا عظيما، أبعد هذا الوعيد بأربعة عقوبات للقاتل هل يعقل دخوله الجنة والآية تقول صريحة بدخوله النار خالدا فيها ولم يأتِ في الآية ما يدل على خروجه من النار.
6) قوله تعالى: "والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلمًا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"
ذكر الله تعالى في هذه الآية أن العصاة الذين اكتسبوا السيئات هم في النار خالدين فيها، مالهم من الله من عاصم، فإذا الآية تخاطب الموحدين وليس المشركين فحسب، وتحذرهم من الوقوع في المعاصي لأنها ستردي بهم في النار خالدين فيها غير خارجين.
7) قوله تعالى: "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا"
فمعصية الله ومعصية الرسول توصل العبد إلى جهنم مالم يتب عن الذي أتاه، والآية دلت على أن دخوله جهنم يكون خالدا فيها أبدا، لا كما يدعي الكثير من المسلمين اليوم بدخول جهنم لأيام معدودة ثم ينتقلون إلى الجنة، والله يخاطبنا في كتابه على أنهم خالدين فيها أبدا، ولكن هوى النفس يدعو إلى تأويل الآيات إلى غير مرادها وما هذه إلا أماني لن تفيد العبد يوم القيامة ولا تنقذه من عذاب الله إذ أن الآيات صريحة واضحة ستكون حجة على من فسرها بحسب هوى نفسه، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير.
8) قوله تعالى: "إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وماهم عنها بغائبين"
هنا قسم الله الناس إلى فريقين "فريق في الجنة وفريق في السعير" حيث دلت الآية على أن هناك فريق بررة وهم المتقون باتفاق أنهم في نعيم دائم غير منقطع، وأن الفجار أي العصاة الفجرة والكفار هم في جحيم، وأتبعها الله بقوله: "وما هم عنها بغائبين" أي أنهم ما كثون فيها أبدا.
وهناك الكثير من الأدلة على ذلك ولكن نكتفي بما ذكرناه خشية الإطالة، فنستنتج من الآيات السابقة أن الله توعد النار لمن أشرك به ولمن عصاه أو عصى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يأتِ دليل صريح على أن العاصي لا يخلد في النار، بل كل الأدلة تقول بخلوده كحال المشركين، لأنه لا يمكن أن تختلط المعاصي مع الطاعات وأن الله لا يتقبل إلا من المتقين كما دل عليه قوله تعالى: "إنما يتقبل الله من المتقين"، فالتقوى درجة يتقبل الله بها أعمال العبد وأما العاصي فلا تقبل أعماله إلا بعد توبته من جميع الذنوب، وجاءت الأدلة في الكتاب والسنة على أن الجنة أعدت للمتقين، والعصاة لم ولن يصلوا إلى درجة التقوى مالم يتوبوا قبل موتهم، لأن التقوى هي الإقبال على الطاعات واجتناب المنكرات، وأما من قال من المسلمين بأن الموحد العاصي يعذب على قدر معصيته فهذه مثل ما قلنا سابقا بأنها أماني كأماني أهل الكتاب واليهود إذا أنهم ظنوا أنهم سيعذبون لأيام معدودة، وما هذا إلا اغترار منهم وأماني لا تفيدهم يوم القيامة، ولكن الشيطان نجح في وعده لله تعالى أنه سيغوي عباد الله إلا المخلصين منهم، لأن المخلصين في عبادة الله أتقياء فلا يستطيع إغوائهم، ونجد أن الله تعالى حذرنا من الإغترار بمثل هذه الأماني وأن لا نلتفت إليها وذلك في قوله: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا"
وقد وعد الله تعالى عباده المؤمنون المتقون بجنات عدن خالدين فيها أبدا، فلم يأت دليل على أن الجنة للعاصين ولا للمسلمين كافة، وإنما جاءت الأدلة على أن الجنة للمتقين الذين تابوا وأصلحوا وآمنوا وعملوا الصالحات ومن ذلك قوله تعالى: "إن للمتقين مفازا" وقوله: "إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" وقوله: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ" وقوله: "وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ" وقوله: "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ" وقوله تعالى: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً" وقوله سبحانه: "أم نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" وقوله: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ" وقوله سبحانه: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ" وقوله جل شأنه: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ" وقوله: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ"، وقوله سبحانه: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ".
فكل هذه الآيات تدل دلالة قطعية على أن الجنة للمتقين، وليست لكافة المسلمين لأن المسلمين لم يصلوا إلى درجة التقوى وإنما المؤمنون هم الذين وصلوا إلى درجة التقوى.
يقول الحق سبحانه وتعالى: "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا"، فهناك فرق بين الإسلام وبين الإيمان، فالإسلام نطق بالشهادتين والإيمان هو التطبيق العملي لما جاء به الكتاب والسنة، لذلك نجد أن الله تعالى امتدح المؤمنون المتقون ووعدهم بالنعيم الأبدي في جنات خلد جزاء لهم بما كانوا يعملون، وأما الذين عصوا الله فهم في النار خالدين فيها لأنهم فجار عصاة، ففي قوله تعالى: "أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" تفرقة بين الفاجر والتقي، لأنه لا يمكن وضع التقي والفاجر في نفس الميزان ونفس المنزلة،فوعد الله الفجار بالنار كما وعد المتقين بالجنة، فإذا قلنا بدخول العاصي الجنة بعد أن يعذب على قدر معصيته فهذا يقتضي أن يكون تقيا لأن الجنة للمتقين، فهل سنجد جوابا على ذلك ممن يدعون أن العاصي سيدخل الجنة؟؟!!
تعليق