المشاركة الأصلية بواسطة مومن السيد
والموضوع امام الجميع
والحكم الله
والخصيم محمد
والشاهد ماثل امامكم
وكفى بالله شهيدا
كما قلت:نحن نقدّر الحالة التي انت فيها!
قال المفيد رحمه الله تعالى في جواب المستشكل الذي قال:
وقال عليه السلام: "إن الله تعالى اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
فأجاب المفيد:
هذه أحاديث آحاد، وهي مضطربة الطرق والإسناد، والخلل ظاهر في معانيها والفساد، وما كان بهذه الصورة لم يعارض الإجماع ولا يقابل حجج الله تعالى وبيناته الواضحات، مع أنه قد عارضها من الأخبار التي جاءت بالصحيح من الإسناد، ورواها الثقات عند أصحاب الآثار، وأطبق على نقلها الفريقان من الشيعة والناصبة على الاتفاق، ما ضمن خلاف ما انطوت عليه فأبطلها على البيان
واتى على تلك الروايات والآيات، ثم تطرق الى اهل بدر:
وهؤلاء الصحابة الذين رويت ما رويت فيهم من الأخبار، وغرك منهم التسمية لهم بصحبة النبي صلى الله عليه وآله، وكان أكابرهم وأفاضلهم أهل بدر، الذين زعمت أن الله قطع لهم المغفرة والرضوان، هم الذي نطق القرآن بكراهتهم للجهاد، ومجادلتهم للنبي صلى الله عليه وآله في تركه، وظنهم بأنفسهم من نصره، ورغبتهم في الدنيا، وزهدهم في الثواب، فقال جل اسمه: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
ثم زجرهم الله تعالى عن شقاق نبيهم صلى الله عليه وآله، لما علم من خبث نياتهم وأمرهم بالطاعة والإخلاص، وضرب لهم فيما أنبأ به من بواطن أخبارهم وسرائرهم الأمثال، وحذرهم من الفتنة بارتكابهم قبائح الأعمال، وعدد عليهم نعمه ليشكروه ويطيعوه فيما دعاهم إليه من الأعمال، وأنذرهم العقاب من الخيانة لله جلت عظمته، ولرسوله صلى الله عليه وآله، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
ومن قبيل هذا ما أكده عليهم من فرض الصبر في الجهاد، وتوعدهم بالغضب على الهزيمة، لما علم من ضعف بصائرهم ، فلم يلتفتوا إلى وعيده، وأسلموا نبيه صلى الله عليه وآله إلى عدوه في مقام بعد مقام.
فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
هذا وقد أخبر جل اسمه عن عامة من حضر بدرا من القوم، ومحبتهم للحياة، وخوفهم من الممات، وحضورهم ذلك المكان طمعا في الغنائم والأموال، وأنهم لم يكن لهم نية في نصرة الإسلام. فقال تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
وقال في القوم بأعيانهم، وقد أمرهم نبيهم صلى الله عليه وآله بالخروج إلى بدر، فتثاقلوا عنه، واحتجوا عليه، ودافعوه عن الخروج معه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} الآية.
وقال تعالى فيهم وقد كان لهم في الأسرى من الرأي: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
فأخبر سبحانه بالنص الذي لا يحتمل التأويل أنهم أرادوا الدنيا دون الآخرة، وآثروا العاجلة على الآجلة، وتعمدوا من العصيان ما لولا سابق علم الله وكتابه، لعجل لهم العقاب.
ومن بعدها ذكر باقي حروب النبي ومخالفات الصحابة له في حياته ومماته حتى انتهى للنتيجة:
وجعل لهم في الصدقة سهما منصوصا، وفي الغنائم جزءا مفروضا، وكان من عددناه، وتلونا فيه القرآن، وروينا في أحواله الأخبار، قد كانوا من جملة الصحابة، وممن شملهم اسم الصحبة، ويتحقق إلى الاعتزاء إلى النبي صلى الله عليه وآله على طبقاتهم في الخطأ والعمد والضلال والنفاق بحسب ما شرحناه، فهل يتعلق عاقل بعد هذا بذكر الصحبة، ومشاهدة النبي صلى الله عليه وآله في القطع على فعل الصواب، وهل يوجب بذلك العصمة والتأييد، إلا بأنه مخذول مصدود عن البيان؟!.
وهي لا تختلف عمّا أورده بداية من كلام:
مع أنا نقول لهذا السائل المتعلق بالأخبار الشواذ المتناقضة ما قدمنا حكايته، وأثبتنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذين توهمت أنهم لا يقارفون الذنوب، ولا يكتسبون السيئات، هم الذين حصروا عثمان ابن عفان، وشهدوا عليه بالردة عن الإسلام، وخلعوه عن إمامة الأنام، وسفكوا دمه على استحلال، وهم الذين نكثوا بيعة أميرالمؤمنين عليه السلام بعد العهود والإيمان، وحاربوه بالبصرة، وسفكوا دماء أهل الإسلام، وهم القاسطون بالشام، ومنهم رؤساء المارقة عن الدين والإيمان، ومن قبل منع جمهورهم الزكاة حتى غزاهم إمام عدل عندكم، وسبي ذراريهم، وحكم عليهم بالردة والكفر والضلال.
فإن زعمت أنهم فيما قصصناه من أمرهم على الصواب، فكفاك خزيا بهذا المقال، وإن حكمت عليهم أو على بعضهم بالخطأ وارتكاب الآثام بطلت أحاديثك، ونقضت ما بينته من الاعتلال.
واصرار صاحب الموضوع هنا والتدليس على الشيخ المفيد بما لم يقله في اصحاب بدر، حقيقته تعود الى رأي المفيد بالشيخين، لنقرأ:
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 65، 69:
فصل:
فإن قال قائل:
لسنا ندفع أنه قد كان في وقت رسول الله صلى الله عليه وآله طوائف من أهل النفاق يستترون بالإسلام، وأن منهم من كان أمره مطويا عن النبي صلى الله عليه وآله، منهم من فضحه الوحي وعرفه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله، ولا ندفع أيضا أنه قد وقع من جماعة من الصحابة الأخيار ذلك سهوا عن الصواب، وخطأ في الهزيمة من الذي فرض عليهم مصابرته في الجهاد، فإن الله تعالى قد عفا عنهم بما أنزله في ذلك من القرآن. لكنا ندفعكم عن تخطئة أهل السقيفة، ومن اتبعهم من أهل السوابق والفضائل، ومن قطع له رسول الله صلى الله عليه وآله بالسلامة، وحكم له بالصواب، وأخبر عنه أنه من أهل الجنان، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليه السلام، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف الزهري وأبي عبيدة بن الجراح، الذين قال النبي صلى الله عليه وآله فيهم: "عشرة من أصحابي في الجنة" على ما جاء به الثابت في الأخبار، ومن قاربهم في الفضائل، وماثلهم في استحقاق الثواب، فيجب أن يكون الكلام في هؤلاء القوم على الخصوص، دون العموم في الأتباع والأصحاب.
قيل لهم:
لو كان سؤالكم فيما سلف عن خاصة من عممتموه على الإطلاق، لصدر جوابنا عنه بحسب ذلك على التمييز والإفراد، لكنكم تعلقتم بالاسم الشامل، فاغتررتم باستحقاق التسمية بالصحبة والاتباع على الإطلاق، فأوضحنا لكم عن غلطكم فيما ظننتموه منه بما لا يستطاع دفعه على الوجوه كلها والأسباب.
وإذا كنتم الآن قد رغبتم عن ذلك السؤال، واعتمدتم في المسألة عمن ذكرتموه على الخصوص دون كافة الأصحاب، فقد سقطت أعظم أصولكم في الكلام، وخرجت الصحبة والاتباع والمشاهدة وسماع الوحي والقرآن، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق والجهاد من إيجاب الرحمة والرضوان، وسقط الاحتجاج في الجملة، بالعصمة من كبائر الآثام والردة عن الإسلام بذلك، وبما رويتموه عن النبي صلى الله عليه وآله من الأخبار، ولم يبق لكم فيمن تتولونه وتدينون بإمامته إلا الظن والعصبية للرجال، والتقليد في الاعتقاد، والاعتماد على ما يجري مجرى الأسمار والخرافات، وما لا يثبت على السير والامتحان ، وسنقفكم على حقيقة ذلك فيما نورده من الكلام، إن شاء الله تعالى.
فصل:
وعلى أن الذي تلوناه في باب الأسرى، وإخبار الله تعالى عن إرادة المشير به لعرض الدنيا، وحكمه عليه باستحقاق تعجيل العقاب، لولا ما رفع عن أمة رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك، وأخره للمستحقين منهم إلى يوم المآب، لخصّ أبا بكر ومن شاركه في نيته وإرادته فيه، لأنه هو المشير في الأسرى بما أشار على الإجماع من الأمة والاتفاق، فما عصمته السوابق والفضائل على ما ادعيتموه له من الأخبار بعاقبته، والقطع له بالجنان، حسبما اختلفتموه من الغلط في دين الله عزوجل، والتعمد لمعصية الله، وإيثار عاجل الدنيا على ثواب الله تعالى، حتى وقع من ذلك ما أبان الله به عن سريرته، وأخبر لأجله عن استحقاقه لعقابه، وهو وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح في جملة من انهزم يوم أحد، وتوجه إليهم الوعيد من الله عزوجل، ولحقهم التوبيخ والتعنيف على ما اكتسبوه بذلك من الآثام في قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ} الآية.
وكذلك كانت حاله يوم حنين، بلا اختلاف بين نقلة الآثار، ولم يثبت أحد منهم مع النبي صلى الله عليه وآله، وكان أبو بكر هو الذي أعجبته في ذلك اليوم كثرة الناس، فقال: لم نغلب اليوم من قلة.
ثم كان أول المنهزمين، ومن ولى من القوم الدبر، فقال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} فاختص من التوبيخ به لمقاله بما لم يتوجه إلى غيره، وشارك الباقين في الذم على نقض العهد والميثاق.
وقد كان منه ومن صاحبه يوم خيبر ما لا يختلف فيه من أهل العلم اثنان، وتلك أول حرب حضرها المسلمون بعد بيعة الرضوان، فلم يفيا لله تعالى بالعقد مع قرب العهد، وردا راية رسول الله صلى الله عليه وآله على أقبح ما يكون من الانهزام، حتى وصفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بالفرار، وأخرجهما من محبة الله عزوجل، ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله بفحوى مقاله لأميرالمؤمنين عليه السلام، أو ما يدل عليه الخطاب حيث يقول: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه" فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام. هذا وقد دخل القوم كافة سوى أميرالمؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 193، 200:
مسألة أخرى:
فإن قالوا:
إن الأمة مجمعة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله خص أبا بكر وعمر يوم بدر بالكون معه في العريش، وصانهما عن البذل في الحرب، وأشفق على حياتهما عن ضرب السيوف، وفزع إليهما في الرأي والتدبير، وهذا أمر أبين فضلا وأجل منقبة، فقولوا في ذلك ما عندكم في معناه.
جواب:
قيل لهم:
ما أراكم تعتمدون في الفضائل إلا على الرذائل، ولا تصلون المناقب إلا بذكر المثالب، وذلك دليل خذلانكم وخزيكم في الدين وضلالكم. أما كون أبي بكر وعمر مع رسول صلى الله عليه وآله في العريش ببدر فلسنا ننكره، لكنه لغير ما ظننتموه، والأمر فيه أوضح من أن يلتبس بما توهمتموه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما علم من جبنهما عن الحروب، وخوفهما من البراز للحتوف، وجزعهما من لقاء الأبطال، وضعف بصيرتهما، وعدم ثباتهما في القتال بما أوجب في الحكمة والدين والتدبير، حبسهما في ذلك المكان، ومنعهما من التعرض إلى القتال، والاحتياط عليهما، لأن لا يوقعا في تدبيره الفساد. ولو علم صلى الله عليه وآله منهما قوة في الجهاد، وبصيرة في حرب أهل العناد، ونية في الإصلاح والسداد، لما حال بينهما وبين اكتساب الثواب، ولا منعهما من التعرض لنيل المنازل العالية بجهاد الأعداء، ولا اقتصر بهما على منازل القاعدين، ولا أدخلهما في حكم المفضولين، بما نطق به الذكر الحكيم حيث يقول سبحانه: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.
ويؤكد ذلك أن الله تعالى أخبر عباده في كتابه بأنه: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فلا يخلو أن يكونا في جملة المؤمنين الذين نعتهم الله وأخبر عنهم بما ضمنه القرآن، أو أن يكونوا من غيرهم بخلاف صفاتهم التي جاء بها التنزيل، فلو كانوا من جملة المؤمنين لما منعهم رسول الله صلى الله عليه وآله من الوفاء بشرط الله عليهم في القتال، ولا حال بينهم وبين التوصل بالجهاد إلى ما وعد الله عليه أهل الإيمان من عظيم الثواب، في محل النعيم والأجر الكبير، الذي من ظفر به كان من الفائزين، لأنه صلى الله عليه وآله إنما بعث بالحث على أعمال الخيرات، والاجتهاد في القرب والطاعات، والترغيب في بذل النفوس في جهاد الأعداء، وإقامة المفترضات.
ولما وجدناه قد منع هذين الرجلين من الجهاد، وحبسهما عما ندب إليه خيار العباد، دل على أنهما بخلاف صفات من اشترى الله تعالى نفسه بالجنة من أهل الإيمان، وهذا واضح لذوي العقول والأذهان. ويزيد ذلك بيانا انهزامهما مع المنهزمين في يوم أحد، وفرارهما من مرحب يوم خيبر، وكونهما من جملة المولين الأدبار في يوم الخندق، وأنهما لم يثبتا لقرن قط، ولا بارزا بطلا، ولا أراقا في نصرة الإسلام دما، ولا احتملا في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله ألما، وكل ذلك يؤكد ما ذكرناه في معناه، ويزيل عن ذوي الاعتبار الشبهات فيما ذكره أهل الضلالات.
وأما قولهم:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله صانهما عن البذل في الحرب، وأشفق عليهما من ضرب السيف، فهو أوهن كلام وأضعفه، وذلك أنه صلى الله عليه وآله عرض في ذلك اليوم عمه حمزة أسد الله وأسد رسوله للحرب، وبذل إليها أخاه وابن عمه وصهره وأحب الخلق إليه أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام، وابن عمه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رحمة الله عليه، وأحباءه من الأخيار، وخلصاءه من أهل الإيمان.
فكان عليه السلام يقدم كل من عظمت منزلته عنده للجهاد، معرضا له بذلك إلى أجل منازل الثواب، ويرى أن تأخره عن ذلك حط له عن شيء من المقام، إلا أن يكون بصفة من ذكرناه من المرتابين في الإيمان والشاكين في نعيم الجنان. ولم يك عليه السلام من أبناء الدنيا والداعين إليها، وإلى التمسك بأعمال أهلها والترغيب عن حطامها، فيتصور بما ذكره الجاهلون من الإشفاق على أحبته من الشهادة، والمنع لهم ما يعقب لهم من الراحة ويحصل به الفضيلة، ولو كان بهذه الصفة لخرج عن النبوة ولحق بأهل الكبر والجبرية، وحاشاه صلى الله عليه وآله من ذلك.
فصل:
على أنه يقال لهم:
لو كان الأمر على ما ظننتموه في منع الرجلين من الجهاد كان سببه المحبة والإشفاق، لأشفق عليهما من ذلك في خيبر، ولم يعرضهما له حتى افتضحا بالهزيمة بين المسلمين، وأبان عليه السلام ذلك لأمته أجمعين عن حالهما في الظاهر، وما كانا عليه في السر والباطن، وسماهما فرارين، وأخرجهما عن محبة الله تعالى حيث يقول عند فرارهما: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه". وقد بينا ما يقتضيه فيهما من فحوى هذا الكلام فيما تقدم، ولا حاجة لنا إلى تكراره.
فصل:
وأما قولهم:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله إنما حبسهما عن القتال لحاجة منه إلى رأيهما في التدبير. فإنه نظير ما سلف من جهلهم، بل أفحش منه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله كان معصوما وكانا بالاتفاق غير معصومين، وكان صلى الله عليه وآله مؤيدا بالملائكة ولم يكونا مؤيدين.
وقد ثبت أن العاقل لا يستمد الرأي إلا ممن يعتقد فضله عليه منه، ومتى استمد ممن يساويه أو يقاربه في معناه فلجواز عدوله عن صوابه بالغلط عن طريقه، وما يلحقه من الآفات في النظر، ويحول بينه وبين الحق فيه من الشبهات.
وإذا فسد القول بفضل أبي بكر وعمر على رسول الله صلى الله عليه وآله في الرأي، بل في كل شيء من الأشياء، بطل مساواتهما له ومقاربتهما إياه مع ما يبطل من جواز الغلط عليه، ولحوق الآفات به لعصمته صلى الله عليه وآله، استحال مقال من زعم أنه كان محتاجا إليهما في الرأي.
فصل:
على أنه لو كان ممن يجوز عليه الخطأ في الدين والغلط في التدبير، لكان ما يقع منه مستدركا بجبرئيل وميكائيل وأمثالهما من الملائكة عليهم السلام، ولم يكله الله تعالى في شيء منه إلى رعيته، ولا أحوجه فيه إلى أحد من أمته، لما تقتضيه الحكمة في تولى حراسته وتهدئته، وغناه بذلك عمن أحوجه الله سبحانه إليه من جميع بريته. ولو جاز أن يلجئه الله تعالى إلى أحد من أمته في الرأي، لجاز أن يضطر إليه في جميع معرفة الأحكام، ولجعله تابعا لهم فيما يدركونه بالاجتهاد والقياس، وهذا ما لا يذهب إليه مسلم، فثبت ما بيناه من الغرض في حبس الرجلين عن القتال، فإنه كما شرحناه، وبينا وجهه وأوضحناه، دون ما ظنه الجاهلون، والحمد لله.
فصل:
ثم يقال لهم:
خبرونا عن حبس رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر وعمر عن القتال في يوم بدر لحاجة إلى مشورتهما عليه، وتدبيرهما الأمر معه، أقلتم ذلك ظنا أو حدسا، أم قلتموه واعتمدتم فيه على اليقين؟ فإن زعموا أنهم قالوا ذلك بالظن والحدس والترجيم فكفاهم بذلك خزيا في مقالهم وشناعة وقبحا، وإن ادعوا العلم به والحجة فيه طولبوا بوجه البرهان عليه، وهل ذلك من وجه العقل أدركوه أم وجوه السمع والتوقيف، فلا يجدون شيئا يتعلقون به من الوجهين جميعا.
ثم يقال لهم: أما العريش فكان من رأي الأنصار بلا اختلاف، ولم يكن لأبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين مقال، وأما المشورة فلم تكن فيه، وإنما أشار في الأسرى بعد القتال، واختلفا عند المشورة في الرأي. وعدل رسول الله صلى الله عليه وآله إذ ذاك عن رأي عمر بن الخطاب، لمعرفته أنه صدر عن تراث بينه وبين القوم، وقصد الشناعة على النبي صلى الله عليه وآله، وشفاء غيظ بني عبد مناف، ولم يرد بما قال وجه الله تعالى، وصار إلى رأي أبي بكر لما أراد الله تعالى من المحنة لذلك. فنزل القرآن بتخطئة صاحبكم، وجاء الخبر عن علام الغيوب بخيانته في الدين، وركونه إلى الدنيا، وإرادته لحطامها، وضعف بصيرته في الجهاد، وأظهر منه ما كان يخفيه، وكشف عن ضميره، وفضحه الوحي بما ورد فيه، حيث يقول الله سبحانه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله حينما استشارهما لم يكن لفقر منه في الرأي والتدبير إليهما، وإنما كان لاستبراء أحوالهما والإظهار لباطنهما في النصيحة له أو ضدها، كما أخبره الله سبحانه بتعريفه ذلك عند نطقهما في الأمور وكلامهما وغيرهما من أضرابهما، فقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما ادعوه في العريش، وكانت المشورة بعده من أوضح البرهان على نقص الرجلين دون فضلهما على ما قدمناه.
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد ص 34، 35:
فصل:
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه وقد سأله بعض أصحابه فقال له:
إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله صلى الله عليه وآله في العريش كان أفضل من جهاد أمير المؤمنين عليه السلام بالسيف لأنهما كانا مع النبي صلى الله عليه وآله في مستقره يدبران الأمر معه ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه فبأي شيء يدفع هذا؟.
فقال له الشيخ أدام الله عزه:
سبيل هذا القول أن يعكس وهذه القضية أن تقلب وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لو علم أنهما لو كانا في جملة المجاهدين بأنفسهما يبارزان الأقران ويقتلان الأبطال ويحصل لهما جهاد يستحقان به الثواب، لما حال بينهما وبين هذه المنزلة التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود على كل حال بنص الكتاب حيث يقول الله سبحانه: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}. فلما رأينا الرسول صلى الله عليه وآله قد منعهما هذه الفضيلة وأجلسهما معه، علمنا أن ذلك لعلمه بأنهما لو تعرضا للقتال أو عرضا له لأفسدا، إما بأن ينهزما، أو يوليا الدبر كما صنعا في يوم أحد وخيبر وحنين، فكان يكون في ذلك عظيم الضرر على المسلمين ولا يؤمن وقوع الوهن فيهم بهزيمة شيخين من جملتهم، أو كانا لفرط ما يلحقهما من الخوف والجزع يصيران إلى أهل الشرك مستأمنين أو غير ذلك من الفساد الذي يعلمه الله تعالى، ولعله لطف للأمة بان أمر نبيه صلى الله عليه وآله بحبسهما عن القتال، فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما، فقد ثبت أنه كان كاملا وأنهما كانا ناقصين عن كماله، وكان معصوما وكانا غير معصومين، وكان مؤيدا بالملائكة وكانا غير مؤيدين، وكان يوحى إليه وينزل القران عليه ولم يكونا كذلك، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لولا عمى القلوب وضعف الرأي وقلة الدين.
والذي يكشف لك عن صحة ما ذكرناه آنفا في وجه إجلاسهما معه في العريش، قول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، فلا يخلو الرجلان من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين، فإن كانا مؤمنين، فقد اشترى الله أنفسهما منهما بالجنة، على شرط القتال المؤدي إلى القتل منهما لغيرهما أو قتل غيرهما لهما، ولو كانا كذلك لما حال النبي صلى الله عليه وآله بينهما وبين الوفاء بشرط الله عليهما من القتل، وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير الصفة التي يعتقدها فيهما الجاهلون، فقد وضح بما بيناه أن العريش وبال عليهما ودليل على نقصهما وأنه بالضد مما توهموه لهما والمنة لله.
تعليق