عقيدتنا نحن الإمامية في من سيدخل النار , من سيدخل الجنة ومن سيخرج من النار .
أولاً لا بأس بمقدمة بسيطة في الجنة و النار
قال المفيد رحمه الله في تصحيح الاعتقادات : الجنة، دار النعيم لا يلحق من دخلها نصب ولا يلحقهم فيها لغوب، وجعلها الله سبحانه دارا لمن عرفه وعبده، [ونعيمها دائم] لا انقطاع له، والساكنون فيها على أضرب:
فمنهم: من أخلص لله تعالى، فذلك الذي يدخلها على أمان من عذاب الله تعالى.
ومنهم: من خلط عمله الأصلح بأعماله السيئة كأن يسوف منها التوبة، فاخترمته المنية قبل ذلك، فلحقه خوف من العقاب في عاجله وآجله، أو في عاجله دون آجله، ثم سكن الجنة بعد [عفو الله أو عقابه].
ومنهم: من يتفضل عليه بغير عمل سلف منه في الدنيا، وهم الولدان المخلدون الذين جعل الله تعالى تصرفهم لحوائج أهل الجنة ثوابا للعاملين، وليس في تصرفهم مشاق عليهم ولا كلفة، لأنهم مطبوعون إذ ذاك على المسار بتصرفهم في حوائج المؤمنين.
وثواب أهل الجنة الالتذاذ [بالمآكل والمشارب] والمناظر والمناكح وما تدركه حواسهم مما يطبعون على الميل إليه، ويدركون مرادهم بالظفر به وليس في الجنة من البشر من يلتذ بغير مأكل ومشرب وما تدركه الحواس من الملذوذات.
وقول من يزعم: أن في الجنة بشرا يلتذ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل والشرب، قول شاذ عن دين الإسلام، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أن المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينكحون.
وقد أكذب الله سبحانه هذا القول في كتابه بما رغب العاملين فيه من الأكل والشرب والنكاح، فقال تعالى: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ} الآية، وقال تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} الآية، وقال تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} وقال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} وقال سبحانه: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} وقال سبحانه: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} وقال سبحانه: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} الآية، وقال سبحانه: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ}.
فكيف استجاز من أثبت في الجنة طائفة من البشر لا يأكلون ولا يشربون ويتنعمون بما به الخلق من الأعمال يتألمون، وكتاب الله تعالى شاهد بضد ذلك والإجماع على خلافه، لولا أن قلد في ذلك من لا يجوز تقليده أو عمل على حديث موضوع؟!
وأما النار، فهي [دار من] جهل الله سبحانه، وقد يدخلها بعض من عرفه [بمعصية الله] تعالى، غير أنه لا يخلد فيها، بل يخرج منها إلى النعيم المقيم، وليس يخلد فيها إلا الكافرون.
وقال تعالى: (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} يريد [بالصلي هاهنا] الخلود فيها، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} الآيتان. وكل آية تتضمن ذكر الخلود في النار فإنما هي في الكفار دون أهل المعرفة بالله تعالى بدلائل العقول والكتاب المسطور والخبر الظاهر المشهور والاجماع والرأي السابق لأهل البدع من أصحاب الوعيد.
===
قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله (نور البراهين ج1 ص50) تعليقاً على الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه :من مات ولا يشرك بالله شيئاً أحسن أو أساء دخل الجنة .
اعلم أن الآيات و الأخبار و أقوال علماء الإسلام قد اختلفت ظاهراً في من يستحق دخول النار ,وفي من يخلد فيها , وفي من يدخلها ثم يخرج منها .
وحيث أنها من الأصول العامّة البلوى , فلا بأس بإطلاق عنان القلم في تحقيق نبذة منها بنقل كلام الفريقين , ثم ترجيح الراجح منهما .
قال العلامة طاب ثراء في شرحه على التجريد : أجمع المسلمين كافة أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع , واختلفوا في أصحاب الكبائر من المسلمين , فالوعيديّة على أنّه كذلك , وذهبت الإمامية و طائفة كثيرة من المعتزلة و الأشاعرة إلى أن عذابه منقطع .
والحقّ أنّ عقابهم منقطع لوجهين :
1-أنّه يستحق الثواب بإيمانه , لقوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ والإيمان أعظم أفعال الخير ,فإذا استحق العقاب بالمعصية , فإما أن يقدّم الثواب على العقاب , وهو باطل بالإجماع لأن الثواب المستحقّ بالإيمان دائم على ما تقدّم , أو بالعكس , وهو المراد , والجمع محال .
2-يلزم أن يكون من عبد الله تعالى مدّة عمره بأنواع القربات إليه , ثم عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه مخلّداً في النار , كمن أشرك بالله مدّة عمره , وذلك محال لقبحه عند العقلاء . (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص414 – 415 )
ثم قال : المحارب لِعَلِيٍّ عليه السلام كافر لقول النبي صل الله عليه و آله : حربك يا علي حربي .
ولا شكّ في كفر من حارب النبيّ صل الله عليه و آله , وأما مخالفوه في الإمامة فقد اختلف قول علمائنا فيهم , فمنهم من حكم بكفرهم لأنهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة وهو النصّ الجليّ الدالّ على إمامته مع تواتره , وذهب آخرون أنهم فسقة (يعني مسلمين ظاهراً) وهو الأقوى .
ثم اختلف هؤلاء –من حكم بإسلامهم- على أقوال :
أ : أنهم مخلّدون في النار لعدم استحقاقهم الجنّة .
ب : أنهم يخرجون من النار إلى الجنّة .
ج : أنهم يخرجون من النار لعدم الكفر الموجب للخلود , ولا يدخلون الجنّة لعدم الإيمان المقتضي لاستحقاق الثواب . (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص398)
وقال أيضاً في شرح الياقوت : أما دافعوا النصّ (يعني أن الرسول استخلف الإمام علي ) فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى تكفيرهم , ومن أصحابنا من يحكم بفسقهم خاصّة , ثم اختلف أصحابنا في حكمهم في الآخرة , فالأكثرون قالوا بتخليدهم وفيهم من قال بعدم الخلود : وذلك إما بأن بنقلوا إلى الجنّة وهو قول شاذ عنده , أو لا إليهما – أي لا الجنة ولا النار – واستحسنه المصنّف , هذا كلام الخاصّة .
وأما العامّة , فقال شارح المقاصد : اختلف أهل الإسلام في من ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة , فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب , بل كلاهما في مشيئة الله تعالى ,لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنه لا يخلّد في النار بل يخرج البتّة لا بطريق الوجوب على الله تعالى بل بمقتضى ما سبق من الوعد وثبت بالدليل , كتخليد أهل الجنّة , وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدائم من غير عفو ولا إخراج من النار .
وما وقع في كلام البعض أن صاحب الكبيرة عند المعتزلة ليس في الجنّة ولا في النار , فغلط نشأ من قولهم أن له المنزلة بين المنزلتين أي : حاله غير الإيمان و الكفر .
وأما ما ذهب إليه مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة من أنّ عصاة المؤمنين لا يعذّبون أصلاً وإنما النار للكفّار , تمسّكاً بالآيات الدالّة على اختصاص العذاب بالكفار مثل إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ و إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ فجوابه تخصيص ذلك العذاب بما يكون على سبيل الخلود .
وأما تمسّكهم بمثل قوله عليه السلام : من قال لا إله إلا الله دخل الجنّة وإن زنا وإن سرق , فضعيف لأنه ينفي الخلود لا الدخول , لنا وجوه :
الأوّل وهو العمدة : الآيات و الأحاديث الدالّة على أن المؤمنين يدخلون الجنّة البتّة , وليس ذلك قبل دخول النار وفاقاً , فتعيّن أن يكون بعده وهو مسألة انقطاع العذاب , أو بدونه وهو مسألة العفو التام ,قال تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وقال النبي صل الله عليه و آله : من قال لا إله إلا الله دخل الجنّة , وقال : من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة وإن زنا و إن سرق .
الثاني : النصوص المُشْعِرَة بالخروج من النار كقوله تعالى النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ - فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وكقول النبي صل الله عليه و آله : يخرج من النار قوم بعدما امتحشوا –اخترقوا وصاروا فحماً و حمماً- فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السيل.
وخبر الواحد وإن لم يكن حجّة في الأصول لكن يفيد التأييد والتأكيد بتعارض النصوص .
الثالث : وهو على قاعدة الاعتزال , أنّ من واظب على الإيمان و العمل الصالح مئة سنة , وصدر عنه في أثناء ذلك أو بعده جريمة واحدة كشرب جرعة من الخمر , فلا يحسن من الحكمة أن يعذّبه على ذلك أبد الآباد , ولو لم يكن هذا ظالماً فلا ظلم , أو لم يستحقّ بهذا ذمّاً فلا ذم .
الرابع : أن المعصية متناهية زماناً , وهو ظاهر و قدراً لما يوجد من معصية أشد منها , فجزاؤها يجب أن يكون متناهياً لتحقيق قاعدة العدل , بخلاف الكفر فإنه لا يتناهى قدراً وإن تناهى زماناً .
واحتجّت المعتزلة بوجوه :
الأوّل : الآيات الدالّة على الخلود المتناولة للكافر و غيره , كقوله تعالى " وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا – وقوله تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا – وقوله وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا – ومثل هذا مسوّق للتأييد و نفي الخروج , وقوله " وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جحِيم (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ اللدِّين (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ (16) " وعدم الغيبة عن النار خلود فيها , وقوله " وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا " وليس المراد تعدي جميع الحدود بارتكاب الكبائر كلها تركاً و اتياناً ,فإنه محال لما بين البعض من التضاد , كاليهودية و النصرانية و المجوسية , فحمل على مورد الآية من حدود المواريث , وقوله " بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " .
والجواب –يعني عن شبهات المعتزلة- : بعد تسليم كون الصيغ للعموم أن العموم غير مراد في الآية :
الأولى :للقطع بخروج التائب و أصحاب الصغائر , وصاحب الكبيرة الغير المنصوصة إذا أتى بعدها بطاعات ثوابها على عقوباتها , فليكن مرتكب الكبيرة من المؤمنين أيضاً خارجاً ممّا سبق من الآيات و الأدلّة .
وبالجملة : فالعام المخرج منه البعض لا يفيد القطع وفاقاً , ولو سلّم فلا نسلّم تأييد الاستحقاق , بل هو مغيّاً بغاية رؤية الوعيد لقوله بعده " حتى إذا رأوا ما يوعدون " ولو سلّم فغايته الدلالة على استحقاق العذاب المؤبّد لا على الوقوع كما هو المتنازع لجواز الخروج بالعفو .
وعن الثانية : بأن معنى متعمّداً مستحلاً فعله على ما ذكره ابن العبّاس , إذ التعمّد على الحقيقة إنما يكون من المستحل , أو بأن التعليق بالوصف يشعر بالعليّة فتختصّ بمن قتل مؤمناً لإيمانه , أو بأن الخلود وإن كان ظاهراً في الدوام , فالمراد ها هنا المكث الطويل جمعاً بين الأدلّة .
وعن الثالثة : بأنها في حقّ الكافرين المنكرين للحشر بقرينة قوله " ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون " مع ما في دلالتها على الحلود من المناقشة الظاهرة , لجواز أن يخرجوا عند عدم إرادتهم الخروج باليأس أو الذهول أو نحو ذلك .
وعن الرابعة : بعد تسليم إفادتها النفي عن كلّ فرد ودلالتها على دوام الغيبة أنها تختصّ بالكفّار , جمعاً بين الأدلّة .
وكذا الخامسة و السادسة حملاً على حدود الإسلام ,ولإحاطة الخطيئة على غلبتها , بحيث لا ينفي معها الإيمان , هذا مع ما في الخلود من الاحتمال . ( شرح المقاصد ج5 ص131-140)
ثمّ قال في بحث آخر : لا خلاف في أن من آمن بعد الكفر و المعاصي , فهو من أهل الجنة بمنزلة من لا معصية له , ومن كفر –نعوذ بالله- بعد الإيمان و العمل الصالح , فهو من أهل النار بمنزلة من لا حسنة له .
وإنما الكلام في من آمن و عمل صالحاً و آخر سيئاً و استمر على الطاعات و الكبائر , كما يشاهد من الناس , فعندنا مآله إلى الجنّة ولو بعد النار , واستحقاقه للثواب و العقاب بمقتضى الوعد و الوعيد ثابت من غير حبوط .
والمشهور من مذهب المعتزلة أنّه من أهل الخلود في النار إذا مات قبل التوبة , فأشكل الأمر عليهم في إيمانه و طاعاته وما يثبت من استحقاقاته أين طارت ؟ وكيف زالت ؟ فقالوا بحبوط الطاعات ومالوا إلى أنّ السيئات يذهبن الحسنات حتى ذهب الجمهور منهم إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات , وفساده ظاهر :
أما سمعاً : فللنصوص الدالّة على أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً و عمل صالحاً .
وأما عقلاً : فللقطع بأنه لا يحسن من الحكيم الكريم ابطال ثواب إيمان العبد و مواظبته على الطاعات طول العمر بتناوله لقمة من الربا أو جرعة من الخمر , ثم أطنب في الكلام . ( شرح المقاصد ج5 ص142 )
هذا محصّل كلام المحقّقين من المتكلّمين من طرف الخاصّة و العامّة .
والذي يقتضيه الجمع بين الآيات و الأخبار أن الكفّار مخلّدون في النار , والمراد بهم من أنكر شيئاً من ضروريات دين الإسلام كتحريم الزنا و الخمر و الربا , واستحلال ترك الصلاة و الزكاة ونحو ذلك , لا من أنكر مجمعاً عليه من غير أن يصل إلى حدّ الضرورة , فإن بعض العلماء وإن جزم بكفره إلا أن اتّباعه عليه لا يخلو من اشكال : لأن طائفة من المحدّثين تكلّموا على مثل ذلك الإجماع وعلى حجيّته وقالوا إن منكر أصل ذلك الإجماع لا كافر ولا فاسق , فكيف يكفّر من أنكر الحكم المجمع عليه المدلول عليه بذلك الإجماع ؟! وبالجملة فالكافر بما ذكرناه مخلّد في النار لا يخفّف عنه العذاب بل يضاعف عليه و يخلّد فيه مهاناً .
وما يحكى عن بعض طوائف المسلمين و شذاذ من الصوفيّة بأنه لا خلود في النار لأحد, بل الواجب في العدل بزعمهم أن يعذّب الكفّار على قدر استحقاق عذابهم , ثم يخرجون من النار و تبقى خالية , وتأوّلوا على هذا حديثاً رووه عنه عليه السلام أنه قال : سيأتي على جهنّم زمان تصطفق أبوابها من خلوّها .
وحملوا عليه ما روي أيضاً من قوله عليه السلام : سيأتي على جهنّم زمان ينبت في قعرها الجرجير , مصادم للكتاب و السنّة و إجماع المسلمين فلا يعبأ به والحديث الثاني غير مناف للمشهور , والأوّل لم يثبت .
نعم ذهب شيخنا المعاصر –يقصد المجلسي الثاني- إلى أنّ المستضعفين من الكفّار كنواقص العقول ومن لم تقم عليه الحجّة ولم يقصّر في الفحص و النظر وكأغلب النساء منهم , ممّن يرجون لأمر الله : إما أن يعذّبهم وإما أن يتوب عليهم , وهذا وإن كان خلاف الإجماع إلا أن في الروايات اشعاراً به و قواعد أهل العدل لا يأباه .
وأمّا طوائف أهل الخلاف على هذه الفرقة الإمامية , فالنصوص متظافرة في الدلالة على أنّهم مخلّدون في النار , وأن اقرارهم بالشهادتين لا يجديهم نفعاً إلا في حقن دمائهم و أموالهم و اجراء أحكام الإسلام عليهم .
روى عن صل الله عليه و آله أنه قال : ولاية أعداء علي و مخالفة علي سيّئة لا ينفع معها شيء إلا ما ينفعهم بطاعاتهم في الدنيا بالنعم و الصحّة و السعة , فيردوا الآخرة ولا يكون لهم إلا دائم العذاب , ثم قال : إنّ من جحد ولاية علي عليه السلام لا يرى بعينه الجنّة أبداً إلا ما يراه ممّا يعرف به أنّه لو كان يواليه لكان ذلك محلّه و مأواه , فيزداد حسرات و ندامات (بحار الأنوار ج8 ص353 )
وروى المحقّق الحلي في آخر السرائر مسنداً إلى محمّد بن عيسى قال : كتبت إليه أسأله عن الناصب هل أحتاج في إمتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت و الطاغوت و اعتقاد إمامتهما ؟ فرج ع الجواب من كان على هذا فهو ناصب .
وروى المصنّف –الصدوق- طاب ثراه في كتاب العلل : أنّ الناصب من كره مذهب الإمامية , ولا شكّ أنّ جلّهم بل كلّهم ناصب بالمعنيين –ملحوطة هذه مسألة فقهية مختلف فيها بين المراجع فليرجع كل شخص لمرجعه- , وتواترت الأخبار و انعقد الإجماع على أنّ الناصب كافر في أحكام الدنيا و الآخرة , وصرّحت الأخبار في حصر المسلم في المؤمن و الناصبي و الضال , وفسّرت الضالّ بمن لم يعرف مذهب الإماميّة ولم ينصب العداوة له إلى غير ذلك من الأخبار .
نعم ذهب طائفة منّا إلى أن المستضعفين منهم , وهم غير المعاندين ومثل البله و النساء ومن لم تتم علي الحجّة يكونون ممّن يرجى لهم النجاة لكن لا على سبيل القطع .
بقي الكلام في أنّ أكثر الأخبار التي نقلها المصنّف طاب ثراه في هذا الباب دالّة بظاهرها على أن أهل كلمة التوحيد ومن لا يشرك بالله شيئاً يدخلون الجنّة , وطوائف المخالفين ممّن يقول هذه الكلمة ولا يشرك بالله فكيف الجواب ؟
فنقول : في التفصّي عنه وجوهاً :
الأوّل : أن المراد من الموحّدين وكلمة التوحيد و عدم الشرك الموجب لدخول الجنّة التوحيد الخالص , كما دلّت عليه الأخبار في هذا الباب و غيره , والتوحيد الخالص الذي يستجمع الشرائط لا يكون إلا بولاية من فرض الله سبحانه طاعتهم , وأوجب على الخلف كافّة اعتقاد إمامتهم , وما لم يكن على هذا المنوال لا يثمر دخول الجنّة قطعاً .
ثانياً :إنا لا نسلّم نفي الشرك عن جماعات المخالفين , بل ورد في الكتاب و السنّة إطلاقه عليهم وبيانه : أن الله سبحانه عيّن و نصّ على خلافة أمير المؤمنين و أمر رسوله بإقامته علماً للناس يوم الغدير , وغيره من الموارد الكثيرة , حتى أن النص يوم الغدير رواه المخالفون كما نقله السيّد الجليل ابن طاووس (الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ص139-153) عنهم ممّا يزيد على خمسمائة حديث , وكان متواتراً عندهم كما هو عندنا الآن , فبادروا إلى انكاره و تأويله , وأقاموا أبا بكر مقامه تشهٍّ منهم , وخلافاً على الله و رسوله , فقد جعلوا أنفسهم شركاء له تعالى في تعيين ذاك الإمام بزعمهم واتّباع أوامره ونواهيه , ولم يرضوا حتّى فضّلوه على أمير المؤمنين عليه السلام وقالوا : إن ترتيب الفضل بين الخلفاء الأربعة دائر على ترتيب خلافتهم , فمن سبق كان هو الأفضل , واختلفوا في تفضيل عثمان عليه فالأكثر على الأفضلية و البعض على المساواة .
وقال القاضي ابن خلّكان ( وفيات الأعيان لابن خلكان ج3 ص355) عند ترجمة علي بن جهم القرشي وكونه منحرفاً عن علي عليه السلام : أنّ محبة علي لا تجتمع مع التسنّن !
وكلامه صريح في بغضهم له عليه السلام ومن بغضه كان كافراً بالإجماع .
قال الصدوق تغمّده الله برحمته في تمام ما حكيناه عنه في المباحثة مع علماء الجمهور في مجلس بعض الملوك –لما قالوا له أنّنا وأنتم على إله واحد و نبي واحد و افترقنا في تعيين الخليفة الأوّل - : ليس الحال على ما تزعمون بل نحن و أنتم في طرف من الخلاف , حتى في الله سبحانه و النبي , وذلك أنّكم تزعمون أن لكم رباً وذلك الرب أرسل رسولاً خليفته بالاستحقاق أبو بكر , ونحن نقول إن ذلك الرب ليس ربّاً لنا وذلك النبي لا نقول بنبوته , بل نقول ربّنا الذي نص على أن خليفة رسوله علي بن أبي طالب عليه السلام فأين الاتفاق ؟
الثالث : أنّهم أخذوا أحكام ربّهم عن أبي حنيفة وهو أخذها عن رأيه وقياسه , فحرّم لهم الحلال و أحلّ لهم الحرام فعبود من حيث لا يشعرون , قال تعالى حاكياً عن أهل الكتاب " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " وقد أطبق المفسّرون و تظافرت الروايات على أنّهم لم يعبدوهم ولو دعوهم إلى العبادة ما أطاعوهم , لكنهم أحلّوا لهم و حرّموا عليهم , وأبو حنيفة كان يقول في مسجد الكوفة : قال عَلِيُّ وأنا أقول ! –يعني خلافاً لقوله-
وقال أيضاً : إذا جاء الحكم من الله فعلى الرأس , وإن كان من النبي فعلى العينين , وإن جاء من الصحابة فهم رجال و نحن رجال , وكان قصده ردّ ماكان يقول به عليه السلام وإلا فهو لا يرد على أبي بكر و عمر و عثمان , ومن أمعن النظر في هذا يجده من أظهر أفراد الشرك الجليّ .
الرابع :أن هذه الروايات الدالّة على أنّ مطلق أهل التوحيد يدخلون الجنّة لو حملت على ظاهرها لكان الكلّ ناجين , لأن النجاة ليس إلا دخول الجنّة , وهذا ينافي ما تواتر عنه صل الله عليه و آله أنه قال : ستفترق أمّتي بعدي ثلاثاً وسبعين فرقة واحدة في الجنّة و الباقون في النار , على اختلاف في نقل ألفاظ الخبر إلا أن المعنى واحد , وبالجملة فالحديث ناصّ على أن الناجية من المسلمين ليس إلا فرقة واحدة وقد زعمت كل فرقة أنها هي الناجية .
وأمّا نحن فالنصوص الواردة من طريقنا عن السادة الأطهار عليهم السلام في تعيين الناجية وأنّها الإمامية الذين هم على طريقة أهل البيت عليهم السلام , متواترة .
منها : ما نقله العلامة الحلّي عن أستاذه نصير الدين قدّس الله روحيهما , قال : سأله عن المذاهب , فقال : بحثنا عنها وعن قول رسول الله صل الله عليه و آله ستفترق أمّتي على ثلاثة و سبعين فرقة , واحدة منها الناجية و الباقي في النار , قد عيّن الفرقة الناجية والهالكة في حديث آخر صحيح متّفق عليه وهو قوله صل الله عليه و آله : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق (راجع إحقاق الحق ج9 ص270-293) فوجدنا الفرقة الناجية هي الفرقة الإمامية : لأنهم باينوا جميع المذاهب , وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد انتهى .
ويعجبني نقل كلام في هذا المقام , وهو أنّ رجلاً من أفضل المعاصرين من علماء الشافعيّة جمع علماء البصرة يوماً فقال لهم : يا أهل السنّة اعلموا أنّ الحديث إذا اشتمل على نقص في المذهب , فإذا تفرّد الإمامية بنقله فلنا أن نمنعه , وإذا تفردنا نحن بروايته كان لهم أيضاً منعه , أما إذا اتّفقنا على نقله و صحّته فكيف الجواب عنه ؟ فقالوا : ما هذا الحديث ؟
فقال : هو قوله صل الله عليه و آله :أهل بيتي كسفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلّف عنها غرق , فأجابه بعضهم : نحن أيضاً ممّن ركب في هذه السفينة ! فقال : إن كان في هذا الركوب نجاة , فالإمامية أشدّ نجاة منّا , فلم يحر القوم جواباً .
وإن شئت زيادة إيضاح للحديث السابق , فاستمع لما يتلى عليك , فنقول : ما نقلناه من لفظ الحديث هو المتّفق عليه من علماء الإسلام , لكنّ الترمذي من العامّة نقله في صحيحه بزيادة هي : قيل من هم ؟ قال الذين هم على ما أنا عليه و أصحابي .
وأما الشيعة فزادت في روايته هكذا : قال افترقت أمّة موسى على أحد و سبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة وهي التي اتّبعت وصيّه يوشع , وافترقت أمّة عيسى على إثنين و سبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة وهي التي اتّبعت وصيّه شمعون ,وستفترق أمّتي على ثلاثة و سبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة وهي التي تتبع وصيّي علياً عليه السلام ( بحار الأنوار ج28)
وهذه الألفاظ على اختلافها ترجع إلى معنى واحد , لأن علياً عليه السلام من الآل و الصحابة , وما هو عليه هو الذي عليه الصحابة المشار إليهم في الحديث .
فالمتّبع له متّبع لما عليه النبي صل الله عليه و آله و أصحابه وهو عليه السلام ممّن ثبت إيمانه وأنه على الحقّ ما تغيّر عنه ولا زلّت قدمه بالاتفاق , بخلاف غيره من الصحابة فإن منهم من كان منافقاً بقي على نفاقه في الآيات و الأخبار , ومنهم من تغيّر عن الحقّ و زلّت قدماه , فاتباعه عليه السلام يقتضي العمل بالحديث على الزيادتين , بخلاف اتباع غيره فإن اتّباعهم إنما ينجي حيث يكونون على ما عليه النبي صل الله عليه و آله , والأحداث التي أحدثوها بعده والآراء التي شعبوها والمذاهب التي أحدثوها والحروب التي أقاموها بينهم , غنيّة عن البيان .
وقوله صل الله عليه و آله فيما رواه الفريقان : اللهم أدر الحقّ مع علي أين دار ( إحقاق الحق ج4 ص441 – ج6 ص290-291 – ج16 ص393-396 ) مؤيّد لما قلناه .
ولا شكّ لأحد أنّ هذا الدين الذي عليه الفرقة الإمامية قد أخذوه من أئمتهم الطاهرين أولاد علي عليه السلام , وهم أخذوه عنه كما يشهد به كتب المسلمين , فهم الفرقة الناجية دون غيرهم .
إذا عرفت هذا فاعلم أنه قال الفاضل الدواني : لا خلاف في عدد الفرق لاخباره صل الله عليه و آله به , وما يتوهم من أنه حمل على أصول المذاهب ففي أقل من هذا العدد , وإن حمل على ما يشمل الفروع فهي أكثر منه , توهّم فاسد لا مستند له : لجواز كون الأصول التي بينها مخالفة مفيدة لهذا العدد , وقد يقال : لعلّهم في وقت من الأوقات بلغوا هذا العدد وإن زادوا و نقصوا في أكثر الأوقات .
ثم قال : قوله "كلّها في النار إلا واحدة " من حيث الاعتقاد , فلا يرد أنّه لو أريد الخلود فيها فهو خلاف الإجماع , فإن المؤمنين لا يخلّدون في النار , وإن أريد مجرّد الدخول فهو مشترك بين الفرق , إذ ما من فرقة إلا و بعضها عصاة , والقول بأن معصية الفرقة الناجية مطلقاً مغفورة بعيد جداً , ولا يبعد أن يكون المراد استقلال مكثهم في النار بالنسبة إلى سائر الفرق ترغيباً في تصحيح الاعتقاد .
وهذا الكلام مردود كما قيل لأنّه فسّره بكونهم في النار من حيث الاعتقاد , وغرضه من ذلك أن المراد العذاب عليه بها في الجملة لا الخلود , معلّلاً بأنه خلاف الإجماع لأن المؤمنين لا يخلّدون .
وفيه أن ذلك من حيث الاعتقاد غير مسلّم , لجواز أن يكون منه ومن العمل معاً لقوله " بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "
وأما نفيه الخلود , فغير مسلّم والإجماع الذي نقله ممنوع , فإن جماعة من العلماء و الإمامية ذهبوا إلى أن غير الطائفة المحقّة كفّار مخلّدون في النار .
وقوله " إن المؤمنين لا يخلّدون " مسلّم لكن الخلاف في المؤمنين , فالشيعة تزعم أن الإيمان إنما يصدق على معتقد الحق من الأصول الخمسة ومنها عندهم إمامة الإثنى عشر , وقوله " إن مجرّد الدخول مشترك " ممنوع , وقوله " إذ ما من فرقة إلا و بعضها عصاة " مسلّم إلا أن قوله و القول بأن معصية الفرقة الناجية مطلقاً مغفورة بعيد لا يخفى ما فيه , لأن ظاهر الخبر يقتضيه , وقوله " لا يبعد أن يكون المراد استقلال مكثهم " خلاف المتبادر من الحديث , ومعنى الحديث أن الفرقة الناجية لا تمسّها النار أبداً , وغيرها في النار إما خلوداً أو مكثاً طويلاً , وفي الخبر عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : ما أجد من شيعتنا يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتى يبتلى ببلية تمحّص بها ذنوبه : إما في مال أو ولد وإما في نفسه , حتى يبقى الله مخبتاً وما له ذنب , وإنّه ليبقى عليه شيء من ذنوبه فيشدّد عليه عند موته فتمحّص ذنوبه (كتاب التمحيص لأبي علي الاسكافي )
والأخبار الواردة بهذا المعنى مستفيضة بل متواترة .
وإن شئت اثباته بطريق الاستدلال , فنقول : روى فخر المحقّقين عن والده العلامة الحلي قدّس الله روحيهما , قال : حكى لي والدي عن أفضل المتأخرين خواجة نصير الملّة و الحق و الدين الطوسي , قال : الفرقة الناجية هي الفرقة الإمامية لأن جميع المذاهب وقفتُ على أصولها و فروعها , فوجدت من عدا الإمامية مشتركين في الأصول المعتبرة في الإيمان , وإن اختلفوا في أشياء يساوي إثباتها و نفيها بالنسبة للإيمان , ثم وجدت أن طائفة الإمامية هم يخالفون الكل في أصولهم , فلو كانت فرقة من عداهم ناجية لكان الكل ناجين فيدلّ على أن الناجي هو الإمامية فقط انتهى .
وبيانه : أن الإمامية قد تفردوا بان دخول الجنة و النجاة لا يكون إلا بعد ولاية آل محمد عليه السلام واعتقاد إمامتهم , وأما باقي الفرق الإسلامية فقد أطبقوا على أن أصل النجاة هو الاقرار بالشهادتين , فهم مطبقون على أصول النجاة وإن اختلفوا في أمور أخرى .
خامساً : ما ورد في الأخبار المستفيضة من أن الله سبحانه يمحو كلمة التوحيد من ألسنة المخالفين وقلوبهم يوم القيامة , حتى لا يحشروا مع الموحّدين , وفي الحديث أنه تعالى يرسل عليهم ريحاً فتمرّ على أفواههم فتنسيهم كلمة التوحيد ,وحينئذٍ فليس هم في الحقيقة من الموحّدين , وبالجملة فالدلائل على هذا المطلب كثيرة , ولو نقلنا الأخبار الدالة عليه لأفضى إلى الإطناب في هذا المختصر .
فإن قلت : هل يكون لتوحيدهم هذا نفع في الآخرة أم لا ؟ قلنا : صرّحت النصوص بأن النار أطباق , فالطبق الأوّل لأهل التوحيد ولعله أخف عذاباً , إلا النواصب و أهل العناد مع أهل البيت عليهم السلام فإن عذابهم أشد من عذاب الكفّار .
بقي الكلام في أرباب الكبائر من هذه الفرقة الناجية , فبعد الاتفاق على أنهم لا يخلّدون في النار , اختلفت الأخبار في أنهم هل يدخلونها لأجل تعذيبهم مقدار ذنوبهم أم لا ؟ والروايات في هذا مختلفة جداً .
ففي كثير منهم أنهم لا يدخلونها بل تداركهم شفاعة ساداتهم الطاهرين عليهم السلام , وأنّهم يقاصّون في الدنيا بالأوجاع و نقص من الأموال و الأولاد , كما ورد في الرواية , فإذا أخرجوا من الدنيا لم يبقى عليهم ذنب يعاقبون عليه , وفي بعضها أنهم يعذبون على ذنوبهم بغير النار : إما في البرزخ أو بشدائد أهوال القيامة , وفي كثير منها أنهم يدخلون النار ويعذّبون فيها ثم يخرجون منها , وفي هذا الإبهام من الحكم و المصالح ما لا يخفى .
ويمكن وجه الجمع بين الأخبار أنه محمول على تفاوت مراتب الإيمان و اختلاف الذنوب و الانهماك فيها إلى غير ذلك .
وفي قوله " لا يشرك بالله شيئاً " إشارة إلى ما قدمناه من أن الشرك لا ينحصر في إثبات شريك الباري .
===
ونضيف على كلامه قدّس سره :
ينقل أسد الله الموسوي في كتابه الإمامة ص80 عن ابن النوبخت في فص الياقوت : ومخالفونا في مسائل الوعد و الوعيد فسقة مبتدعون
ثم نقل كلام العلامة في شرح الكلام و قال : أما المخالف...في مسائل الوعد و الوعيد كالقائلين بتخليد العاصي ...فساق مبتدعون
النقاط الثلاثة كلام بين الفقرة
أولاً لا بأس بمقدمة بسيطة في الجنة و النار
قال المفيد رحمه الله في تصحيح الاعتقادات : الجنة، دار النعيم لا يلحق من دخلها نصب ولا يلحقهم فيها لغوب، وجعلها الله سبحانه دارا لمن عرفه وعبده، [ونعيمها دائم] لا انقطاع له، والساكنون فيها على أضرب:
فمنهم: من أخلص لله تعالى، فذلك الذي يدخلها على أمان من عذاب الله تعالى.
ومنهم: من خلط عمله الأصلح بأعماله السيئة كأن يسوف منها التوبة، فاخترمته المنية قبل ذلك، فلحقه خوف من العقاب في عاجله وآجله، أو في عاجله دون آجله، ثم سكن الجنة بعد [عفو الله أو عقابه].
ومنهم: من يتفضل عليه بغير عمل سلف منه في الدنيا، وهم الولدان المخلدون الذين جعل الله تعالى تصرفهم لحوائج أهل الجنة ثوابا للعاملين، وليس في تصرفهم مشاق عليهم ولا كلفة، لأنهم مطبوعون إذ ذاك على المسار بتصرفهم في حوائج المؤمنين.
وثواب أهل الجنة الالتذاذ [بالمآكل والمشارب] والمناظر والمناكح وما تدركه حواسهم مما يطبعون على الميل إليه، ويدركون مرادهم بالظفر به وليس في الجنة من البشر من يلتذ بغير مأكل ومشرب وما تدركه الحواس من الملذوذات.
وقول من يزعم: أن في الجنة بشرا يلتذ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل والشرب، قول شاذ عن دين الإسلام، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أن المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينكحون.
وقد أكذب الله سبحانه هذا القول في كتابه بما رغب العاملين فيه من الأكل والشرب والنكاح، فقال تعالى: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ} الآية، وقال تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} الآية، وقال تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} وقال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} وقال سبحانه: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} وقال سبحانه: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} وقال سبحانه: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} الآية، وقال سبحانه: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ}.
فكيف استجاز من أثبت في الجنة طائفة من البشر لا يأكلون ولا يشربون ويتنعمون بما به الخلق من الأعمال يتألمون، وكتاب الله تعالى شاهد بضد ذلك والإجماع على خلافه، لولا أن قلد في ذلك من لا يجوز تقليده أو عمل على حديث موضوع؟!
وأما النار، فهي [دار من] جهل الله سبحانه، وقد يدخلها بعض من عرفه [بمعصية الله] تعالى، غير أنه لا يخلد فيها، بل يخرج منها إلى النعيم المقيم، وليس يخلد فيها إلا الكافرون.
وقال تعالى: (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} يريد [بالصلي هاهنا] الخلود فيها، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} الآيتان. وكل آية تتضمن ذكر الخلود في النار فإنما هي في الكفار دون أهل المعرفة بالله تعالى بدلائل العقول والكتاب المسطور والخبر الظاهر المشهور والاجماع والرأي السابق لأهل البدع من أصحاب الوعيد.
===
قال السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله (نور البراهين ج1 ص50) تعليقاً على الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه :من مات ولا يشرك بالله شيئاً أحسن أو أساء دخل الجنة .
اعلم أن الآيات و الأخبار و أقوال علماء الإسلام قد اختلفت ظاهراً في من يستحق دخول النار ,وفي من يخلد فيها , وفي من يدخلها ثم يخرج منها .
وحيث أنها من الأصول العامّة البلوى , فلا بأس بإطلاق عنان القلم في تحقيق نبذة منها بنقل كلام الفريقين , ثم ترجيح الراجح منهما .
قال العلامة طاب ثراء في شرحه على التجريد : أجمع المسلمين كافة أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع , واختلفوا في أصحاب الكبائر من المسلمين , فالوعيديّة على أنّه كذلك , وذهبت الإمامية و طائفة كثيرة من المعتزلة و الأشاعرة إلى أن عذابه منقطع .
والحقّ أنّ عقابهم منقطع لوجهين :
1-أنّه يستحق الثواب بإيمانه , لقوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ والإيمان أعظم أفعال الخير ,فإذا استحق العقاب بالمعصية , فإما أن يقدّم الثواب على العقاب , وهو باطل بالإجماع لأن الثواب المستحقّ بالإيمان دائم على ما تقدّم , أو بالعكس , وهو المراد , والجمع محال .
2-يلزم أن يكون من عبد الله تعالى مدّة عمره بأنواع القربات إليه , ثم عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه مخلّداً في النار , كمن أشرك بالله مدّة عمره , وذلك محال لقبحه عند العقلاء . (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص414 – 415 )
ثم قال : المحارب لِعَلِيٍّ عليه السلام كافر لقول النبي صل الله عليه و آله : حربك يا علي حربي .
ولا شكّ في كفر من حارب النبيّ صل الله عليه و آله , وأما مخالفوه في الإمامة فقد اختلف قول علمائنا فيهم , فمنهم من حكم بكفرهم لأنهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة وهو النصّ الجليّ الدالّ على إمامته مع تواتره , وذهب آخرون أنهم فسقة (يعني مسلمين ظاهراً) وهو الأقوى .
ثم اختلف هؤلاء –من حكم بإسلامهم- على أقوال :
أ : أنهم مخلّدون في النار لعدم استحقاقهم الجنّة .
ب : أنهم يخرجون من النار إلى الجنّة .
ج : أنهم يخرجون من النار لعدم الكفر الموجب للخلود , ولا يدخلون الجنّة لعدم الإيمان المقتضي لاستحقاق الثواب . (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص398)
وقال أيضاً في شرح الياقوت : أما دافعوا النصّ (يعني أن الرسول استخلف الإمام علي ) فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى تكفيرهم , ومن أصحابنا من يحكم بفسقهم خاصّة , ثم اختلف أصحابنا في حكمهم في الآخرة , فالأكثرون قالوا بتخليدهم وفيهم من قال بعدم الخلود : وذلك إما بأن بنقلوا إلى الجنّة وهو قول شاذ عنده , أو لا إليهما – أي لا الجنة ولا النار – واستحسنه المصنّف , هذا كلام الخاصّة .
وأما العامّة , فقال شارح المقاصد : اختلف أهل الإسلام في من ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة , فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب , بل كلاهما في مشيئة الله تعالى ,لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنه لا يخلّد في النار بل يخرج البتّة لا بطريق الوجوب على الله تعالى بل بمقتضى ما سبق من الوعد وثبت بالدليل , كتخليد أهل الجنّة , وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدائم من غير عفو ولا إخراج من النار .
وما وقع في كلام البعض أن صاحب الكبيرة عند المعتزلة ليس في الجنّة ولا في النار , فغلط نشأ من قولهم أن له المنزلة بين المنزلتين أي : حاله غير الإيمان و الكفر .
وأما ما ذهب إليه مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة من أنّ عصاة المؤمنين لا يعذّبون أصلاً وإنما النار للكفّار , تمسّكاً بالآيات الدالّة على اختصاص العذاب بالكفار مثل إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ و إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ فجوابه تخصيص ذلك العذاب بما يكون على سبيل الخلود .
وأما تمسّكهم بمثل قوله عليه السلام : من قال لا إله إلا الله دخل الجنّة وإن زنا وإن سرق , فضعيف لأنه ينفي الخلود لا الدخول , لنا وجوه :
الأوّل وهو العمدة : الآيات و الأحاديث الدالّة على أن المؤمنين يدخلون الجنّة البتّة , وليس ذلك قبل دخول النار وفاقاً , فتعيّن أن يكون بعده وهو مسألة انقطاع العذاب , أو بدونه وهو مسألة العفو التام ,قال تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وقال النبي صل الله عليه و آله : من قال لا إله إلا الله دخل الجنّة , وقال : من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة وإن زنا و إن سرق .
الثاني : النصوص المُشْعِرَة بالخروج من النار كقوله تعالى النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ - فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وكقول النبي صل الله عليه و آله : يخرج من النار قوم بعدما امتحشوا –اخترقوا وصاروا فحماً و حمماً- فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السيل.
وخبر الواحد وإن لم يكن حجّة في الأصول لكن يفيد التأييد والتأكيد بتعارض النصوص .
الثالث : وهو على قاعدة الاعتزال , أنّ من واظب على الإيمان و العمل الصالح مئة سنة , وصدر عنه في أثناء ذلك أو بعده جريمة واحدة كشرب جرعة من الخمر , فلا يحسن من الحكمة أن يعذّبه على ذلك أبد الآباد , ولو لم يكن هذا ظالماً فلا ظلم , أو لم يستحقّ بهذا ذمّاً فلا ذم .
الرابع : أن المعصية متناهية زماناً , وهو ظاهر و قدراً لما يوجد من معصية أشد منها , فجزاؤها يجب أن يكون متناهياً لتحقيق قاعدة العدل , بخلاف الكفر فإنه لا يتناهى قدراً وإن تناهى زماناً .
واحتجّت المعتزلة بوجوه :
الأوّل : الآيات الدالّة على الخلود المتناولة للكافر و غيره , كقوله تعالى " وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا – وقوله تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا – وقوله وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا – ومثل هذا مسوّق للتأييد و نفي الخروج , وقوله " وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جحِيم (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ اللدِّين (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ (16) " وعدم الغيبة عن النار خلود فيها , وقوله " وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا " وليس المراد تعدي جميع الحدود بارتكاب الكبائر كلها تركاً و اتياناً ,فإنه محال لما بين البعض من التضاد , كاليهودية و النصرانية و المجوسية , فحمل على مورد الآية من حدود المواريث , وقوله " بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " .
والجواب –يعني عن شبهات المعتزلة- : بعد تسليم كون الصيغ للعموم أن العموم غير مراد في الآية :
الأولى :للقطع بخروج التائب و أصحاب الصغائر , وصاحب الكبيرة الغير المنصوصة إذا أتى بعدها بطاعات ثوابها على عقوباتها , فليكن مرتكب الكبيرة من المؤمنين أيضاً خارجاً ممّا سبق من الآيات و الأدلّة .
وبالجملة : فالعام المخرج منه البعض لا يفيد القطع وفاقاً , ولو سلّم فلا نسلّم تأييد الاستحقاق , بل هو مغيّاً بغاية رؤية الوعيد لقوله بعده " حتى إذا رأوا ما يوعدون " ولو سلّم فغايته الدلالة على استحقاق العذاب المؤبّد لا على الوقوع كما هو المتنازع لجواز الخروج بالعفو .
وعن الثانية : بأن معنى متعمّداً مستحلاً فعله على ما ذكره ابن العبّاس , إذ التعمّد على الحقيقة إنما يكون من المستحل , أو بأن التعليق بالوصف يشعر بالعليّة فتختصّ بمن قتل مؤمناً لإيمانه , أو بأن الخلود وإن كان ظاهراً في الدوام , فالمراد ها هنا المكث الطويل جمعاً بين الأدلّة .
وعن الثالثة : بأنها في حقّ الكافرين المنكرين للحشر بقرينة قوله " ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون " مع ما في دلالتها على الحلود من المناقشة الظاهرة , لجواز أن يخرجوا عند عدم إرادتهم الخروج باليأس أو الذهول أو نحو ذلك .
وعن الرابعة : بعد تسليم إفادتها النفي عن كلّ فرد ودلالتها على دوام الغيبة أنها تختصّ بالكفّار , جمعاً بين الأدلّة .
وكذا الخامسة و السادسة حملاً على حدود الإسلام ,ولإحاطة الخطيئة على غلبتها , بحيث لا ينفي معها الإيمان , هذا مع ما في الخلود من الاحتمال . ( شرح المقاصد ج5 ص131-140)
ثمّ قال في بحث آخر : لا خلاف في أن من آمن بعد الكفر و المعاصي , فهو من أهل الجنة بمنزلة من لا معصية له , ومن كفر –نعوذ بالله- بعد الإيمان و العمل الصالح , فهو من أهل النار بمنزلة من لا حسنة له .
وإنما الكلام في من آمن و عمل صالحاً و آخر سيئاً و استمر على الطاعات و الكبائر , كما يشاهد من الناس , فعندنا مآله إلى الجنّة ولو بعد النار , واستحقاقه للثواب و العقاب بمقتضى الوعد و الوعيد ثابت من غير حبوط .
والمشهور من مذهب المعتزلة أنّه من أهل الخلود في النار إذا مات قبل التوبة , فأشكل الأمر عليهم في إيمانه و طاعاته وما يثبت من استحقاقاته أين طارت ؟ وكيف زالت ؟ فقالوا بحبوط الطاعات ومالوا إلى أنّ السيئات يذهبن الحسنات حتى ذهب الجمهور منهم إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات , وفساده ظاهر :
أما سمعاً : فللنصوص الدالّة على أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً و عمل صالحاً .
وأما عقلاً : فللقطع بأنه لا يحسن من الحكيم الكريم ابطال ثواب إيمان العبد و مواظبته على الطاعات طول العمر بتناوله لقمة من الربا أو جرعة من الخمر , ثم أطنب في الكلام . ( شرح المقاصد ج5 ص142 )
هذا محصّل كلام المحقّقين من المتكلّمين من طرف الخاصّة و العامّة .
والذي يقتضيه الجمع بين الآيات و الأخبار أن الكفّار مخلّدون في النار , والمراد بهم من أنكر شيئاً من ضروريات دين الإسلام كتحريم الزنا و الخمر و الربا , واستحلال ترك الصلاة و الزكاة ونحو ذلك , لا من أنكر مجمعاً عليه من غير أن يصل إلى حدّ الضرورة , فإن بعض العلماء وإن جزم بكفره إلا أن اتّباعه عليه لا يخلو من اشكال : لأن طائفة من المحدّثين تكلّموا على مثل ذلك الإجماع وعلى حجيّته وقالوا إن منكر أصل ذلك الإجماع لا كافر ولا فاسق , فكيف يكفّر من أنكر الحكم المجمع عليه المدلول عليه بذلك الإجماع ؟! وبالجملة فالكافر بما ذكرناه مخلّد في النار لا يخفّف عنه العذاب بل يضاعف عليه و يخلّد فيه مهاناً .
وما يحكى عن بعض طوائف المسلمين و شذاذ من الصوفيّة بأنه لا خلود في النار لأحد, بل الواجب في العدل بزعمهم أن يعذّب الكفّار على قدر استحقاق عذابهم , ثم يخرجون من النار و تبقى خالية , وتأوّلوا على هذا حديثاً رووه عنه عليه السلام أنه قال : سيأتي على جهنّم زمان تصطفق أبوابها من خلوّها .
وحملوا عليه ما روي أيضاً من قوله عليه السلام : سيأتي على جهنّم زمان ينبت في قعرها الجرجير , مصادم للكتاب و السنّة و إجماع المسلمين فلا يعبأ به والحديث الثاني غير مناف للمشهور , والأوّل لم يثبت .
نعم ذهب شيخنا المعاصر –يقصد المجلسي الثاني- إلى أنّ المستضعفين من الكفّار كنواقص العقول ومن لم تقم عليه الحجّة ولم يقصّر في الفحص و النظر وكأغلب النساء منهم , ممّن يرجون لأمر الله : إما أن يعذّبهم وإما أن يتوب عليهم , وهذا وإن كان خلاف الإجماع إلا أن في الروايات اشعاراً به و قواعد أهل العدل لا يأباه .
وأمّا طوائف أهل الخلاف على هذه الفرقة الإمامية , فالنصوص متظافرة في الدلالة على أنّهم مخلّدون في النار , وأن اقرارهم بالشهادتين لا يجديهم نفعاً إلا في حقن دمائهم و أموالهم و اجراء أحكام الإسلام عليهم .
روى عن صل الله عليه و آله أنه قال : ولاية أعداء علي و مخالفة علي سيّئة لا ينفع معها شيء إلا ما ينفعهم بطاعاتهم في الدنيا بالنعم و الصحّة و السعة , فيردوا الآخرة ولا يكون لهم إلا دائم العذاب , ثم قال : إنّ من جحد ولاية علي عليه السلام لا يرى بعينه الجنّة أبداً إلا ما يراه ممّا يعرف به أنّه لو كان يواليه لكان ذلك محلّه و مأواه , فيزداد حسرات و ندامات (بحار الأنوار ج8 ص353 )
وروى المحقّق الحلي في آخر السرائر مسنداً إلى محمّد بن عيسى قال : كتبت إليه أسأله عن الناصب هل أحتاج في إمتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت و الطاغوت و اعتقاد إمامتهما ؟ فرج ع الجواب من كان على هذا فهو ناصب .
وروى المصنّف –الصدوق- طاب ثراه في كتاب العلل : أنّ الناصب من كره مذهب الإمامية , ولا شكّ أنّ جلّهم بل كلّهم ناصب بالمعنيين –ملحوطة هذه مسألة فقهية مختلف فيها بين المراجع فليرجع كل شخص لمرجعه- , وتواترت الأخبار و انعقد الإجماع على أنّ الناصب كافر في أحكام الدنيا و الآخرة , وصرّحت الأخبار في حصر المسلم في المؤمن و الناصبي و الضال , وفسّرت الضالّ بمن لم يعرف مذهب الإماميّة ولم ينصب العداوة له إلى غير ذلك من الأخبار .
نعم ذهب طائفة منّا إلى أن المستضعفين منهم , وهم غير المعاندين ومثل البله و النساء ومن لم تتم علي الحجّة يكونون ممّن يرجى لهم النجاة لكن لا على سبيل القطع .
بقي الكلام في أنّ أكثر الأخبار التي نقلها المصنّف طاب ثراه في هذا الباب دالّة بظاهرها على أن أهل كلمة التوحيد ومن لا يشرك بالله شيئاً يدخلون الجنّة , وطوائف المخالفين ممّن يقول هذه الكلمة ولا يشرك بالله فكيف الجواب ؟
فنقول : في التفصّي عنه وجوهاً :
الأوّل : أن المراد من الموحّدين وكلمة التوحيد و عدم الشرك الموجب لدخول الجنّة التوحيد الخالص , كما دلّت عليه الأخبار في هذا الباب و غيره , والتوحيد الخالص الذي يستجمع الشرائط لا يكون إلا بولاية من فرض الله سبحانه طاعتهم , وأوجب على الخلف كافّة اعتقاد إمامتهم , وما لم يكن على هذا المنوال لا يثمر دخول الجنّة قطعاً .
ثانياً :إنا لا نسلّم نفي الشرك عن جماعات المخالفين , بل ورد في الكتاب و السنّة إطلاقه عليهم وبيانه : أن الله سبحانه عيّن و نصّ على خلافة أمير المؤمنين و أمر رسوله بإقامته علماً للناس يوم الغدير , وغيره من الموارد الكثيرة , حتى أن النص يوم الغدير رواه المخالفون كما نقله السيّد الجليل ابن طاووس (الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ص139-153) عنهم ممّا يزيد على خمسمائة حديث , وكان متواتراً عندهم كما هو عندنا الآن , فبادروا إلى انكاره و تأويله , وأقاموا أبا بكر مقامه تشهٍّ منهم , وخلافاً على الله و رسوله , فقد جعلوا أنفسهم شركاء له تعالى في تعيين ذاك الإمام بزعمهم واتّباع أوامره ونواهيه , ولم يرضوا حتّى فضّلوه على أمير المؤمنين عليه السلام وقالوا : إن ترتيب الفضل بين الخلفاء الأربعة دائر على ترتيب خلافتهم , فمن سبق كان هو الأفضل , واختلفوا في تفضيل عثمان عليه فالأكثر على الأفضلية و البعض على المساواة .
وقال القاضي ابن خلّكان ( وفيات الأعيان لابن خلكان ج3 ص355) عند ترجمة علي بن جهم القرشي وكونه منحرفاً عن علي عليه السلام : أنّ محبة علي لا تجتمع مع التسنّن !
وكلامه صريح في بغضهم له عليه السلام ومن بغضه كان كافراً بالإجماع .
قال الصدوق تغمّده الله برحمته في تمام ما حكيناه عنه في المباحثة مع علماء الجمهور في مجلس بعض الملوك –لما قالوا له أنّنا وأنتم على إله واحد و نبي واحد و افترقنا في تعيين الخليفة الأوّل - : ليس الحال على ما تزعمون بل نحن و أنتم في طرف من الخلاف , حتى في الله سبحانه و النبي , وذلك أنّكم تزعمون أن لكم رباً وذلك الرب أرسل رسولاً خليفته بالاستحقاق أبو بكر , ونحن نقول إن ذلك الرب ليس ربّاً لنا وذلك النبي لا نقول بنبوته , بل نقول ربّنا الذي نص على أن خليفة رسوله علي بن أبي طالب عليه السلام فأين الاتفاق ؟
الثالث : أنّهم أخذوا أحكام ربّهم عن أبي حنيفة وهو أخذها عن رأيه وقياسه , فحرّم لهم الحلال و أحلّ لهم الحرام فعبود من حيث لا يشعرون , قال تعالى حاكياً عن أهل الكتاب " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " وقد أطبق المفسّرون و تظافرت الروايات على أنّهم لم يعبدوهم ولو دعوهم إلى العبادة ما أطاعوهم , لكنهم أحلّوا لهم و حرّموا عليهم , وأبو حنيفة كان يقول في مسجد الكوفة : قال عَلِيُّ وأنا أقول ! –يعني خلافاً لقوله-
وقال أيضاً : إذا جاء الحكم من الله فعلى الرأس , وإن كان من النبي فعلى العينين , وإن جاء من الصحابة فهم رجال و نحن رجال , وكان قصده ردّ ماكان يقول به عليه السلام وإلا فهو لا يرد على أبي بكر و عمر و عثمان , ومن أمعن النظر في هذا يجده من أظهر أفراد الشرك الجليّ .
الرابع :أن هذه الروايات الدالّة على أنّ مطلق أهل التوحيد يدخلون الجنّة لو حملت على ظاهرها لكان الكلّ ناجين , لأن النجاة ليس إلا دخول الجنّة , وهذا ينافي ما تواتر عنه صل الله عليه و آله أنه قال : ستفترق أمّتي بعدي ثلاثاً وسبعين فرقة واحدة في الجنّة و الباقون في النار , على اختلاف في نقل ألفاظ الخبر إلا أن المعنى واحد , وبالجملة فالحديث ناصّ على أن الناجية من المسلمين ليس إلا فرقة واحدة وقد زعمت كل فرقة أنها هي الناجية .
وأمّا نحن فالنصوص الواردة من طريقنا عن السادة الأطهار عليهم السلام في تعيين الناجية وأنّها الإمامية الذين هم على طريقة أهل البيت عليهم السلام , متواترة .
منها : ما نقله العلامة الحلّي عن أستاذه نصير الدين قدّس الله روحيهما , قال : سأله عن المذاهب , فقال : بحثنا عنها وعن قول رسول الله صل الله عليه و آله ستفترق أمّتي على ثلاثة و سبعين فرقة , واحدة منها الناجية و الباقي في النار , قد عيّن الفرقة الناجية والهالكة في حديث آخر صحيح متّفق عليه وهو قوله صل الله عليه و آله : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق (راجع إحقاق الحق ج9 ص270-293) فوجدنا الفرقة الناجية هي الفرقة الإمامية : لأنهم باينوا جميع المذاهب , وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد انتهى .
ويعجبني نقل كلام في هذا المقام , وهو أنّ رجلاً من أفضل المعاصرين من علماء الشافعيّة جمع علماء البصرة يوماً فقال لهم : يا أهل السنّة اعلموا أنّ الحديث إذا اشتمل على نقص في المذهب , فإذا تفرّد الإمامية بنقله فلنا أن نمنعه , وإذا تفردنا نحن بروايته كان لهم أيضاً منعه , أما إذا اتّفقنا على نقله و صحّته فكيف الجواب عنه ؟ فقالوا : ما هذا الحديث ؟
فقال : هو قوله صل الله عليه و آله :أهل بيتي كسفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلّف عنها غرق , فأجابه بعضهم : نحن أيضاً ممّن ركب في هذه السفينة ! فقال : إن كان في هذا الركوب نجاة , فالإمامية أشدّ نجاة منّا , فلم يحر القوم جواباً .
وإن شئت زيادة إيضاح للحديث السابق , فاستمع لما يتلى عليك , فنقول : ما نقلناه من لفظ الحديث هو المتّفق عليه من علماء الإسلام , لكنّ الترمذي من العامّة نقله في صحيحه بزيادة هي : قيل من هم ؟ قال الذين هم على ما أنا عليه و أصحابي .
وأما الشيعة فزادت في روايته هكذا : قال افترقت أمّة موسى على أحد و سبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة وهي التي اتّبعت وصيّه يوشع , وافترقت أمّة عيسى على إثنين و سبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة وهي التي اتّبعت وصيّه شمعون ,وستفترق أمّتي على ثلاثة و سبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة وهي التي تتبع وصيّي علياً عليه السلام ( بحار الأنوار ج28)
وهذه الألفاظ على اختلافها ترجع إلى معنى واحد , لأن علياً عليه السلام من الآل و الصحابة , وما هو عليه هو الذي عليه الصحابة المشار إليهم في الحديث .
فالمتّبع له متّبع لما عليه النبي صل الله عليه و آله و أصحابه وهو عليه السلام ممّن ثبت إيمانه وأنه على الحقّ ما تغيّر عنه ولا زلّت قدمه بالاتفاق , بخلاف غيره من الصحابة فإن منهم من كان منافقاً بقي على نفاقه في الآيات و الأخبار , ومنهم من تغيّر عن الحقّ و زلّت قدماه , فاتباعه عليه السلام يقتضي العمل بالحديث على الزيادتين , بخلاف اتباع غيره فإن اتّباعهم إنما ينجي حيث يكونون على ما عليه النبي صل الله عليه و آله , والأحداث التي أحدثوها بعده والآراء التي شعبوها والمذاهب التي أحدثوها والحروب التي أقاموها بينهم , غنيّة عن البيان .
وقوله صل الله عليه و آله فيما رواه الفريقان : اللهم أدر الحقّ مع علي أين دار ( إحقاق الحق ج4 ص441 – ج6 ص290-291 – ج16 ص393-396 ) مؤيّد لما قلناه .
ولا شكّ لأحد أنّ هذا الدين الذي عليه الفرقة الإمامية قد أخذوه من أئمتهم الطاهرين أولاد علي عليه السلام , وهم أخذوه عنه كما يشهد به كتب المسلمين , فهم الفرقة الناجية دون غيرهم .
إذا عرفت هذا فاعلم أنه قال الفاضل الدواني : لا خلاف في عدد الفرق لاخباره صل الله عليه و آله به , وما يتوهم من أنه حمل على أصول المذاهب ففي أقل من هذا العدد , وإن حمل على ما يشمل الفروع فهي أكثر منه , توهّم فاسد لا مستند له : لجواز كون الأصول التي بينها مخالفة مفيدة لهذا العدد , وقد يقال : لعلّهم في وقت من الأوقات بلغوا هذا العدد وإن زادوا و نقصوا في أكثر الأوقات .
ثم قال : قوله "كلّها في النار إلا واحدة " من حيث الاعتقاد , فلا يرد أنّه لو أريد الخلود فيها فهو خلاف الإجماع , فإن المؤمنين لا يخلّدون في النار , وإن أريد مجرّد الدخول فهو مشترك بين الفرق , إذ ما من فرقة إلا و بعضها عصاة , والقول بأن معصية الفرقة الناجية مطلقاً مغفورة بعيد جداً , ولا يبعد أن يكون المراد استقلال مكثهم في النار بالنسبة إلى سائر الفرق ترغيباً في تصحيح الاعتقاد .
وهذا الكلام مردود كما قيل لأنّه فسّره بكونهم في النار من حيث الاعتقاد , وغرضه من ذلك أن المراد العذاب عليه بها في الجملة لا الخلود , معلّلاً بأنه خلاف الإجماع لأن المؤمنين لا يخلّدون .
وفيه أن ذلك من حيث الاعتقاد غير مسلّم , لجواز أن يكون منه ومن العمل معاً لقوله " بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "
وأما نفيه الخلود , فغير مسلّم والإجماع الذي نقله ممنوع , فإن جماعة من العلماء و الإمامية ذهبوا إلى أن غير الطائفة المحقّة كفّار مخلّدون في النار .
وقوله " إن المؤمنين لا يخلّدون " مسلّم لكن الخلاف في المؤمنين , فالشيعة تزعم أن الإيمان إنما يصدق على معتقد الحق من الأصول الخمسة ومنها عندهم إمامة الإثنى عشر , وقوله " إن مجرّد الدخول مشترك " ممنوع , وقوله " إذ ما من فرقة إلا و بعضها عصاة " مسلّم إلا أن قوله و القول بأن معصية الفرقة الناجية مطلقاً مغفورة بعيد لا يخفى ما فيه , لأن ظاهر الخبر يقتضيه , وقوله " لا يبعد أن يكون المراد استقلال مكثهم " خلاف المتبادر من الحديث , ومعنى الحديث أن الفرقة الناجية لا تمسّها النار أبداً , وغيرها في النار إما خلوداً أو مكثاً طويلاً , وفي الخبر عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : ما أجد من شيعتنا يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتى يبتلى ببلية تمحّص بها ذنوبه : إما في مال أو ولد وإما في نفسه , حتى يبقى الله مخبتاً وما له ذنب , وإنّه ليبقى عليه شيء من ذنوبه فيشدّد عليه عند موته فتمحّص ذنوبه (كتاب التمحيص لأبي علي الاسكافي )
والأخبار الواردة بهذا المعنى مستفيضة بل متواترة .
وإن شئت اثباته بطريق الاستدلال , فنقول : روى فخر المحقّقين عن والده العلامة الحلي قدّس الله روحيهما , قال : حكى لي والدي عن أفضل المتأخرين خواجة نصير الملّة و الحق و الدين الطوسي , قال : الفرقة الناجية هي الفرقة الإمامية لأن جميع المذاهب وقفتُ على أصولها و فروعها , فوجدت من عدا الإمامية مشتركين في الأصول المعتبرة في الإيمان , وإن اختلفوا في أشياء يساوي إثباتها و نفيها بالنسبة للإيمان , ثم وجدت أن طائفة الإمامية هم يخالفون الكل في أصولهم , فلو كانت فرقة من عداهم ناجية لكان الكل ناجين فيدلّ على أن الناجي هو الإمامية فقط انتهى .
وبيانه : أن الإمامية قد تفردوا بان دخول الجنة و النجاة لا يكون إلا بعد ولاية آل محمد عليه السلام واعتقاد إمامتهم , وأما باقي الفرق الإسلامية فقد أطبقوا على أن أصل النجاة هو الاقرار بالشهادتين , فهم مطبقون على أصول النجاة وإن اختلفوا في أمور أخرى .
خامساً : ما ورد في الأخبار المستفيضة من أن الله سبحانه يمحو كلمة التوحيد من ألسنة المخالفين وقلوبهم يوم القيامة , حتى لا يحشروا مع الموحّدين , وفي الحديث أنه تعالى يرسل عليهم ريحاً فتمرّ على أفواههم فتنسيهم كلمة التوحيد ,وحينئذٍ فليس هم في الحقيقة من الموحّدين , وبالجملة فالدلائل على هذا المطلب كثيرة , ولو نقلنا الأخبار الدالة عليه لأفضى إلى الإطناب في هذا المختصر .
فإن قلت : هل يكون لتوحيدهم هذا نفع في الآخرة أم لا ؟ قلنا : صرّحت النصوص بأن النار أطباق , فالطبق الأوّل لأهل التوحيد ولعله أخف عذاباً , إلا النواصب و أهل العناد مع أهل البيت عليهم السلام فإن عذابهم أشد من عذاب الكفّار .
بقي الكلام في أرباب الكبائر من هذه الفرقة الناجية , فبعد الاتفاق على أنهم لا يخلّدون في النار , اختلفت الأخبار في أنهم هل يدخلونها لأجل تعذيبهم مقدار ذنوبهم أم لا ؟ والروايات في هذا مختلفة جداً .
ففي كثير منهم أنهم لا يدخلونها بل تداركهم شفاعة ساداتهم الطاهرين عليهم السلام , وأنّهم يقاصّون في الدنيا بالأوجاع و نقص من الأموال و الأولاد , كما ورد في الرواية , فإذا أخرجوا من الدنيا لم يبقى عليهم ذنب يعاقبون عليه , وفي بعضها أنهم يعذبون على ذنوبهم بغير النار : إما في البرزخ أو بشدائد أهوال القيامة , وفي كثير منها أنهم يدخلون النار ويعذّبون فيها ثم يخرجون منها , وفي هذا الإبهام من الحكم و المصالح ما لا يخفى .
ويمكن وجه الجمع بين الأخبار أنه محمول على تفاوت مراتب الإيمان و اختلاف الذنوب و الانهماك فيها إلى غير ذلك .
وفي قوله " لا يشرك بالله شيئاً " إشارة إلى ما قدمناه من أن الشرك لا ينحصر في إثبات شريك الباري .
===
ونضيف على كلامه قدّس سره :
ينقل أسد الله الموسوي في كتابه الإمامة ص80 عن ابن النوبخت في فص الياقوت : ومخالفونا في مسائل الوعد و الوعيد فسقة مبتدعون
ثم نقل كلام العلامة في شرح الكلام و قال : أما المخالف...في مسائل الوعد و الوعيد كالقائلين بتخليد العاصي ...فساق مبتدعون
النقاط الثلاثة كلام بين الفقرة
تعليق