بسم الله الرحمن الرحيم
في سجن ولاية الفقيه
بقلم: الأصولي الشهير و الفقيه المحقق و الفيلسوف البارع سماحة آية الله السّيد رضا الصّدر ـ قدّس الله نفسه الزكيّة ـ.
ــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم
إنقضت سبعة عشر ليلة من شهر رجب المرجّب و إنتهت العُطلة النوروزيّة [1] و تعانق مساء السّبت المصادف الثامن عشر من شهر رجب المرجّب عام 1406 الهجريّة القمريّة، مع ليلة الأحد العاشر من شهر فروردين عام 1365 الهجريّة الشّمسيّة [2].
قضيت تلك الليلة في طهران بسبب وعكة صحية أصبت بها و لم أعد إلى قم المقدّسة، و بذلك أصبحت محروماً من مواصلة مهامّي التي كانت تحتم عليّ البقاء في قم، و حيث أنّ الدروس كانت تُشرع من يوم السّبت، لم يكن لي حظّ من الحضور، و فى ظاهر الأمر تلامذتي كانوا مسرورين من غيابي!
حينما رنّ جرس الدّار كانت السّاعة تشير الى بعد العاشرة مساءاً؛ فتحت باب الدّار فإذا بالسّادة الحاج السّيد جلال الإمامي و الحاج مير جليل المنيبي و الحاج موسى شيخ زادگان و الحاج مهدي الدواتگران و الحاج أكبر المراغه چي، يطلون علي، الزوار خمسة أشخاص ولكن العددين خمسة و سبعة تعتبر من الأعداد الآحادية، التي لا يمكن تقسيمها على الإثنين و الثلاثة و الأربعة و لا يكون لهما نصف صحيح و لا ثلث صحيح و لا ربع صحيح.
بادر زوّاري الخمسة بالحديث عن سبب مجيئهم قائلين:
أتينا ـ هنا ـ لندلي بالشهادة على الوصية الشفاهية التى أصغانا بها مرجع عظيم طريح الفراش:
غسّلوني في حسينيتي بقم المقدّسة، و يصلي على جنازتي السّيد الصدر، و أدفنوني في الحرم [3]، و إذا منعوكم من ذلك، فادفنوني في حسينيّتي ...
خلال الحديث، إنجرّ الكلام إلى مدح كاتب هذه الأسطر الذي كان بمثابة الدليل على وصيّته فنصرف عنان القلم للتعبير بلطف ذلك الرجل العظيم لى.
وكان السّيد الإمامي صهر ذلك الرجل العظيم و هو عالم جليل. و أمّا السّيد المنيبي فهو ابن عمّ سماحته و أخو زوجته و هو تاجر أمين. و أمّا سائر السّادة فيعدّون من زمرة أصدقائه و أقاربه.
زيارة الشهيد في المستشفى
بعد مضيّ ليلتين من هذا الحادث، ذهبت لعيادة ذلك الرجل العظيم الذي كان طريح الفراش في مستشفى مهرداد في غرفة الإنعاش أو ما يسمى بالعناية القصوى ـ CCU ـ. أوصلني المصعد إلى الطابق الرابع. السّيد الحائري ـ الشريعتمداري ـ "أخ المريض" فتح عليّ باب القسم الذي تقع فيه غرفة الإنعاش ـ و دلني على غرفة المريض. كان سرير المريض منحنياً حتى يتكأ عليها و كان في أنفه شيئا يُسهّل عليه التنفس.
التلفاز الخاص الذي كان منصوبا فوق رأسه ، كان يخبر عن سلامة قلبه، ولكن حينما كان المرض قد إستولى على خاصرته اليمنى و تجاوز الكبد، فماذا يستطيع أنْ يفعل القلب المعافى؟!
القلب قائد، و حينما يكون جنوده مرضى و عاجزين فلا يستطيع أنْ يفعل شئاً.
السّرطان إستولى على خاصرته اليمنى و إقتحم كبده و جيوشه قد دخلت رئته إلى حدّ سلبت منه الراحة في التنفس و كان ينقله شيئا فشيئا نحو الموت، و أمّا القلب فكان عاجزاً عن الدفاع و التصدي له.
أغمض عينيه الكريمتين اللتين كانتا ترى عواقب الأمور، لكنهما لم تكونا نائمتين. ربما لم يكن لهما أي شوق و رغبة في رؤية العالم و العالمين!
السّيد الحائري نادى أخاه قائلاً: جاء سماحة السّيد الصّدر ...، فتح عينيه و ردّ سلامي بإبتسامة جميلة كانت من خصائصه.
إنجرّ الكرسي الذي كان في زاوية الغرفة إلى قرب السّرير فجلست عليه. فرح من زيارتي، لأنّه كان غريباً و إنهم منعوا مخلصيه و أصدقائه من عيادته، بالرغم من أنّ عيادة المريض في الإسلام المحمّدي مستحب و من السّنن الأكيدة في الدّين.
لماذا فعلوا ذلك؟ لماذا منعوا عيادته؟ ماالذى كان يقع إن كان يزوره الناس؟ كان المريض عاجزاً عن التكلم!
لماذا منعوا إبنه [4] في اللحظات الأخيرة، أنْ يكلّم والده ببضع كلمات قلائل؟ إذا كان يتكلم هذا الولد مع هذا الوالد مالذى كان يحدث؟ هل هذا هو العدل إسلامي؟!
بدأت كلامي مع المريض بهذه الكلمات:
إسمحوا لي بقرائة سورة الحمد سبع مرّات لشفائكم.. و قرأت السّورة سبع مرّات و لكن لمْ أر أثراً من شفاء المريض، لابد من حدوث إعجاز في البين أعجز و يعجز أمثالي من فعله.
بعد ما إنتهيت من قراءة سورة الحمد – الشفاء- استقبلنى سماحته بحفاوة بالغة باسارير وجهه الكريم الذي ابهجني وأخذ يجاملني ، فتفضل لى قائلاً: أشكركم كثيراً... و لم يكتف بهذا المقدار وأضاف: لطفتم بي كثيراً. ثمّ دار الحديث مع أقاربه حول سفرته العلاجية الى أوروبا، وعرفت أنّ القائد ـ الخميني ـ لم يوافق على ذلك!
لماذا؟ إن كان يذهب إلى أوروبا ماذا كان يحدث؟ إنّه لم يتمكن من الإجتماع و المقابلةـ مع الصحفيين ـ.
من سنن الإسلام المحمّدي و مستحباته، التعجيل في القيام من عند المريض ومغادرته إلا إذا طلب المريض من الزائر البقاء، و لكن الأطباء لم يسمحوا لعيادة المريض في غرفة الإنعاش لأنّها مضرّة له. فمن المؤكد مائة بالمائة أنهم لم يوافقوا على إطالة العيادة.
كنت أمام مفترق الطرق، من جانب كان يحب المريض أن أبقى عنده و لكنّ شدة مرضه لم تسمح لي بالبقاء.
على أيّة حال، آثرت المصلحة على العاطفة و قمت من عنده، و بعد ـ هذا اللقاء ـ لم أره نهائيا- [ وكان هذا لقاءنا الأخير والوداعي ]!.
منذ سنين لم ألتق به، لأنّه كان محبوساً في داره و لا يسمح لأحد بزيارته، و إذا كان شخص ما يمرّ من زقاق بيته يشعر كأنّ الجدران تريد أنْ تحطم رأسه ألماً وحزناً من الصّمت الظالم الذى لحق بها و الصّعوبة في الوصول إليه ـ قدّس سرّه ـ في بيته ـ [5] ـ لأنّ بيته ـ قدّس سرّه ـ كان محاطاً برجال الأمن و المخابرات ـ.
كان في زمانه ملجأ و ملاذاً للاجئين و املاً للمؤملين و الآملين، انقذ الكثير من السجناء و كم أسعد المساكين و البؤساء؟ بعد حبسه لم يكن هنالك من ينوب عنه و يقوم مقامه و لا نرى كمثله أحدا حيث يلجئ إليه اللآجئين . قصارى ما كنت أستطيع فعله هو أنْ أحمي نفسى بنفسى و أهل بيتي و أقاربي فقط و لم أتمكن من حماية غيرهم؛ الويل كل الويل لمن يطلب منك اللجوء ولم تستطع حمايته!
إنني سعيت كثيراً لإنقاذه من السّجن.. ففي أوائل الأمر أرسلت رسالة بواسطة الموسوي الأردبيلي كتبت فيها إنني مستعد لحلّ المشكلة، بيّنوا رأيكم في الأمر؟ ثمّ بعثت رسائلي [6] بواسطة السّيد الحاج محمّد صادق اللواساني. هذا الرجل الشريف كان يستقبل رسائلي بحفاوة بالغة وكان يأتيني بردود الرسائل. لكني لم أتمكن من انقاذ هذا الرجل العظيم. وكأنّ التقدير و التدبير لم ينسقا مع بعضهما البعض وجهودنا لم تثمر ثمارها.
قبل عام شخّص الدكتور باهر المرض في خاصرته [7] اليمنى، و إذا كان يُسمح بمجيئه إلى طهران أو كان حرّاً في الذهاب إلى الدول الأوروبيّة، كان بإمكانهم القضاء على المرض و ربما كان يطول عمره أكثر و لكن لم يسمحوا له بالذهاب إلى خارج البلد! [8]، لماذا؟!
وبعد مضيّ عام، إستعصى المرض شيئا فشيئا و إستكثرت الآلام عنده و بعد سعى مرير والمطاليب المكررة سمحوا له بالمجئ إلى طهران [9]، ولكن قد فات الأوان، حيث أنّ الأدوية لم تصل اليه بالوقت المناسب.
في هذه الأثناء أراد إبنه أنْ يتحدث مع والده هاتفيا من المانيا، و يسئله عن صحته، لكنهم لم يسمحوا له! لماذا؟! بالرغم من أنّ فى جميع القوانين الدولية يحق لعائلة السّجين التحدث مع أقربائه، خاصة إنْ كان السّجين محتضراً و على أعتاب الموت، إذ لعلّه يريد أنْ يوصي.
ماذا كان سيحدث لو أراد الوالد أنْ يتحدث مع ولده وهو محتضر على فراش الموت و أمنيّته الوحيدة فى تلك اللحظة رؤية ولده والسّماع إلى صوته الحنون؟!
ماالذى كان يحدث ان كان الإبن الغريب و المشرد و البعيد عن أمّه و أبيه يستطيع التحدث مع والده و الإستماع إلى صوت ذلك الشيخ الكبير الطاعن فى السن؟! ألا يجيز ذلك الإسلام الأصيل المحمّدي ؟!
أويس القرني[10]، لكي لا يبتعد عن والدته، حرّم نفسه من زيارة رسول الله ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ [11].
كان ذاهباً الى المدينة لللقاء برسول الله، ولكن النبى كان آنئذ خارجاً من المدينة، و والدته لم تأذن له بالتأخير فى عودة ولدها فعاد مسرعا إليها، لأنّ النبى قد أمر بطاعة الأم – و إنْ كانت كافرة- .
وحينما عاد رسول الله ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ إلى المدينة قال: أشمّ روائح الجنة، من كان هنا؟
قيل: كان شاب عليه ثياب رثة قد جاء من اليمن لرؤيتك يا رسول الله، و لم يتوفق لذلك.
بقى أويس خادماً لوالدته طيلة حياتها ولم يشارك فى أيّ غزوة من غزوات النبى، وحينما فارقت والدته الحياة، إلتحق بأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليهما الصّلاة و السّلام ـ [12]، لأنّ والدته قد توفيت بعد رحيل رسول الله ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أي رأس السّنة الإيرانية، فهذه العطلة لعيد النوروز فإنّه و يوم الجمعة كانا عيدين للمجوس و مشركي العرب فأقرهما الإسلام و أمضاهما.
[2] 30/مارس/1986 الميلادى.
[3] أي حرم السّيدة فاطمة المعصومة ـ سلام الله عليها ـ.
[4] المهندس السّيد حسن الشريعتمداري السّاكن في المانيا.
[5] ديوان حافظ الشيرازي و أصله:
اي كه از كوچه معشوقه ما مي گذري *** بر حذر باش كه سر مي شكند ديوارش!
[6] إلى السلطة الحاكمة أو إلى الخميني نفسه و الله العالم.
[7] أي خاصرة الشهيد الشريعتمداري ـ قدّس سرّه الشريف ـ.
[8] هذا مصداق جلي من مصاديق القتل العمدي كما هو واضح؛ قال المحقق الخوئي ـ قدّس سرّه ـ: [ يتحقق العمد بقصد البالغ العاقل القتلَ ..، كما يتحقق القتل العمدي فيما إذا كان فعل المكلف علة تامّة للقتل أو جزءاً أخيراً للعلة بحيث لا ينفك الموت عن الفاعل زماناً، كذلك يتحقق فيما إذا ترتب القتل عليه من دون أنْ يتوسطه فعل إختياري من شخص آخر، كما إذا رمى سهماً نحو من أراد قتله فأصابه فمات بذلك بعد مدّة من الزمن، و من هذا القبيل ما إذا خنقه بحبل و لم يرخه عنه حتى مات "أو حبسه في مكان ومنع عنه الطعام و الشراب حتى مات أو نحو ذلك، فهذه الموارد و أشباهها داخلة في القتل العمدي" ] منهاج الصالحين لسماحة آية الله العظمى السّيد أبو القاسم الخوئي ـ قدّس سرّه ـ مع فتاوي الأصولي البارع و الفقيه الجامع سماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني ـ دام ظله الوارف ـ ج 3 ص 506.
[9] لتلقي العلاج.
[10] أويس بن عامر القرني من أصحاب أمير المؤمنين ـ عليه أفضل الصّلاة و السّلام ـ و من حواريه و المستشهدين بين يديه في صفين؛ روي عن الإمام الباقر ـ عليه أفضل الصّلاة و السّلام ـ أنّه قال: [ شهد مع علي بن أبي طالب ـ عليمها الصّلاة و السّلام ـ من "التابعين" ثلاثة نفر بصفيّن شهد لهم رسول الله ـ صلى الله عليه و آله ـ بالجنة و لم يرهم: أويس القرني، و زيد بن صوحان العبدي و جندب الخير الأزدي ] بحار الأنوار: ج 32 ص 618؛ و روى الشيخ المفيد في الإختصاص ـ ص 61 ـ بسندين عن علي بن أسباط بن سالم عن أبيه قال: قال أبوالحسن موسى بن جعفر ـ عليهما الصّلاة و السّلام ـ: [ إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواري محمّد بن عبد الله رسول الله ـ صلى الله عليه و آله ـ الذين لم ينقضوا العهد و مضوا عليه؟
فيقوم سلمان، و المقدار، و أبوذر ].
قال ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ : [ ثمّ ينادي: أين حواري علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله ـ صلى الله عليه و آله ـ و سلم ـ؟
فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي، و محمّد بن أبي بكر، وميثم بن يحيى التمّار مولى بني أسد، و "أويس القرني" ].
قال ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ : [ ثمّ ينادي: المنادي أينْ حواري الحسنبن علي بن فاطمة بنت محمّد رسول الله ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ؟
فيقوم سفيان بن أبي ليلى الهمداني، و حذيفة بن أسيد الغفاري ].
قال ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ : [ ثمّ ينادي: أين حواري الحسين بن علي ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ؟
فيقوم كلّ من أستشهد معه و لم يتخلف عنه ].
قال ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ : [ ثمّ ينادي: أين حواري علي بن الحسين ـ عليه الصّلاة و السلام ـ؟
فيقوم: جبير بن مطعم، و يحيى بن أمّ الطويل، و أبو خالد الكابلي، و سعيد بن المسيّب ].
قال ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ : [ ثمّ ينادي: أين حواري محمّد بن علي و جعفر بن محمّد ـ عليهم الصّلاة و السّلام؟
فيقوم عبد الله بن شريك العامري، و زرارة بن أعين، و بريد بن معاوية العجلي، و محمّد بن مسلم الثقفي، و ليث بن البختري المرادي، و عبد الله بن أبي يعفور، و عامر بن عبد الله بن جذاعة، و حجر بن زائدة، و حمران بن أعين.
ثمّ ينادي المنادي سائر الشيعة مع سائر الأئمة يوم القيامة، فهؤلاء أوّل الشيعة الذين يدخلون الفردوس و هؤلاء أوّل السّابقين و أوّل المقرّبين و أوّل المتحوّرة من التابعين ] بحار الأنوار: ج 34 ص 277. أقول: نقله الكشيّ في رجاله ص 6، بسند آخر عنه مثله مع إختلاف يسير في بعض ألفاظه.
و إيّاه يعني دعبل الخزاعي في قصيدته التي يفتخر فيها على نزار و ينقض على الكميت بن زيد قصيدته التي يقول فيها:
ألا حبيت عنا يا مدينا *** أويس ذو الشفاعة كان منا
فيوم البعث نحن الشافعونا
ثمّ أنه قال المحقق المامقاني ـ أعلى الله مقامه ـ في تنقيح المقال ـ: [ قد إتفق الفريقان على جلالة الرجل ـ أي أويس القرني ـ و تقواه و زهده و علاه و ملاؤا الكتب في مدائحه و فضائله حتى إلتجأ بعض وقحاء العامّة إنكار شهادته بصفيّن؛ فراراً عن لازمه و لكنْ المنصفين من العامّة و المحققين منهم و من له من الحياء قليل نصيب إعترفوا بذلك و كفاهم بذلك مثلبة و فضيحة ]، أقول: بل بلغت بهم الوقاحة حدّاً أنْ أنكروا وجود أويس القرني كما ذهب إلى هذا الرأي الشاذ إمامهم المالك.
[11] الطبقات الكبرى للشعراني، و الإصابة: ج1 ص 115، والسّيرة الحلبيّة: ج2 ص 256.
[12] بحار الأنوار: ج 41 ص 300 و ج 42 ص 147، و 155 و 156.
في سجن ولاية الفقيه
بقلم: الأصولي الشهير و الفقيه المحقق و الفيلسوف البارع سماحة آية الله السّيد رضا الصّدر ـ قدّس الله نفسه الزكيّة ـ.
ــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم
إنقضت سبعة عشر ليلة من شهر رجب المرجّب و إنتهت العُطلة النوروزيّة [1] و تعانق مساء السّبت المصادف الثامن عشر من شهر رجب المرجّب عام 1406 الهجريّة القمريّة، مع ليلة الأحد العاشر من شهر فروردين عام 1365 الهجريّة الشّمسيّة [2].
قضيت تلك الليلة في طهران بسبب وعكة صحية أصبت بها و لم أعد إلى قم المقدّسة، و بذلك أصبحت محروماً من مواصلة مهامّي التي كانت تحتم عليّ البقاء في قم، و حيث أنّ الدروس كانت تُشرع من يوم السّبت، لم يكن لي حظّ من الحضور، و فى ظاهر الأمر تلامذتي كانوا مسرورين من غيابي!
حينما رنّ جرس الدّار كانت السّاعة تشير الى بعد العاشرة مساءاً؛ فتحت باب الدّار فإذا بالسّادة الحاج السّيد جلال الإمامي و الحاج مير جليل المنيبي و الحاج موسى شيخ زادگان و الحاج مهدي الدواتگران و الحاج أكبر المراغه چي، يطلون علي، الزوار خمسة أشخاص ولكن العددين خمسة و سبعة تعتبر من الأعداد الآحادية، التي لا يمكن تقسيمها على الإثنين و الثلاثة و الأربعة و لا يكون لهما نصف صحيح و لا ثلث صحيح و لا ربع صحيح.
بادر زوّاري الخمسة بالحديث عن سبب مجيئهم قائلين:
أتينا ـ هنا ـ لندلي بالشهادة على الوصية الشفاهية التى أصغانا بها مرجع عظيم طريح الفراش:
غسّلوني في حسينيتي بقم المقدّسة، و يصلي على جنازتي السّيد الصدر، و أدفنوني في الحرم [3]، و إذا منعوكم من ذلك، فادفنوني في حسينيّتي ...
خلال الحديث، إنجرّ الكلام إلى مدح كاتب هذه الأسطر الذي كان بمثابة الدليل على وصيّته فنصرف عنان القلم للتعبير بلطف ذلك الرجل العظيم لى.
وكان السّيد الإمامي صهر ذلك الرجل العظيم و هو عالم جليل. و أمّا السّيد المنيبي فهو ابن عمّ سماحته و أخو زوجته و هو تاجر أمين. و أمّا سائر السّادة فيعدّون من زمرة أصدقائه و أقاربه.
زيارة الشهيد في المستشفى
بعد مضيّ ليلتين من هذا الحادث، ذهبت لعيادة ذلك الرجل العظيم الذي كان طريح الفراش في مستشفى مهرداد في غرفة الإنعاش أو ما يسمى بالعناية القصوى ـ CCU ـ. أوصلني المصعد إلى الطابق الرابع. السّيد الحائري ـ الشريعتمداري ـ "أخ المريض" فتح عليّ باب القسم الذي تقع فيه غرفة الإنعاش ـ و دلني على غرفة المريض. كان سرير المريض منحنياً حتى يتكأ عليها و كان في أنفه شيئا يُسهّل عليه التنفس.
التلفاز الخاص الذي كان منصوبا فوق رأسه ، كان يخبر عن سلامة قلبه، ولكن حينما كان المرض قد إستولى على خاصرته اليمنى و تجاوز الكبد، فماذا يستطيع أنْ يفعل القلب المعافى؟!
القلب قائد، و حينما يكون جنوده مرضى و عاجزين فلا يستطيع أنْ يفعل شئاً.
السّرطان إستولى على خاصرته اليمنى و إقتحم كبده و جيوشه قد دخلت رئته إلى حدّ سلبت منه الراحة في التنفس و كان ينقله شيئا فشيئا نحو الموت، و أمّا القلب فكان عاجزاً عن الدفاع و التصدي له.
أغمض عينيه الكريمتين اللتين كانتا ترى عواقب الأمور، لكنهما لم تكونا نائمتين. ربما لم يكن لهما أي شوق و رغبة في رؤية العالم و العالمين!
السّيد الحائري نادى أخاه قائلاً: جاء سماحة السّيد الصّدر ...، فتح عينيه و ردّ سلامي بإبتسامة جميلة كانت من خصائصه.
إنجرّ الكرسي الذي كان في زاوية الغرفة إلى قرب السّرير فجلست عليه. فرح من زيارتي، لأنّه كان غريباً و إنهم منعوا مخلصيه و أصدقائه من عيادته، بالرغم من أنّ عيادة المريض في الإسلام المحمّدي مستحب و من السّنن الأكيدة في الدّين.
لماذا فعلوا ذلك؟ لماذا منعوا عيادته؟ ماالذى كان يقع إن كان يزوره الناس؟ كان المريض عاجزاً عن التكلم!
لماذا منعوا إبنه [4] في اللحظات الأخيرة، أنْ يكلّم والده ببضع كلمات قلائل؟ إذا كان يتكلم هذا الولد مع هذا الوالد مالذى كان يحدث؟ هل هذا هو العدل إسلامي؟!
بدأت كلامي مع المريض بهذه الكلمات:
إسمحوا لي بقرائة سورة الحمد سبع مرّات لشفائكم.. و قرأت السّورة سبع مرّات و لكن لمْ أر أثراً من شفاء المريض، لابد من حدوث إعجاز في البين أعجز و يعجز أمثالي من فعله.
بعد ما إنتهيت من قراءة سورة الحمد – الشفاء- استقبلنى سماحته بحفاوة بالغة باسارير وجهه الكريم الذي ابهجني وأخذ يجاملني ، فتفضل لى قائلاً: أشكركم كثيراً... و لم يكتف بهذا المقدار وأضاف: لطفتم بي كثيراً. ثمّ دار الحديث مع أقاربه حول سفرته العلاجية الى أوروبا، وعرفت أنّ القائد ـ الخميني ـ لم يوافق على ذلك!
لماذا؟ إن كان يذهب إلى أوروبا ماذا كان يحدث؟ إنّه لم يتمكن من الإجتماع و المقابلةـ مع الصحفيين ـ.
من سنن الإسلام المحمّدي و مستحباته، التعجيل في القيام من عند المريض ومغادرته إلا إذا طلب المريض من الزائر البقاء، و لكن الأطباء لم يسمحوا لعيادة المريض في غرفة الإنعاش لأنّها مضرّة له. فمن المؤكد مائة بالمائة أنهم لم يوافقوا على إطالة العيادة.
كنت أمام مفترق الطرق، من جانب كان يحب المريض أن أبقى عنده و لكنّ شدة مرضه لم تسمح لي بالبقاء.
على أيّة حال، آثرت المصلحة على العاطفة و قمت من عنده، و بعد ـ هذا اللقاء ـ لم أره نهائيا- [ وكان هذا لقاءنا الأخير والوداعي ]!.
منذ سنين لم ألتق به، لأنّه كان محبوساً في داره و لا يسمح لأحد بزيارته، و إذا كان شخص ما يمرّ من زقاق بيته يشعر كأنّ الجدران تريد أنْ تحطم رأسه ألماً وحزناً من الصّمت الظالم الذى لحق بها و الصّعوبة في الوصول إليه ـ قدّس سرّه ـ في بيته ـ [5] ـ لأنّ بيته ـ قدّس سرّه ـ كان محاطاً برجال الأمن و المخابرات ـ.
كان في زمانه ملجأ و ملاذاً للاجئين و املاً للمؤملين و الآملين، انقذ الكثير من السجناء و كم أسعد المساكين و البؤساء؟ بعد حبسه لم يكن هنالك من ينوب عنه و يقوم مقامه و لا نرى كمثله أحدا حيث يلجئ إليه اللآجئين . قصارى ما كنت أستطيع فعله هو أنْ أحمي نفسى بنفسى و أهل بيتي و أقاربي فقط و لم أتمكن من حماية غيرهم؛ الويل كل الويل لمن يطلب منك اللجوء ولم تستطع حمايته!
إنني سعيت كثيراً لإنقاذه من السّجن.. ففي أوائل الأمر أرسلت رسالة بواسطة الموسوي الأردبيلي كتبت فيها إنني مستعد لحلّ المشكلة، بيّنوا رأيكم في الأمر؟ ثمّ بعثت رسائلي [6] بواسطة السّيد الحاج محمّد صادق اللواساني. هذا الرجل الشريف كان يستقبل رسائلي بحفاوة بالغة وكان يأتيني بردود الرسائل. لكني لم أتمكن من انقاذ هذا الرجل العظيم. وكأنّ التقدير و التدبير لم ينسقا مع بعضهما البعض وجهودنا لم تثمر ثمارها.
قبل عام شخّص الدكتور باهر المرض في خاصرته [7] اليمنى، و إذا كان يُسمح بمجيئه إلى طهران أو كان حرّاً في الذهاب إلى الدول الأوروبيّة، كان بإمكانهم القضاء على المرض و ربما كان يطول عمره أكثر و لكن لم يسمحوا له بالذهاب إلى خارج البلد! [8]، لماذا؟!
وبعد مضيّ عام، إستعصى المرض شيئا فشيئا و إستكثرت الآلام عنده و بعد سعى مرير والمطاليب المكررة سمحوا له بالمجئ إلى طهران [9]، ولكن قد فات الأوان، حيث أنّ الأدوية لم تصل اليه بالوقت المناسب.
في هذه الأثناء أراد إبنه أنْ يتحدث مع والده هاتفيا من المانيا، و يسئله عن صحته، لكنهم لم يسمحوا له! لماذا؟! بالرغم من أنّ فى جميع القوانين الدولية يحق لعائلة السّجين التحدث مع أقربائه، خاصة إنْ كان السّجين محتضراً و على أعتاب الموت، إذ لعلّه يريد أنْ يوصي.
ماذا كان سيحدث لو أراد الوالد أنْ يتحدث مع ولده وهو محتضر على فراش الموت و أمنيّته الوحيدة فى تلك اللحظة رؤية ولده والسّماع إلى صوته الحنون؟!
ماالذى كان يحدث ان كان الإبن الغريب و المشرد و البعيد عن أمّه و أبيه يستطيع التحدث مع والده و الإستماع إلى صوت ذلك الشيخ الكبير الطاعن فى السن؟! ألا يجيز ذلك الإسلام الأصيل المحمّدي ؟!
أويس القرني[10]، لكي لا يبتعد عن والدته، حرّم نفسه من زيارة رسول الله ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ [11].
كان ذاهباً الى المدينة لللقاء برسول الله، ولكن النبى كان آنئذ خارجاً من المدينة، و والدته لم تأذن له بالتأخير فى عودة ولدها فعاد مسرعا إليها، لأنّ النبى قد أمر بطاعة الأم – و إنْ كانت كافرة- .
وحينما عاد رسول الله ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ إلى المدينة قال: أشمّ روائح الجنة، من كان هنا؟
قيل: كان شاب عليه ثياب رثة قد جاء من اليمن لرؤيتك يا رسول الله، و لم يتوفق لذلك.
بقى أويس خادماً لوالدته طيلة حياتها ولم يشارك فى أيّ غزوة من غزوات النبى، وحينما فارقت والدته الحياة، إلتحق بأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليهما الصّلاة و السّلام ـ [12]، لأنّ والدته قد توفيت بعد رحيل رسول الله ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أي رأس السّنة الإيرانية، فهذه العطلة لعيد النوروز فإنّه و يوم الجمعة كانا عيدين للمجوس و مشركي العرب فأقرهما الإسلام و أمضاهما.
[2] 30/مارس/1986 الميلادى.
[3] أي حرم السّيدة فاطمة المعصومة ـ سلام الله عليها ـ.
[4] المهندس السّيد حسن الشريعتمداري السّاكن في المانيا.
[5] ديوان حافظ الشيرازي و أصله:
اي كه از كوچه معشوقه ما مي گذري *** بر حذر باش كه سر مي شكند ديوارش!
[6] إلى السلطة الحاكمة أو إلى الخميني نفسه و الله العالم.
[7] أي خاصرة الشهيد الشريعتمداري ـ قدّس سرّه الشريف ـ.
[8] هذا مصداق جلي من مصاديق القتل العمدي كما هو واضح؛ قال المحقق الخوئي ـ قدّس سرّه ـ: [ يتحقق العمد بقصد البالغ العاقل القتلَ ..، كما يتحقق القتل العمدي فيما إذا كان فعل المكلف علة تامّة للقتل أو جزءاً أخيراً للعلة بحيث لا ينفك الموت عن الفاعل زماناً، كذلك يتحقق فيما إذا ترتب القتل عليه من دون أنْ يتوسطه فعل إختياري من شخص آخر، كما إذا رمى سهماً نحو من أراد قتله فأصابه فمات بذلك بعد مدّة من الزمن، و من هذا القبيل ما إذا خنقه بحبل و لم يرخه عنه حتى مات "أو حبسه في مكان ومنع عنه الطعام و الشراب حتى مات أو نحو ذلك، فهذه الموارد و أشباهها داخلة في القتل العمدي" ] منهاج الصالحين لسماحة آية الله العظمى السّيد أبو القاسم الخوئي ـ قدّس سرّه ـ مع فتاوي الأصولي البارع و الفقيه الجامع سماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني ـ دام ظله الوارف ـ ج 3 ص 506.
[9] لتلقي العلاج.
[10] أويس بن عامر القرني من أصحاب أمير المؤمنين ـ عليه أفضل الصّلاة و السّلام ـ و من حواريه و المستشهدين بين يديه في صفين؛ روي عن الإمام الباقر ـ عليه أفضل الصّلاة و السّلام ـ أنّه قال: [ شهد مع علي بن أبي طالب ـ عليمها الصّلاة و السّلام ـ من "التابعين" ثلاثة نفر بصفيّن شهد لهم رسول الله ـ صلى الله عليه و آله ـ بالجنة و لم يرهم: أويس القرني، و زيد بن صوحان العبدي و جندب الخير الأزدي ] بحار الأنوار: ج 32 ص 618؛ و روى الشيخ المفيد في الإختصاص ـ ص 61 ـ بسندين عن علي بن أسباط بن سالم عن أبيه قال: قال أبوالحسن موسى بن جعفر ـ عليهما الصّلاة و السّلام ـ: [ إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواري محمّد بن عبد الله رسول الله ـ صلى الله عليه و آله ـ الذين لم ينقضوا العهد و مضوا عليه؟
فيقوم سلمان، و المقدار، و أبوذر ].
قال ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ : [ ثمّ ينادي: أين حواري علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله ـ صلى الله عليه و آله ـ و سلم ـ؟
فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي، و محمّد بن أبي بكر، وميثم بن يحيى التمّار مولى بني أسد، و "أويس القرني" ].
قال ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ : [ ثمّ ينادي: المنادي أينْ حواري الحسنبن علي بن فاطمة بنت محمّد رسول الله ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ؟
فيقوم سفيان بن أبي ليلى الهمداني، و حذيفة بن أسيد الغفاري ].
قال ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ : [ ثمّ ينادي: أين حواري الحسين بن علي ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ؟
فيقوم كلّ من أستشهد معه و لم يتخلف عنه ].
قال ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ : [ ثمّ ينادي: أين حواري علي بن الحسين ـ عليه الصّلاة و السلام ـ؟
فيقوم: جبير بن مطعم، و يحيى بن أمّ الطويل، و أبو خالد الكابلي، و سعيد بن المسيّب ].
قال ـ عليه الصّلاة و السّلام ـ : [ ثمّ ينادي: أين حواري محمّد بن علي و جعفر بن محمّد ـ عليهم الصّلاة و السّلام؟
فيقوم عبد الله بن شريك العامري، و زرارة بن أعين، و بريد بن معاوية العجلي، و محمّد بن مسلم الثقفي، و ليث بن البختري المرادي، و عبد الله بن أبي يعفور، و عامر بن عبد الله بن جذاعة، و حجر بن زائدة، و حمران بن أعين.
ثمّ ينادي المنادي سائر الشيعة مع سائر الأئمة يوم القيامة، فهؤلاء أوّل الشيعة الذين يدخلون الفردوس و هؤلاء أوّل السّابقين و أوّل المقرّبين و أوّل المتحوّرة من التابعين ] بحار الأنوار: ج 34 ص 277. أقول: نقله الكشيّ في رجاله ص 6، بسند آخر عنه مثله مع إختلاف يسير في بعض ألفاظه.
و إيّاه يعني دعبل الخزاعي في قصيدته التي يفتخر فيها على نزار و ينقض على الكميت بن زيد قصيدته التي يقول فيها:
ألا حبيت عنا يا مدينا *** أويس ذو الشفاعة كان منا
فيوم البعث نحن الشافعونا
ثمّ أنه قال المحقق المامقاني ـ أعلى الله مقامه ـ في تنقيح المقال ـ: [ قد إتفق الفريقان على جلالة الرجل ـ أي أويس القرني ـ و تقواه و زهده و علاه و ملاؤا الكتب في مدائحه و فضائله حتى إلتجأ بعض وقحاء العامّة إنكار شهادته بصفيّن؛ فراراً عن لازمه و لكنْ المنصفين من العامّة و المحققين منهم و من له من الحياء قليل نصيب إعترفوا بذلك و كفاهم بذلك مثلبة و فضيحة ]، أقول: بل بلغت بهم الوقاحة حدّاً أنْ أنكروا وجود أويس القرني كما ذهب إلى هذا الرأي الشاذ إمامهم المالك.
[11] الطبقات الكبرى للشعراني، و الإصابة: ج1 ص 115، والسّيرة الحلبيّة: ج2 ص 256.
[12] بحار الأنوار: ج 41 ص 300 و ج 42 ص 147، و 155 و 156.
تعليق