الآية الثالثة في سورة طه:
قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى).
التحقيق حول الآية الكريمة:
صرح أكثر الفقهاء والمفسرين من الفريقين(36) بأن التسبيح الذي أمر الله سبحانه به في هذه الآية هو الصلوات الخمس المكتوبة، أو المكتوبة والمندوبة، وأن الله سماها تسبيحاً من باب تسمية الكل باسم البعض كما سماها قرآناً وسجوداً وذكراً، أو لأن التسبيح لغة هو التنزيه والتقديس، والصلاة من أبرز مظاهرهما.
قال السيد محمد رشيد رضا في تفسيره: "وكانوا يعبرون عن الصلاة بالتسبيح ويقولون سبح الغداة مثلاً أي صلى الفجر"(37).
ويؤيد هذا نصوص مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه والتابعين كما ستمر عليك قريباً.
والآية - كما ترى - تذكر أوقاتاً أربعة(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) وهذا وقت لصلاة الصبح بلا خلاف، وهو بيان لآخر وقتها، وعلى هذا نعلم بطلان من رأى أن وقت صلاة الصبح الاختياري ينتهي في وقت تعارف الوجوه وهو الإسفار والتنوير(38) (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا). وهذا وقت للظهر والعصر مشتركاً بينهما، وهو بيان لآخره، ومن هنا نعلم أيضاً بطلان من رأى أن وقت صلاة العصر الاختياري ينتهي إلى اصفرار الشمس في الأرض والجدران(39)، ومن ذهب أيضاً إلى أن من أخّرَ صلاة العصر إلى تجاوز الظل عن مثليه يأثم، وأنه يحرم عليه أن يؤخرها إلى هذا الوقت(40).
(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّح) أي ساعات من الليل وهو وقت للمغرب والعشاء مشتركاً بينهما أيضاً، وإن هذا الوقت هو بعض الليل لا كله، لأن (مِن) للتبعيض، وينتهي الوقت (حسب روايات أهل البيت وفتاوى شيعتهم) للمختار غير المضطر في منتصف الليل، وهو الوقت القريب من النهار في قوله تعالى: (وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْل) أي ساعات من الليل قريبة من النهار، وبذلك نعلم بطلان من رأى أن صلاة العشاء يمتد وقتها إلى طلوع الفجر الصادق الذي به يكون انتهاء الليل(41).
(وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) وهذا الوقت الرابع اختلف المفسرون في المراد منه وستمر عليك بعض أقوالهم فيه، والظاهر لنا –والله أعلم- أن (أَطْرَافَ) جمع طرف، والجمع في اللغة لا يكون أقل من ثلاثة وعليه فإن أُريد به أول النهار ووسطه وآخره، يكون ذلك تأكيداً من الله سبحانه لعباده على صلوات النهار المفروضة الواقعة في أطرافه وهي الصبح والظهر والعصر التي ذكرها بقوله: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا). وإن أُريد به مطلق أطرافه أي ساعاته فإنه يكون ترغيباً من الله لعباده في التطوع بمطلق الصلاة المندوبة في أي وقت شاء من النهار.
ويـؤيد هذا ما روى شيخنا الكليني بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) قال: يعني تطوع بالنهار(42).
فظهر لنا من الآية الكريمة أن فيها دلالة واضحة على اتساع الوقت وامتداده لصلاة الصبح إلى طلوع الشمس، ولصلاتي الظهر والعصر إلى غروبها، والمغرب والعشاء إلى منتصف الليل، وأن مجموع أوقات الصلوات المفروضة ثلاثة لا خمسة. وهذا ما مر علينا صريحاً في روايات أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم مع القرآن والقرآن معهم في كل آياته (لن يفترقا) فاتبعهم.
أقوال وروايات أهل السنة في الآية الكريمة:
وإليك أقوال بعض المفسرين ورواياتهم من أهل السنة حول الآية الكريمة:
1- قال الطبري في تفسيره:
(…(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك) يقول: وصلّ بثنائك على ربك (إلى أن قال) وقوله: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْس) وذلك صلاة الصبح، (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) وهي العصر، (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) صلاة العشاء الآخرة، لأنها تُصلى بعد مضي آناء الليل، وقوله: (وَأَطْرَافَ النَّهَار) يعني صلاة الظهر والمغرب، وقيل (أَطْرَافَ النَّهَار) الصلاتان اللتان ذكرناهما)(43).
يقصد الطبري بالصلاتين اللتين ذكرهما صلاة الصبح والعصر، وعليه يكون الوقت الرابع في الآية للتأكيد على الصلاة المذكورة (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) وهي الصبح والظهر والعصر، وهذا هو الأصوب.
وروى الطبري(44) بإسناده عن أبي زيد عن أبن عباس (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) قال: الصلاة المكتوبة، وروى حديثاً آخر عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي(صلى الله عليه وآله) أن المراد من التسبيح هو الصلوات المكتوبة. وروى عن قتادة في قوله تعالى
فسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) قال: هي صلاة الفجر، (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) قال: صلاة العصر( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) قال: صلاة المغرب والعشاء، (وَأَطْرَافَ النَّهَار) قال: صلاة الظهر.
2- وقال أبو بكر احمد بن علي الجصّاص الحنفي في عرضه لمواقيت الصلوات في القرآن:
((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى). وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضاً، فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات)(45).
3- قال الزمخشري المعتزلي في تفسيره:
(والمراد بالتسبيح الصلاة، أو على ظاهره، قدّم الفعل على الأوقات أولاً، والأوقات على الفعل آخراً، فكأنه قال: صلّ لله قبل طلوع الشمس يعني الفجر، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا يعني الظهر والعصر، لأنهما واقعان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، وتعمّد آناء الليل وأطراف النهار مختصاً لهما بصلاتك.. وقد تناول التسبيح في آناء الليل صلاة العُتمة (أي صلاة العشاء) وفي أطراف النهار: صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى…) (46).
4- وقال الفخر الرازي في تفسيره:
(المسألة الثالثة: اختلف المفسرون في التسبيح على وجهين.
فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على أوجه.
الأول إن الآية تدل على الصلوات الخمس لا أزيد ولا أنقص، فقال أبن عباس: دخلت الصلوات الخمس فيه، فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا هو الظهر والعصر، لأنهما جميعاً قبل الغروب، (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) فسبّح: المغرب والعشاء الأخيرة، ويكون قوله: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) كالتوكيد للصلاتين في طرفي النهار، وهي صلاة الفجر وصلاة المغرب كما اختُصت في قوله
وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) بالتوكيد)(47).
ثم قال: (القول الثاني: إن الزيادة تدل على الصلوات الخمس وزيادة، وأن الزيادة هي قوله تعالى: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) للنوافل)(48).
5- وقال الحافظ أبن كثير الدمشقي الشافعي في تفسيره:
(..(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعني صلاة الفجر(وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) يعني صلاة العصر.. وقال الإمام احمد: حدثنا سفيان بن عُيينة، عن عبد المـلك بن عمير، عن عمـارة بن رؤيبة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لن يلج النار أحد صلى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا. ورواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير..(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) أي من ساعاته فتهجّد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء(وَأَطْرَافَ النَّهَارِ" في مقابلة آناء الليل)(49).
6- وقال جلال الدين السيوطي في تفسيره:
(أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وأبن المنذر، وأبن أبي حاتم، عن أبن عباس في قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا" قال: هي الصلاة المكتوبة. وأخرج عبد الرزاق، وأبن جرير، وأبن المنذر، وأبن أبي حاتم عن قتادة في قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) قال: هي صلاة الفجر، (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) قال: صلاة العصر، (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) قال: صلاة المغرب والعشاء، (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) قال: صلاة الظهر. وأخرج أبن أبي شيبة، ومسلم، وأبو داود، والنَسائي، عن عمارة بن رؤيبة: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لن يلج النار أحد صلى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا). وأخرج الحاكم عن فضالة بن وهب الليثي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال له: حافظ على العصرين، وما العصرين؟ قال: صلاة (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)..)(50).
7- وقال الجلالان في تفسيرهما:
(..(وَسَبِّحْ) وصل (بِحَمْدِ رَبِّكَ) حال، أي متلبساً به (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) صلاة الصبح (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) صلاة العصر(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) ساعاته (فسبّح) صلّ المغرب والعشاء (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) عطف على محل (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) المنصوب، أي صل الظهر لأن وقتها يدخل بزوال الشمس فهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني(لَعَلَّكَ تَرْضَى) بما تُعطى من الثواب)(51).
8- وقال أبو السعود العمادي في تفسيره:
(.."وسبّح" متلبساً "بحمد ربك" أي صلّ وأنت حامد لربك الذي يُبلِغك إلى كمالك على هدايته وتوفيقه، أو نزّهه تعالى عما ينسبون إليه بما لا يليق بشأنه الرفيع، حامداً له على ما ميّزك بالهدى، معترفاً بأنه مولى النعم كلها، والأول هو الأظهر المناسب لقوله تعالى(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) فإن توقيت التنزيه غير معهود، فالمراد صلاة الفجر،(وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) يعني صلاة الظهر والعصر لأنهما قبل غروبها وبعد زوالها..(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) أي ساعاته جمع إنى بالكسر والقصر، وآناء بالفتح والمدّ (فسبّح) أي فصلّ والمراد به المغرب والعشاء…(وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزيّة.. أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار)(52).
9- وقال الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره:
(…"وسبّح" أي صلّ "بحمد ربك" أي وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، معترفاً بأنه مولى النعم كلها، بأن تقول في صلاتك: الحمد لله رب العالمين… الخ، وليكن ذلك(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) وهي صلاة الفجر التي تكون في أوقات الصفاء والجمال والبهجة وإشراق الجو بنور بهج بديع مشرق مذكّر بالنور الإلهي المالئ للكون "وقبل غروبها" وقت الظهر ووقت العصر، وقد أزفت ترحل من العالم الأرضي إلى عالم أرضي آخر، فتكون الصلاة في هذين الوقتين للاعتراف بما حباه الله للناس من النور الذي أكسبهم حياة ومعيشة، وسبّب لهم الخيرات والنعم، وأحاطهم بأصناف الكرامات من جنات وأعناب وسحاب وضياء به يبصرون طرقهم (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فسبَّح) الآناء جمع إنى بالكسر والقصر، أو آناء بالفتح والمدّ أي الساعات يقول: صل في ساعات الليل المغرب والعشاء… وأما قوله تعالى (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) فأنه تكرار لصلاة الصبح وصلاة المغرب وهو معطوف على "قبل" يقول الله: سّبحني في هذه الأوقات(لَعَلَّكَ تَرْضَى) أي رجاء أنك ترضى…)(53).
10- وقال الأستاذ (سيد قطب) في تفسيره:
(وأتجه إلى ربك بحمده قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. في هدأة الصبح وهو يتنفس ويتفتح بالحياة، وفي هدأة الغروب والشمس تودّع، والكون يغمض أجفانه، وسبح بحمده فترات من الليل والنهار.. كن موصولاً بالله على مدار اليوم… لعلك ترضى.
إن التسبيح بالله اتصال، والنفس التي تتصل تطمئن وترضى، ترضى وهي في ذلك الجوار الرضي، وتطمئن، وهي في ذلك الحمى الآمن.
فالرضى ثمرة التسبيح والعبادة، وهو وحده جزاء حاضر ينبت من داخل النفس، ويترعرع في حنايا القلب)(54).
الآية الرابعة والخامسة في سورة الروم:
قال تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ(17)وَلَهُ الْحَمْدُ 0فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ).
التحقيق حول الآيتين الكريمتين:
نصّ الكثير من الفقهاء والمفسّرين من الفريقين أن التسبيح في الآية هو الصلوات الخمس المكتوبة، وهو خبر، ولكن المراد به الأمر، أي سبّحوه ونزّهوه بمعنى: صلوا له في هذه الأوقات.
ووردت في ذلك نصوص صريحة عن بعض الصحابة والتابعين كما سيأتي.
ووجه تسمية الصلاة بالتسبيح هو أن التسبيح تنزيه لله تعالى عن صفات المخلوقين، إذ هو المتعال عنهم المختص بالعبادة له دونهم، وكما أنه منزّه عن صفات المخلوقين كذلك هو جلّ وعلا متصف بما وصف به نفسه من صفات الكمال المطلق الذي لا يتصف به المخلوقين، ومن كان كذلك استحق مطلق الحمد والثناء، ولذلك قرن الحمد له بالتسبيح.
والآيتان – كما ترى - تذكران أوقاتاً أربعة(َفسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) صلاة المغرب والعشاء معاً على ما نص عليه أكثر المفسرين. إذ الإمساء الدخول في المساء وهو مجيء الليل، كما أن الإصباح الدخول في الصباح وهو مجيء ضياء النهار، ثم قال: (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) صلاة الصبح بلا خلاف، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وذُكِرَ الحمد هنا إشارة إلى أن له تبارك وتعالى الحمد والثناء المطلق في العالمين العلوي والسفلي،(وَعَشِيًّا) صلاة العصر عطفاً على أوقات الصلوات المتقدمة،(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) وهذا الوقت الرابع، والمراد منه صلاة الظهر.
فتكون الآية – على هذا - قد ذكرت للصلاة المكتوبة أربعة أوقات، في حين بقية الآيات السابقة والآيات اللاحقة تذكر للصلاة أوقاتاً ثلاثة.
والظاهر لي بعد التدبّر والإمعان – والله أعلم - أن من أهداف هاتين الآيتين بالخصوص بيان أن الجمع بين الصلاتين مشرّع ولا مانع منه لذا عيّنت الآية الأولى وقتاً واحداً لصلاتي المغرب والعشاء معاً بنصها: (وحِينَ تُمْسُونَ) ثم بيان أن التفريق بين الصلاتين مشرّع أيضاً ولا مانع منه، لذا ذكرت الآية الثانية وقتاً خاصاً لصلاة الظهر، وآخر لصلاة العصر، بنصها
وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ).
فتكون الآيتان (مع ملاحظة الآيات الأخرى) مؤيدين لروايات أهل البيت (عليهم السلام) في جواز الجمع بين الصلاتين من جهة والتفريق بينهما من جهة أخرى، وأنهم مع القرآن والقرآن معهم في كل آياته (لن يفترقا) فاتبعهم.
أقوال وروايات أهل السنة في الآيتين الكريمتين:
وإليك أقوال بعض المفسرين ورواياتهم من أهل السنة حول الآيتين الكريمتين.
1- قال الطبري في تفسيره:
(…(فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) يقول تعالى ذكره: فسبّحوا الله أيها الناس، أي صلّوا له حين تمسون وذلك صلاة المغرب(55) وحين تصبحون وذلك صلاة الصبح، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وله الحمد في جميع خلقه دون غيره في السماوات من سكانها، والأرض من أهلها من جميع أصناف خلقه فيها،(وَعَشِيًّا) يقول: وسبّحوه أيضاً عشياً وذلك صلاة العصر(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) يقول: وحين تدخلون في وقت الظهر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل)(56).
وذكر في هذا روايات عديدة منها عن ابن عباس قال: جمعت هاتان الآيتان مواقيت الصلاة (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) قال: المغرب والعشاء، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر، (وَعَشِيًّا) العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر.
ثم ذكر الطبري مثل هذه الرواية من طرق ثمانية عن ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد.
2- وقال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الحنفي:
(وروى ليث، عن الحكم عن أبي عياض، قال: قال ابن عباس: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) المغرب والعشاء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر، (وَعَشِيًّا) العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر، وعن الحسن مثله)(57).
3- وقال الزمخشري المعتزلي في تفسيره:
(والمراد بالتسبيح ظاهره فيها الذي هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعمة الله الظاهرة، وقيل: الصلاة، وقيل لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم وتلا هذه الآية (تُمْسُونَ) صلاة المغرب والعشاء (وتُصْبِحُونَ) صلاة الفجر(وَعَشِيًّا) صلاة العصر (وتُظْهِرُونَ) صلاة الظهر)(58).
4- وقال الفخر الرازي في تفسيره:
(وأما المعنى فقال بعض المفسرين: المراد منه الصلاة، أي صلّوا. وذكروا أنه أشار إلى الصلوات الخمس ..)(59).
5- وقال الحافظ ابن كثير الدمشقي الشافعي في تفسيره:
(هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه عند المساء وهو إقبال الليل بظلامه، وعند الصباح وهو إسفار النهار بضيائه. ثم اعترض بحمده مناسباً للتسبيح وهو التحميد فقال تعالى
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي هو المحمود على ما خلق في السموات والأرض، ثم قال تعالى: (وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) فالعشاء هو شدة الظلام، والإظهار قوة الضياء)(60).
6- وقال جلال الدين السيوطي في تفسيره:
(وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم – وصححه - عن أبي رزين قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، فقرأ (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) صلاة المغرب (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) صلاة الصبح، (وَعَشِيًّا) صلاة العصر(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر، وقرأ "ومن بعد صلاة العشاء")(61).
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وأبن المنذر، عن ابن عباس قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) قال: المغرب والعشاء، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر، (وَعَشِيًّا) العصر، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وأبن المنذر، عن مجاهد مثله)(62).
7- وقال الجلالان في تفسيرهما:
(…(فَسُبْحَانَ اللَّهِ) أي سبحوا الله بمعنى صلوا (حِينَ تُمْسُونَ) أي تدخلون في المساء، وفيه صلاتان: المغرب والعشاء،(وَحِينَ تُصْبِحُونَ) تدخلون في الصباح، فيه صلاة الصبح،(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) اعتراض ومعناه يحمده أهلهما(وَعَشِيًّا) عطف على (حين) وفيه صلاة العصر،(وَحِينَ تُظْهِرُونَ)، تدخلون في الظهيرة وفيه صلاة الظهر)(63).
8- وقال أبو السعود العمادي في تفسيره:
(وقيل: المراد بالتسبيح والحمد الصلاة لاشتمالها عليهما، وقد روي عن أبن عباس: أن الآية جامعة للصلوات الخمس(تُمْسُونَ) صلاتا المغرب والعشاء، و(تُصْبِحُونَ) صلاة الفجر، و(عشياً) صلاة العصر، و(تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر)(64).
9- وقال الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره:
(..(فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون) أي فسبّحوا لله، والتسبيح تنزيه الله من السوء، والثناء عليه بالخير في الصلاة وغيرها، وقد سأل نافع بن الأزرق أبن عباس قائلاً: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم، وقرأ هاتين الآيتين، وقال: جمعت الصلوات الخمس ومواقيتها، قال العلماء: وذلك أن قوله(تُمْسُونَ) صلاة المغرب والعشاء، وقوله (تُصْبِحُونَ )صلاة الفجر، (وَعَشِيًّا) صلاة العصر، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر)(65).
10- وقال الأستاذ سيد قطب في تفسيره:
(والنص يربط التسبيح والحمد بالأوقات: الإمساء والإصباح والعشي والإظهار، كما يربطهما بآفاق السماوات والأرض. فيتقصّى بهما الزمان والمكان، ويربط القلب البشري بالله في كل بقعة وفي كل أوان، ويشعر بتلك الرابطة في الخالق مع هيكل الكون ودورة الأفلاك وظواهر الليل والنهار والعشي والإظهار.. ومن ثم يظل القلب مفتوحاً يقظاً حساساً، وكل ما حوله من مشاهد وظواهر، وكل ما يختلف عليه من آونة وأحوال يذكّره بتسبيح الله وحمده ويصله بخالقه وخالق المشاهد والظواهر والآونة والأحوال)(66).
قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى).
التحقيق حول الآية الكريمة:
صرح أكثر الفقهاء والمفسرين من الفريقين(36) بأن التسبيح الذي أمر الله سبحانه به في هذه الآية هو الصلوات الخمس المكتوبة، أو المكتوبة والمندوبة، وأن الله سماها تسبيحاً من باب تسمية الكل باسم البعض كما سماها قرآناً وسجوداً وذكراً، أو لأن التسبيح لغة هو التنزيه والتقديس، والصلاة من أبرز مظاهرهما.
قال السيد محمد رشيد رضا في تفسيره: "وكانوا يعبرون عن الصلاة بالتسبيح ويقولون سبح الغداة مثلاً أي صلى الفجر"(37).
ويؤيد هذا نصوص مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه والتابعين كما ستمر عليك قريباً.
والآية - كما ترى - تذكر أوقاتاً أربعة(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) وهذا وقت لصلاة الصبح بلا خلاف، وهو بيان لآخر وقتها، وعلى هذا نعلم بطلان من رأى أن وقت صلاة الصبح الاختياري ينتهي في وقت تعارف الوجوه وهو الإسفار والتنوير(38) (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا). وهذا وقت للظهر والعصر مشتركاً بينهما، وهو بيان لآخره، ومن هنا نعلم أيضاً بطلان من رأى أن وقت صلاة العصر الاختياري ينتهي إلى اصفرار الشمس في الأرض والجدران(39)، ومن ذهب أيضاً إلى أن من أخّرَ صلاة العصر إلى تجاوز الظل عن مثليه يأثم، وأنه يحرم عليه أن يؤخرها إلى هذا الوقت(40).
(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّح) أي ساعات من الليل وهو وقت للمغرب والعشاء مشتركاً بينهما أيضاً، وإن هذا الوقت هو بعض الليل لا كله، لأن (مِن) للتبعيض، وينتهي الوقت (حسب روايات أهل البيت وفتاوى شيعتهم) للمختار غير المضطر في منتصف الليل، وهو الوقت القريب من النهار في قوله تعالى: (وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْل) أي ساعات من الليل قريبة من النهار، وبذلك نعلم بطلان من رأى أن صلاة العشاء يمتد وقتها إلى طلوع الفجر الصادق الذي به يكون انتهاء الليل(41).
(وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) وهذا الوقت الرابع اختلف المفسرون في المراد منه وستمر عليك بعض أقوالهم فيه، والظاهر لنا –والله أعلم- أن (أَطْرَافَ) جمع طرف، والجمع في اللغة لا يكون أقل من ثلاثة وعليه فإن أُريد به أول النهار ووسطه وآخره، يكون ذلك تأكيداً من الله سبحانه لعباده على صلوات النهار المفروضة الواقعة في أطرافه وهي الصبح والظهر والعصر التي ذكرها بقوله: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا). وإن أُريد به مطلق أطرافه أي ساعاته فإنه يكون ترغيباً من الله لعباده في التطوع بمطلق الصلاة المندوبة في أي وقت شاء من النهار.
ويـؤيد هذا ما روى شيخنا الكليني بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) قال: يعني تطوع بالنهار(42).
فظهر لنا من الآية الكريمة أن فيها دلالة واضحة على اتساع الوقت وامتداده لصلاة الصبح إلى طلوع الشمس، ولصلاتي الظهر والعصر إلى غروبها، والمغرب والعشاء إلى منتصف الليل، وأن مجموع أوقات الصلوات المفروضة ثلاثة لا خمسة. وهذا ما مر علينا صريحاً في روايات أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم مع القرآن والقرآن معهم في كل آياته (لن يفترقا) فاتبعهم.
أقوال وروايات أهل السنة في الآية الكريمة:
وإليك أقوال بعض المفسرين ورواياتهم من أهل السنة حول الآية الكريمة:
1- قال الطبري في تفسيره:
(…(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك) يقول: وصلّ بثنائك على ربك (إلى أن قال) وقوله: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْس) وذلك صلاة الصبح، (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) وهي العصر، (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) صلاة العشاء الآخرة، لأنها تُصلى بعد مضي آناء الليل، وقوله: (وَأَطْرَافَ النَّهَار) يعني صلاة الظهر والمغرب، وقيل (أَطْرَافَ النَّهَار) الصلاتان اللتان ذكرناهما)(43).
يقصد الطبري بالصلاتين اللتين ذكرهما صلاة الصبح والعصر، وعليه يكون الوقت الرابع في الآية للتأكيد على الصلاة المذكورة (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) وهي الصبح والظهر والعصر، وهذا هو الأصوب.
وروى الطبري(44) بإسناده عن أبي زيد عن أبن عباس (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) قال: الصلاة المكتوبة، وروى حديثاً آخر عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي(صلى الله عليه وآله) أن المراد من التسبيح هو الصلوات المكتوبة. وروى عن قتادة في قوله تعالى

2- وقال أبو بكر احمد بن علي الجصّاص الحنفي في عرضه لمواقيت الصلوات في القرآن:
((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى). وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضاً، فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات)(45).
3- قال الزمخشري المعتزلي في تفسيره:
(والمراد بالتسبيح الصلاة، أو على ظاهره، قدّم الفعل على الأوقات أولاً، والأوقات على الفعل آخراً، فكأنه قال: صلّ لله قبل طلوع الشمس يعني الفجر، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا يعني الظهر والعصر، لأنهما واقعان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، وتعمّد آناء الليل وأطراف النهار مختصاً لهما بصلاتك.. وقد تناول التسبيح في آناء الليل صلاة العُتمة (أي صلاة العشاء) وفي أطراف النهار: صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى…) (46).
4- وقال الفخر الرازي في تفسيره:
(المسألة الثالثة: اختلف المفسرون في التسبيح على وجهين.
فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على أوجه.
الأول إن الآية تدل على الصلوات الخمس لا أزيد ولا أنقص، فقال أبن عباس: دخلت الصلوات الخمس فيه، فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا هو الظهر والعصر، لأنهما جميعاً قبل الغروب، (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) فسبّح: المغرب والعشاء الأخيرة، ويكون قوله: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) كالتوكيد للصلاتين في طرفي النهار، وهي صلاة الفجر وصلاة المغرب كما اختُصت في قوله

ثم قال: (القول الثاني: إن الزيادة تدل على الصلوات الخمس وزيادة، وأن الزيادة هي قوله تعالى: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) للنوافل)(48).
5- وقال الحافظ أبن كثير الدمشقي الشافعي في تفسيره:
(..(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعني صلاة الفجر(وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) يعني صلاة العصر.. وقال الإمام احمد: حدثنا سفيان بن عُيينة، عن عبد المـلك بن عمير، عن عمـارة بن رؤيبة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لن يلج النار أحد صلى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا. ورواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير..(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) أي من ساعاته فتهجّد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء(وَأَطْرَافَ النَّهَارِ" في مقابلة آناء الليل)(49).
6- وقال جلال الدين السيوطي في تفسيره:
(أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وأبن المنذر، وأبن أبي حاتم، عن أبن عباس في قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا" قال: هي الصلاة المكتوبة. وأخرج عبد الرزاق، وأبن جرير، وأبن المنذر، وأبن أبي حاتم عن قتادة في قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) قال: هي صلاة الفجر، (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) قال: صلاة العصر، (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) قال: صلاة المغرب والعشاء، (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) قال: صلاة الظهر. وأخرج أبن أبي شيبة، ومسلم، وأبو داود، والنَسائي، عن عمارة بن رؤيبة: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لن يلج النار أحد صلى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا). وأخرج الحاكم عن فضالة بن وهب الليثي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال له: حافظ على العصرين، وما العصرين؟ قال: صلاة (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)..)(50).
7- وقال الجلالان في تفسيرهما:
(..(وَسَبِّحْ) وصل (بِحَمْدِ رَبِّكَ) حال، أي متلبساً به (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) صلاة الصبح (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) صلاة العصر(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) ساعاته (فسبّح) صلّ المغرب والعشاء (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) عطف على محل (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) المنصوب، أي صل الظهر لأن وقتها يدخل بزوال الشمس فهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني(لَعَلَّكَ تَرْضَى) بما تُعطى من الثواب)(51).
8- وقال أبو السعود العمادي في تفسيره:
(.."وسبّح" متلبساً "بحمد ربك" أي صلّ وأنت حامد لربك الذي يُبلِغك إلى كمالك على هدايته وتوفيقه، أو نزّهه تعالى عما ينسبون إليه بما لا يليق بشأنه الرفيع، حامداً له على ما ميّزك بالهدى، معترفاً بأنه مولى النعم كلها، والأول هو الأظهر المناسب لقوله تعالى(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) فإن توقيت التنزيه غير معهود، فالمراد صلاة الفجر،(وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) يعني صلاة الظهر والعصر لأنهما قبل غروبها وبعد زوالها..(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) أي ساعاته جمع إنى بالكسر والقصر، وآناء بالفتح والمدّ (فسبّح) أي فصلّ والمراد به المغرب والعشاء…(وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزيّة.. أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار)(52).
9- وقال الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره:
(…"وسبّح" أي صلّ "بحمد ربك" أي وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، معترفاً بأنه مولى النعم كلها، بأن تقول في صلاتك: الحمد لله رب العالمين… الخ، وليكن ذلك(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) وهي صلاة الفجر التي تكون في أوقات الصفاء والجمال والبهجة وإشراق الجو بنور بهج بديع مشرق مذكّر بالنور الإلهي المالئ للكون "وقبل غروبها" وقت الظهر ووقت العصر، وقد أزفت ترحل من العالم الأرضي إلى عالم أرضي آخر، فتكون الصلاة في هذين الوقتين للاعتراف بما حباه الله للناس من النور الذي أكسبهم حياة ومعيشة، وسبّب لهم الخيرات والنعم، وأحاطهم بأصناف الكرامات من جنات وأعناب وسحاب وضياء به يبصرون طرقهم (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فسبَّح) الآناء جمع إنى بالكسر والقصر، أو آناء بالفتح والمدّ أي الساعات يقول: صل في ساعات الليل المغرب والعشاء… وأما قوله تعالى (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) فأنه تكرار لصلاة الصبح وصلاة المغرب وهو معطوف على "قبل" يقول الله: سّبحني في هذه الأوقات(لَعَلَّكَ تَرْضَى) أي رجاء أنك ترضى…)(53).
10- وقال الأستاذ (سيد قطب) في تفسيره:
(وأتجه إلى ربك بحمده قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. في هدأة الصبح وهو يتنفس ويتفتح بالحياة، وفي هدأة الغروب والشمس تودّع، والكون يغمض أجفانه، وسبح بحمده فترات من الليل والنهار.. كن موصولاً بالله على مدار اليوم… لعلك ترضى.
إن التسبيح بالله اتصال، والنفس التي تتصل تطمئن وترضى، ترضى وهي في ذلك الجوار الرضي، وتطمئن، وهي في ذلك الحمى الآمن.
فالرضى ثمرة التسبيح والعبادة، وهو وحده جزاء حاضر ينبت من داخل النفس، ويترعرع في حنايا القلب)(54).
الآية الرابعة والخامسة في سورة الروم:
قال تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ(17)وَلَهُ الْحَمْدُ 0فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ).
التحقيق حول الآيتين الكريمتين:
نصّ الكثير من الفقهاء والمفسّرين من الفريقين أن التسبيح في الآية هو الصلوات الخمس المكتوبة، وهو خبر، ولكن المراد به الأمر، أي سبّحوه ونزّهوه بمعنى: صلوا له في هذه الأوقات.
ووردت في ذلك نصوص صريحة عن بعض الصحابة والتابعين كما سيأتي.
ووجه تسمية الصلاة بالتسبيح هو أن التسبيح تنزيه لله تعالى عن صفات المخلوقين، إذ هو المتعال عنهم المختص بالعبادة له دونهم، وكما أنه منزّه عن صفات المخلوقين كذلك هو جلّ وعلا متصف بما وصف به نفسه من صفات الكمال المطلق الذي لا يتصف به المخلوقين، ومن كان كذلك استحق مطلق الحمد والثناء، ولذلك قرن الحمد له بالتسبيح.
والآيتان – كما ترى - تذكران أوقاتاً أربعة(َفسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) صلاة المغرب والعشاء معاً على ما نص عليه أكثر المفسرين. إذ الإمساء الدخول في المساء وهو مجيء الليل، كما أن الإصباح الدخول في الصباح وهو مجيء ضياء النهار، ثم قال: (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) صلاة الصبح بلا خلاف، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وذُكِرَ الحمد هنا إشارة إلى أن له تبارك وتعالى الحمد والثناء المطلق في العالمين العلوي والسفلي،(وَعَشِيًّا) صلاة العصر عطفاً على أوقات الصلوات المتقدمة،(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) وهذا الوقت الرابع، والمراد منه صلاة الظهر.
فتكون الآية – على هذا - قد ذكرت للصلاة المكتوبة أربعة أوقات، في حين بقية الآيات السابقة والآيات اللاحقة تذكر للصلاة أوقاتاً ثلاثة.
والظاهر لي بعد التدبّر والإمعان – والله أعلم - أن من أهداف هاتين الآيتين بالخصوص بيان أن الجمع بين الصلاتين مشرّع ولا مانع منه لذا عيّنت الآية الأولى وقتاً واحداً لصلاتي المغرب والعشاء معاً بنصها: (وحِينَ تُمْسُونَ) ثم بيان أن التفريق بين الصلاتين مشرّع أيضاً ولا مانع منه، لذا ذكرت الآية الثانية وقتاً خاصاً لصلاة الظهر، وآخر لصلاة العصر، بنصها

فتكون الآيتان (مع ملاحظة الآيات الأخرى) مؤيدين لروايات أهل البيت (عليهم السلام) في جواز الجمع بين الصلاتين من جهة والتفريق بينهما من جهة أخرى، وأنهم مع القرآن والقرآن معهم في كل آياته (لن يفترقا) فاتبعهم.
أقوال وروايات أهل السنة في الآيتين الكريمتين:
وإليك أقوال بعض المفسرين ورواياتهم من أهل السنة حول الآيتين الكريمتين.
1- قال الطبري في تفسيره:
(…(فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) يقول تعالى ذكره: فسبّحوا الله أيها الناس، أي صلّوا له حين تمسون وذلك صلاة المغرب(55) وحين تصبحون وذلك صلاة الصبح، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وله الحمد في جميع خلقه دون غيره في السماوات من سكانها، والأرض من أهلها من جميع أصناف خلقه فيها،(وَعَشِيًّا) يقول: وسبّحوه أيضاً عشياً وذلك صلاة العصر(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) يقول: وحين تدخلون في وقت الظهر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل)(56).
وذكر في هذا روايات عديدة منها عن ابن عباس قال: جمعت هاتان الآيتان مواقيت الصلاة (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) قال: المغرب والعشاء، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر، (وَعَشِيًّا) العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر.
ثم ذكر الطبري مثل هذه الرواية من طرق ثمانية عن ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد.
2- وقال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الحنفي:
(وروى ليث، عن الحكم عن أبي عياض، قال: قال ابن عباس: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) المغرب والعشاء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر، (وَعَشِيًّا) العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر، وعن الحسن مثله)(57).
3- وقال الزمخشري المعتزلي في تفسيره:
(والمراد بالتسبيح ظاهره فيها الذي هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعمة الله الظاهرة، وقيل: الصلاة، وقيل لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم وتلا هذه الآية (تُمْسُونَ) صلاة المغرب والعشاء (وتُصْبِحُونَ) صلاة الفجر(وَعَشِيًّا) صلاة العصر (وتُظْهِرُونَ) صلاة الظهر)(58).
4- وقال الفخر الرازي في تفسيره:
(وأما المعنى فقال بعض المفسرين: المراد منه الصلاة، أي صلّوا. وذكروا أنه أشار إلى الصلوات الخمس ..)(59).
5- وقال الحافظ ابن كثير الدمشقي الشافعي في تفسيره:
(هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه عند المساء وهو إقبال الليل بظلامه، وعند الصباح وهو إسفار النهار بضيائه. ثم اعترض بحمده مناسباً للتسبيح وهو التحميد فقال تعالى

6- وقال جلال الدين السيوطي في تفسيره:
(وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم – وصححه - عن أبي رزين قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، فقرأ (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) صلاة المغرب (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) صلاة الصبح، (وَعَشِيًّا) صلاة العصر(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر، وقرأ "ومن بعد صلاة العشاء")(61).
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وأبن المنذر، عن ابن عباس قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) قال: المغرب والعشاء، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر، (وَعَشِيًّا) العصر، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وأبن المنذر، عن مجاهد مثله)(62).
7- وقال الجلالان في تفسيرهما:
(…(فَسُبْحَانَ اللَّهِ) أي سبحوا الله بمعنى صلوا (حِينَ تُمْسُونَ) أي تدخلون في المساء، وفيه صلاتان: المغرب والعشاء،(وَحِينَ تُصْبِحُونَ) تدخلون في الصباح، فيه صلاة الصبح،(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) اعتراض ومعناه يحمده أهلهما(وَعَشِيًّا) عطف على (حين) وفيه صلاة العصر،(وَحِينَ تُظْهِرُونَ)، تدخلون في الظهيرة وفيه صلاة الظهر)(63).
8- وقال أبو السعود العمادي في تفسيره:
(وقيل: المراد بالتسبيح والحمد الصلاة لاشتمالها عليهما، وقد روي عن أبن عباس: أن الآية جامعة للصلوات الخمس(تُمْسُونَ) صلاتا المغرب والعشاء، و(تُصْبِحُونَ) صلاة الفجر، و(عشياً) صلاة العصر، و(تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر)(64).
9- وقال الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره:
(..(فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون) أي فسبّحوا لله، والتسبيح تنزيه الله من السوء، والثناء عليه بالخير في الصلاة وغيرها، وقد سأل نافع بن الأزرق أبن عباس قائلاً: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم، وقرأ هاتين الآيتين، وقال: جمعت الصلوات الخمس ومواقيتها، قال العلماء: وذلك أن قوله(تُمْسُونَ) صلاة المغرب والعشاء، وقوله (تُصْبِحُونَ )صلاة الفجر، (وَعَشِيًّا) صلاة العصر، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر)(65).
10- وقال الأستاذ سيد قطب في تفسيره:
(والنص يربط التسبيح والحمد بالأوقات: الإمساء والإصباح والعشي والإظهار، كما يربطهما بآفاق السماوات والأرض. فيتقصّى بهما الزمان والمكان، ويربط القلب البشري بالله في كل بقعة وفي كل أوان، ويشعر بتلك الرابطة في الخالق مع هيكل الكون ودورة الأفلاك وظواهر الليل والنهار والعشي والإظهار.. ومن ثم يظل القلب مفتوحاً يقظاً حساساً، وكل ما حوله من مشاهد وظواهر، وكل ما يختلف عليه من آونة وأحوال يذكّره بتسبيح الله وحمده ويصله بخالقه وخالق المشاهد والظواهر والآونة والأحوال)(66).
تعليق