إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

التغييريّون بين الهدم والبناء:.. رد على أفكار الشيخ حيدر حب الله

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التغييريّون بين الهدم والبناء:.. رد على أفكار الشيخ حيدر حب الله

    التغييريّون بين الهدم والبناء



    دعوة إلى الإصلاح والاعتدال



    بقلم: الشيخ محمّد محسن حيدر


    بسم الله الرحمن الرحيم



    والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

    المقدّمة:



    في ظروف وتحديّات صعبة تمرّ بها أمّتنا الإسلاميّة بشكل عامّ، وحوزتنا العلميّة بما تُمثّل صمّام أمان لكثير من هذه القضايا بشكل خاصّ، تصادفنا مجموعة من الأفكار من بعض المثقفين، كان يُرجى لها أن تؤدّي إلى تنوّع إيجابيّ يؤدّي في نهاية المطاف ـ رغم شيء من الاختلاف ـ إلى التكامل والرقي، ويدفع حركتنا الثقافيّة إلى الأمام، ويزيد من مساحة الخدمة الملقاة على عاتق الحوزة، حين كنّا نأمل ـ بل أكثَر من أمل ـ بأن يسدّ هذا التنوّع عدداً من مواطن الخلل والنقص التي نعاني منها.

    فقد كنّا نستحضر، في بعض هؤلاء المثقّفين، تجارب الشهيد الصدر والشهيد مطهري والشيخ مغنية وآخرين، كنماذج بارزة لخطوات جبارة قادت الحركة الشيعيّة بقوّة نحو الأمام، حيث قدّموا للمجتمع خدمات جليلة، سواء على مستوى الفكر والتنظير أم على مستوى البيان والتقديم، وكان أن وُفّقوا، كُلٌّ بما آتاه الله من سعته لخدمة هذه الأمة، من دون أن يعني ذلك قبولاً مطلقاً لأفكارهم.

    هذا ما كان يتراءى لنا من خلال حركة بعض الأخوة من داخل مجتمعنا العلميّ والدينيّ، ولكن إذا بالأمل ينقلب توجّساً ـ مع كامل حسن الظن بهم ـ، ثم انتابتنا أنواع مختلفة من المخاوف والهواجس بدأت تقوى وتشتد، فنقلتنا إلى حيرة تائهة بين أمنيات لم تعد سوى أحلام، وبين سير عمليّ خطير ومخيف.

    هكذا ينقلب المشهد وتنقلب الصورة، فمن كان قريباً بالأمس تراه يبتعد عنك مسافات يوماً بعد يوم، وترى نفسك في مواجهةٍ مع من كنت تأمل فيه أن يرأب الصدع ويسدّ بعض الثغرات، لتجد نفسك مدفوعاً من حيث تريد أو لا تريد لتسدّ ثغرات فتحوها في جسمك الدينيّ، وترانا منشغلين بأنفسنا بدل التعاضد والتكاتف في سبيل تقديم خدمة لهذه الحوزة، وبالتالي لهذه الأمّة.

    وفي الواقع إن بوادر التمزّق والانشقاق كانت موجودة منذ فترة، ولم تكن مفاجئة، لكنّ المفاجئ هو أنّها نمت وطفت بسرعة مذهلة، مثلها مثل العواصف المختلفة التي تمر بمنطقتنا، والتي يُصرّ أصحابها على العصف خوفاً من أن يسبقها أو يقضي عليها عامل الزمن.

    وكان لمجلة (نصوص معاصرة) وعلى لسان رئيس تحريرها دور خاص في تسريع الأحداث، فلم تخل تلك الافتتاحيات من توزيع ظنون واتهامات، وقدح أو تعريض، طالت كثيراً من الشرائح، سواء في مجتمعنا العلمي أم السياسي، وإذا كانت هذه الاتّهامات غريبة فما يزيدها غرابة هو صدورها عمّن يدعي الحياد، لا سيّما إذا كانت الاتّهامات من غير أيّ إثباتات.

    من هنا فقد أثارت هذه الافتتاحيّات موجات من السخط والغضب والخوف و...و...، مع أنّ المشكلة ليست مع شخص أو مع مجلة، وإنّما ساهمت هذه الافتتاحيّات في أن تطفوَ إلى السطح، وتبرز هوّة واسعة بين بعض مثقفينا وبين بقية المجتمع، مثقّفين وأفراداً.

    كان الانفعال طبيعيّاً، وكان الشرخ والانشقاق الكبير، وكانت الانقسامات في وسطنا العلمي حادّة وأساسيّة جداً، فهي متعدّدة المناحي؛ تبدأ من الانشقاق الفكريّ، وهو بالتالي ليس أحاديّ الجانب، بل يبدأ بالمناهج ويشمل المبادئ والأهداف والنتائج، وتستمر في جوانب متعددة نفسية وعاطفية وأسلوبية وحتى اصطلاحيّة.

    فكان هناك مبرّرات وأسباب موضوعيّة لكلّ المخاوف والهواجس، وللانفعال النفسيّ والعاطفيّ في مجابهة هذا التحرّك، ولم يكن الهجوم مجحفاً، بغضّ النظر عن بعض مفرداته.

    على أنّ بعض الساخطين يشعرون بالخوف من دون أن يلمسوا سببه الحقيقي، كما أنّ بعض المدافعين يدافعون بكل وجدانهم من دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء المطالعة، ليخرج الهجوم والدفاع عن السياق العلمي إلى الشعور الوجدانيّ والنفسيّ، وهذا ما نحاول الخروج عنه.

    ورغم اعتقادي بأنّ الصدع من الحدّة بمكان، بحيث لا ينجع تهوين أمره أو تسكينه، ورغم شعوري بأنّ الفاصلة بعيدة ليس من الهيّن تلافيها أو تخفيفها، إلا أنّني احتفظت ببارقتي أمل: أولاهما أنّي لا أجد شخصيّاً في نفسي أيّ اتّهام في نوايا أحد، وثانيهما ما نتوخّاه من مصارحة وشفافية عند الطرف الآخر، كما يؤكّدون، وإن كنت أعلنها بصراحة أنها خُدشت بقوّة في أكثر من موقع، مما أخافنا من أن تكون مجرد ورقة يستفاد منها عند الحاجة، لكنّنا سنحاول المحافظة على ما تبقى من بريقها، عساه ينفعنا في ساعة الشدة!

    من هنا انطلقنا إلى محاولة رأب الصدع، ونؤكّد أنّ المشكلة وإن كانت مع عدد من المقالات والأفكار والمثقّفين، إلا أنّ الواقع الخارجيّ فرض علينا إيقاعه، فاستمدّينا بعض ما نريد توضيحه في هذه الورقة من بعض افتتاحيّات نصوص معاصرة ومقالات رئيس تحريرها، من غير أن يكون الهدف حصر الكلام في شخص معيّن أو مقال معيّن، ويعذرني في هذا الحصر أن ليس الهدف توسيع رقعة الأسماء.

    وقبل أن أتعرض إلى الورقة التي أقدّمها إلى إخواني الأعزّاء أرغب في عرض خلاصةٍ للمحاولات التي سبقتها، والمشاكل التي أعاقت وصولها إلى نتائج إيجابيّة.

    المحاولة الأولى: المراسلة:



    أرسلت لرئيس تحرير المجلة رسالة، عساها تقدم خطوة تتبعها خطوات، أو تكسر حاجزاً ويتم بعده كسر آخر، فبثثته فيها بعض مخاوفي عساه يرفع بعضها وننتقل بعدها إلى أمور أكثر حساسية ودقة، فانطلقت في الكتابة من منطلق بيان شيء من الهواجس والمخاوف التي شعر بها كلّ من طالع افتتاحيات نصوص معاصرة، واختصاراً للمسافة فإنّي حدّدتها تماماً، من غير أن أغفل الاحتمالات التي يمكن أن تكون قد أدّت إلى الوقوع في الخطأ، هادفاً في كلّ ذلك إلى أن يكون كلّ شيء واضحاً ومحدّداً، وأملت في الرسالة أن نسمع إذا ما كان هناك وجهة نظر أخرى.

    إلا أنّ المفاجأة كانت في رسالته الجوابيّة، حيث تجاوز كلّ الهواجس ـ المحدّدة ـ، وانتقل إلى عرض ما يُسمّيه استراتجيّته ورؤيته للأوضاع العامّة المتأزّمة في الحوزة العلميّة، رغم أنه أبدى إعجابه في تحديدي للموضوع بعيداً عن التشتّت في التفاصيل!

    حينها، فضلاً عن أنّي وجدت جهدي يضيع هباءً منثوراً، فإنّي نظرت في هذه الاستراتيجيّة، فما وجدتها سوى تصوّرات عامّة خالية من أيّ دليل أو إثبات ينفع، وبالتالي هي تسمح لأيّ شخص أن يدّعي استراتيجيّة بل استراتيجيّات.

    وليس هذا هو المطلوب عندما نبذل وقتاً في المراسلة، بل المطلوب أن يكون هناك شيء من الإثبات حتى تقترب وجهات النظر، ولا أقول: حتى تتطابق، فأنا لا أريد أن أكون مثالياً.

    وبعبارة ثانية: أنا أمتلك خوفاً من المشروع، فإذا كان خلاصة الجواب أن هذه وجهة نظري؛ لاستراتيجيّةٍ ما، فإنّ هذا لا يبدد الخوف، وإذا لم يكن هناك وسائل للإثبات فما الداعي لبذل الجهد والتعب، فإن كل شخص عندما يبدي تصوراته أو استراتيجيته فإنه يدعي ضمناً أن هذا ما يراه مناسباً.

    لقد كان الهدف من تبادل الأفكار بيانها وتوضيحها لا أن يشير كلّ طرفٍ إلى أن هذه أفكاري، فإذ ذاك لا يكون جدوى في التراسل؛ إذ لا مجال، والحال هذه، لاقتراب وجهات النظر.

    وخلاصة القول إنّ الرسالة الجوابيّة لم تكن لتقدّم شيئاً، وكأنّ السؤال يريد شيئاً والجواب يريد آخر، وكان الحديث على موجتين مختلفتين.

  • #2
    تـــــابــــــــــــع

    المحاولة الثانية: الحوار:



    أيقنت حينها أنّ المراسلة بهذا الشكل، لن تسمن ولن تغني من جوع، وأنّ هذا الأسلوب لم يجدِ نفعاً، فلجأنا إلى محاولة أخرى، حيث كان عدد من الأخوة يحاول ترتيب حوار مباشر، عسى يقرّب ذلك وجهات النظر أكثر، فالحوار قد يكون أقرب.

    وأوّل ما جَرَحنا في هذا المجال وأصابنا في الصميم، كما جرح كلّ من ينشد الشفافيّة، أنّ المحاولة استمرّت مدّة مديدة؛ بسبب توقّف الشيخ حيدر، ثمّ استمهاله وتعليق قبول جلسة الحوار، ثمّ عدم ورود جواب، رغم أنّ الإصرار على الحوار، كان مِن قبل مَن كان له سابق علاقة به، وبنيّة تشكيل سياج يحميه، وربما حماية بعض أفكاره الإصلاحيّة، إذا ما استطاع أن يُبدّد المخاوف والهواجس الخطيرة التي تعشعش فيها، وبعد لأْيٍ وامتناع افتقدنا الأمل بعقد هكذا لقاء.

    إلا أنّه بعد مدّة من الزمن وبعد تفاقم الأمور، ولأسباب مجهولة إلى حدّ كبير، أُعيد إحياء عقد هذا اللقاء التحاوريّ.

    لكن الحوار ـ بدوره ـ قد ابتليَ بثغرات أساسية:
    الثغرة الأولى: تشخيص الهدف من الحوار:



    عندما نجلس لنتحاور ينبغي أن يكون هدفنا بالحدّ الأدنى تقريب وجهات النظر، ليس المقصود من ذلك أنّ على الطرف الآخر إقناع محاوره تماماً، لكن ينبغي أن يبيّن تصوّراته بشكل مستدلّ، فالحوار المفيد، هو الذي يُرجى منه تقريب وجهات النظر، بعد أن نشفع الأفكار بالدليل، وهو الأمر الذي لم يُراعَ في تلك الجلسة؛ إذ كان هدف الآخرين مجرّد بيان خلاصة التصوّر، وطلب احترامها.

    الثغرة الثانية: الإصرار على عدم الدخول في الجزئيات:



    كان هناك إصرار على ملاحظة الكليات من دون ملاحظة الجزئيات، والمراد بذلك ملاحظة الأطر الكلية للاستراتيجيّة، التي لم يتمّ إثباتها ومن دون الدخول في تفاصيلها الجزئية ولا تطبيقاتها، فضلاً عن ضماناتها.

    أنا أوافق على أنّ الدخول في التفاصيل الجزئيّة متعب ومرهق، إلا أنّه ضمن مقدار معيّن أمر لا غنى عنه، وذلك أنه لا بد من بيان كيفيّة تطبيق الاستراتيجيّة، وكذلك تطبيق ضوابطها العمليّة، لا مجرد ادّعائها نظريّاً في مقابل الأطراف الذين يتوجسّون منها خيفةً.

    والسؤال الذي يطرح نفسه أنّه: إذا كانت الكليّات التي تُطرح في الحوار بلا دليل، أو ممّا لا يمكن الاستدلال وتقديم الشواهد عليه، وإذا لم ندخل في الجزئيّات والتطبيقات، فلماذا نجلس ونتواصل، وما هو الهدف الإيجابيّ المرتقب من ذلك؟! وبالتالي فما الجدوى من الحوار؟!

    هكذا أمور استغرقت وقتاً طويلاً، بين أخذ وردّ، ومحاولات ومحاولات، فلم يُطرح في جلسة، استمرّت أربع ساعات من عمر الزمن، سوى موضوع واحد مع بعض تشعّباته.

    والخلاصة أنّ اللقاء الذي حصل لا يمكن وصفه بالإيجابيّ، لكنّه لم يخلُ من فوائد، وأن يكون خير من أن لا يكون، وفي جميع الأحوال، فإنّه لم يؤدّ وظيفته المرجوّة، وفي المقابل رفضت بقية الحوارات.

    بهذا الشكل كانت الخطوات المباشرة تأخذ طريقها نحو الفشل، ممّا ترك المواضيع والأفكار المهمّة مهملة، رغم أهميّتها وحساسيتها، فكان لا بدّ من هذه الورقة، عسى الفكرة تصل قبل فوات الأوان.

    أين هي المشكلة؟:



    لا تنحصر المشكلة بمفردة هنا ومفردة هناك، بل ثمّة نقوض وتساؤلات، لا يمكن تمريرها بسرعة وبساطة، وهي تتقاسم أبعاداً ثلاثة:

    البعد الأول: المنظومة الفكريّة التي ينطلق منها بعض المثقّفين، والتي يسجّل عليها إشكالات أساسية.

    البعد الثاني: المنطلق العفوي أو النفسي لكثير من محاولات التغيير، وهو المنطلق الذي يعطي دفعاً قوياً للعمل؛ إذ قد يكون هو السبب في اختلاق نظريات تساعد على إيجاد حلول لمشاكل يشعر بها عفويّاً.

    البعد الثالث: الأساليب والأدوات المستخدمة لتحقيق الأهداف والأغراض، وهذه الأدوات والأساليب تشتمل على قوة وضعف في آن؛ فإنّها تفسّر سبب تنفّر البعض من هذا الاتجاه، في حين توضح كيف يكسب هذا الاتجاه عواطف آخرين؟

    هذا ما سنستعرضه ههنا، وسنحاول الابتعاد قدر الإمكان عن التحليل المجرد، ونقترب من ملاحظة الشواهد والمؤشرات الموضوعيّة، علّها تُقنع الطرف الآخر أو تقرّب له الصورة، أملاً في أن يدرسها بدقّة كلّ من يهمّه هذا الشأن، وعسانا بذلك نؤدي وظيفتنا في النصح لأخوتنا الذين يعنيهم هذا الموضوع، علّهم يعيدون إلينا الأمل فيهم، فنتكامل في خدمة هذه الطائفة وهذه الأمة.

    على أنّنا نعلن سلفاً أنّنا جاهزون، وبكلّ رحابة صدر، لتقبّل أيّ توضيح من أيّ جهة كانت.

    البعد الأوّل: على مستوى المنظومة الفكريّة:



    تتميّز المنظومة المعرفيّة الحوزوية بالتكامل والعمق، فعند ملاحظة الأطر العامة للتفكير والمباني التي يُعتمد عليها، تدرس بدقة جوانبها المتعدّدة، فأيّ مفردة من المباني التي يُتعاطى معها يتمّ دراسة مدى قوتها وضعفها، ثمّ انسامجها مع باقي المنظومة ومبانيها.

    ففي أيّ مسألة يوجد تصورات واحتمالات كثيرة، وكلمة الفصل لا بدّ أن تكون لقوّة المفردة علمياً، بلحاظ نفسها وبلحاظ انسجامها مع باقي المنظومة، فيما ينأى التفكير الحوزويّ بنفسه عن البنية المعرفية المتخبطة التي تنفي بعضُ أسسِها أسسَها الأخرى.

    وعندما يكون الشخص من صميم الحوزة، ويمتلك طموحات وربما نظريّات، فإنّ المسؤوليّة الملقاة على عاتقه تكون مضاعفة، بحيث يجب أن يكون إلقاؤه للمفردات مدعوماً بالدليل ومنسجماً بعضها مع بعضها الآخر.

    وسنلحظ هنا كيف أن التنظير قد أخذ منحى آخر عند بعض مثقفينا، بحيث يمكن إلقاء النظريات من دون إثباتات، وعدم ملاحظة التطبيقات واللوازم، ووجود بوادر منظومة غير متوازنة من ناحية معرفية.

    تعليق


    • #3
      تـــــابــــــــــــع

      ـ التصوّرات النظريّة الخالية عن الإثبات:

      من أهمّ المشاكل التي تخضع لها منظومة بعض المثقّفين، أنّه يخضع لتصوّرات عامّة، تُثير مخاوف وحفيظة الكثيرين، ويستشعرون فيها الخطر الكبير، مع كونها خاوية عن أيّ شاهدٍ أو دليل.

      النموذج الأوّل: نشر الأفكار المختلفة بما فيها الضلال:



      طُرِح في إحدى افتتاحيّات نصوص معاصرة برنامج لنشر الأفكار المختلفة بما فيها أفكار الضلال داخل المجتمع الإسلاميّ، بهدف رقيّ هذا المجتمع، وإن كان هناك خسارات على مستوى المتديّنين في العالم فإنّنا نتنازل عن مسألة الكمّ لمصلحة الكيف[1].

      وممّا لا شكّ فيه أنّ مثل هذا التصوّر ممّا يُثير الهواجس[2]، بل يُعدُّ في أذهان المتشرّعة، وربما العقلاء من أصحاب المدارس المختلفة، بديهيَّ الفساد، ومن هنا فأقل ما يفترض أن يلحظه مَن يطرح هكذا تصوّرات، حتّى يخرج عن إطار الاستنسابيّة والارتجال، هو الآيات الروايات التي تتوعد وتحذر من الضلال والإضلال، وروايات الشكّ وخطورة ذلك، كما لا بدّ أن يلاحظ تعاطي المعصوم (عليه السلام) مع أفكار الضلال في الفترات الزمنيّة المتفاوتة؛ إذ الجوّ العامّ كان مواجهة هذه الأفكار بمختلف الطرق، فيما لم يقُم أيّ واحد من المعصومين (عليهم السلام)أو أفراد جهازهم بالترويج لأفكار الضلال طمعاً في الرقيّ الفكريّ لأفراد المجتمع، ولا بدّ بعد ذلك من ملاحظة طبيعة الأفكار والمخاطَب ودراسة التجارب السابقة واختلاف المجتمعات.

      من الطبيعيّ أن كلّ ذلك يحتاج إلى تتبّع وبحث، ولا أريد أن أجعل الأمر تعجيزيّاً، لكن عندما تكون المسألة في غاية الخطورة، ويفترض فيها وجود ضلال وإضلال، فلا يمكن أن نُلقي الكلام على عواهنه.

      لذا طرحنا هذا الموضوع في جلسة الحوار، وذكرنا أنّنا نطمح إلى أجوبة وإثباتات تبدّد شيئاً من المخاوف، وسألنا عن الدليل الذي يقف خلف هذا العمل، ونقصد بالدليل ما يعمّ التجربة والملاحظات التي قد تكون مخزونة في الفكر.

      ولكن، في المقابل، كان خلاصة الدليل: أنّي أرى أنّ نشر الأفكار المختلفة هو الأنجح في رفع المستوى الفكريّ لأفراد المجتمع الإسلاميّ إذا ما نظرنا إلى الطرح على المدى البعيد، والاقتناع بتقديم الكيف على الكم، هذا من غير تقديم أيّ إثباتات، وبدون أيّ أرقام ولا ضمانات، كلّ ذلك باسم أنّ هذه هي تصوّراتي واستراتيجيّتي العامّة، التي آمنت بها نتيجة تراكم خبرتي.

      ومن هنا جاء الاعتراض أنه يمكن لكل شخص أن يبيّن تصوّره أو استراتيجيته مهما تطرّف يميناً أو شمالاً إذا لم يكن مطالباً بإثباتات وضمانات.

      فيمكن لشخص أن يدعي العكس تماماً ويقول: إنّ الطريق الأنسب هو عدم التعرّض لأيّ فكرة من أفكار الضلال حتى لو ذُكر الحلّ معها، وأنّه ينبغي ملاحقة كل فكرة منحرفة والتضييق على صاحبها.

      أُرجّح أن لا قائل بهذه الكليّة، لكن لو قالها أحد فيمكنه أن يقول بنفس البيان السابق: إن هذه وجهة نظري، وهو الأهم الذي يتقدم على كل مهم، وهذه آليات عملي أرجو منك أن تحترمها!

      هكذا سيكون وضعنا الثقافي أشبه بالمزرعة (كل من إيدو ألو)، ولا شك أنّ هذا سيؤدّي إلى التشاحن وأنواع الأجواء المنفية، حتّى لو كان كلّ واحدٍ من أصحاب التصوّرات ـ ممّن تطرّف يميناً أو شمالاً ـ مخلصاً في دعواه.

      فالجدير بالمثقّفين من أصحاب التصوّرات، أن يبنوا أمورهم على أسس مبرهنة، وينتقلوا من مرحلة التصور إلى مرحلة الإثبات، فهي إمّا أن تصمد أمام الإثبات، وإمّا أن تذروها الرياح، وحينها يمكن أن ننفي بعض مواطن الاختلاف فتقترب وجهات النظر، وربما كان الحقّ الاعتدال، وحينئذٍ يتحقّق عمليّاً قبول الطرف الآخر واحترام رأيه[3].

      أمّا أن تُبنى التصوّرات على دعاوى شخصيّة، من قبيل أنّي أرى أنّ ذلك أهمّ، فهو خلاف الجوّ العلميّ[4]، كما أنّه لا يمكن أن يُثبت شيئاً.

      النموذج الثاني: اللعن والتبرّي:



      نموذج آخر في هذا المجال يرتبط بمسألة التنظير للوحدة الإسلاميّة والتقريب بين المذاهب، حيث نقرأ في مقالة تحت عنوان:«أزمة انتماء واعتراف... الشيعة جزء لا يتجزّأ من الأمّة الإسلاميّة» تصوّراً خاصّاً بالنسبة للعن والتبرّي، ونبدأ بطرح تصوّره أوّلاً، يقول: «نعم المشكلة الكبرى للشيعة مع إخوانهم المسلمين، تتمركز بشكل أكبر في سب ولعن بعض الخلفاء ورموز الصحابة، إننا لا نرغب في هذا الأسلوب ولا نفضّله، مؤيّدين في ذلك بعض العلماء الكبار منهم السيد هاشم معروف الحسني في كتابه الموضوعات في الآثار والأخبار، وندعو من يقوم بذلك من الشيعة إلى إعادة النظر في أدائه، هل يخدم به التشيّع؟! أم هل يخدم به حال المسلمين اليوم؟! هل اللعن والسب أفضل وسائل التبرّي ولا توجد وسائل أخرى؟!

      هذه موضوعات ينبغي درسها ولا نبت فيها هنا، ولا نبرِّء مَن فعلها ويفعلها..» [5]
      وهنا عدة ملاحظات تتعلّق بهذا التنظير، نشير إليها باختصار:

      الملاحظة الأولى: إنّ مسائل الدين لا تقبل التسوية، فليست اعتبارات نكيّفها كيفما نشاء، فلو طلبنا من السنّة التنازل عن التشدّد في بعض المسائل، وحتّى لو تنازلوا فعلاً، فهذا لا يعني أبداً أن نقدّم تنازلاً مقابل تنازل، وأظن أنّ هذا الموضوع غنيّ عن البيان.

      وحينئذٍ يُسأل الكاتب هل بَحث هذا الموضوع؟ هل استقرأ الروايات ودرسها؟ وأين هو البحث؟

      إنّا سمعنا عنه مقالات مختلفة في ذلك، منها أنها مسألة تحتاج إلى بحث، ومنها تأييد استحبابها لكنه لا يفعلها؛ إذ لا يجب على الشخص أن يفعل كلّ مستحب، ومنها ما ذكره في المقالة هنا، من أنّه: «لا نبتّ فيها هنا ولا نبرِّء من فعلها ويفعلها..»!

      الملاحظة الثانية: كان على الداعي إلى هذه التسوية أن يخبرنا بوضوح هل أنه يرى اللعن من موضوعات الأخبار والآثار كما توحي العبارة؟!، أو أنه أراد بذلك استرضاء من يستهوي هذه الأفكار من دون أن ينص عليه هرباً من المساءلة؟!

      ألم يكن من الأجدر أن يتكلم بوضوح ومع الدليل، في هذا الأمر الخارج عن المألوف، بدلاً من الإيحاءات المتعدّدة التي تؤدّي إلى سجالات طويلة لا تحمد عقباها؟!

      الملاحظة الثالثة: إنّ دراسة متأنّية تبيّن أنّ طرح هذا الموضوع بهذا الشكل يؤزّم الموقف أكثر ممّا يقدّم خطوات في طريق الوحدة؛ ذلك أنّ الإيحاء بأنّ هذه الروايات من الموضوعات ـ وقد لا يريده الكاتب ـ، يوجب إعادة تحريك هذا الملفّ في الوسط الشيعيّ، ولا شك أنّ النتيجة التي يتوخّاها ليست بالبساطة التي يتصوّرها، فإثارة هذا الملفّ لا يخدم قضيّة الوحدة أبداً.

      الملاحظة الرابعة: عندما نطرح أمام الغير: «هل اللعن والسب أفضل وسائل التبري ولا توجد وسائل آخرى؟!»، أليس الجدير دراسة ذلك قبل طرحه، فهل يُرضي الآخرين نفس فكرة التبرّي، حتى ننظّر على طاولة الوحدة بأنّ اللعن ليس هو الوسيلة الوحيدة للتبرّي؟!

      فالتبرّي، لا يمكن أن يُراد منه التبرّي من أفعال الشخص السيّئة مثلاً؛ فإنّ هذا ما نقوم به تجاه كلّ شخصٍ حتّى لو كان شيعيّاً بحيث نتبرّأ من أفعاله السيّئة، فلا يختصّ بأعداء أهل البيت (عليهم السلام) ومن ظلمهم حقّهم، وإنّما المراد هو التبرّي من الشخص، بما يحمله هذا المفهوم من عدم الاعتراف بهذا الشخص، فيكون المتبرّى منه عدواً مثل عداوته لأهل البيت (عليهم السلام)، وهذا الأمر لا يمكن طرحه على طاولة الوحدة إلا مع تنازلات إضافية يبرأ منها الدين وصاحب هذا الأمر (عج).

      لذا فالأفضل أن نحدّد بوضوح وشفافيّة نقاط الاشتراك والهدف الحقيقيّ من الوحدة بدل الإيحاءات التي لا تستند إلى دليل أو إثبات، والتي تصيب صميم الوحدة بدل أن تُقدّم فيها خطوة.

      وأخيراً، لا بدّ من وقفة مع قوله: «ولا نبرّء من فعلها ويفعلها»، لنسأله سؤالاً واحداً: هل بحث في التاريخ ليعرف من فعلها؟! أو أنّه اكتفى بتنظيرٍ لا يُسعفه فيه مراجعة التاريخ ولا مطالعة الحقائق؟! فأدنى نظرة إلى التاريخ والروايات الصحيحة تبين من كان يفعلها!، وأنّ «من تأثم أن يلعن من لعنه الله فعليه لعنة الله»[6] حينها كيف يتجرأ على القول «لا نبرّء من فعلها ويفعلها»؟!!

      من هنا نؤكّد على هذا الصنف من المثقّفين بأنّه لا بدّ أن يكونوا يقظين، أما القفزات السريعة إلى الأمام، من دون دراسة للأمور فمردودها يكون سلبيّاً، كما قد تجعل القافز وحيداً، متنكِّراً أو متنكِّراً منه أهله، فلا يمكنه أيضاً أن يخدم فيما يسعى إليه.

      النموذج الثالث: مقاصد الشريعة:



      عند حديث بعض المثقّفين عن مقاصد الشريعة الإسلامية، واستنباط الأحكام الشرعيّة وفقاً للمصالح والمفاسد التي يشخّصها الفقيه، فإنّهم يولونه أهميّة مضاعفة، بل يأسفون للعوائق التي تفصلنا عن الفقه المقاصديّ، وفي مقابلة مع الشيخ حيدر حبّ الله، أجرها الأستاذ أثير السادة في «الأيّام البحرينيّة»، يعدّد أسباباً كثيرة للعوائق التي تفصلنا عن فقه المقاصد، آخرها: «وجود بعض العوائق الفكرية داخل الأصول الشيعي يُتوهّم علاقتها بنظرية المقاصد كالقياس والاستحسان».

      أقول: قرأت كثيراً عن مقاصد الشريعة الإسلامية لكتّاب من السنة والشيعة، فالموضوع قد طُرح منذ فترة في بعض الإصدارات والكتب عند أهل السنة، كما انشغلت بعض مجلاتنا بهذا الموضوع[7].

      لكن وبكل بساطة، لم يحصل أي تقدّم في هذا الموضوع، لأنّ الكتّاب على الأعمّ الأغلب قد سلكوا طريقاً إعلاميّاً كبيراً في طرح الموضوع، من غير أن يجهدوا أنفسهم في التحقيق العلميّ، فلم يقدّموا شيئاً على مستوى الحقيقة، ودارت كتاباتهم في حلقة مفرغة ونظريات خاوية لا تزيد المثقف إلا إحباطاً، ولم تنتج أتعابهم غير إخفاقات ثمّ أسف.

      غاية ما قام به هؤلاء الباحثون أنّهم بحثوا عن مفردة استُخدم فيها هذا العنوان، أو عن عالم ذكر عبارةً يمكن أن يستفاد منها ما يعطي الموضوع زخماً إضافياً، ثمّ أُهملت كل المصاعب التي تقف حاجزاً أمام فكرة المقاصد.

      فأهمّ مشكلة على هذا الصعيد، أنّه في المقاصد، إذا أردنا أن نستنبط الأحكام على مبدأ المصالح والمفاسد وتشخيصنا للعدل والإحسان، فإنّ المصلحة التي نشخّصها لا تمثّل المصلحة الواقعيّة؛ لأنّ المصلحة الواقعيّة ليست بأيدينا حتى نحكم على أساسها، وبالتالي كيف نستبعد ما ثبت حجيّته، ونقدّم مصلحة مظنونة لم يقُم دليل على اعتبارها؟!

      بل أكثر من ذلك، لم يلقَ الفقه المقاصديّ رواجاً في الفقه السنيّ، رغم رواج القياس عندهم، فإنّ القياس والمقاصد وإن اشتركا في كونهما طريقاً ظنيّاً يُعمِل فيهما الفقيه تشخيصه، إلا أنّ إعمال الفقيه حدسه في المقاصد أكثر، وبعبارة أخرى يقع الفقه المقاصديّ في مرتبة أدنى من مرتبة القياس حتّى في الفقه السنّيّ.

      فكيف يكون الحال أنّ المشكلة في الفقه الشيعيّ: «وجود بعض العوائق الفكرية داخل الأصول الشيعي يتوهّم علاقتها بنظرية المقاصد كالقياس والاستحسان»!!

      أنا لا أريد أن أسدّ الطرق على فقه المصلحة خاصة في شؤون الدولة، لكن أقولها بوضوح: بدلاً من التعاطي الإعلامي مع مواضيع لها حساسيّتها على صعيد الفقه، لماذا لا تبحث أبحاث جادة تبحث عن الإثباتات وأدلّة النفي، ربما تقدّم شيئاً مفيداً في ذلك، وقد تكون النتيجة: لا مجال لهذه الفكرة في الفقه الشيعيّ فما الحزازة في ذلك؟!

      تعليق


      • #4
        تـــــابــــــــــــع

        2ـ الإصرار على عدم الدخول في الجزئيّات:



        المسألة الأخرى هي أن بعض المثقّفين يتحزز من الدخول في الجزئيات فيرغب في طرح العناوين الكلية من دون دخول في التفاصيل، وكلّما سألتهم عن مأزق وقعوا فيه، عمدوا إلى العودة دائماً إلى الإطار العامّ، مصرّين على عدم الدخول في كيفيّة تطبيق هذا الهدف، وعلى عدم البحث في جزئيّاته حتّى لو كان ذلك ممّا جادت به قرائح مقالاتهم.

        فعندما تسألهم عن بعض الجزئيّات التي طرحوها في إطار الهدف المنشود، يدعونك إلى قراءة الجوّ العامّ للهدف والرسالة، وأنّه لا داعي للوقوف عند الجزئيّات التي قد تكون مورداً للنقاش.

        والحال أنّ الإنسان كما أنّه يكون مسؤولاً عن الكليّات والرسالة العامّة التي يدعو إليها والهدف المرجوّ من خطاه، فإنّه مسؤول عن جزئيّات وتطبيقات دعوته، فلا الرسالة العامّة تُعفيه من عهدة الجزئيّات، ولا الجزئيّات والتطبيقات تُعفيه ممّا يُستفاد من الجوّ العامّ لرسالته.

        الكليّة قد تكون جميلة، وجميلة جداً، ولذا يدّعيها كلّ الناس، وفي مختلف المجالات، لكنّ الذي يكشف عن حقيقتها ـ وهل أنّها شعار غير قابل للتطبيق، أو أنّ التطبيق يؤدّي إلى خلاف الغرض، أو أنّها قناع ليس إلا؟ ـ هو تلك الجزئيّات والتطبيقات والضوابط، فإذا دخلنا في الجزئيات تتبين الحقيقة، وإلا بقينا في دائرة مفرغة ندور حول أنفسنا من دون تحصيل تقدم يذكر.

        في هذا المجال نجد تخبّطاً كبيراً لدى عدد من المثقّفين، فتراه يدعو إلى عدم التحيّز كإطار عامّ يحكم خطواته، ويأمل من جهة أخرى في توحيد صفوف الأمّة، كلّ ذلك كهدف عامّ، ثمّ يدقّ إسفيناً في أسفل هذه الدعوة عندما يجول في الجزئيّات.

        من هذا القبيل ما جاء في افتتاحيّة العدد الأوّل من نصوص معاصرة:

        «ونعلم (القارئ) سلفاً بأن هذه المجلة لن تكون متحيّزة لطرف معيّن، لا لأنها لا أباليّة ومتحلّلة والعياذ بالله، بل لأنّها تحتفظ لنفسها بقناعاتها، وتنشر المشهد بأمانة، حتى لو احتوى ما تنشره ما لا تؤمن هي نفسها به.

        وتتعهّد المجلة لقرّائها من الآن، إن كتب لها الاستمرار والدوام بعون الله، أن تفي بوعدها هذا ولا تتحيّز، فليس هدفها الترويج لهذا الفكر أو ذاك، وإنما نقل المشهد إلى العالم العربي، خدمة قبل كلّ شيء للأمّة كلّها، وأملاً في أن تساعد هذه الخطوة على توحيد صفوف الأمّة..»[8].
        والسؤال كيف يتلاءم هذا الهدف العامّ، مع الطروحات التي ذكرها نفس رئيس التحرير في افتتاحيّة العدد الرابع، تحت عنوان «حركة الإصلاح الشيعيّ، ورقة عمل»، والتي تتركّز على تقسيم خارطة المشهد الشيعي إلى تيارين، ثم يقوم بعمليّة استنهاض التغييريّين للقيام بتيار ثالث قائلاً: «دعوتنا هنا هي: أين أنتم أيها الناقدون لمحيطكم؟! أين حضوركم؟! إلى متى هذا الغياب الاجتماعي أو بتعبير أدق: الموت الاجتماعي؟!، إنّ دعوتنا تقوم على التلاقي، دعونا نتلاقى في مؤتمر، في لقاء، في تجمّع، علنيّ أو غير علنيّ، كيفما شئتم، وضمن أيّ صيغة ارتأيتم، نعصف أفكارنا للوصول إلى تكوين خطاب هادر، قادر على أن يثبت ذاته، ويتحول بالفعل إلى تيار ثالث، لا تحكمه عقلية حزبيّة أو أفق ضيّق...»[9].

        وإذا أردنا أن ندرس منحى التغيير الذي يريده فإنّه يقول في النقطة التاسعة والأخيرة: «وإذا لم تكن فئات التغيير متّحدة الرأي والاتجاه، وهذا شيء طبيعيّ، فلا أقل من قاسم مشترك، يمنح الأطراف كافّة قدرة صنع القرار على أساس من الشورى أو أغلبيّة الآراء، والمهمّ بالنسبة إليناـ في ورقتنا هذه ـ هو التغييريّ الدينيّ مهما كان انتماؤه الفكري»[10].

        كيف يمكن للمرء أن يُسلّم دعوى الحياد وعدم التحيّز، والأمل في توحيد صفوف الأمّة، كأطر عامّة للعمل، فيما تشهد التفاصيل والتطبيقات عكس ذلك تماماً؟!

        إنّ ورقة العمل هذه ـ ونحن نعرف تماماً ماذا تعني ورقة عمل ـ التي تدعو إلى خلق تيار ثالث، تتنافى مع أبسط دعاوى الحياد، بل هي دعوى يختلط فيها الثقافة بالسياسة، ولا أدري هل كان يرى كاتب الافتتاحية أن قوله «لا تحكمه روح حزبيّة أو أفق ضيّق»، وهو نعت يصف به التيارين اللذين يقتسمان الساحة بحسب تعبيره، سوف لن يثير مشاعر أحد؟!

        أظنّ أن العبارات التي خرجت عن الحياد كثيرة جداً، يفهمها بوضوح العارف لمعاني كثير من التعابير المستخدمة من قبيل: الاجترار النمطي، وكذلك كيفية عرض كل من التيار التقليدي والتغييري، والاصطلاحات والأوصاف التي يستخدمها عند التعرّض لكلّ فئة، هذا فضلاً عن أنّ الافتتاحيّة بمجملها تصرخ بالخروج عن الحياد.

        كذلك الأمل في الوحدة، فإنّه لا يحتاج إلى كثير تعليق، فمن يطلق النار عشوائياً ويمس مشاعر التيارات الأكثر امتداداً في الساحة، فليسمح للقارئين بأن ينكروا عليه، وبكلّ موضوعيّة، أن يكون من رجال الوحدة في هذا المجال.

        والخلاصة أنّنا عندما نطالب بالدخول في الجزئيات، فليس الهدف إثقال البحث بتفاصيل لا نهاية لها، بل لأنّ الجزئيّات والتطبيقات هي التي تبيّن بوضوح أن الدعاوى المطلقة قد تكون متباينة تماماً مع المعطيات التي تقدّمها، ومع عدم الدخول في هذه التفاصيل فلا يمكن محاكمة الأطر العامّة المدّعاة، ولا يمكن الإطلالة على المعالم الحقيقيّة لطبيعة الأهداف.

        3ـ قراءة في النظريّة المعرفيّة:



        في مقالة تحت عنوان: «البنيات المعرفية للحوار العقلاني، دراسة في أسس الحوار الهادف» يستعرض الشيخ حيدر حبّ الله موضوعَ الحوار، ويبدي وجهة نظر مفادها أنّ حلّ مشكلة عدم تفهّم أطراف الحوار بعضهم للآخر لا يكمن في التوجيهات الأخلاقيّة، وإنّما يتمثّل في خفض سقف اليقين؛ ويمثّل ذلك المبدأ الثاني ـ المعرفيّ ـ في عمليّة الحوار، في حين أنّ المشكلة العقائديّة وهي منافاة ذلك مع الإيمان الدينيّ فهي مسألة يؤجّل التفكير بها!، فيقول:

        «مبدأ العلم الإجمالي الفوقاني، وهو مبدأ يتجاوز دائماً مفردات البحث العلمي ليقرأ المجموع قراءة كليّة، وحينما أقرأ تجربتي العلمية على مرّ سنوات، فسوف أتأكد يقيناً من أنني قد وقعت في عدد كبير من الأخطاء في حياتي، وهذا العدد الكبير سوف أقدّمه كمعطى رياضي لما هو ناجز عندي الآن مما لديّ قناعة به، ليتشكّل عندي علم إجماليّ بالخطأ في بعض أفكاري بحساب الاحتمال، فإذا بلغ مجموع أفكاري الألف مثلاً، وعلمت تفصيلاً بخطأ مائة منها على مدى تجربة خمس سنوات تقريباً، فإن هذا سوف يشكل عندي علماً إجماليّاً ـ ما دامت الظروف واحدة أو متشابهة ـ بوقوع أخطاء جديدة عندي بنسبة 10% خلال السنوات الخمس القادمة، أو أقل كما هو الغالب، وعندما أُفعّل هذا العلم الإجمالي ستتغير نظرتي لكل مفردة من مفردات اليقين عندي، وسأقدر على الجمع بين يقيني بالمفردة واحتمال الخطأ مستعيناً إلى حدّ معيّن بمبدأ اليقين الموضوعيّ المتقدم.

        إذاً، الموضوعيّة في حالة مواجهة الموروث تكمن في تعديلات جوهريّة معرفيّة لا في توجيهات أخلاقيّة مهما بلغت من القوة، فلن تقدر على مواجهة اليقين الذي يحكم عليها من خلال تمثيله الواقع.

        فما أشار له الوردي وغيره في محلّه ضمن هذه الصيغة. لا يمكن خوض حوار منتج ـ لا جدال ومساجلات ـ إلا بهذه الطريقة فيما يظن، وإن كان من سلبيّات هذا الوضع ما لا بد من التفكير في حلّه لا سيما قضية الإيمان الدينيّ»[11].
        عندما نطرح تخفيض سقف اليقين كنظريّة، هل نطبقه على أنفسنا بالحد الأدنى؟! وإذا طبقناه على أنفسنا يكون قد طار اليقين والإيمان الديني منا فجأة من حيث نشعر أو لا نشعر.

        هل الأمر بهذه البساطة بحيث نقع أو نوقع غيرنا في الشك ونخرجه من الإيمان، ونكتفي بأنه لا بد من حل لقضية الإيمان الديني؟!، ومتى كان الحوار ولوازمه مقدّماً على الإيمان؟!

        ألم يكن الأجدى جعل قضية الإيمان هي الأوضح، ثمّ العمل على حلٍّ لتجاوز العلم الإجماليّ، كأن نحلّه باليقين الذي لا يراوده شك في دائرة معيّنة من القضايا، كما في استحالة اجتماع النقيضين أو في كون: 1+1=2.

        اللهمّ إلا إذا كان الشك سيعمّ أمثال هذه القضية!!

        لو صدرت هذه الأفكار عن شخص مغفّل لما وقعنا في استغراب، لكن أن ينتمي إلى عمق الحوزة ثمّ يطرح وجهات نظر قد يكون أبسط لوازمها الخروج من الإيمان إلى الشك، فهذا ممّا يفتح للآخرين باباً منطقيّاً لمساجلات لا تكون من الإجحاف والتهكّم.

        وما لا بدّ من الإشارة إليه أنّه: لم تكن مشكلة الحوار يوماً في هذا اليقين المقدّس، وقد أثمرت حوارات كان سقف اليقين فيها مرتفعاً؛ كحوار السيّد عبد الحسين شرف الدين والشيخ سليم البشري، وإنّما أنتجت بعد أنّ كان الطرفان من أهل العلم، وكانا مقتنعين تماماً بأنّ النقاش والحوار يجب أن يدور في فلك الأدلّة والإثباتات، وليس في الهواء الطلق وفي رحاب التصوّرات العامّة والشعارات.

        تعليق


        • #5
          تـــــابــــــــــــع

          البعد الثاني: على مستوى المنطلق النفسي:



          يتجلّى المنطلق النفسيّ والعفويّ الذي يجعل عدداً من المثقّفين يُقدِمون على إبداء أفكار غريبة بالنسبة للفرد المتديّن في المجتمع الشيعيّ، عند ملاحظة كيفيّة تعاطيهم مع الغير؛ من أهل السنّة أو الحضارة الغربيّة، إذ ذاك يلمس القارئ أنّ أزمة بعض المثقفين هي أزمة ثقة بالنفس وبالمنظومة ككلّ، وقد وقعنا على بعض الوثائق المؤسفة التي تنبئ عن ذلك.

          ونستعرض في هذا المجال مقالتين، الأولى ترتبط بالوحدة الإسلاميّة، والثانية ترتبط بصادرات الحضارة الغربيّة.

          المقالة الأولى ما ورد في فقرات من المقالة المتقدّمة ـ «أزمة انتماء واعتراف.. الشيعة جزء لا يتجزّأ من الأمة الإسلامية»ـ، التي ربما كان الهدف منها خدمة التشيّع كما يوهم العنوان، وربما كان الهدف خدمة قضيّة الوحدة الإسلاميّة كما توحي بذلك المقالة نفسها، مع أنّ الوسائل المقترحة تؤدّي عكس المطلوب.

          لا أريد أن أقف عند الجزئيات الكثيرة المبعثرة والتي فيها ـ ضربة هنا وضربة هناك ـ مع أنّ بعضها يستحق الوقوف عنده، لكنّي سأتوقّف عند نقطة هامّة:

          إنّ المقالة تتعرّض بشكل أساسيّ لموضوع الوحدة بين المسلمين، والمشكلة أنّ لحن الخطاب الذي يتعاطى الكاتب فيه، يتعامل مع الآخرين بروح التنازل، وذلك حين يُطالبهم بأنّ من حقّ الشيعة أن يُصنّفوا جزءاً لا يتجزّأ من الأمة الأسلامية، مع التركيز على أنّ على الشيعة، في المقابل، فتح باب مناقشة أخطائهم التاريخيّة، ثمّ الاعتراف بها عندما تقوم عليهم الحجّة، وكذلك عليهم نقد موروثهم ـ حسب تعبيره ـ ، يقول:

          «ولسنا نعصم آحاد الشيعة ولا جماعتهم عن خطأ ارتكبوه عبر الزمن، ونفتح الباب لمناقشة أخطاء الشيعة التاريخية، في القضايا كافة التي قيل حولها الكثير، من الغزو المغولي ونصير الدين وابن طاووس، مروراً بالتحالف الصفوي ـ الغربي ضد الدولة العثمانية، وصولاً إلى ما يقال اليوم عن تحالف بين الشيعة وأمريكا... فكلها موضوعات قابلة للنقاش، فلم يزعم شيعي عصمة الشيعة بالمطلق ولا آحادهم بمن فيهم كبار علمائهم ومراجعهم وسياسيّيهم، لكن هذا شيء والصورة الإقصائية والتخوينية للشيعة شيء آخر.

          إننا نعتقد أن على الشيعة أن لا يحجموا عن الاعتراف بأخطائهم التاريخية عندما تقوم عليها الحجة، وتثبت بالشواهد المؤكدة، وأن لا يحاولوا طمس حقائق التاريخ أو التلاعب بها لمصالح مذهبية أو طائفية».
          ويدعو الشيعة في مكان آخر من المقال إلى: «إعادة قراءة الموروث الشيعي من جانب الشيعة ونقد ما يستحق النقد منه من جهة أخرى»[12].

          وفي مورد ثالث، يوجّه خطابه للسنّة، ويعتبر بأنّ محاربة البدع وإن كان واجباً مقدّساً، ولكن أن يقوم السنّة بواجبهم هذا بأسلوب التكفير والعنف والانتقام فهذا ذنب عظيم: «إنّ تكفير المسلم ذنب عظيم، ومحاربة البدعة واجب مقدس، والجمع بين هذين المبدأين يحتاج إلى الكثير من الوعي والرشد، لا إلى غضب وعنف وانتقام و..»، هذه العبائر وإن لم تحسم مطالب علميّة تلزم الكاتب، فلم تسلّم بوجود البدع عند الشيعة أو بالأخطاء التاريخيّة، إلا أنّ قيام المعادلة على هذا الأساس يعطي روح التنازل والاستسلام، كالذي يطمع بكسرة خبز على مائدة غيره، واعداً إيّاه بإنجاز الكثير في مقابل ذلك!

          نعم، نحن نعتقد بأنّ علماء الشيعة ليسوا معصومين، وباب المناقشة كان ولا يزال مفتوحاً، ولكن شتّان بين هذا المنطق وبين منطق التنازل عند القول: «إننا نعتقد أن على الشيعة أن لا يحجموا عن الاعتراف بأخطائهم التاريخية عندما تقوم عليها الحجة، وتثبت بالشواهد المؤكدة، وأن لا يحاولوا طمس حقائق التاريخ أو التلاعب بها لمصالح مذهبية أو طائفية»، فنوحي بأنّنا نعتقد بهذه الأخطاء، ولكن ننتظر الحجّة المؤكّدة لنكفّ عن الإحجام عن الاعتراف بها، وعن طمس الحقائق والتلاعب بها لمصالح مذهبيّة!

          من ناحية ثانية: عندما نتحدّث مع الطرف الآخر، لماذا ندعو إلى فتح الباب أمام مناقشة خصوص «أخطاء الشيعة التاريخية»، فإذا كان لا بدّ من من مناقشة الأخطاء في سبيل تحقيق الوحدة، فلماذا لا ندعو إلى مناقشة أخطاء السنة التاريخية، وهي أكثر تأثيراً وإيلاماً في واقعنا، من شهادة الرسول (صلى الله عليه وآله) وما تلاها، إلى أخطاء تاريخيّة بحقّ الشيعة وغيرهم، إلى الأخطاء الحالية وما يقال من نحر الأمة العربية والإسلامية بوضع اليد بيد أمريكا وإسرائيل، وهذا الأمر لا بدّ أن يكون صريحاً ومناسباً مع ما طُرح من دعوةٍ موجّهة إلى الشيعة، وليس من خلال عبارات خجولة، قد لا يُلتفت إليها!

          وكذلك عندما ندعو إلى: «إعادة قراءة الموروث الشيعي من جانب الشيعة ونقد ما يستحق النقد منه من جهة أخرى» لم يكن ينبغي أن نصور أو نوهم بوجود نقد وتراجع بالفعل، كما ينبغي أن ندعو السنة إلى ذلك، رعاية للحق والإنصاف فلا تكون هذه الدعوة حقاً حصرياً على الشيعة.

          فليكن هناك توازن في الكلام، ولتُبنَ الوحدة على أساس من الوضوح والشفافية لا أن نطلب الوحدة بإضافة ظلامة إلى ظلامات الشيعة.

          أمّا طرح موضوع الوحدة من منطلق التنازل، والشعور بأزمة ثقة إذا لم يتقبّلنا الآخر، مع ما فيه من إيحاءات متعددة، فإنّه لا يُرضي الشيعة ولا يخدمهم، كما لا يخدم الوحدة الإسلامية؛ لأنّ الشيعة يقولونها بكلّ وضوح وشفافيّة أنّهم يعتزّون بأئمّتهم وبأفكارهم ومعتقداتهم، ولا يشعرون بأيّ ضرورة للتنازل في سبيل اعتراف الآخر بهم، هم يدعون إلى الوحدة لأجل أن يكون المسلمون صفّاً واحداً في مواجهة الأعداء المتكالبين على الإسلام، ويتحدّثون من منطلق القوّة لا الضعف، وأنّهم مستعدّون في سبيل هذا الهدف أن يغضّوا الطرف عن بعض الأخطاء التي طالتهم من قبل الطرف الآخر.

          عندما نريد أن نكون وحدويين، ينبغي أن لا نجانب العدل والإنصاف، ولنسلك في الوحدة طريقاً لا يعتمد على ظلم الفرقة المحقّة ﴿ولمسجد أسّس على التقوى من أول يوم أحقّ أن تقوم فيه﴾[13].

          ومن هنا نظن أنّ على الذي يتعاطى موضوع الوحدة أن يكون متيقظاً؛ لأن الأخطاء والظلم يزيدان المسألة حساسية وصعوبة.

          علماً بأن الضغط على الشيعة ليس جديداً بل كان في زمان الأئمة (عليهم السلام) وكان يمكن أن يعالج بتنازلات، وهذا ما لم يفعله الأئمّة (عليهم السلام)، نعم عالجوا إشكاليّات بطريقة معيّنة، فلا بدّ أن تقوم على أسس متينة ومتوازنة، كما لا بدّ أن يستمدّ قوّته وشرعيّته من تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) بعيداً عن الصخب الإعلامي الذي لا يزيد الأمور إلا تعقيداً.

          وأمّا المقالة الثانية، وهي ترتبط بمعطيات الحضارة الغربيّة، فإنّ للكاتب مقالاً تحت عنوان: «ورقة مفتاحية حول حقوق الإنسان في الإسلام»، ومن البداية يصوّر الكاتب حالة أزمة الثقة بالنفس وبالمنظومة، ويريد أن يسحب ذلك إلى نفس المنظومة وأصحابها، يقول فيها:«موضوعة حقوق الإنسان في الإسلام من أكبر الموضوعات الإشكاليّة التي يواجهها الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، موضوعة شكّلت اليوم أزمة للفكر الدينيّ من جهة، وللأنظمة الدينيّة من جهة ثانية..».

          ثمّ يعتبر أنّ الخطاب الإسلامي قد تورّط في إشكالية الخطاب الحقوقي الأيديولوجي التعبويّ العام، ثمّ يعكس لنا أزمة الثقة المعتملة في نفسه من خلال أسئلة يوجّهها«الشاب المتطلّع»تُبيّن جانباً مجتزأً من حقائق الأمور؛ وذلك حين يعتبر بأنّ هذه الأسئلة جادّة بحيث لم يعد الخطاب الأيديولوجي والتعبويّ كافياً لجوابها أو حتّى قادراً على الوقوف بوجهها، من غير أن يُقدّم أيّ خطوة أخرى في هذا المجال، يقول:«إن الحديث بلغة الإطلاقية عن أنّ الإسلام حَفِظ حقوقَ الإنسان بات يواجه اليوم إشكالية المفردات، إنّ المثقف المسلم أو الشاب المتطلع لم تعد تكفيه الجمل الإطلاقية هذه، إنه يقول لك: أيّ حقوق وأنتم تقتلون المرتد لمجرد فكره [فكرة]؟! وأين هي حقوق المرأة العظيمة في الإسلام ولزوجها الجاهل أن يطلقها ساعة يشاء ويدمر حياتها وأسرتها لرغبة جامحة آنية له في امرأة أخرى؟! وأين هي حقوق الشعب وأنتم لا تقبلون برأي الشعب ميزاناً في الحكم وفق بعض النظريات؟!..

          إنّ هذه الأسئلة جادة، لم يعد خطاب الأيدلوجيات والتعبوية كافياً لجوابها، أو حتى قادراً على الوقوف بوجهها»[14].
          فهذا الخطاب يكشف عن الحالة النفسيّة لكاتبها تجاه المنظومة الإسلاميّة:

          ابتلي هذا الخطاب بضبابية كثيفة، خلافاً لدعاوى الشفافيّة التي ننتظرها من المشتغلين في المسائل العلميّة والثقافيّة، فبينما نتكلّم عن مشكلة الخطاب التعبويّ العامّ إذا بنا نقع أمام استشكالات حقيقيّة على النظام الحقوقيّ في الإسلام والمناهج فيه، مع أنّه لا بد من التفريق بين الخطاب وبين الحقائق، إن كانت المشكلة في الخطاب فلنجلس وندرس خطابنا، فمن غير المقبول أن نخلط الأمور والمواضيع، فإنّنا لم نعد نعرف هل المراد تغيير نظام الحقوق لأنّ الشاب المتطلّع والمتأثر بالغرب لا يرتضيه؟، أو أنّ المراد تغيير الخطاب؟

          ولئن كان هناك نقاش علمي فلا بد من بحثه أوّلاً، بعيداً عن مسألة كيفية التعاطي مع الشاب الطامح والمثقف، وبعيداً عن إرضاء الآخر، فلا بد أن يقوم المتخصّص بدوره فيلحظ المشكلات ضمن دائرة المتخصّصين ثمّ نرى كيف نتعاطى مع الآخرين، فمن الخطأ معالجة هذه الأمور تحت وطأة الضغط النفسي الذي قد يحسّ به بعض مثقفينا من تفوّق الغرب.

          علماً بأن هذه الدعاوى ليست بالجديدة، فعندما انتصرت الثورة في إيران كان يعتقد بعضهم بعدم إمكان إجراء تعاليم القرآن، في المقابل كان هدف الإمام الخميني (قده) إجراء تلك التعاليم بعد أن قامت الثورة باسم الإسلام.

          والفتوى بقتل سلمان رشدي لِرواية كتبها فحسب، ربما عدّ في الموازين السياسية نوعاً من الانتحار، ونحن نعرف أن أيّ واحد من حكام دولنا لا يجرأ حتّى أن يؤيدها، لكن قوة اليقين، والثقة بتعاليم الإسلام جعلت ذلك عند الإمام الخميني (قده) أمراً في غاية السهولة، فنحن نمتلك منظومتنا التي نعتزّ بها، لا تتأثر بمن يرضى بها أو يسخط،﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[15]، علماً بأن إجراء هذه التعاليم لم يستلزم أبداً القطيعة مع العالم، كما يتخوّف الكثيرون.

          ثمّ إنّه لا بدّ من إبداء ملاحظة إلى أولئك الذين يشعرون بهزيمة نفسيّة في إطار بيان منظومتنا إلى الآخرين، وهي: أنّنا قد لا نتمكن في بعض الأحيان من إرضاء كثير من الشعوب، ولكن في الوقت عينه فإنّ منظومتهم لا ترضينا، فهل تعدّد الزوجات والطلاق أسهل من تناكح الجنس الواحد حتى يفتخروا بما عندهم ونستحي بما عندنا.

          إنّ كثيراً من الأمور قد لا يمكن تقديمها للآخرين، فكيف تقنع المتحللين جنسياً أو تقدم لهم بما ينسجم مع ثقافتهم وحضارتهم مفاهيمَ من قبيل حجاب المرأة، وحرمة تصافح المرأة مع الأجنبي، فضلاً عن مثل أحكام اختلاط الرجل بالمرأة، وكذلك أحكام أخرى كحرمة الجلوس على طاولة الخمر و...و...، وقديماً لم يهُنْ على العرب السجود لله بهذا الأسلوب ـ غير الحضاري ـ بحسب المنظومة الحضاريّة للجاهليّة!.

          إنّ بعض الشباب المسلم ربما يقع في حزازة عندما يرغب في أن تكون تعاليم دينه مما ترضي الآخرين، لكن لا يمكن التنازل لذلك، ولا بد من أسلوب مناسب للتعاطي مع الشاب لإقناعه بمنظومته، وليكسب الثقة بها، ولن نسعى يوماً إلى طرح الأمور بحيث يرضى عنا الشباب وإن سخط علينا رب العالمين.

          ولا يُنبئك مثل خبير: إنّ مسلسل التنازل لا يمكن أن يقف عند مفردة أو مجموعة مفردات، ولا يحقق نتائج مرجوة كما أثبتت التجارب من تنازل حكام بلادنا في كثير من المواقف، وكفاك بالصراع العربي الإسرائيلي شاهداً على منطق التنازلات، فهل كان له أثر إيجابي حتى في تبييض صورة العرب؟!، إنّ الغرب لم يَرض إلا عمّن نحر الأمة في ظهرها، ثمّ رماه جانباً في فترة لاحقة، وفي غيرها لم تفد إلا المواجهة بعزيمة وقوّة نفس، ﴿ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم﴾[16].

          نعم، قد يكون هناك استثناءات تدخل في سياق الأحكام الثانويّة وفي حالات خاصّة، والتي لا تؤدّي إلى إلغاء الأحكام الأوليّة عمليّاً.

          البعد الثالث: على مستوى الأسلوب:



          بعد ملاحظة البعدين: البعد الفكري والمنطلق العفوي، لا أرغب في الإطالة كثيراً في الكلام عن الأسلوب؛ لأن البعدين السابقين يكتسبان أهمية مضاعفة، لكن أتعرّض لبعض الأمور بسرعة.

          ليس الهدف الاعتراض على الأمور الأخلاقية، وليس الهدف الاتهام في النوايا، لكن الأمر الهامّ هو أنّنا عندما نرفع شعارات كبيرة، ونحصل على الاحترام من خلالها لا بدّ أن نلتزم بتلك الشعارات، فإنّها تلقي بثقلها على رافعها، ومن قرّبه شعار يمكن أن يبعده ـ بنفس المسافة وربما أكثر ـ عدم الالتزام بذلك الشعار، ومن هنا أبدي بعض الملاحظات على سبيل الاختصار:

          1ـ الشفافيّة:



          الشفافية من الشعارات البرّاقة التي تطلق فتستجلب إعجاب الكثيرين، ويتمّ من خلالها فتح باب التعرّض لمثالب وثغرات كثيرة لدى الآخرين.

          لن أناقش في صحّة أن تحسّن الشفافية هذه الأمور، لكن الشيء الأساسي والأهم أنه لماذا يكون بعض دعاة الشفافية أكثر الناس تخفياً؟! إنّ أكبر مشكلة يواجهها مدّعو الشفافية أنّ هذا الشعار لا ينسجم مع تعاطيهم مع بعض الأمور.

          دعنا عن قبول الحوار بعد تردد طويل، وكنا نأمل أن يكون باباً لبقية الحوارات، لكن تمّ رفض بقية الحوارات حتى ما كان قد سبق أن اتفق عليه ووعد به مكرراً، ولننتقل إلى مشكلة أساسيّة ترتبط بالعمل الثقافيّ.

          إنّ ساحتنا الثقافية تبتلي بمشكلة الخطاب الضبابيّ الإعلاميّ، حيث يقوم البعض بالتنظير لموضوعٍ معيّن، فيُعطيه زخماً إعلاميّاً مضاعفاً، فيكون هناك تهويل في الآثار المترتبة عليه، ولعل الهدف من ذلك إعطاء روح لسياسة التغيير، لكن عادة ما يتبدّل هذا الزخم الكاذب إلى إخفاق عند من يصدّق هذا الموضوع للوهلة الأولى، ليجد لاحقاً أنّه مجرّد قنبلة صوتيّة ينحصر أثرها في صمّ الآذان وتخويف القلوب الضعيفة، هذا من ناحية.

          من ناحية أخرى يُعمد في بيان الموضوعات إلى ضبابيّة متحركة تحوم حول الفكرة، من غير أن يُلزم الكاتب نفسه بشيء، فيكتفي بنظريّات لها آثار متعدّدة، معتمداً على خطاب له إيحاءات معيّنة، ويُبقي لنفسه مفرّاً إذا ما تعرّض للمساءلة.

          بعض نماذج ذلك ما مرّ في مختلف المستويات كمسألة اللعن وموضوع حقوق الإنسان في الإسلام، وهذا ما تجده في كثير من الموضوعات، حيث يوحي الكاتب بقوّة بأنّه يريد هذه الأفكار، لكنّه يترك لنفسه احتياطيّاً ببعض العبارات المختصرة.

          إنّ استعمال هذه الأساليب في عالم الثقافة، تبرّر للآخرين كثيراً من مخاوفهم، وتوجب إدخال الأمور الثقافية في موجة من التحاليل والتفسيرات والسجالات الطويلة، ربما كان الأولى أن تنأى الساحة الثقافية عنها، لتبقى مناراً لرفع العلم والحقيقة بعيداً عن تأزّمات كان بالإمكان الاستغناء عنها.

          إذا كان الهدف ثقافياً ينبغي أن يتغلب عامل الوضوح والشفافية، لا أن نستعين بالأساليب الإعلاميّة والشعارات، وأساليب المعمعة والتضبيب، التي لا تمثّل أكثر من تصاريح أقرب ما تكون إلى الحنكة السياسية في التخلص من بعض المواقف المحرجة، منها إلى الأطروحات العلمية.

          ولعله لو بذل الوقت والمال والطاقة للبحث العلمي لبعض المواضيع لأخذت إطارها الخاص، وأمّا إذا كانت النية الاعتماد على الإعلام فحسب، فهذا أمر لا يقدّم خطوة في عالم الثقافة والفكر.

          من هنا أدعو بقوة للخروج من هذا الأسلوب، والتصريح بالمراد مباشرة، التزاماً بشعار الشفافية والوضوح الذي نرفعه مَعْلَماً لنا، عساه يخفف من السجالات وتفسير الكلام وتأويله.

          2ـ الفاصلة والتناقض بين الدعوة والعمل:



          عندما نذكر بعض الضوابط والأهداف فلا بدّ أن نكون حريصين عليها أثناء العمل: وقد تقدّم الكلام في موضوع الحياد والأمل في الوحدة، حيث كانت الدعوة شيئاً والخطى العمليّة أمراً مناقضاً، ونضيف هنا موضوع احترام العلماء ومراجع الدين، فبينما نرى التأكيد على ضرورة احترام العلماء ومراجع الدين، وبينما نجد في العدد الأوّل من نصوص معاصرة طلب حسن الظنّ والحمل على الأحسن وعدم اتّهام النوايا و:«أن يتعامل معها بصدر رحب وروح رياضية مرنة، ويعذرها حيث يمكن العذر..»[17] ، إذا به يتجاوز هذه القيم ويتهّم النوايا قبل ذلك ببضع صفحات، فيقول: «كما نجد ـ مع الأسف أيضاً ـ أن بعض علماء الدين أو حتى المرجعيّات الدينيّة تسارع إلى اتّهام منتقديها بالكفر والضلال أو العمالة أو... وكأنّ هذه المقولات تمثل لديهم سياجاً يمنع عن نقدهم، ويحميهم من سياط المساءلة»[18].

          مع أنّ هذا الكلام يتجاوز أبسط قواعد الاحترام، خاصّة وأنّه يتعاطى مع مقدّسات ـ بمعناها الإيجابيّ ـ لدى الآخرين من شرائح المجتمع، فها هو يخرج عن الاحترام إلى الاتّهام الصارخ والتجنّي، فكيف يمكن تصديق دعوى المحافظة على احترام العلماء؟!

          من المعيب أن يصدر هكذا كلام بحقّ مراجع الدين، حتّى لو لم يجزم قائله ببعضه إذ يقول: «كأنّ»، فكأنّ كلمة «كأنّ» تصحّح التظنّي والاتهامات!

          وهذا الأسلوب في التعاطي المتناقض، وفي عدم احترام مقدّسات الآخرين، يفسّر شيئاً من الشحن النفسي الذي سبّبته المجلة حتى بالنسبة لكثير من المقربين.

          3ـ التظلّم:



          يحاول عدد من المثقّفين إبراز حالة من المظلومية الكبيرة، سواء بلحاظ شخصه أم بلحاظ الجو العامّ فيُرفع قميص الظلامة لتحريك بعض العواطف.

          أمّا بلحاظ الجوّ الخاصّ فنرجّح عدم الدخول في متاهاته.

          وأمّا بلحاظ الجوّ العام فيمكن أن تكون هذه العبارة نموذجاً: «إنّ العقل السياسيّ والحسّ السياسي الذي حكم رادةَ مشروع ترجمة المشهد الإيراني هو المسؤول ـ غالباً ـ عن ما حدث على مستوى النقطة الثانية، أي عن الانتقائية التي مورست، فقد بذلت جهود لإقصاء علي شريعتي لصالح مطهري أو دستغيب، ولإقصاء مهدي بازركان وصادق هدايت وحميد عنايت لصالح جوادي آملي، ومصباح يزدي، ومحمد حسين الطباطبائي و...»[19].

          وقد أخذ موضوع كيف أنّ السياسة دخلت في المجال الديني ـ الثقافيّ ومارست تلك الانتقائية، حيّزاً كبيراً من المقالة، مما يجعل القارئ يشعر بأنّ الجوّ الثقافيّ محكوم للجوّ السياسي.

          وهذا الأمر لا يخلو من غرابة لأن المشكلة مع الدكتور علي شريعتي كانت دينية ليست سياسية، وكذلك مهدي بازركان الذي كان من قلب الثورة، فإنّ أساس مشكلته كانت عدم إرادة تطبيق أحكام القرآن في الدولة الإسلامية وهذا ما لم يرتضِه الإمام الخميني (قده).

          أمّا بعض من ذكرهم في قبال العلامة الطباطبائي والشهيد مطهري فليسوا سوى قصاصين وأدباء وليس لديهم فكر يُذكر حتى يصوّر أنّ تحييدهم جريمة.

          وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

          تعليق


          • #6
            تـــــابــــــــــــع

            المصادر
            ______________
            [1] لاحظ: نصوص معاصرة/ العدد الأوّل/ ص: 16ـ 19.

            [2] نشير إلى مجموعة من المؤشّرات التي تجعل منشأ المخاوف والهواجس، من طرح نشر الأفكار المختلفة بما فيها الضلال، أكثر وضوحاً، من خلال مجموعة من النقاط، نمرّ عليها سريعاً:

            أ ـ إنّ من أهمّ وظائف الأنبياء نشر الهدى والحرص عليه بأساليب الوعد والوعيد، ﴿وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا﴾(الأنبياء/73)، وفي مقابل ذلك أخذ الشيطان على عاتقه أن يضل بني آدم ﴿فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين﴾(ص/82 ـ 83)، ﴿ولأُضلّنّهم ولأُمنّينّهم ولآمرنّهم﴾(النساء/119).

            هذه الحقيقة لا بدّ أن تكون شاخصة أمامنا، فنحن عندما نبثّ مختلف الأفكار بما فيها الأفكار الضالة، قد نقوم بفعل إبليس من حيث لا ندري، فلا بد أن نكون على بيّنة من أمرنا.

            فالمشهد الثقافي الإيراني كما أنه يشتمل على أمثال العلامة الطباطبائي والشهيد مطهري و...و...، كذلك هو يشتمل على أفكار تحاول بشتى الطرق أن تطيح بالمنظومة الإسلامية، وتفرّغ كثيراً من الأصول العقائديّة من محتواها، وتحاول التشكيك في كلّ مفرداتها، ولو تحت شعار التغيير والإصلاح.

            لا أريد ههنا أن أتّهم النوايا، ولا أريد أن ألقي كل خلل على المستعمر، لكن في الوقت نفسه لا معنى لأن افترض أن هكذا أفكار بريئة، فلماذا نتعامل معها بإيجابية مطلقة؟

            ب ـ وفي المقام مسألة أخرى، ذلك أنّنا إذا تتبّعنا آيات القرآن الكريم وتعاليم أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّنا نجدها تحث دائماً على تثبيت التعاليم الحقّة، وتحذّر تماماً من الوقوع في الشك، هذا هو مسلك الشريعة الغراء في هذا الموضوع، ولا بدّ أن يلقي بظلاله على مسلكنا العمليّ أيضاً.

            في المقابل فإنّنا نجد أنّ طرح الأفكار المتباينة، مقالة هنا ومقالة هناك، يؤدّي ـ بطبيعته ـ إلى بثّ روح الشكّ وزعزعة اليقين، فالأفكار المتناحرة إذا ألقيت بزخم وبكثرة، قبل أن يتمّ التمحيص والتحقيق في كل واحدة واحدة، عادة ما يكون نتيجته الشك أو تخفيض درجة اليقين.

            نعم قد لا تؤثّر الشكوك في الإنسان المتخصّص وقويّ العقيدة، لكنّ المجلة غير مقتصرة على المتخصّصين بهذا المعنى وإنّما تخاطب المثقف، وغنيّ عن البيان أن كون الشخص مثقفاً لا يعني أنه متخصّص.

            ج ـ قد ترد في المقام مغالطة فيُقال: نحن واقعون تحت وطأة تقدم العصر، حيث تحجيم الأفكار غير ممكن، بل هو من لوازم حريّة التعبير.

            إلا أن عدم إمكان تحجيم الأفكار لا يعني توسيع رقعتها، ومقولة حرية التعبير والديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية، لها خطها الأحمر بل الأسود الذي لا تتجاوزه، فمهما تطور الغرب هل يرضى بديمقراطية تعطي الإسلام قوة؟!، ربما يرضاها على مدى قصير لتحقيق مآرب أكبر.

            كذلك حرية التعبير يُسمح بها بالمقدار الذي يستفاد منها في تنفيس كثير من الشحناء وما شابه، لكنها ستولي حتماً إذا استوجبت قلب المعادلة لصالح الإسلام.

            لذا من الواجب علينا أن لا نكون إطلاقيين في تلقّف هذه المفاهيم البرّاقة، فنُقْدِم على خسارات وتنازلات مجانية رعاية للأمانة في نقل المشهد الثقافيّ بالكامل، من غير أن نراعي حساب الخسارة والربح أبداً، ومن دون أن نراعي وظيفة الأنبياء والرسل وممشى الشريعة في هذا المجال.

            د ـ وهناك نقطة أساسية تلعب قدراً كبيراً في تشخيص الخطورة، وذلك أنّنا نتساءل عن النوعيّة التي يسعون إليها والتي تكون ثمرة نشر الأفكار المختلفة بما فيها أفكار الضلال، وما هو الكيف الذي نبتغيه؟حتّى لو «..كان فيه بعض الخسارات على مستوى كميّة التديّن والمتدينين في العالم؟ أليس من المفترض تقديم الكيف على الكم؟» (نصوص معاصرة/ العدد الأول/ ص:19).

            هل يراد من النوعيّة: مَن يحمل بعض المفاهيم وبعض الاصطلاحات، ومَن سمع الكثير من النظريات المتضاربة، فاستطاع أن يتحدّث بأسلوب المثقفين الخاص وبلهجتهم وباصطلاحاتهم؟!

            هل يراد منها: مَن يستطيع، إذا ما سمع فكرة، أن يبدي بعض النقوض والإشكاليات والنظريات المقابلة لها؟

            وبعبارة مِن صميم الواقع: هل يراد من النوعيّة: مَن نعاشرهم في بعض أوساطنا ممن بذلوا عمراً طويلاً في تحصيل العلوم، واشتغلوا حتى في الكتابة والتأليف، ثم تجدهم كشريحة تتميّز بطرح إشكاليات على مفردات إسلامية تطال أموراً كثيرة، وقد تطال أحياناً بعض أصول العقائد، ويعيشون حالةً من الإرباك الشديد حيال مجموعة من حقائق الحياة الروحيّة والمعنويّة؟!

            الواقع الخارجي يلقي بظلّه قويّاً علينا، فلعلّ هذه الطبقة المخمليّة، والتي يهمّها الأفكار المتنوعة هي الكيفية والنوعية المتوخاة والتي يُضحى من أجلها بخسارات على مستوى المتدينين في العالم؟!

            واقعنا يفرض علينا أن هناك طيفاً يستشكل غالباً، ولا يكلف نفسه عناء البحث التام في المسائل، فهمّه الأساس إثارة إشكاليات حول منظومتنا، خاصة فيما يمكن أن يرضي المذاهب والأديان الأخرى والعناوين البراقة التي نسمعها في عالمنا اليوم، في المقابل لا يقدّم تأسيساً أو تأصيلاً يخدم منظومتنا الإسلامية، بما يتناسب في حجمه مع الإشكاليات المطروحة ربما يمسح شيئاً من صورته النمطيّة التي أحاط بها نفسه.

            أمّا النوعية الملحوظة عند أهل البيت (عليهم السلام) فهي النوعيّة التي وصلت إلى أعلى قمم اليقين في عقائدها وفي حالاتها مع ربّها وخلفائه في الأرض، مثل إيمان أبي ذر وسلمان والمقداد، الذين ذابوا في تعاليم الإسلام وفي حب أهل البيت (عليهم السلام).

            فمن الالتباس وصف تلك الفئات التي سبق أن مرّ ذكرها بالنوعية ونحن ندعي السير على تعاليم أهل البيت (عليهم السلام)، مثلها مثل كثير من الأوصاف الملتبسة التي نستخدمها، مثل مرادفة اصطلاح التغيير مع الإصلاح، مع أنّ القرآن يقرّر أنّ بعض دعاة الإصلاح ليسوا أكثر من مفسدين في الأرض: ﴿وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون﴾(سورة البقرة/11ـ 12).

            [3] ويمكن تقريب صورة الأمر عمليّاً بمثال من واقعنا السياسيّ، قد يكون فيه شيء من المزايدة غير المقصودة، وهو ما يحصل في جلسات الحوار في لبنان، فإنّ المقاومة عندما طرحت استراتيجيتها بلحاظ وظيفة المقاومة وسلاحها، فإنّها طرحته للأطراف الأخرى التي تشعر بحساسيّة تجاه هذا السلاح، بطريقة موثقة يمكن أن تُقنعهم أو تُبدّد بعض هواجسهم ومخاوفهم، بالاعتماد على الوثائق والشواهد والصفحة البيضاء لتاريخ المقاومة.

            وفقط بواسطة هذا التصوّر المدعوم بالوثائق يمكن أن تزول مخاوف مَن ينظر بعين الإنصاف أو بعض مخاوفه، مع غضّ النظر عن أهداف المتحاورين ونيّاتهم المفروضة سلفاً.

            [4] وللسيّد الشهيد (قده) بحث شيّق في مجال بيان كيفيّة الترجيح بالأهميّة عند التزاحم، ويبيّن أنّ موضوع تشخيص الأهمية لا يُبنى على حالة من الشخصنة، وإنّما يتّكئ على الاستدلال والبرهان، فيُعدّد طرق الإثبات، وخلاصتها:

            1ـ أن يتكفّل بعض الأدلة بيان مرتبة اهتمام المولى بتكليف معين، على نحو يستفاد بأنّه متقدّم على غيره، كما في حديث بني الإسلام على خمس.

            2 ـ أن يَرِد التشديد والتهويل على ترك ذلك الواجب ومخالفته، نظير ما ورد من التعبير بالكفر بالنسبة لمن ترك فريضة الحج.

            3 ـ استفادة الأهمية من الأدلّة الثانوية المتكفّلة لأحكام ذلك الواجب وخصائصه، نظير ما ورد في حق الصلاة من أنّها لا تترك بحال.

            4 ـ الاستفادة من ارتكاز عند العرف يخلع على دليل الخطاب الشرعي ظهوراً عرفياً يحدّد الملاك ويُشخّص الأهمّ منها والمهمّ، وهذا إنّما يكون في الأدلّة المتكفّلة لأحكام مركوزة بنفسها وبملاكاتها عند العقلاء، نظير خطاب حرمة الغصب ووجوب حفظ النفس المحترمة فيما إذا وقع التزاحم بينهما.

            5 ـ كثرة التنصيص على الحكم من قبل الشرع، فإنّه يدل أيضاً على مزيد اهتمام الشارع بملاك ذلك الحكم.

            على تفصيل مذكور في محلّه.

            فالملاحظ أنّ طرق استكشاف الأهمّ، ترجع إلى مراجعة نصوص وأدلّة الشريعة، وهو وإذا لاحظنا أقوال المعصومين (عليهم السلام) وفعلهم، فكيف يتوهم جواز نشر الضلال؟! وكيف يجوز تقديم خسارات في كميّة المتديّنين؟! ولن يكون هناك خفاء في النوعيّة المتوخاة عند أهل البيت (عليهم السلام).

            [5] المنهاج / العدد 37 / ص 5 ـ 6.

            [6] اختيار معرفة الرجال / الشيخ الطوسي /ج 2، ص 811. وفي البحار: «من يأجم [أي يكره] أن يلعن من لعنه الله فعليه لعنة الله».

            [7] لاحظ العدد الثامن والتاسع والعاشر ـ عدد مزدوج ـ من مجلة قضايا إسلامية معاصرة.

            [8] نصوص معاصرة/ العدد الأوّل/ ص: 25.

            [9] نصوص معاصرة/ العدد الرابع/ ص: 6.

            [10] م. ن. ص:10.

            [11] الحياة الطيبة/ العدد11/ص: 60.

            [12] راجع المنهاج / العدد 37 / ص 4 ـ 8.

            [13] التوبة/108.

            [14] المنهاج / العدد 39 / ص 4.

            [15] آل عمران : 173.

            [16] البقرة/ 120.

            [17] نصوص معاصرة/ العدد الأوّل/ ص: 28.

            [18] نصوص معاصرة/ العدد الأوّل/ ص:24.

            [19] نصوص معاصرة/ العدد الأوّل/ ص: 18.

            تعليق


            • #7
              هدم.....................؟!!

              ام...........................؟!!

              بناء................................؟!!

              تعليق

              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
              حفظ-تلقائي
              x

              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

              صورة التسجيل تحديث الصورة

              اقرأ في منتديات يا حسين

              تقليص

              لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

              يعمل...
              X