باسمه تعالى
وصلني السؤال التالي :
بسم الله الرحمن الرحيم
من التساؤلات التي تطرح في الغرب كإشكالات أو طعون في الإسلام و إلتزامات أفراد المسلمين ما يفهم من ظاهر الآية الكريمة"وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا "{النساء 34)
والإشكال هنا هو كيف يأمر القرآن أو الإسلام أتباعه بضرب النساءويقولون أليس في هذا تمييز ضد المرأة و احتقار لها ومخالفة للإنسانية؟
وكان الجواب: يتكون من مقدمات ونقاط مترابطة:
1- إن الإسلام يعتبر أن الزواج هو مشروع ترابط بين إنسانين، أحدهما ذكر، والآخر أنثى، وأن الذكورة والأنوثة لم تكن باختيار أحد منهما، لكنه واقع تكويني وبالفطرة يرتضيه كل طرف لنفسه وينسجم معه تمام الإنسجام وإن هذا الواقع التكويني والإنسجام يترشح منهما ميول فطرية حقيقية من قبل كل طرف نحو الآخر وإن الإسلام يعترف ويقر بحقيقة هذه الميول لكنه يتدخل في طرح نظام يضمن من خلاله تحقق غايات هذه الميول بنحو يحفظ لكل من الطرفين حقه الإنساني ومن هنا طرح الإسلام أن يحصل تحقق غايات الميول المشار إليها عبر مؤسسة الزواج . وحيث أن كل مؤسسة تنشأ بين أطراف ، ولكل طرف غاياته ، لذا لابد الإبتداء بعقد يتم التوافق بين أطرافه على إقراره بكامل الرضى والإقناع.
2- لذا ارتأى الإسلام أن مؤسسة الزواج التي يراد إنشاءها بين الإنسانين (الذكر والأنثى) لا بد أن تبدأ بعقد مصاغ يتلى بين الإنسانين المتعاقدين(أي الذكر والأنثى) ويتكون من بندين متراتبين يسميان بالإيجاب والقبول.
3- طرف الإيجاب وهو الإساس بين الطرفين هنا هو الإنسان الأنثى.
4- طرف القبول وهو الطرف الثاني في العقد وهو الإنسان الذكر.
5-والتراتب بين الطرفين هنا فيه تميز واضح للطرف الأول الذي هو الأنثى.
6- حكم الإسلام أن صحة العقد متوقفة على حقيقة الرضى القلبي والعقلي للإنسان الأنثى. بمعنى لو أن ظروفاً ما، أو أي نوع من العادات أجبرت الأنثى على إجراء العقد، وانصاعت الأنثى ظاهراً بكل ما يفترضه ذلك من إيجاب للصيغة وصولاً إلى توثيقه بالمستندات والدوائر الرسمية، بينما هي في الواقع القلبي والعقلي مكرهة وغير راضية فإن الإسلام يحكم دون تردد ببطلان الزواج المذكور وعدم أحقية الطرف الثاني (أي الذكر) بالمطالبة بأي مفعول أو أثر لمصلحته جراء العقد المذكور.
7- إن الإسلام طرح صيغة عنونة مثلى لمؤسسة الزواج اختصارها تعبير (المساكنة) القائمة على ركيزتين أساسيتين هما (الود والرحمة) ومن لاحظ المعاني والمقاصد في تلك التعابير لتبين له بوضوح أن الإسلام لا يتصور زواجاً ناجحاً يميل عن الأطر الإنسانية.
8- بقدر ما أراد الإسلام أن لا يحيد الناس (ومعتنقوه بالخصوص) عن إنسانية الإرتباط والتعامل أراد بالقدر نفسه أن يكون موضوعياً في رحلة تعايش الذكر والأنثى تحت خيمة مؤسسة الزواج والتي رافقها تشريعاً وإرشاداً في مراحلها الثلاث: عقد الزوجية - زمن المعايشة - الإفتراق.
لذا كان لابد من أن يحظى زمن المعايشة(المساكنة) باهتمام تشريعي وإرشادي من قبل الإسلام وهذا ما أرادت الآية الكريمة الإطلالة عليه ووضع منهجية تراتبية في معالجته.
9- الآية المشار إليها طرحت خطوات ومراحل لمعالجة ودرء أي مخاطر قد تعيق استمرار استقرار الحياة الزوجية.(والآية هنا تعالج إحدى صور أو أحد مصادر الخطر على الإستقرار الزوجي).
والخطوات أو المراحل التي طرحتها الآية لمعالجة في هذه الصورة هي:
1- مرحلة الوعظ.
2- مرحلة الهجر في المضاجع.
3- مرحلة الضرب.
10- مرحلةالوعظ(الواردة في عبارة فعظوهن): لابد من الإشارة ابتداءً إلىأن كلمة (الوعظ) هو تعبير إسلامي أو ديني ويمكن أن نفهمه في لغتنا المعاصرة على أنه يتضمن النصح والإرشاد والحوار.
والذي فهمناه من الآية الشريفة أنه لا يصح الإنتقال في المعالجة إلى المرحلة الثانية قبل أن تستنفذ الأولى غايتها.
إضافة إلى أن أسلوب الوعظ (النصح والإرشاد والحوار) هو أحد أسمى أساليب التعاطي الإنساني مع طرف الخلاف الآخر. وأن هذا الأسلوب(أو المرحلة الأولى) لا ينبغي قطعه والقفز عنه إلى تاليه مادام احتمال جدواه موجوداً.
11- مرحلة الهجر في المضجع: وهي التالية في حال نفاذ احتمال تأثير المرحلة السابقة. ويلاحظ هنا أن الهجر يقصد به المقاطعة ولكن ضمن حدود المضجع أي لا يتعد ذلك، ولا يخفى هنا أن هذه المرحلة تمثل إنتقالاً هاماً في الأسلوب وبقدر ما يشكل تطوراً سلبياً في نظر الزوجة. وهو أيضاً يستلزم تضحية أو مستوى في المعاناة من قبل الزوج لأن المضجع هو حاجة تكاد تكون متماثلة للزوجين معاً وإن اختلفت نوعية الحاجة بينهما بقدر ما، فهي بالنسبة للزوجة تعبر أكثر عن المحبة والرغبة بها من قبل الزوج. وهذا ما يعتبر الحافز الأول لها في استمرار أو استقرار الإرتباط الزوجي.
والمقاطعة هنا محددة ضمن نطاق المضجع أي لا ينبغي تجاوز هذا الحد إلى أن يبلغ مداه وأثره المطلوب.
فإن انعدمت الفائدة المرجوة تم الإنتقال إلى المرحلة الثالثة.
12- مرحلة الضرب: وهنا لابد من مقدمات:
أ- أن ألفاظ القرآن الكريم هي ألفاظ عربية أي لابد من الرجوع إلى اللغة لنرى هل (للكلمة) موضوع البحث أكثر من معنى أو استعمال؟
ب- إن الإسلام كمصدر للتشريع يحوي نوعين من النصوص:
--- نصوص أساسية إجمالية وهي غالباً متضمنة في آيات التشريع القرآنية.
--- نصوص تفصيلية وتفريعية وهي في الغالب منقولة عن لسان المعصوم.
ج- كما الحال في الدساتير والقوانين الوضعية لمختلف دول العالم المعاصر عند أي مخالفة يرى أنها تحتاج إلى معالجة قانونية، ينظر ابتداءً في مواد الدستور والقانون العام، فإذا أقرت تلك المواد انطباق حالة المخالفة على ما تضمنته بعض مضامينها، ينتقل إلى المواد التفصيلية والتفريعية ليرى مدى الحدود والضوابط والقيود التي تتناسب وحالة المخالفة...
أي باختصار لا يكتفى بظاهر انطباق القانون العام بل تعتبر التفريعات والتفصيلات هي الحاكمة في المقام.
13- استناداً إلى ما مر:تبين أن (الضّرب) من الوجوه والنظائر التي وردت في الإستعمال اللغوي وفي القرآن الكريم بمعانٍ عديدة، منها.
1 ـ الضَّرب: السَّيْر :ومنه قوله تعالى: وآخَرونَ يَضْرِبونَ في الأرض أي يسيرون، وقوله تعالى: وإذا ضَرَبتُم في الأرضِ فليسَ علَيكُم جُناحٌ أن تَقصُروا مِن الصَّلاة.
2 ـ الضَّرب: الوصف والبيان، ومنه قوله تعالى: فلا تَضْرِبوا للهِ الأمثال أي لا تصفوا، وقوله سبحانه: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبداً مَملوكاً . يعني وَصَفَ اللهُ مَثَلاً.
3 ـ الضَّرب: الصَّرفومنه قوله تعالى: أَفَنَضْرِب عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أي نصرف.
4 ـ الضَّرب: إيقاع شيء على شيء، ومنه قوله تعالى: أن اضْرِبْ بعَصاكَ الحَجَر .
5 ـ الضَّرب: المنع مثال المنع من السَّمْع ومنه قوله سبحانه: فَضَرَبْنا على آذانِهِم في الكهف.
وبقراءة ما سبق ومحاولة فهم المراد من الآية الكريمة لا بد من ملاحظة أن الأمثلة الثلاث الأخيرة من الإستعمالات اللغوية والقرآنية قد تكون المعنية بالإهتمام في المقام .
وعليه فقد حمل الكثير من الناس على إختلاف مستويات ثقافتهم أن المراد من عبارة(فاضربوهن) هو النوع الرابع من الإستعمال الذي أوردناه أي : (إيقاع شيء علىشيء)
أو بنحو الفهم الشائع لهذا المثال أي مماسة الطرف المقابل بنحو من العنف.
وبتطبيق ذلك على الطرفين موضع الكلام : أن يقوم الرجل بمماسة جسد المرأة بأسلوب عنيف وسواء كان بيد عارية مباشرة أو بإستعمال أداة مؤذية لجسد المرأة.
وإذا أردنا أن نكون إسلاميين في فهم المراد من تعبير (فإضربوهن) الوارد في الآية
وعلى طبق ما أوردناه سابقاً ، فنحن ملزمون بالبحث عن النصوص التفصيلية والتفريعية
الواردة في الشريعة الإسلامية وهي هنا أقوال المعصوم (ع) .
لذا نقول :
أن الذين إعتبروا أن عبارة (فاضربوهن) هي إجازة للرجل في إستعمال العنف الجسدي نحو المرأة سوف يصطدمون بالنصوص التالية:
1 – أن المعصوم (ع) لما سئل عن جواز ضرب المرأة أجاب بما مفاده أن لا يتجاوز الضرب بالسواك وإشترطت الروايات عدم جواز ترك أي أثر على الجزء المضروب وإلا صار الرجل معرضاً للعقاب وأن عقاب الرجل هنا حق للمرأة على الحاكم تنفيذه.
والسواك : هو عود صغير لا يتجاوز طول الأصبع الواحد .
وهنا للعاقل أن ينظر ويرى كيف يكون تطبيق الضرب بهذه الشروط المرفقة بالتهديد بالعقاب للرجل .
وليرى هل هذا جواز بالإيذاء الجسدي أم ماذا ؟
2 – إقرأ الآتي : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، " أخبرني أخي جبرئيل ، ولم يزل يوصيني بالنساء حتى ظننت أن لا يحل لزوجها أن يقول لها : أف.
عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أنه قال : " فأي
رجل لطم امرأته لطمة ، أمر الله عز وجل مالك خازن النيران فيلطمه على حر
وجهه سبعين لطمة في نار جهنم ، وأي رجل منكم وضع يده على شعر امرأة
مسلمة ، سمر كفه بمسامير من نار
عن النبي (ص) أنه قال : إني أتعجب ممن يضرب إمرأته وهو بالضرب أولى منها .
وهكذا نجد أن من يقول أن الإسلام يُشرع ضرب المرأة سيجد بعد قراءة النصوص التي أوردناها أنه أخطأ كثيراً حيث أنها تتضمن الآتي :
أ – أنها تعتبر الرجل في بعض ألفاظها أدنى مستوى بالإنسانية .
2 – أنها تهدده بعقاب دنيوي مباشر وأن من حق المرأة مقاضاته وعلى الحاكم تنفيذ العقاب .
3 – أنها تهدده بمصير أسود في الآخرة وبعقاب لا يتصور تحمله .
هنا نجد لزاماً ضرورة فهم الآية بنحو آخر وأنه ربما كان المراد بعبارة (واضربوهن) شيئاً آخر .
لهذا أقول:
أن النوع الثالث والخامس من الإستعمالات اللغوية والقرآنية التي أوردناها ل (الضرب) هما الأقرب والأوجه للمراد من تعبير (واضربوهن) وأكثر إنسجاماً مع سياق الآية مورد البحث وأتم توافقاً مع مفاهيم الإسلام العامة وبالخصوص مع الصبغة الإنسانية التي يريدها الإسلام لشكل العلاقة الزوجية كما أسلفنا .
والنوعان المشار إليهما هما ما كانا بمعنى : الصرف والمنع .
ومن باب التمثيل يمكن تصور التالي :
لو بدلنا فعل ضرب المشتق منها عبارة (واضربوهن) بفعل : صرف أو منع
وإشتققنا منهما فعل أمر مماثل لصار السياق : فعظوهن واهجروهن في المضاجع وإصرفوهن (أو وامنعوهن) .
لكان معنى الآية أن المراحل الثلاث : الوعظ ، مقاطعة في حدود المضجع ، مقاطعة في مستوى أوسع .
وحتى لا يقال أن هذا تحكم في محاولة التفسير نقول :
أنه بالرجوع إلى نصوص التشريع الواردة عن المعصوم (ع) تجد النص التالي والذي يؤكد أن هذا الوجه بالتفسير هو مراد للشرع الإسلامي وبوضوح تام :
فقد جاء عن النبي (ص) : (لا تضربوا نساءكم بالخشب فإن فيه القصاص ، ولكن اضربوهن بالجوع والعري ، حتى تربحوا في الدنيا والآخرة)
فالعبارة الأولى ( لا تضربوا نساءكم بالخشب فإن فيه القصاص )
فيها ثلاث ملاحظات :
نهي عن الضرب بنحو إستعمال العنف .
الخشب هنا كناية واضحة عن العنف الجسدي ولا خصوصية فيما تعنيه لفظة الخشب بدليل ما ذكرناه سابقاً .
التأكيد أن العنف الجسدي يستوجب القصاص أي العقاب للرجل .
والعبارة الثانية (ولكن اضربوهن بالجوع والعري ) دليل واضح وصريح أن المراد بالضرب هنا هو المقاطعة وبالنحو الذي أوردناه ، وإلا كيف يكون الضرب بالجوع والعري .
ودون شك لا يُقصد هنا المنع عن مطلق الطعام والثياب لأن ذلك وبالنحو الضروري هو من مستلزمات عقد الزوجية وهذا العقد ما زال سارياً لعدم حصول الطلاق ، وإنما المقصود هو المنع عن ما زاد عن الضروريات .
والكل يعلم أن الدول في عالمنا اليوم كثيراً ما تلجاً إلى عقوبة المقاطعة للآخرين حفظاً لمصالحها أو عقاباً لغيرها .
أما العبارة الثالثة (حتى تربحوا في الدنيا والآخرة)
فواضح بعد النهي عن العنف الجسدي
والتوجيه إلى إستعمال الضرب بمعنى المقاطعة
أن ذلك يؤدي إلى فائدتين
الأولى وهي المطلوبة
والثانية وهي الخلاص من عواقب إستعمال العنف الجسدي أي القصاص في الدنيا
والعقاب الفظيع في الآخرة .
بعد ما قدمناه ربما صار الجواب عن التساؤل والإشكال واضحاً
والحمد لله رب العالمين .
تعليق