إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

كتاب( لاكون مع الصادقين ) للتيجاني/

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    {76}
    بأن الله أكمل دينه بالإمامة ولذلك كانت الإمامة عند الشيعة أصلاً من أصول الدين.
    وبإمامة علي بن ابي طالب أتم الله نعمته على المسلمين لئلا يبقوا هملاً تتجاذبهم الأهواء وتمزقهم الفتن فيتفرقوا كالغنم بدون راع -
    ورضي لهم الإسلام ديناً، لأنه إختار لهم أئمة أذهب عنهم الرجس وطهرهم وأتاهم الحكمة وأورثهم علم الكتاب ليكونوا أوصياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيجب على المسلمين أن يرضوا بحكم الله واختياره، ويسلموا تسليماً، لأن مفهوم الإسلام العام هو التسليم لله قال تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون)(1).
    ومن خلال كل ذلك يفهم بأن يوم الغدير إتخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عيد إذ بعد تنصيب الإمام علي وبعد أن نزل عليه قوله (اليوم أكملت لكم دينكم...) الآية: قال الحمد لله على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضي الرب برسالتي وولاية علي بن ابي طالب من بعدي(2) ثم عقد له موكباً للتهنئة وجلس صلى الله عليه وآله وسلم في خيمة وأجلس علياً بجانبه وأمر المسلمين بما فيهم زوجاته أمهات المؤمنين أن يدخلوا عليه أفواجا ويهنئوه بالمقام ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ما أمروا به وكان من جملة المهنئين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب بهذه المناسبة أبوبكر وعمر.
    فقد جاءا إليه يقولان له: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت
    ______________________________
    (1) سورة القصص آية 68 - 69 - 70.
    (2) الحاكم الحسكاني عن أبي سعيد الخدري في تفسيره للآية.
    والحافظ أبو نعيم الإصبهاني في كتابه «ما نزل من القرآن في علي».
    {77}
    مولانا ومولى كل مؤمن ومؤمنة(1)
    ولما عرف حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فرح النبي واستبشاره في ذلك اليوم قال: أتاذن لي يا رسول الله أن أقول في هذا المقام أبياتاً تسمعهن، فقال: قل على بركة الله، لا تزال يا حسان، مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.
    فأنشد يقول:
    يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم فاسمع بالرسول مناديا
    إلى آخر الأبيات التي ذكرها المؤرخون(2).
    ولكن ورغم كل ذلك فإن قريشاً إختارت لنفسها وأبت أن تكون في بني هاشم النبوة والخلافة فيجحفون على قومهم بجحاً بجحا، كما صرّح بذلك عمر بن الخطاب لعبد الله بن عباس في محاورة دارت بينهما(3).
    فلم يكن في وسع أحد أن يحتفل بذلك العيد بعد ذكراه الأولى التي إحتفل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    وإذا كانوا قد تناسوا نص الخلافة وتلاشى من أذهانهم ولم يمض عليه من
    ______________________________
    (1) روى هذه القصة كل من الإمام ابي حامد الغزالي في كتابه سر العالمين ص 6 كما رواها الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج 4 ص 281.
    والطبري في تفسيره ج 3 ص 428 والبيهقي، والثعلبي، والدارقطني والفخر الرازي وابن كثير وغيرهم.
    (2) الحافظ أبونعيم الإصبهاني في كتابه ما نزل من القرآن في علي.
    -الخوارزمي المالكي الإصبهاني في كتاب المناقب ص 80 - الكنجي الشافعي في كفاية الطالب
    - جلال الدين السيوطي في كتابه - الإزدهار فيما عقده الشعراء من الأشعار.
    (3) الطبري في تاريخه ج 5 ص 31.
    تاريخ ابن الاثير ج 3 ص 31 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 18.
    {78}
    الوقت غير شهرين ومع ذلك لم يتكلم به أحد، فكيف بذكرى الغدير التي مضى عليها عام كامل، على أن هذا العيد مربوط بذلك النص على الخلافة فإذا انعدم النص وزال السبب لم يبق لذلك العيد أثر يذكر.
    ومضت على ذلك السنون حتى رجع الحق إلى أهله بعد ربع قرن، فأحياها الإمام علي من جديد بعدما كادت تقبر وذلك في الرحبة عندما ناشد أصحاب محمد ممن حضر عيد الغدير أن يقوموا فيشهدوا أمام الناس ببيعة الخلافة فقام ثلاثون صحابياً منهم ستة عشر بدرياً وشهدوا(1) والذي كتم الشهادة وادعى النسيان، كأنس بن مالك الذي أصابته دعوة علي بن أبي طالب فلم يقم من مقامه ذلك إلا ابرص فكان يبكي ويقول أصابتني دعوة العبد الصالح لأني كتمت شهادته(2) وبذلك أقام أبو الحسن الحجة على هذه الأمة ومنذ ذلك العهد وحتى يوم الناس هذا وإلى قيام الساعة يحتفل الشيعة بذكرى يوم الغدير وهو عندهم العيد الأكبر، كيف لا وهو اليوم الذي أكمل الله لنا فيه الدين وأتم فيه علينا النعمة ورضي بالإسلام لنا دينا، وهو يوم عظيم الشأن عند الله ورسوله والمؤمنين، ذكر بعض علماء أهل السنة عن أبي هريرة أنه قال: لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه... إلى آخر الخطبة، فأنزل الله عز وجل (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) قال أبو هريرة وهو يوم غدير خم من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً(3).
    ______________________________
    (1) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 4 ص 370 وكذلك ج 1 ص 119. النسائي في الخصائص ص 19 - كنز العمال ج 6 ص 397 - ابن كثير في تاريخه ج 5 ص 211.
    - إبن الأثير في أسد الغابة ج 4 ص 28 وابن حجر العسقلاني في الإصابة ج 2 ص 408 - السيوطي في جمع الجوامع.
    (2) مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 106 - ابن كثير في تاريخه ج 5 ص 211.
    ابن الاثير في أسد الغابة ج 3 ص 321 - حلية الأولياء ج 5 ص 26.
    أحمد بن حنبل ج 1 ص 119.
    (3) إبن كثير في كتاب البداية والنهاية ج 5 ص 214.
    {79}
    أما رويات الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في فضائل ذلك اليوم فحدث ولا حرج، والحمد لله على هدايته أن جعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين والمحتفلين بعيد الغدير.
    وخلاصة البحث أن حديث الغدير «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من وال، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار» هو حديث أو بالأحرى هي حادثة تاريخية عظيمة أجمعت الأمة الإسلامية على نقلها، فقد مر علينا ذكر ثلثمائة وستين من علماء أهل السنة والجماعة وأكثر من ذلك من علماء الشيعة.
    ومن أراد البحث والمزيد فعليه بكتاب الغدير للعلامة الاميني.
    وبعد الذي عرضناه لا يستغرب أن تنقسم الأمة الإسلامية إلى سنة وشيعة، تمسكت الأولى بمبدأ الشورى في سقيفة بني ساعدة، وتأولت النصوص الصريحة وخالفت بذلك ما أجمع عليه الرواة من حديث الغدير، وغيره من النصوص.
    وتمسكت الثانية بتلك النصوص فلم ترض عنها بدلا وبايعت الأئمة الإثني عشر من أهل البيت ولم تبغ عنهم حولاً والحق أنني عندما أبحث في مذهب أهل السنة والجماعة خصوصاً في أمر الخلافة، أجد المسائل مبنية على الظن والإجتهاد، لأن قاعدة الإنتخاب ليس فيها دليل قطعي على أن الشخص الذي نختاره اليوم هو أفضل من غيره لأننا لا نعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولأننا في الحقيقة مركّبون من عواطف وعصبيات وأنانية كامنة في نفوسنا وستلعب هذه المركبات دورها إذا ما أوكل إلينا إختيار شخص من بين أشخاص.
    وليست هذه الأطروحة خيالاً أو أمر مبالغاً فيه، فالمتتبع لهذه الفكرة فكرة إختيار الخليفة سيجد أن هذا المبدأ الذي يطبّل له لم ينجح ولا يمكن له أن ينجح أبداً.
    فهذا أبوبكر زعيم الشورى بالرغم من وصوله إلى الخلافة (بالإختيار
    {80}
    والشورى)، نراه عندما شارف على الوفاة أسرع إلى تعيين عمر بن الخطاب خليفة له! دون إستعمال طريقة الشورى. وهذا عمر بن الخطاب الذي ساهم في تأسيس خلافة أبي بكر نراه - بعد وفاة أبي بكر يعلن على الملأ بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها(1).
    ثم بعد ذلك نرى أن عمراً عندما طعن وأيقن بدنو أجله عيّن ستة أشخاص ليختاروا بدورهم واحداً منهم ليكون خليفة، وهو يعلم علم اليقين أن هؤلاء النفر على قلّتهم سيختلفون رغم الصحبة والسبق للإسلام والورع والتقوى فستثور فيهم العواطف البشرية التي لا ينجو منها إلا المعصوم، ولذلك نراه- لحسم الخلاف - رجح كفة عبد الرحمن بن عوف فقال: إذا إختلفتم فكونوا في الشق الذي فيه عبد الرحمن بن عوف ونرى بعد ذلك بأنهم إختاروا الإمام علياً ليكون خليفة ولكنهم إشترطوا عليه أن يحكم فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين أبي بكر وعمر وقبل علي كتاب الله وسنة رسوله ورفض سنة الشيخين(2) وقبل عثمان هذه الشروط فبايعوه بالخلافة. وقال علي في ذلك: «فياللهوللشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذا أسفّوا وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره مع هن وهن..»(3).
    وإذا كان هؤلاء وهم نخبة المسلمين وهم خاصة الخاصة تعلب بهم العواطف فيكون فيهم الحقد وتكون فيهم العصبية بين هن وهن (يقول محمد عبده في شرحه لهذه الفقرة: يشير الإمام علي إلى أغراض أخرى يكره ذكرها) فعلى الدنيا بعد ذلك السلام.
    ______________________________
    (1) صحيح البخاري ج 8 ص 26 باب رجم الحبلى من الزنا.
    (2) تاريخ الطبري وابن الأثير بعد موت عمر بن الخطاب واستخلاف عثمان.
    (3) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده ج 1 ص 88.

    تعليق


    • #17
      {81}
      على أن عبد الرحمن بن عوف ندم فيما بعد على إختياره، وغضب على عثمان واتهمه بخيانة العهد لما حدث في عهده ما حدث وجاءه كبار الصحابة يقولون له: يا عبد الرحمن هذا عمل يديك. فقال لهم: ما كنت أظن هذا به ولكن لله عليّ أن لا أكلمه أبداً. ثم مات عبد الرحمن بن عوف وهو مهاجر لعثمان، حتى رووا أن عثمان دخل عليه في مرضه يعوده فتحول بوجهه إلى الحائط ولم يكلمه(1).
      ثم كان بعد ذلك ما كان وقامت الثورة على عثمان وانتهت بقتله، ورجعت الأمة بعد ذلك للإختيار من جديد وفي هذه المرة إختاروا علياً، ولكن يا حسرة على العباد: فقد إضطربت الدولة الإسلامية وأصبحت مسرحاً للمنافقين ولأعدائه المناوئين والمستكبرين والطامعين لإرتقاء منصة الخلافة بأي ثمن وعلى أي طريق ولو بإزهاق النفوس البريئة، وقد تغيّرت أحكام الله ورسوله على مر تلك السنين الخمس والعشرين ووجد الإمام علي نفسه وسط بحر لجي وأمواج متلاطمة وظلمات حالكة وأهواء جامحة وقضى خلافته في حروب دامية فرضت عليه فرضاً من الناكثين والقاسطين والمارقين ولم يخرج منها إلا باستشهاده سلام الله عليه وهو يتحسّر على أمة محمد وقد طمع فيها الطليق بن الطليق معاوية بن أبي سفيان وأضرابه كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم وغيرهم كثيرون، وما جرّأ هؤلاء على ما فعلوه إلا فكرة الشورى والإختيار.
      وغرقت أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بحر من الدماء، وتحكم في مصيرها سفهاؤها وأراذلها وتحوّلت الشورى بعد ذلك إلى الملك العضوض، إلى القيصرية والكسروية.
      وانتهت تلك الفترة التي أطلقوا عليها إسم الخلافة الراشدة وبها سموا الخلفاء الأربعة بالراشدين والحق أنه حتى هؤلاء الأربعة لم يكونوا خلفاء بالإنتخاب والشورى سوى أبي بكر وعلي، وإذا إستثنينا أبا بكر لأن بيعته كانت
      ______________________________
      (1) تاريخ الطبري وابن الأثير في حوادث سنة 36 للهجرة محمد عبده في شرح النهج ج 1 ص 88.
      {82}
      فلتة على حين غفلة ولم يحضرها «الحزب المعارض» كما يقال اليوم وهم علي وسائر بني هاشم ومن يرى رأيهم، لم يبق معنا من عقدت له بيعة بالشورى والإختيار إلا علي بن أبي طالب الذي بايعه المسلمون رغم أنفه وتخلف عنه بعض الصحابة فلم يفرض عليهم ولا هددهم.
      وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون علي بن أبي طالب خليفة لرسول الله بالنص من الله وكذلك بالإنتخاب من المسلمين وقد أجمعت الأمة الإسلامية قاطبة سنة وشيعة على خلافة علي واختلفوا على خلافة غيره كما لا يخفى أقول ياحسرة على العباد لوأنهم قبلوا ما اختاره الله لهم لأكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم ولأنزل الله عليهم بركات من السماء ولكان المسلمون اليوم أسياد العالم وقادته كما أراد الله لهم لو اتبعوه (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
      ولكن إبليس اللعين عدونا المبين: قال مخاطباً رب العزة:(فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)(1).
      فلينظر العاقل اليوم إلى حالة المسلمين في العالم، وهم أذلاء لا يقدرون على شيء يركضون وراء الدول معترفين بإسرائيل وهي ترفض الإعتراف بهم ولا تسمح لهم حتى بالدخول إلى القدس التي أصبحت عاصمة لها، وإذا ما رأيت بلاد المسلمين اليوم ترى أنهم تحت رحمة أمريكا وروسيا وقد أكل الفقر شعوبهم وقتلهم الجوع والمرض، في حين تاكل كلاب أوروبا شتى أنواع اللحوم والأسماك، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
      وقد تنبأت سيدة النساء فاطمة الزهراء سلام الله عليها عندما خاصمت أبا بكر وخطبت خطبتها في نساء المهاجرين والأنصار وقالت في آخرها مخبرة عن مآل الأمة:
      ______________________________
      (1) سورة الأعراف آية 16 - 17
      {83}
      «أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثم إحتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً وزعافاً مبيداً، هناك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أمسّه الأولون، ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً واطمئنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة لكم، وأنى بكم، وقد عمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون»(1).
      صدقت سيدة النساء فيما تنبأت به وهي سليلة النبوة ومعدن الرسالة، وقد تجسدت أقوالها في حياة الأمة ومن يدري لعل الذي ينتظرها أبشع مما إنقضى ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم.
      العنصر المهم في البحث
      بقي عنصر واحد في كل هذا البحث يستحق العناية والدرس وربما هو الإعتراض الوحيد الذي كثيراً ما يثار عندما يفحم المعاندون بالحجج الدامغة فتراهم يلجأون إلى الإستغراب واستبعاد أن يكون قد حضر تنصيب الإمام علي مائة الف صحابي ثم يتواطئون كلهم على مخالفته والإعراض عنه وفيهم خيرة الصحابة وأفضل الأمة! وهذا ما وقع لي بالذات عند اقتحام البحث، فلم أصدّق ولا يمكن لأحد أن يصدّق إذا ما طرحت القضية بهذا الطرح، ولكن عندما ندرس القضية من جميع الجوانب يزول الإستغراب لأن المسألة ليست كما نتصورها أو كما يعرضها أهل السنة فحاشى أن يكون مائة الف صحابي خالفوا أمر الرسول، فكيف وقعت الواقعة إذن؟
      ______________________________
      (1) الطبري في دلائل الإمامة
      - بلاغات النساء لابن طيفور.
      - أعلام النساء تأليف عمر رضا كحالة ج 4 ص 123.
      - ابن أبي الحديد في شرح النهج.
      {84}
      أولاً - لم يكن يسكن المدينة المنورة كل من حضر بيعة الغدير وانما كان كما هو المفروض وعلى أكبر تقدير ثلاثة أو أربعة آلاف منهم يسكنون المدينة، وأذا عرفنا أن هؤلاء فيهم الكثير من الموالى والعبيد والمستضعفين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مناطق عديدة وليس لهم في المدينة قبيلة ولاعشيرة أمثال أهل الصفة، فلا يبقى معنا إلا نصفهم يعني ألفين فقط وحتى هؤلاء فهم خاضعون لرؤساء القبيلة ونظام العشيرة التي ينتمون إليها، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك فكان إذا قدم عليه وفد ولى عليهم زعيمهم وسيدهم، ولذلك وجدنا إصطلاحاً على تسميتهم في الإسلام بأهل الحل والعقد.
      وإذا ما نظرنا إلى مؤتمر السقيفة الذي إنعقد عند وفاة الرسول مباشرة وجدنا أن الحاضرين الذين إتخذوا قرار إختيار أبي بكر خليفة لا يزيد على مائة شخص على أكثر تقدير لأنه لم يحضر من الأنصار وهم أهل المدينة إلا أسيادهم وزعماؤهم، كما لم يحضر من المهاجرين وهم أهل مكة الذين هاجروا مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة أو أربعة أشخاص يمثلون قريش ويكفي دليلاً أن نتصور ما هو حجم السقيفة فكلنا يعرف ما هي السقيفة التي ما كانت تخلو منها أي دار فليست هي قاعدة الحفلات ولا قصر المؤتمرات، فإذا ما قلنا بحضور مائة شخص في سقيفة بني ساعدة فذلك مبالغة منا حتى يفهم الباحث بأن المائة ألف لم يكونوا حاضرين ولا سمعوا حتى ما دار في السقيفة إلا بعد زمن بعيد فلم تكن هناك مواصلات جوية ولا هواتف لاسلكية ولا أقمار صناعية.
      وبعد إتفاق هؤلاء الزعماء على تعيين أبي بكر ورغم معارضة سيد الأنصار سعد بن عبادة زعيم الخزرج وإبنه قيس، إلا أن الأغلبية الساحقة (كما يقال اليوم) أبرمت العقد وتصافقت عليه في حين كان أغلب المسلمين غائبين عن السقيفة وكان بعضهم مشغولاً بتجهيز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو مذهولاً بخبر موته وقد أرعبهم عمر بن الخطاب وخوّفهم إن قالوا بموته(1).
      ______________________________
      (1) صحيح البخاري ج 4 ص 195.
      {85}
      أضف إلى ذلك أن أغلب الصحابة عبّأهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جيش أسامة وأكثرهم كانوا معسكرين بالجرف ولم يحضروا وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا حضروا مؤتمر السقيفة.
      فهل يعقل بعد هذا الذي وقع أن يعارض أفراد القبيلة أو العشيرة زعيمهم فيما أبرمه خصوصاً وأن فيما أبرمه الفضل العميم والشرف الكبير الذي تسعى إليه كل قبيلة منهم، ومن يدري لعله يلحقهم في يوم من الأيام شرف الرئاسة على كل المسلمين، ما دام صاحبها الشرعي قد أبعد وأصبح الأمر شورى يتداولونه بينهم بالتناوب، فكيف لا يفرحون بذلك وكيف لا يؤيدونه؟
      ثانياً - إذا كان أهل الحل والعقد من سكان المدينة قد أبرموا أمراً فليس للقاصين البعيدين من أطراف الجزيرة أن يعارضوا، وهم لا يدرون ما يدور في غيابهم فوسائل النقل في ذلك العهد كانت بدائية، ثم أنهم يتصوّرون بأن سكان المدينة يعيشون مع رسول الله فهم أعلم بما يستجد من أحكام قد ينزل بها الوحي في أي ساعة وفي أي يوم ثم بعد ذلك ما يهم رئيس القبيلة البعيد عن العاصمة من امر الخلافة شيئاً فبالنسبة إليه سواء أكان أبوبكر خليفة أو علي أو أي شخص آخر، فاهل مكة أدرى بشعابها والمهم عنده هو بقاؤه على رئاسة عشيرته ولا ينازعه فيها أحد
      ومن يدري لعل البعض منهم تساءل عن الأمر وأراد أن يستطلع الخبر غير أن أجهزة الحكم أسكتته سواء بالترغيب أو بالترهيب، ولعل في قصة مالك بن نويرة الذي إمتنع عن دفع الزكاة إلى ابي بكر ما يؤكد حصول ذلك.
      والمتتبع لتلك الأحداث التي وقعت في حرب مانعي الزكاة أيام أبي بكر يجد كثيراً من التناقضات ولا يقتنع بما أورده بعض المؤرخين للحفاظ على كرامة الصحابة وخصوصاً الحاكمين منهم.
      ثالثاً - عنصر المفاجأة في القضية لعب دوراً كبيراً في قبول ما يسمى اليوم «بالأمر الواقع» فلقد عقد مؤتمر السقيفة على حين غفلة من الصحابة الذين

      تعليق


      • #18
        {86}
        شغلوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن هؤلاء الإمام علي والعباس وسائر بني هاشم والمقداد وسلمان وأبي ذر وعمار والزبير وغير هؤلاء كثيراً ولما خرج أصحاب السقيفة يزفّون أبابكر إلى المسجد داعين إلى البيعة العامة والناس يقبلون على البيعة أفواجاً وزرافات طوعاً وكرهاً، لم يكن علي واتباعه قد فرغوا بعد من واجبهم المقدّس الذي فرضته عليهم أخلاقهم السامية فلا يمكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدون تغسيل وتكفين وتجهيز ودفن ويتسارعوا إلى السقيفة ليتنازعوا حول الخلافة.
        وما إن فرغوا من واجبهم حتى إستتب الأمر لأبي بكر وبات من يتخلف عن بيعته معدوداً من أصحاب الفتنة الذي يشق عصا المسلمين فيجب على المسلمين مقاومته أو حتى قتله إن لزم الأمر. ولذلك نرى عمر قد هدّد سعد بن عبادة بالقتل لما إمتنع عن بيعة أبي بكر وقال إقتلوه إنه صاحب فتنة(1) وهدّد بعد ذلك المتخلفين في بيت علي بحرق الدار ومن فيها، وإذا عرفنا رأي عمر بن الخطاب في خصوص البيعة فهمنا بعد ذلك كثيراً من الألغاز التي بقيت محيّرة.
        فعمر يرى بأنه يكفي لصحة البيعة أن يسبق إليها أحد المسلمين فيجب على الآخرين متابعته ومن عصى منهم فهو خارج من ربقة الإسلام ويجب قتله.
        فلنستمع إليه يتحدّث عن نفسه في خصوص البيعة كما أخرجه البخاري في صحيحه(2)، قال: يحكي عما وقع في السقيفة:
        «فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الإختلاف فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون(3) والأنصار ونزونا على
        ______________________________
        (1) صحيح البخاري ج 8 ص 26.
        تاريخ الطبري - تاريخ الخلفاء لابن قتيبة.
        (2) صحيح البخاري ج 8 ص 28 باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
        (3) ذكر كل المؤرخون بأنه لم يحضر في السقيفة إلا أربعة من المهاجرين فقوله: فبايعته وبايعه المهاجرون يعارضه قوله وخالف عنا علي والزبير ومن معهما قاله في نفس الخطبة أنظر صحيح البخاري ج 8 ص 26.
        {87}
        سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا».
        فالمسألة عند عمر ليست إنتخاباً واختياراً وشورى وإنما يكفي أن يبادر أحد المسلمين بالبيعة لتكون حجة على الباقين ولذلك قال لأبي بكر: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعه بدون مشورة ولاتريّث خوفاً من أن يسبق إليها أحد آخر، وقد عبّر عمر عن هذا الرأي بقوله: خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا (خشي عمر أن يسبقه الأنصار فيبايعوا رجلاً منهم) ويزيدنا وضوحاً أكثر عندما يقول: فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فسادا(1).
        وحتى نكون منصفين في الحكم ومدققين في البحث يجب علينا أن نعترف بأن عمر بن الخطاب غيّر رأيه في البيعة في آخر أيام حياته وذلك عندما جاءه رجل بمحضر عبد الرحمن بن عوف في آخر حجة حجها فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمّت فغضب عمر، ولهذا قام في الناس خطيباً فور رجوعه إلى المدينة فقال من جملة ما قال في خطبته:
        «إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يغترّن أمرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ألا وإنها كانت كذلك ولكن الله وقى شرها...(2) ثم يقول: من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا...»(3).
        ______________________________
        (1، 2، 3) صحيح البخاري ج 8 ص 26.
        {88}
        ليت عمر بن الخطاب كان هذا الرأي يوم السقيفة ولم يستبد على المسلمين ببيعته لأبي بكر التي كانت فلتة وقى الله شرها كما شهد هو بذلك. ولكن أنى لعمر أن يكون على هذا الرأي الجديد لأنه حكم على نفسه وعلى صاحبه بالقتل إذ يقول في رأيه الجديد: «من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغّرة ان يقتلا».
        بقي علينا أن نعرف لماذا غيّر عمر رأيه في آخر حياته بالرغم من أنه يعرف أكثر من غيره بأنه برأيه الجديد نسف بيعه أبي بكر من أساسها إذ أنه هو الذي سبق لبيعته من غير مشورة من المسلمين فكانت فلتة، ونسف أيضاً بيعته هو لأنه وصل للخلافة بنص أبي بكر عليه عند الموت من غير مشورة من المسلمين حتى أن بعض الصحابة دخلوا على أبي بكر مستنكرين عليه أن يولي عليهم فضاً غليظاً(1)، ولما خرج عمر ليقرأ على الناس كتاب أبي بكر سأله رجل: ما في الكتاب يا أبا حفص؟ قال: لا أدري، ولكني أول من سمع وأطاع، قال الرجل: لكني والله أدرى ما فيه: أمّرته عام أول، وأمّرك العام(2).
        وهذا نظير قول الإمام علي لعمر (عندما رآه يحمل الناس قهراً لبيعة أبي بكر) أحلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً...(3).
        والمهم أن نعرف لماذا غيّر عمر رأيه في البيعة! أكاد أعتقدبأنه سمع بأن بعض الصحابة يريد بيعة علي بن أبي طالب بعد موت عمر وهذا ما لا يرضاه عمر أبداً وهو الذي عارض النصوص الصريحة وعارض أن يكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلم ذلك الكتاب(4) لأنه عرف فحواه حتى اتهمه بالهجر وخوف
        ______________________________
        (1) تاريخ الطبري ج ص إستخلاف عمر بن الخطاب.
        شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص.
        (2) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 25.
        باب مرض أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما.
        (3) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 18.
        (4) صحيح مسلم ج 5 ص 75 (كتاب الوصية) صحيح البخاري ج 7 ص 9.
        {89}
        الناس حتى لا يقولوا بموته(1) وذلك لئلا يتسابق الناس لبيعة علي، وشيد بيعة أبي بكر وحمل الناس عليها بالقهر وهدد كل من تخلف بالقتل(2) كل ذلك في سبيل إبعاد علي عن الخلافة، فكيف يرضى أن يقول قائل: بأنه سيبايع فلاناً لو قد مات عمر، وخصوصاً بأن هذا القائل (الذي بقي إسمه مجهولاً ولا شك أنه من عظماء الصحابة) يحتج بما فعله عمر نفسه في بيعته لأبي بكر إذ يقول: فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت. أي أنها بالرغم من كونها وقعت على حين غفلة من المسلمين وبدون مشورة منهم فقد تمت وأصبحت حقيقة ولذا جاز لعمر أن يفعلها مع أبي بكر فكيف لا يجوز له أن يفعلها هو بنفس الطريقة مع فلان - ونلاحظ هنا أن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب يتحاشون ذكر إسم هذا القائل كما يتحاشون ذكر اسم الذي نريد بيعته، ولما كان لهذين الشخصين أهمية كبيرة لدى المسلمين نرى أن عمر غضب لهذه المقالة وبادر في اول جمعة بأن خطب الناس واثار موضوع الخلافة بعده وطلع عليهم برأيه الجديد فيها حتى يقطع الطريق على هذا الذي يريد إعادة الفلتة لأنها ستكون لصالح خصمه، على أننا فهمنا من خلال البحث بأن هذا المقالة ليست رأي فلان وحده وإنما هي رأي كثير من الصحابة ولذلك يقول البخاري: فغضب عمر ثم قال: إنني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّر هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم..(3).
        فتغير عمر لرأيه في البيعة كان معارضة لهؤلاء الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمورهم ويبايعوا علياً، وهذا ما لا يرضاه عمر لأنه يعتقد بأن الخلافة هي من أمور الناس وليست حقاً لعلي بن أبي طالب وإذا كان هذا الإعتقاد صحيحاً فلماذا أجاز هو لنفسه أن يغصب الناس أمورهم بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
        ______________________________
        (1) صحيح البخاري ج 4 ص 195.
        (2) صحيح البخاري ج 8 ص 28 - وتاريخ الخلفاء ج 1 ص 19.
        (3) صحيح البخاري ج 8 ص 25.
        {90}
        وآله وسلم ويسارع لبيعة أبي بكر من غير مشورة المسلمين؟
        وموقف أبي حفص من أبي الحسن معروف ومشهور وهو إبعاده عن الحكم ما استطاع لذلك سبيلاً.
        وهذا الإستنتاج لم نستوحه من خطبته السابقة فحسب ولكن المتتبع للتاريخ يعرف أن عمر بن الخطاب كان هو الحاكم الفعلي حتى في خلافة أبي بكر ولذلك نرى أبابكر يستأذن من أسامة بن زيد أن يترك له عمر بن الخطاب ليستعين به على امر الخلافة(1) - ومع ذلك نرى علي بن أبي طالب يبقى بعيداً عن المسؤولية فلم يولوه منصباً ولا ولاية ولا أمّروه على جيش ولا إئتمنوه على خزينة وذلك طوال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكلنا يعلم من هو علي بن أبي طالب.
        والأغرب من كل هذا أننا نقرأ في كتب التاريخ بأن عمر لما أدركته الوفاة تأسف أن لا يكون أبوعبيدة بن الجراح أو سالم مولى أبي حذيفة من الأحياء حتى يوليهم من بعده، ولكنه ولا شك تذكر بأنه سبق أن غيّر رأيه في مثل هذه البيعة واعتبرها فلتة وغصباً لأمور المسلمين، فلابد له إذن أن يخترع طريقة جديدة في البيعة لتكون حلاًّ وسطاً بين بين فلا يستبد أحد فيسبق بالبيعة لمن يراه صالحاً لها ويحمل الناس على متابعته كما فعل هو مع أبي بكر وكما فعل ابوبكر معه هو أو كما يريد أن يفعل فلان الذي ينتظر موت عمر ليبايع صاحبه فهذا غير ممكن بعد أن حكم عمر عليها بالفلتة والإغتصاب. ولا يمكن له أيضاً أن يترك الأمر شورى بين المسلمين، وقد حضر مؤتمر السقيفة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورأى بعينيه ما وقع من الإختلاف الذي كادت تزهق فيه الأرواح وتهرق فيه الدماء.
        واخترع أخيراً فكرة أصحاب الشورى أو الستة الذين لهم وحدهم حق إختيار الخليفة وليس لأحد من المسلمين أن يشاركهم في ذلك، وكان عمر يعلم
        ______________________________
        (1) كما نص على ذلك ابن سعد في طبقاته وأكثر المؤرخين الذين ذكروا سرية أسامة بن زيد.

        تعليق


        • #19
          {91}
          أن الخلاف بين هؤلاء الستة لا مفرّ منه ولذلك أوصى عند الإختلاف أن يكونوا مع الفريق الذي فيه عبد الرحمن بن عوف ولو أدى الأمر إلى قتل الثلاثة الذين يخالفون عبد الرحمن هذا في حال إنقسام الستة إلى قسمين وهو محال لأن عمر يعرف بأن سعد بن أبي وقاص ابن عم لعبد الرحمن وكلاهما من بني زهرة ويعلم أن سعد لا يحب علياً وكان في نفسه شيء منه لأن علياً قتل أخواله من عبد شمس كما يعرف عمر أن عبد الرحمن بن عوف هو صهر عثمان لأن زوجته أم كلثوم هي أخت عثمان، ويعلم أيضاً أن طلحة ميّال لعثمان لصلات بينهما على ما ذكره بعض رواة الأثر وقد يكفي في ميله إلى عثمان إنحرافه عن علي لأنه تيمي وقد كان بين بني هاشم وبني تيم مواجد لمكان الخلافة في أبي بكر(1).
          كان عمر يعلم كل ذلك ومن أجل هذا كان إختياره لهؤلاء بالذات.
          إختار عمر هؤلاء الستة وكلهم من قريش وكلهم من المهاجرين وليس فيهم واحد من الأنصار وكلهم يمثّل ويتزعم قبيلة لها أهميتها وتأثيرها.
          1 - علي بن أبي طالب زعيم بني هاشم.
          2 - عثمان بن عفان زعيم بني أمية.
          3 - عبد الرحمن بن عوف زعيم بني زهرة.
          4 - سعد بن أبي وقاص هو من بني زهرة وأخواله بني أمية
          5 - طلحة بن عبيد الله هو سيد بني تيم.
          6 - الزبير بن العوام هو إبن صفية عمة الرسول وهو زوج أسماء بنت أبي بكر.
          فهؤلاء هم أهل الحل والعقد وحكمهم نافذ على كل المسلمين سواء منهم سكان المدينة (عاصمة الخلافة) أو غيرهم في كل العالم الإسلامي وما على المسلمين إلا السمع والطاعة بدون نقاش ومن يخرج منهم عن ذلك فهو مهدور
          ______________________________
          (1) محمد عبده في شرح نهج البلاغة ج 1 ص 88.
          {92}
          الدم. وهذا بالذات الذي أردنا تقريبه من ذهن القارئ بخصوص السكوت عن نص الغدير، فيما تقدم.
          وإذا كان عمر، يعلم نفسيات هؤلاء الستة وعواطفهم وطموحاتهم فإنه بلا شك قد رشّح عثمان بن عفان للخلافة أو أنه كان يعلم أن الأكثرية من هؤلاء الستة لا يرضون بعلي وإلا لماذا وبأي حق يرجّح كفة عبد الرحمن بن عوف على علي بن أبي طالب والحال أن المسلمين منذ وجدوا وحتى اليوم إنما يتنازعون في أفضلية علي وأبي بكر ولم نسمع أحداً يقارن علياً بعبد الرحمن بن عوف.
          وهنا أقف وقفة لابد منها، لأسأل أهل السنة والجماعة القائلين بمبدأ الشورى وأهل الفكر الحر كافة، أسأل كل هؤلاء كيف توفّقون بين الشورى بمعناها الإسلامي وبين هذه الفكرة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على الإستبداد بالرأي، لأنه هو الذي إختار هؤلاء النفر وليس المسلمون، وإذا كان وصوله للخلافة فلتة فبأي حق يفرض على المسلمين أحد هؤلاء الستة؟!
          والذي يبدو لنا أن عمر يرى الخلافة حقاً من حقوق المهاجرين وحدهم وليس من حق أحد أن ينازعهم هذا الأمر، بل أكثر من هذا يعتقد عمر كما يعتقد أبوبكر بأن الخلافة ملك لقريش وحدها، إذ في المهاجرين من ليسوا من قريش، بل فيهم من ليسوا من العرب، فلا يحق لسلمان الفارسي ولا لعمار بن ياسر، ولا لبلال الحبشي ولا لصهيب الرومي ولا لأبي ذر الغفاري ولا لألوف الصحابة الذين ليسوا من قريش أن يتصدوا للخلافة.
          وليس هذا مجرد إدعاء! حاشا وكلا، بل هي عقيدتهم التي سجلها التاريخ والمحدثون من أفواههم فلنعد إلى نفس الخطبة التي أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما:
          يقول عمر بن الخطاب: أردت أن أتكلم وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبوبكر: على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبوبكر فكان هو أحلم مني وأوقر
          {93}
          والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل (مخاطباً الأنصار) ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش(1).
          إذن، يتبين لنا بوضوح بأن أبا بكر وعمر لا يؤمنان بمبدأ الشورى والإختيار ويقول بعض المؤرخين بأن أبا بكر إحتج على الأنصار بحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «الخلافة في قريش» وهو حديث صحيح لا شك فيه وحقيقته (كما نص على ذلك البخاري ومسلم وكل الصحاح عند السنة وعند الشيعة) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
          «الخلفاء من بعدي إثنا عشر كلهم من قريش».
          وأصرح من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
          «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس إثنان»(2) وقوله «الناس تبع لقريش في الخير والشر»(3).
          فإذا كان المسلمون قاطبة يؤمنون بهذه الأحاديث فكيف يقول قائل بأنه ترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يشاؤون؟
          ولا يمكن لنا أن نتخلص من هذا التناقض إلا إذا أخذنا بأقوال أئمة أهل البيت وشيعتهم وبعض علماء السنة الذين يؤكدون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نص على الخلفاء وعيّنهم بعددهم وأسمائهم، وبذلك يمكن لنا أيضاً أن نفهم موقف عمر وحصره الخلافة في قريش وعمر من عرف باجتهاده مقابل النصوص حتى في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلح الحديبية(4).
          ______________________________
          (1) صحيح مسلم باب الوصية.
          (2، 3) صحيح مسلم ج 6 ص 2و3 صحيح البخاري ج 8 ص 27
          (4) صحيح البخاري ج 2 ص 81 صحيح مسلم باب صلح الحديبية
          {94}
          والصلاة على المنافقين(1)، ورزية يوم الخميس(2)، ومنعه التبشير بالجنة(3) أكبر شاهد على ما نقول. فلا يستغرب منه أن يجتهد بعد موت النبي في نص حديث الخلافة فلا يرى وجوباً بقبول النص على علي بن أبي طالب الذي هو أصغر قريش، وحصر حق الإستخلاف بقريش وحدها، وهو الذي حدا بعمر أن يختار قبل موته ستة من عظماء قريش ليوفّق بين أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يرتأيه هومن حق قريش وحدها في الخلافة، ولعل إقحام علي في الجماعة مع العلم المسبق بأنهم لا يختارونه، هو تدبير من عمر ليجبر علياً على الدخول معهم في اللعبة السياسية كما يسمونها اليوم وحتى لا تبقى له حجة عند شيعته ومحبيه الذين يقولون بأولويته، ولكن الإمام علياً تحدث عن كل ذلك في خطبة أمام عامة الناس فقال في ذلك:
          «فصبرت على طول المدة وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله وللشورى، متى إعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هن وهن...» الخطبة(4).
          رابعاً - إن الإمام علي سلام الله عليه إحتج عليهم بكل شيء ولكن بدون جدوى، وهل يستجدي الإمام علي بيعة الناس الذي صرفوا وجوههم عنه ومالت قلوبهم لغيره إما حسداً له على ما أتاه الله من فضله، وإما حقداً عليه لأنه قتل صناديدهم وهشّم أبطالهم، وأرغم أنوفهم، وأخضعهم وحطم كبرياءهم بسيفه وشجاعته حتى أسلموا واستسلموا وهو مع ذلك شامخ يذود عن ابن عمّه لا
          ______________________________
          (1) صحيح البخاري ج 2 ص 76.
          (2) صحيح البخاري ج 1 ص 37.
          (3) صحيح البخاري ج 1 باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة في صفحة 45
          (4) نهج البلاغة شرح محمد عبده ج 1 ص 87.

          تعليق


          • #20
            {95}
            تأخذه في الله لومة لائم، ولا يثني عزمه من حطام الدنيا شيء - وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم ذلك علم اليقين وكان في كل مناسبة يشيد بفضائل أخيه وابن عمه لكي يحبّبه إليهم فيقول: حب علي إيمان وبغضه نفاق(1) - ويقول علي مني وأنا من علي(2) ويقول علي ولي كل مؤمن بعدي(3) - ويقول علي باب مدينة علمي وأبو ولدي(4) ويقول: علي سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين(5)
            ولكن مع الأسف ما زادهم ذلك إلا حسداً وحقداً ولذلك إستدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل موته فعانقه وبكى، وقال له: يا علي: إني أعلم ان لك ضغائن في صدور قوم سوف يظهرونها لك بعدي. فإن بايعوك فاقبل وإلا فاصبر حتى تلقاني مظلوماً(6) فإذا كان أبو الحسن سلام الله عليه لزم الصبر بعد بيعة أبي بكر فذلك بوصية الرسول له وفي ذلك من الحكمة ما لا يخفى.
            خامساً - أضف إلى كل ما سبق أن المسلم إذا ما قرأ القرآن الكريم وتدبّر آياته يعرف من خلال قصصه التي تناولت الأمم والشعوب السابقة أنه وقع فيهم أكثر مما وقع فينا، فهاهو قابيل يقتل أخاه هابيل ظلماً وعدواناً وهاهو نوح جد الأنبياء بعد ألف سنة من الجهاد لم يتبعه من قومه إلا القليل وكانت إمرأته وابنه من الكافرين، وهاهو لوط لم يوجد في قريته غير بيت من المؤمنين، وهاهم الفراعنة الذين إستكبروا في الأرض واستعبدوا الناس لم يكن فيهم غير مؤمن يكتم إيمانه،
            ______________________________
            (1) صحيح مسلم ج 1 ص 61.
            (2) صحيح البخاري ج 3 ص 168.
            (3) مسند أحمد ج 5 ص 25 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 124.
            (4) المستدرك للحاكم ج 3 ص 126.
            (5) منتخب كنز العمال ج 5 ص 34.
            (6) الرياض النضرة في مناقب العشرة للطبري باب فضائل علي بن أبي طالب.
            {96}
            وهاهم إخوة يوسف أبناء يعقوب وهم عصبة يتآمرون على قتل أخيهم الصغير بغير ذنب إقترفه ولكن حسداً له لأنه أحب إلى أبيهم، وهاهم بنو إسرائيل الذين أنقذهم الله بموسى وفلق لهم البحر وأغرق أعداءهم فرعون وجنوده بدون أن يكلفهم عناء الحرب، ما إن خرجوا من البحر ولم تجفّ أقدامهم فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا: يا موسى إجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون.
            ولما ذهب إلى ميقات ربه واستخلف عليهم أخاه هارون تآمروا عليه وكادوا يقتلونه - وكفروا بالله وعبدوا العجل - ثم بعد قتلوا أنبياء الله قال تعالى: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم إستكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون)(1).
            وهاهو سيدنا يحيا بن زكريا وهو نبي وحصور ومن الصالحين يقتل ويهدى رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل وهاهم اليهود والنصارى يتآمرون على قتل وصلب سيدنا عيسى، وهاهي أمة محمد تعد جيشاً قوامه ثلاثين ألفاً لقتل الحسين ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة ولم يكن معه غير سبعين من أصحابه فقتلوهم جميعاً بما في ذلك أطفاله الرضع.
            فأي غرابة بعد هذا؟ أي غرابة بعد قول الرسول لأصحابه:
            «ستتبعون سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: أتراهم اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذن؟؟»(2).
            أي غرابة ونحن نقرأ في البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
            ______________________________
            (1) سورة البقرة آية 87.
            (2) صحيح البخاري ج 4 ص 144 وج 8 ص 151.
            {97}
            «يؤتى بأصحابي يوم القيامة إلى ذات الشمال فأقول إلى أين؟ فيقال إلى النار والله، فأقول: يا رب هؤلاء أصحابي فيقال: أنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك: فأقول: سحقاً لمن بدل بعدي ولا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم»(1).
            أي غرابة بعد قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
            «ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة»(2)
            وصدق العلي العظيم رب العزة والجلالة العليم بذات الصدور إذ يقول:
            (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) سورة يوسف آية 103.
            (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) سورة المؤمنون آية 70.
            (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) سورة الزخرف آية 78.
            (ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) سورة يونس آية 55.
            (يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون) سورة التوبة آية 8.
            (إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون) سورة يونس آية 60.
            (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون) سورة النحل آية 83
            (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً) الفرقان آية 50.
            ______________________________
            (1) صحيح البخاري ج 7 ص 209 وصحيح مسلم في باب الحوض.
            (2) سنن ابن ماجة كتاب الفتن ج 2 رقم الحديث 3993.
            مسند أحمد ج 3 ص 120 سنن الترمذي في كتاب الايمان.
            {98}
            (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) سورة يوسف آية 106.
            (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) سورة الأنبياء آية 24.
            (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون) النجم آية 61.
            حسرة وأسى
            كيف لا أتحسر؟ بل كيف لا يتحسر كل مسلم عند قراءة مثل هذه الحقائق - على ما خسره المسلمون بإقصاء الإمام علي عن الخلافة التي نصّبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، وحرمان الأمة من قيادته الحكيمة. وعلومه الكثيرة.
            وإذا ما نظر المسلم بغير تعصب ولا عاطفة، لوجده أعلم الناس بعد الرسول، فالتاريخ يشهد أن علماء الصحابة إستفتوه في كل ما أشكل عليهم وقول عمر بن الخطاب أكثر من سبعين مرة «لولا علي لهلك عمر»(1) في حين أنه (عليه السلام) لم يسأل أحداً منهم أبداً.
            كما أن التاريخ يعترف بأن علي بن أبي طالب أشجع الصحابة وأقواهم، وقد فر الشجعان من الصحابة في مواقف عديدة من الزحف في حين ثبت هو (عليه السلام) في المواقف كلها، ويكفيه دليلاً الوسام الذي وسمه به رسول الله
            ______________________________
            (1) مناقب الخوارزمي ص 48 - الإستيعاب ج 3 ص 39 تذكرة السبط 87 مطالب السؤول ص 13 تفسير النيسابوري في سورة الأحقاف فيض القدير ج 4 ص 357.
            {100}
            صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال:
            «لأعطين غداً رايتي إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرّار ليس فراراً إمتحن الله قلبه للإيمان»(1)
            فتطاول إليها الصحابة فدفعها إلى علي بن أبي طالب.
            وباختصار فإن موضوع العلم والقوة والشجاعة التي يختص بها الإمام علي - موضوع معروف لدى الخاص والعام ولا يختلف فيه إثنان - وبقطع النظر عن النصوص الدالة على إمامته بالتصريح والتلميح فإن القرآن الكريم لا يعترف بالقيادة والإمامة إلا للعالم الشجاع القوي، قال الله سبحانه وتعالى في وجوب إتباع العلماء.
            (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون)(2).
            وقال تعالى في وجوب قيادة العالم الشجاع القوي (قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال، قال: إن الله إصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم)(3)
            ولقد زاد الله سبحانه للإمام علي بالنسبة إلى كل الصحابة زاده بسطة في العلم فكان بحق «باب مدينة العلم» وكان هو المرجع الوحيد للصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان الصحابة كلما عجزوا عن حل يقولون «معضلة وليس لها إلا أبوالحسن»(4)
            ______________________________
            (1) صحيح البخاري ج 4 ص 5 وص 12 ج 5 ص 76 و 77.
            صحيح مسلم ج 7 ص 121 باب فضائل علي بن أبي طالب.
            (2) سورة يونس آية 35.
            (3) سورة البقرة آية 247.
            (4) مناقب الخوارزمي ص 58 تذكرة السبط 87 ابن المغازلي ترجمة علي ص 79.

            تعليق


            • #21
              {101}
              وزاده بسطة في الجسم فكان بحق أسد الله الغالب وأصبحت قوّته وشجاعته مضرب الأمثال عبر الأجيال حتى روى المؤرخون فيها قصصاً تقارب المعجزات كاقتلاع باب خيبر وقد عجز عن تحريكه فيما بعد عشرون صحابياً(1) واقتلاع الصنم الأكبر هبل(2) من فوق سطح الكعبة، وتحويل الصخرة العظيمة التي عجز الجيش كله عن تحريكها(3) وغير ذلك من الروايات المشهورة.
              وقد أشاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بابن عمه علي وأبان فضله وفضائله في كل مناسبة وعرّف بخصائصه ومزاياه فمرة يقول:
              «إن هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا»(4).
              ومرّة يقول له:
              «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(5).
              وأخرى يقول:
              «من أراد أن يحيا حياتي، ويموت موتي ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب فإنه لن يخرجكم من هدى، ولن يدخلكم في ضلالة»(6).
              والمتتبع لسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم يجده لم يكتف بالأقوال والأحاديث فيه فحسب بل إن أقواله تجسّدت في أعماله فلم يؤمّر في حياته على علي أحداً من الصحابة بالرغم من تأميرهم على بعضهم البعض فقد أمّر على
              ______________________________
              (1،2،3) شرح النهج لابن أبي الحديد في المقدمة.
              (4) تاريخ الطبري ج 2 ص 319 تاريخ ابن الاثير ج 2 ص 62.
              (5) صحيح مسلم ج 7 ص 120 صحيح البخاري في فضائل علي.
              (6) مستدرك الحاكم ج 3 ص 128 والطبراني في الكبير
              {102}
              أبي بكر وعمر في غزوة ذات السلاسل عمرو بن العاص(1).
              كما أمّر عليهم جميعاً شاباً صغيراً وهو أسامة بن زيد وذلك في سرية أسامة قبل موته صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم.
              أما علي بن أبي طالب فلم يكن في بعث إلا وهو الأمير حتى أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث في مرة بعثين وأمّر بعثين وأمّر علياً على بعث وخالد بن الوليد على بعث وقال لهم: إذا افترقتم فكل واحد على جيشه وإذا التقيتم فعلي على الجيش كله.
              ونستنتج من كل ما تقدم بأن علياً هو ولي المؤمنين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا ينبغي لأحد أن يتقدم عليه.
              ولكن مع الأسف الشديد فقد خسر المسلمون خسارة فادحة، وهم يعانون حتى اليوم ويجنون ثمار ما غرسوه، وقد عرف الثالون غبّ ما أسسه الأولون.
              وهل يمكن لأحد أن يتصور خلافة راشدة كخلافة علي بن أبي طالب لو إتبعت هذه الأمة ما اختاره الله ورسوله فعلي كان بإمكانه أن يقود الأمة طول ثلاثين عاما على نسق واحد كما قادها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبدون أي تغيير، ذلك لأن أبا بكر وعمراً غيّرا واجتهدا بأدائهما مقابل النصوص وأصبح فعلهما سنة متبعة، ولما جاء عثمان للخلافة غيّر أكثر حتى قيل أنه خالف كتاب الله وسنة رسوله وسنة أبي بكر وعمر وأنكر عليه الصحابة ذلك وقامت عليه ثورة شعبية عارمة أودت بحياته وسببت فتنة كبرى في الأمة لم يندمل جراحها حتى الآن.
              أما علي بن أبي طالب فكان يتقيد بكتاب الله وسنة رسوله لا يحيد عنهما قيد أنملة وأكبر شاهد على ذلك أنه رفض الخلافة عندما إشترطوا عليه أن يحكم مع كتاب الله وسنة رسوله، سنة الخليفتين.
              ______________________________
              (1) السيرة الحلبية غزوة ذات السلاسل وطبقات ابن سعد وكل من ذكر غزوة ذات السلاسل.
              {103}
              ولسائل أن يسأل: لماذا يتقيد علي بكتاب الله وسنة رسوله بينما إضطر أبو بكر وعمر وعثمان للإجتهاد والتغيير؟
              والجواب هو أن علياً عنده من العلم ما ليس عندهم وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصّه بألف باب من العلم يفتح لكل باب ألف باب(1) وقال له:
              «أنت يا علي تبيّن لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي»(2).
              أما الخلفاء فكانوا لا يعلمون كثيراً من أحكام القرآن الظاهرية فضلاً عن تأويله فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب التيمم بأن رجلاً سأل عمر بن الخطاب أيام خلافته فقال: يا أمير المؤمنين إني أجنبت ولم أجد الماء فماذا أصنع؟ قال له عمر: لا تصل!! وكذلك لم يعرف حكم الكلالة حتى مات وهو يقول وددت لو سألت رسول الله عن الكلالة بينما حكمها مذكور في القرآن الكريم، ولذا كان عمر الذي يقول عنه أهل السنة والجماعة بأنه من الملهمين على هذا المستوى العلمي، فلا تسأل عن الآخرين الذين أدخلوا البدع في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير سوى إجتهادات شخصية.
              ولقائل أن يقول: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يبيّن الإمام علي للأمة ما اختلفوا فيه بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
              والجواب هو: أن الإمام علياً لم يأل جهداً في تبيين ما أشكل على الأمة وكان مرجع الصحابة في كل ما أشكل عليهم فكان يأتي ويوضّح وينصح فكانوا يأخذون منه ما يعجبهم وما لا يتعارض مع سياستهم ويدعون ما سوى ذلك والتاريخ أكبر شاهد على ما نقول.
              ______________________________
              (1) كنز العمال ج 6 ص 392 رقم الحديث 6009 وكذلك في حلية الأولياء ينابيع المودة ص 73 و 77 تاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 483.
              (2) مستدرك الحاكم ج 3 ص 122 تاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 488.
              {104}
              والحقيقة هي: لولا علي بن أبي طالب والأئمة من ولده لما عرف الناس معالم دينهم، ولكن الناس كما أعلمنا القرآن لا يحبون الحق فاتبعوا أهواءهم واخترعوا مذاهب في مقابل الأئمة من أهل البيت الذين كانت الحكومات تحسب عليهم أنفاسهم ولا تترك لهم حرية التحرك والإتصال المباشر.
              فكان علي يصعد على المنبر ويقول للناس: سلوني قبل أن تفقدوني، ويكفي علياً أن ترك نهج البلاغة، والأئمة من أهل البيت سلام الله عليهم تركوا من العلم ما ملأ الخافقين وشهد لهم بذلك أئمة المسلمين سنة وشيعة -
              وأعود للموضوع فأقول على هذا الأساس: لو قدّر لعلي أن يقود الأمة ثلاثين عاماً على سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعم الإسلام ولتغلغلت العقيدة في قلوب الناس أكثر وأعمق ولما كانت فتنة صغرى ولا فتنة كبرى ولا كربلاء ولا عاشوراء، ولو تصوّرنا قيادة الأئمة الأحد عشر بعد علي والذي نص عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذين إمتدت حياتهم عبر ثلاث قرون لما بقي في الأرض ديار لغير المسلمين ولكانت الأرض اليوم على غير ما نشاهده اليوم ولكانت حياتنا إنسانية. بمعناها الحقيقي. ولكن قال الله تعالى:
              (الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)(1) وقدفشلت الأمة الإسلامية في الإمتحان كما فشلت الأمم السابقة كما نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2) في العديد من المناسبات، كما أكد عليه القرآن الكريم في العديد من الآيات(3).
              ______________________________
              (1) سورة العنكبوت آية 2.
              (2) كحديث إتباع سنة اليهود والنصارى شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. أخرجه البخاري ومسلم وسبقت الإشارة إليه وكحديث الحوض الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم.
              (3) كقوله تعالى: (أفإن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم) آل عمران: آية 144.
              وكقوله له سبحانه وتعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي إتخدوا هذا القرآن مهجوراً...) الفرقان آية 30.
              شواهد أخرى على ولاية علي (عليه السلام)
              وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون ولاية علي هي الإختبار للمسلمين فكل إختلاف وقع فبسببها ولأنه سبحانه لطيف بعباده فلا يؤاخذ التالين بما فعل الأولون فجلّت حكمته وحف تلك الحادثة بأحداث أخرى جليلة تشبه المعجزات حتى تكون حافزاً للأمة فينقلها الحاضرون ويعتبر بها اللاحقون عسى أن يهتدوا للحق من طريق البحث
              الشاهد الأول: يتعلق بعقوبة من كذب بولاية علي وذلك أنه بعد شيوع خبر غدير خم وتنصيب الإمام علي خليفة على المسلمين، وقول الرسول لهم: فليبلغ الشاهد الغائب.
              وصل الخبر إلى الحارث بن النعمان الفهري ولم يعجبه ذلك(1) فأقبل على رسول الله، وأناخ راحلته أمام باب المسجد ودخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
              ______________________________
              (1) يدلنا على أن هناك من الأعراب الذين يسكنون خارج المدينة يبغضون علي بن أبي طالب ولا يحبوه، كما أنهم لا يحبون محمد ولذا ترى هذا الجلف يدخل على النبي فلا يسلم ويناديه يا محمد: وصدق الله إن يقول: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله).
              {106}
              وسلم فقال: يا محمد إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك ذلك، وأمرتنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة ونصوم رمضان ونحج البيت، ونزكي أموالنا فقبلنا منك ذلك ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي إبن عمك وفضلته على الناس وقلت «من كنت مولاه فعلي مولاه» فهذا شيء منك أو من الله؟
              فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أحمرّت عيناه: والله الذي لا إله إلا هو إنه من الله وليس مني قالها ثلاثاً.
              فقام الحارث وهو يقول:
              «اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأرسل علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب أليم».
              قال: فوالله ما بلغ ناقته حتى رماه الله من السماء بحجر فوقع على هامته فخرج من دبره ومات، وأنزل الله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع).
              وهذه الحادثة نقلها جمع غفير من علماء أهل السنة غير الذين ذكرناهم(1) فمن أراد مزيداً من المصادر فعليه بكتاب الغدير للعلامة الأميني.
              ______________________________
              (1) شواهد التنزيل للحسكاني ج 2 ص 286.
              تفسير الثعلبي في سورة سأل سائل بعذاب واقع.
              تفسير القرطبي ج 18 ص 287.
              تفسير المنار رشيد رضا ج 6 ص 464.
              ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 328.
              الحاكم في ما استدركه على الصحيحين ج 2 ص 502.
              السيرة الحلبية ج 3 ص 275.
              تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 37.

              تعليق


              • #22
                {107}
                الشاهد الثاني: يتعلق بعقوبة من كتم الشهادة بحادثة الغدير وأصابته دعوة الإمام علي.
                وذلك عندما قام الإمام علي أيام خلافته، في يوم مشهود إذ جمع الناس في الرحبة ونادى من فوق المنبر قائلاً:
                «أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم «من كنت مولاه فعلي مولاه» إلا قام فشهد بما سمع، ولا يقم إلا من رآه بعينيه وسمعه بأذنيه».
                فقام ثلاثون صحابياً منهم ستة عشر بدرياً، فشهدوا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيده، فقال الناس:
                «أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: نعم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه...» الحديث.
                ولكن بعض الصحابة ممن حضروا واقعة الغدير أقعدهم الحسد أو البغض للإمام، فلم يقوموا للشهادة ومن هؤلاء أنس بن مالك حيث نزل إليه الإمام علي من المنبر وقال له: مالك يا أنس لا تقوم مع أصحاب رسول الله فتشهد بما سمعته منه يومئذ كما شهدوا؟ فقال: يا أمير المؤمنين كبرت سني ونسيت، فقال الإمام علي: إن كنت كاذباً فضربك الله ببيضاء لا تواريها العمامة، فما قام حتى إبيض وجهه برصاً، فكان بعد ذلك يبكي ويقول: أصابتني دعوة العبد الصالح لأني كتمت شهادته.
                وهذا القصة مشهورة ذكرها ابن قتيبة في كتاب المعارف(1) حيث عدّ أنساً من أصحاب العاهات في باب البرص وكذلك الإمام أحمد بن حنبل في مسنده(2)
                ______________________________
                (1) كتاب المعارف لابن قتيبة الدينوري ص 251.
                (2) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 1 ص 119.
                {108}
                حيث قال: فقاموا إلا ثلاثة لم يقوموا فاصابتهم دعوته.
                وتجدر الإشارة هنا بأن نذكر هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم الإمام أحمد برواية البلاذري(1) قال بعدها أورد مناشدة الإمام علي للشهادة، وكان تحت المنبر أنس بن مالك والبراء بن عازب، وجوير بن عبد الله البجلي، فأعادها فلم يجبه منهم أحد فقال: اللهم من كتم هذه الشهادة وهو يعرفها فلا تخرجه من الدنيا حتى تجعل به آية يعرف بها قال: فبرص أنس بن مالك، وعمي البراء بن عازب، ورجع جرير أعرابياً بعد هجرته فأتى الشراة فمات في بيت أمه.
                وهذه القصة مشهورة تناقلها جمع كبير من المؤرخين(2).
                (فاعتبروا يا أولي الألباب)
                والمتتبع يعرف من خلال هذه الحادثة(3) التي أحياها الإمام علي بعد مرور ربع قرن عليها وبعدما كادت تنسى يعرف ماهي قيمة الإمام علي وعظمته ومدى علوّ همته وصفاء نفسه، وهو في حين أعطى للصبر أكثر من حقه، ونصح لأبي بكر وعمر وعثمان ما علم أن في نصحهم مصلحة الإسلام والمسلمين، كان مع ذلك يحمل في جنباته حادثة الغدير بكل معانيها وهي حاضرة في ضميره في كل لحظات حياته فما إن وجد فرصة سانحة لبعثها وإحيائها من جديد حتى حمل غيره
                ______________________________
                (1) أنساب الأشراف للبلاذري في جزئه الأول وج 2 ص 152.
                (2) تاريخ ابن عساكر المسمى بتاريخ دمشق ج 2 ص 7 وج 3 ص 150
                * شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد تحقيق محمد أبوالفضل ج 19 ص 217.
                * عبقات الأنوار ج 2 ص 309.
                * مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي ص 23.
                * السيرة الحلبية ج 3 ص 337.
                (3) وهو مناشدة الإمام علي يوم الرحبة الصحابة ليشهدوا بحديث الغدير وقد روى هذه الحادثة جمع غفير من المحدثين والمؤرخين سبق الإشارة إليهم أمثال: أحمد بن حنبل وابن عساكر. وابن أبي الحديد وغيرهم
                {109}
                للشهادة بها على مسمع ومرأى من الناس.
                وانظر كيف كانت طريقة إحياء هذه الذكرى المباركة وما فيها من الحكمة البالغة لإقامة الحجة على المسلمين من حضر منهم الواقعة ومن لم يحضر، فلو قال الإمام: أيها الناس لقد أوصى بي رسول الله في غدير خم على الخلافة، لما كان لذلك وقعاً في نفوس الحاضرين ولاحتجوا عليه عن سكوته طوال تلك المدة.
                ولكنه لما قال: أنشد الله كل إمرئ مسلم سمع رسول الله يقول ما قال يوم غدير خم، إلا قام فشهد، فكانت الحادثة منقولة بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على لسان ثلاثين صحابياً منهم ستة عشر بدرياً وبذلك قطع الإمام الطريق على المكذبين والمشككين وعلى المحتجين عن سكوته طوال تلك المدة، لأن في سكوت هؤلاء الثلاثين معه وهم من عظماء الصحابة لدليل كبير على خطورة الموقف وعلى أن السكوت فيه مصلحة الإسلام كما لا يخفى.
                تعليق على الشورى
                رأينا فيما سبق بأن الخلافة على قول الشيعة هي باختيار الله سبحانه، وتعيين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وحي يوحي به إليه.
                وهذا القول يتماشى تماماً مع فلسفة الإسلام في كل أحكامه وتشريعاته إذ أن الله سبحانه هو الذي (يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة)(1).
                وبما أن الله سبحانه أراد أن تكون أمة محمد خير أمة أخرجت للناس فلابد لها من قيادة حكيمة، رشيدة، عالمة، قوية، شجاعة، تقية، زاهدة، في أعلى درجات الإيمان، وهذا لا يتأتى إلا لمن إصطفاه الله سبحانه وتعالى، وكيّفه بميزات خاصة تؤهله للقيادة والزعامة: قال الله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير)(2).
                وكما أن الأنبياء إصطفاهم الله سبحانه فكذلك الأوصياء. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                ______________________________
                (1) سورة القصص آية 68.
                (2) سورة الحج آية 75.

                تعليق


                • #23
                  {112}
                  «لكل نبي وصي، وأنا وصيي علي بن أبي طالب»(1).
                  وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:
                  «أنا خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء»(2).
                  وعلى هذا الأساس فإن الشيعة سلموا أمرهم لله ورسوله، ولم يبق منهم من يدّع الخلافة لنفسه أو يطمع فيها، لا بالنص ولا بالإختيار، أولاً لأن النص ينفي الإختيار والشورى وثانياً لأن النص قد وقع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أشخاص معدودين ومعيّنين(3) بأسمائهم، فلا يتطاول إليها منهم متطاول وإن فعل فهو فاسق خارج عن الدين.
                  أما الخلافة عند أهل السنة والجماعة فهي بالإختيار والشورى وبذلك فتحوا الباب الذي لا يمكن غلقه على أي واحد من الأمة وأطمعوا فيها كل قاص ودان، وكل غث وسمين، وحتى تحولت من قريش إلى الموالي والعبيد وإلى الفرس والمماليك وإلى الأتراك والمغول.
                  وتبخرت تلك القيم والشروط التي اشترطوها في الخليفة لأن غير المعصوم بشر مليء بالعاطفة والغرائز، وبمجرد وصوله إلى الحكم لا يؤمن أن ينقلب ويكون أسوأ مما كان والتاريخ الإسلامي خير شاهد على ما نقول.
                  وأخشى أن يتصور بعض القراء بأنني أبالغ، فما عليهم إلا أن يتصفحوا تاريخ الأمويين والعباسيين وغيرهم حتى يعرفوا بأن من تسمى أمير المؤمنين كان يتجاهر بشرب الخمر ويلاعب القرود ويلبسهم الذهب وأن (أمير المؤمنين) يلبس جاريته لباسه لتصلي بالمسلمين، وأن (أمير المؤمنين) تموت جاريته حبابة فيسلب
                  ______________________________
                  (1) تاريخ ابن عساكر الشافعي ج 3 ص 5 مناقب الخوارزمي ص 42 ينابيع المودة ص 79.
                  (2) ينابيع المودة ج 2 ص 3 نقلاً عن الديلمي - المناقب للخوارزمي - ذخائر العقبى.
                  (3) روى العدد البخاري ومسلم وروى العدد والأسماء صاحب ينابيع المودة ج 3 ص 99.
                  {113}
                  عقله وأن (أمير المؤمنين) يطرب لشاعر فيقبل ذكره. ولماذا نستغرق في هؤلاء الذين حكم المسلمون بأنهم لا يمثلون إلا الملك العضوض ولا يمثلون الخلافة وذلك للحديث الذي يروونه وهو قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
                  «الخلافة من بعدي ثلاثون عاماً ثم تكون ملكاً عضوضاً».
                  وليس هذا موضوع بحثنا فمن أراد الإطلاع على ذلك فعليه مراجعة تاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير وأبي الفداء وابن قتيبة وغيرهم.
                  وإنما أردت بيان مساوي الإختيار وعقم النظرية من أساسها لأن من نختاره اليوم قد ننقم عليه غداً ويتبيّن لنا بأننا أخطأنا ولم نحسن الإختيار - كما وقع ذلك لعبد الرحمن بن عوف نفسه عندما إختار للخلافة عثمان بن عفان وندم بعد ذلك، ولكن ندمه لم يفد الأمة شيئاً بعد توريطها، وإذا كان صحابي جليل من الرعيل الأول وهو عثمان لا يفي بالعهد الذي أعطاه لعبد الرحمن بن عوف، وإذا كان صحابي جليل من الرعيل الأول وهو عبد الرحمن بن عوف لا يحسن الإختيار، فلا يمكن لعاقل بعد ذلك أن يرتاح لهذه النظرية العقيمة، والتي ما تولد عنها إلا الإضطراب وعدم الإستقرار وإراقة الدماء، فإذا كانت بيعة أبي بكر فلتة كما وصفها عمر بن الخطاب وقد وقى الله المسلمين شرها، وقد خالف وتخلف عنها جمع غفير من الصحابة، وإذا كانت بيعة علي بن أبي طالب بعد ذلك على رؤوس الملأ ولكن بعض الصحابة نكث البيعة، وانجرّ عن ذلك حرب الجمل، وحرب صفين، وحرب النهروان، وزهقت فيها أرواح بريئة فكيف يرتاح العقلاء بعد ذلك لهذه القاعدة التي جرّبت وفشلت فشلاً ذريعاً من بدايتها وكانت وبالاً على الخليفة ولا يقدرون بعد ذلك على تبديله أو عزله، وقد حاول المسلمين جهدهم عزل عثمان فأبى قائلاً: لا أنزع قميصاً قمّصنيه الله.
                  ومما يزيدنا نفوراً من هذا النظرية، ما نراه اليوم في دول الغرب المتحضّرة والتي تزعم الديمقراطية في إختيار رئيس الدولة، وترى الأحزاب المتعددة تتصارع وتتساوم وتتسابق للوصول إلى منصة الحكم بأي ثمن، وتصرف من أجل ذلك
                  {114}
                  البلايين من الأموال التي تخصص للدعاية بكل وسائلها وتهدر طاقات كبيرة على حساب المستضعفين من الشعب المسكين الذي قد يكون في أشد الحاجة إليها، وما أن يصل أحدهم إلى الرئاسة حتى تأخذه العاطفة فيولّي أنصاره وأعضاء حزبه وأصدقائه وأقاربه في مناصب الوزراء والمسؤوليات العظمى والمراكز المهمة في الإدارة ويبقى الآخرون يعملون في المعارضة مدة رئاسته المتفق عليها أيضاً فيخلقون له المشاكل والعراقيل ويحاولون جهدهم فضحه والإطاحة به، وفي كل ذلك خسارة فادحة للشعب المغلوب على أمره، فكم من قيم إنسانية سقطت وكم من رذائل شيطانية رفعت باسم الحرية والديمقراطية وتحت شعارات براّقة، فأصبح اللواط قانوناً مشروعاً والزنا بدلاً من الزواج تقدماً ورقيّا وحدث في ذلك ولا حرج.
                  فما أعظم عقيدة الشيعة في القول بأن الخلافة أصل من أصول الدين، وما أعظم قولهم بأن هذا المنصب هو باختيار الله سبحانه، فهو قول سديد ورأي رشيد يقبله العقل ويرتاح إليه الضمير، وتؤيده النصوص من القرآن والسنة، ويرغم أنوف الجبابرة والمتسلطين، والملوك والسلاطين، ويفيض على المجتمع السكينة والأستقرار.
                  الاختلاف في الثقلين
                  عرفنا فيما سبق ومن خلال الأبحاث المتقدمة رأي الشيعة وأهل السنة في الخلافة وما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تجاه الأمة على قول الفريقين.
                  فهل ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته شيئاً؟ تعتمد عليه وترجع إليه فيما قد يقع فيه الخلاف الذي لابد منه والذي سجله كتاب الله بقوله تعالى:
                  (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)(1).
                  نعم، لابد للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك للأمة قاعدة ترتكز عليها، فهو إنما بعث رحمة للعالمين، وهو حريص على أن تكون أمته خير الأمم ولا تختلف بعده ولهذا روى عنه أصحابه والمحدثون بأنه قال:
                  «تركت فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما، لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب
                  ______________________________
                  (1) سورة النساء آية 59.
                  {116}
                  الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(1).
                  وهذا الحديث صحيح ثابت أخرجه المحدثون من الفريقين السنة والشيعة. ورووه في مسانيدهم وفي صحاحهم عن طريق ما يزيد على ثلاثين صحابياً.
                  وبما أنني وكالعادة لا أحتجّ بكتب الشيعة ولا بأقوال علمائهم فكان لزاماً علي أن أذكر فقط علماء السنة الذين أخرجوا حديث الثقلين معترفين بصحته حتى يكون البحث دائماً موضوعياً يتصف بالعدل والإنصاف (وإن كان العدل والإنصاف يقتضي ذكر قول الشيعة أيضاً).
                  وهذه قائمة وجيزة عن رواة هذا الحديث من علماء السنة:
                  1 - صحيح مسلم كتاب فضائل علي بن أبي طالب ج 7 ص 122.
                  2 - صحيح الترمذي ج 5 ص 328.
                  3 - الإمام النسائي في خصائصه ص 21.
                  4 - الامام أحمد بن حنبل ج 3 ص 17.
                  5 - مستدرك الحاكم ج 3 ص 109.
                  6 - كنز العمال ج 1 ص 154.
                  7 - الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 194.
                  8 - جامع الأصول لإبن الأثير ج 1 ص 187.
                  9 - الجامع الصغير للسيوطي ج 1 ص 353.
                  10 - مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 163.
                  11 - الفتح الكبير للنبهاني ج 1 ص 451.
                  12 - أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير ج 2 ص 12.
                  13 - تاريخ ابن عساكر ج 5 ص 436.
                  ______________________________
                  (1) مستدرك الحاكم ج 3 ص 148.

                  تعليق


                  • #24
                    {117}
                    14 - تفسير ابن كثير ج 4 ص 113.
                    15 - التاج الجامع للأصول ج 3 ص 308.
                    أضف إلى هؤلاء إبن حجر الذي ذكره في كتابه الصواعق المحرقة معترفاً بصحته - والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته على شرط الشيخين - والخوارزمي الحنفي - وابن المغازلي الشافعي والطبراني في معجمه، وكذلك صاحب السيرة النبوية في هامش السيرة الحلبية وصاحب ينابيع المودة وغيرهم...
                    فهل يجوز بعد هذا أن يدعي أحد أن حديث الثقلين «كتاب الله وعترتي» لا يعرفه أهل السنة وإنما هو من موضوعات الشيعة؟؟ قاتل الله التعصب والجمود الفكري والحمية الجاهلية.
                    إذن، فحديث الثقلين الذي أوصى فيه صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بكتاب الله وعترته الطاهرة، هو حديث صحيح عند أهل السنة كما مر علينا وعند الشيعة هو أكثر تواتراً وسنداً عن الأئمة الطاهرين.
                    فلماذا يشكك البعض في هذا الحديث ويحاولون جهدهم أن يبدلوه «بكتاب الله وسنتي» ورغم أن صاحب كتاب «مفتاح كنوز السنة» يخرج في صفحة 478 بعنوان «وصيته (ص) بكتاب الله وسنة رسوله» نقلاً عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة غير أنك إذا بحثت في هؤلاء الكتب الأربعة المذكورة فسوف لن تجد إشارة من قريب أو من بعيد إلى هذا الحديث - نعم قد تجد في البخاري «كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة»(1) ولكنك لا تجد لهذا الحديث وجوداً.
                    وغاية ما يوجد في صحيح البخاري وفي الكتب المذكورة حديث يقول: «حدثنا طلحة بن مصرّف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على
                    ______________________________
                    (1) صحيح البخاري ج 8 ص 137.
                    {118}
                    الناس الوصية أو أمروا بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله»(1).
                    ولا وجود لحديث لرسول الله يقول فيه «تركت فيكم الثقلين كتاب الله وسنتي» وحتى على فرض وجود هذا الحديث في بعض الكتب فلا عبرة به، لأن الإجماع على خلافه كما تقدم
                    ثم لو بحثنا في حديث «كتاب الله وسنتي» لوجدناه لا يستقيم مع الواقع لا نقلا ولا عقلا، ولنا في رده بعض الوجوه.
                    الوجه الأول: إتفق المؤرخون والمحدثون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع من كتابة أحاديثه، ولم يدع أحد أنه كان يكتب السنة النبوية في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، فقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تركت فيكم «كتاب الله وسنتي» لا يستقيم - أما بالنسبة لكتاب الله فهو مكتوب ومحفوظ في صدور الرجال وبإمكان أي صحابي الرجوع إلى المصحف ولو لم يكن من الحفاظ.
                    أما بالنسبة للسنة النبوية فليس هناك شيء مكتوب أو مجموع في عهده صلى الله عليه وآله وسلم فالسنة النبوية كما هو معلوم ومتفق عليه، كل ما قاله الرسول أو فعله أو أقرّه، ومن المعلوم أيضاً أن الرسول لم يكن يجمع أصحابه ليعلمهم السنة النبوية - بل كان يتحدث في كل مناسبة وقد يحضر بعضهم وقد لا يكون معه إلا واحد من أصحابه فكيف يمكن للرسول والحال هذه، ان يقول لهم تركت فيكم سنتي؟؟
                    الوجه الثاني: لما أشتد برسول الله وجعه وذلك قبل وفاته بثلاثة أيام طلب منهم أن يأتوه بالكتف والدواة ليكتب لهم كتاباً لا يضلوا بعده أبداً، فقال عمر بن
                    ______________________________
                    (1) صحيح البخاري ج 3 ص 186.
                    صحيح الترمذي كتاب الوصايا.
                    صحيح مسلم كتاب الوصايا.
                    صحيح ابن ماجه كتاب الوصايا.
                    {119}
                    الخطاب إن رسول الله ليهجر وحسبنا كتاب الله!(1)
                    فلوكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال لهم من قبل تركت فيكم «كتاب الله وسنتي» لما جاز لعمر بن الخطاب أن يقول: حسبنا كتاب الله!، لأنه بذلك يكون هو والصحابة الذين قالوا بمقالته رادّين على رسول الله ولا أظن أن أهل السنة والجماعة يرضون بهذا.
                    ولذلك فهمنا أن الحديث وضعه بعض المتأخرين الذين يعادون أهل البيت وخصوصاً بعد إقصائهم عن الخلافة، وكأن الذي وضع حديث «كتاب الله وسنتي» إستغرب أن يكون الناس تمسكوا بكتاب الله وتركوا العترة واقتدوا بغيرهم، فظن أنه باختلاق الحديث سيصحح مسيرتهم ويبعد النقد والتجريح عن الصحابة الذين خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
                    الوجه الثالث: من المعروف أن أول حادثة إعترضت أبابكرفي أوائل خلافته هي قراره محاربة مانعي الزكاة، رغم معارضة عمر بن الخطاب له واستشهاده بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                    «من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابه على الله»
                    فلو كانت سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معلومة ما كان أبو بكر يجهلها وهو أولى الناس بمعرفتها.
                    ولكن عمر بعد ذلك إقتنع بتأويل أبي بكر للحديث الذي رواه وقول أبي بكر بأن الزكاة هي حق المال، ولكنهم غفلوا أو تغافلوا عن سنة الرسول الفعلية التي لا تقبل التأويل وهي قصة ثعلبة الذي إمتنع عن دفع الزكاة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزل فيه قرآن ولم يقاتله رسول الله ولا أجبره على دفعها وأين
                    ______________________________
                    (1) صحيح البخاري باب مرض النبي ووفاته ج 5 ص 138.
                    صحيح مسلم كتاب الوصية ج 2 ص 16.
                    {120}
                    أبو بكر وعمر من قصة أسامة بن زيد الذي بعثه رسول الله في سرية، ولما غشي القوم وهزمهم لحق رجلا منهم فلما أدركه قال: لا إله إلا الله! فقتله أسامة، ولما بلغ النبي ذلك قال: يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم(1).
                    ولكن هذا لا يمكن أن نصدق بحديث «كتاب الله وسنتي» لأن الصحابة أول من جهل السنة النبوية فكيف بمن جاء بعدهم وكيف بمن بعد مسكنه عن المدينة؟
                    الوجه الرابع: من المعروف أيضاً أن كثيراً من أعمال الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانت مخالفة لسنته.
                    فإما أن يكون هؤلاء الصحابة يعرفون سنته صلى الله عليه وآله وسلم وخالفوها عمداً، إجتهاداً منهم في مقابل نصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهؤلاء ينطبق عليهم قول الله سبحانه وتعالى: (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا)(2)
                    وأما أنهم كانوا يجهلون سنته صلى الله عليه وآله وسلم فلا يحق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحال هذه أن يقول لهم تركت فيكم سنتي وهو يعلم أن أصحابه وأقرب الناس إليه لم يحيطوا بها علما فكيف بمن يأتي بعدهم ولم يعرفوا ولم يشاهدوا النبي.
                    الوجه الخامس: من المعلوم أيضاً أنه لم تدوّن السنة إلا في عهد الدولة العباسية وأن أول كتاب كتب في الحديث هو موطأ الإمام مالك، وذلك بعد الفتنة الكبرى، وبعد واقعة الحرة واستباحة المدينة المنورة، وقتل الصحابة فيها صبرأ،
                    ______________________________
                    (1) صحيح البخاري ج 8 ص 36 وكتاب الديات.
                    وصحيح مسلم أيضاً ج 1 ص 67
                    (2) سورة الأحزاب آية 36.
                    {121}
                    فكيف يطمئن الإنسان بعد ذلك إلى رواة تقربوا للسلطان لنيل الدنيا - ولذلك إضطربت الأحاديث وتناقضت وانقسمت الأمة إلى مذاهب، فما ثبت عند هذا المذهب لم يثبت عند غيره وما صححه هذا يكذبه ذاك.
                    فكيف نصدق بأن رسول الله قال تركت «كتاب الله وسنتي» وهو الذي كان يعلم بأن المنافقين والمنحرفين سوف يكذبون عليه، وقد قال:
                    «كثرت عليّ الكذّابة فمن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار»(1).
                    فإذا كانت الكذّابة قد كثرت في حياته فكيف يكلف أمته باتباع سنته وليس لهم معرفة بصحيحها من سقيمها وغثها من سمينها.
                    الوجه السادس: يروي أهل السنة والجماعة في صحاحهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك ثقلين، أو خليفتين، أوشيئين، فمرة يروون كتاب الله وسنة رسوله، ومرة يروون عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، ومعلوم بالضرورة أن الحديث التالي يضيف إلى كتاب الله وسنة رسوله، سنة الخلفاء فتصبح مصادر التشريع ثلاثة بدلاً من إثنين وكل هذا يتنافى مع حديث الثقلين الصحيح والمتفق عليه من السنة والشيعة، ألا وهو «كتاب الله وعترتي» والذي قدمنا في ذكره أكثر من عشرين مصدراً من مصادر أهل السنة الموثوقة فضلاً عن مصادر الشيعة التي لم نذكرها.
                    الوجه السابع: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم علم اليقين بأن أصحابه الذين نزل القرآن بلغتهم ولهجاتهم (كما يقولون) - لم يعرفوا كثيراً من تفسيره ولا تأويله، فكيف بمن يأتي بعدهم وكيف بمن يعتنق الإسلام من الروم والفرس والحبش وكل الأعاجم الذين لا يفهمون العربية ولا يتكلمونها.
                    وقد ثبت في الأثر أن أبا بكر سئل عن قوله تعالى: (وفاكهة وأبا)
                    ______________________________
                    (1)
                    {122}
                    فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله لما لا أعلم(1) كما أن عمر بن الخطاب أيضاً لم يعرف هذا المعنى فعن أنس بن مالك قال: إن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر:
                    (فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلبا وفاكهة وأبا).
                    قال: كل هذا عرفناه فما الأب؟ ثم قال هذا لعمر الله هو المتكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأب، إتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه»(2).
                    وما يقال هنا في تفسير كتاب الله يقال هناك في تفسير السنة النبوية الشريفة فكم من حديث نبوي بقي موضوع خلاف بين الصحابة وبين المذاهب وبين السنة والشيعة سواء كان الخلاف ناتجاً عن تصحيح الحديث أو تضعيفه، أم عن تفسير الحديث وفهمه، وللتوضيح أقدم للقارئ الكريم بعض الأمثلة عن ذلك.
                    ______________________________
                    (1) القسطلاني في إرشاد الساري ج 10 ص 298 - وابن حجر في فتح الباري ج 13 ص 230
                    (2) تفسير ابن جرير ج 3 ص 38 وكنز العمال ج 1 ص 287
                    الحاكم في المستدرك ج 2 ص 14 والذهبي في تلخيصه والخطيب في تاريخه ج 11 ص 468
                    الزمخشري في تفسيره الكشاف ج 3 ص 253 والخازن في تفسيره ج 4 ص 374.
                    ابن تيمية في مقدمة أصول التفسير ص 30 تفسير ابن كثير ج 4 ص 473

                    تعليق


                    • #25
                      1 - الخلاف بين الصحابة في صحة الحديث أو كذبه
                      هذا ما وقع لأبي بكر في أول أيامه عندما جاءته فاطمة الزهراء تطالبه بتسليم فدك التي أخذها منها بعد وفاة أبيها فكذبها فيما إدعته من أن أباها رسول الله أنحلها إياها في حياته كما أنها لما طالبته بميراث أبيها، قال لها بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة».
                      فكذبته هي الأخرى في نسبة هذا الحديث لأبيها وعارضة بكتاب الله واشتد
                      {123}
                      النزاع والخلاف حتى ماتت وهي غاضبة عليه مهاجرة له لا تكلمه- كما ورد ذلك في صحيحي البخاري ومسلم.
                      كذلك إختلاف عائشة أم المؤمنين مع أبي هريرة في الذي يصبح جنباً في رمضان فكانت ترى صحة ذلك بينما يرى أبو هريرة أن من أصبح جنباً أفطر. وإليك القصة بالتفصيل.
                      أخرج الإمام مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهما قالتا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبح جنباً من جماع غير إحتلام في رمضان ثم يصوم، وعن أبي بكر بن عبد الرحمن قال كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة فذكر له أن أبا هريرة يقول من أصبح جنباً أفطر ذلك اليوم فقال مروان: أقسمت عليك يا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألنهما عن ذلك فذهب عبد الرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة فسلم عليها ثم قال: يا أم المؤمنين إنا كنا عند مروان بن الحكم فذكر له أن أبا هريرة يقول من أصبح جنباً أفطر ذلك اليوم قالت عائشة: ليس كما قال أبو هريرة يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله يصنع، فقال عبد الرحمن لا والله. قالت عائشة فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يصبح جنباً من جماع غير إحتلام ثم يصوم ذلك اليوم، ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة فسألها عن ذلك فقالت مثل ما قالت عائشة. قال فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحكم فذكر له عبد الرحمن ما قالتا، فقال مروان: أقسمت عليك يا أبا محمد لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق فلتخبرنه ذلك، فركب عبد الرحمن وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة فتحدث معه عبد الرحمن ساعة ثم ذكر له ذلك فقال له أبو هريرة: لا علم لي بذاك إنما أخبرنيه مخبر(1).
                      أنظر أخي القارئ إلى صحابي مثل ابي هريرة الذي هو عند أهل السنة
                      ______________________________
                      (1) صحيح البخاري ج 2 ص 232 باب الصائم يصبح جنباً.
                      موطأ مالك تنوير الحوالك ج 1 ص 272 (ما جاء في الذي يصبح جنباً في رمضان).
                      {124}
                      راوية الإسلام كيف يفتي بأحكام دينية على الظن وينسبها إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يعلم حتى من أخبره بها.
                      قصة أخرى لأبي هريرة يتناقض فيها مع نفسه
                      روى عبد الله بن محمد حدثنا هشام بن يوسف أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي مسلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن أعدى الأول.
                      وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة بعد يقول قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يوردن ممرض على مصبح، وأنكر ابو هريرة حديثه الأول قلنا: ألم تحدث أنه لا عدوى فرطن بالحبشية قال ابو سلمة فما رأيته نسي حديثاً غيره...(1).
                      * فهذه أيها القارئ اللبيب سنة الرسول، أو قل ما ينسب للرسول فمرة يقول أبو هريرة إنه لا علم له بحديثه الأول وإنما أخبره مخبر ومرة أخرى عندما يجابهوه بتناقضه لا يجيبهم بشيء وإنما يرطن بالحبشية حتى لا يفهمه أحد.
                      ______________________________
                      (1) صحيح البخاري ج 7 ص 31 (باب لا هامة)
                      صحيح مسلم ج 7 ص 32 (باب لا عدوى ولا طيرة)
                      خلاف عائشة وابن عمر
                      روى ابن جريج قال سمعت عطاء يخبر قال أخبرني عروة بن الزبير قال كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة وأنا لنسمع ضربها بالسواك تستن قال فقلت يا أبا عبد الرحمن اعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رجب قال نعم، فقلت لعائشة أي أمتاه الا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن قالت وما يقول؟ قلت يقول إعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رجب، فقالت«يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري ما اعتمر في رجب وما اعتمر من عمرة إلا وإنه
                      {125}
                      لمعه» قال وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم سكت(1).
                      _____________________________
                      (1) صحيح مسلم ج 3 ص 61 صحيح البخاري ج 5 ص 86.
                      2 - اختلاف المذاهب في السنة النبوية
                      فإذا كان عمر وأبو بكر يختلفان في سنة النبي(2) صلى الله عليه وآله وسلم وإذا كان أبو بكر يختلف مع فاطمة في السنة النبوية(3) وإذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يختلفن في سنة النبي(4) صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كان أبو هريرة يتناقض ويختلف مع عائشة في السنة النبوية(5) وإذا ابن عمر يختلف مع عائشة في سنة النبي(6) وإذا كان عبد الله بن عباس وابن الزبير يختلفان في السنة النبوية(7) وإذا كان علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان يختلفان في السنة النبوية(8) وإذا كان الصحابة يختلفون في ما بينهم في السنة النبوية(9) حتى كان للتابعين من بعدهم أكثر من سبعين مذهباً فكان إبن مسعود صاحب مذهب وكذلك ابن عمر - وابن عباس - وابن الزبير - وابن عيينة - وابن جريج والحسن البصري وسفيان الثوري، ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كثير، ولكن المتغيرات السياسية قضت على الجميع ولم تبق إلا المذاهب الأربعة المعروفة عند أهل السنة والجماعة.
                      ______________________________
                      (2) إشارة إلى إختلافهما في محاربة مانعي الزكاة وقد أشرنا إلى المصادر فارجع إليها.
                      (3) إشارة إلى قصة فدك وحديث نحن معشر الانبياء لا نورث، أشرنا إلى المصادر.
                      (4) إشارة إلى قصة رضاعة الكبير التي روتها عائشة وخالف عنها أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
                      (5) إشارة إلى رواية يصبح النبي جنبا ويصوم والذي كذبته عائشة
                      (6) إشارة إلى رواية إعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعاً إحداهن في رجب وكذبته عائشة.
                      (7) إشارة إلى إختلافهما في حلية المتعة وتحريمها (أنظر البخاري ج 6 ص 129).
                      (8) أشارة إلى إختلافهما في متعة الحج (أنظر البخاري ج 2 ص 153).
                      (9) في البسملة وفي الوضوء وفي صلاة المسافر وفي الكثير من المسائل الفقهية التي لا يمكن حصرها.
                      {126}
                      ورغم قلة عدد المذاهب إلا أنهم يختلفون في أغلب المسائل الفقهية وذلك من أجل إختلافهم في السنة النبوية فقد يبني أحدهم حكمه في مسألة طبق ما صححه من حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بينما يجتهد غيره برأيه أو يقيس على مسألة أخرى لفقدان النص والحديث.
                      3 - إختلاف السنة والشيعة في السنة النبوية
                      أما إختلاف السنة والشيعة في هذه المسألة فقد يكون لسببين رئيسيين أحدهما عدم صحة الحديث عند الشيعة إذا كان أحد الرواة من المطعون في عدالته ولو كان من الصحابة. إذ أن الشيعة لا يقولون بعدالة الصحابة أجمعين كما هو الحال عند أهل السنة والجماعة.
                      أضف إلى ذلك أنهم يرفضون الحديث إذا تعارض مع رواية الأئمة من أهل البيت، فهم يقدمون رواية هؤلاء على غيرهم مهما علت مرتبتهم - ولهم في ذلك أدلة من القرآن والسنة ثابتة حتى عند خصومهم، وقد سبق الإشارة إلى بعضها.
                      أما السبب الثاني في الإختلاف بينهما فهو ناتج عن مفهوم الحديث نفسه إذ قد يفسّره أهل السنة والجماعة على غير تفسير الشيعة - كالحديث الذي سبق أن أشرنا إليه وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
                      «إختلاف أمتي رحمة».
                      إذ يفسره أهل السنة والجماعة بأن في إختلاف المذاهب الأربعة في الأمور الفقهية رحمة للمسلمين.
                      بينما يفسّره الشيعة بالسفر إلى بعضهم البعض والإعتناء بأخذ العلم ونحوه من الفوائد.
                      أو قد يكون الإختلاف بين الشيعة وأهل السنة، ليس في مفهوم الحديث النبوي، وإنما في الشخص أو الأشخاص المعنيين بهذا الحديث وذلك كقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
                      «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».
                      {127}
                      فأهل السنة يعنون به الخلفاء الأربعة، أما الشيعة فيعنون به الأئمة الإثني عشر إبتداء من علي بن أبي طالب وإنتهاء بالمهدي محمد بن الحسن العسكري (عليه السلام).
                      أو كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
                      «الخلفاء من بعدي إثنا عشر كلهم من قريش».
                      فالشيعة يعنون به الأئمة الإثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) بينما لا يجد أهل السنة والجماعة تفسيراً شافياً لهذا الحديث وقد أختلفوا حتى في الأحداث التاريخية التي تتعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هو الحال في يوم مولده الشريف إذ يحتفل أهل السنة بالمولد النبوي الشريف يوم الثاني عشر من ربيع الأول في حين يحتفل الشيعة في اليوم السابع عشر من نفس الشهر.
                      ولعمري إن هذا الإختلاف في السنة النبوية أمر طبيعي لا مفر منه إذا لم يكن هناك مرجع يرجع إليه الجميع ويكون حكمه نافذا، ورأيه مقبولاً لدى الجميع كما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان يقطع دابر الخلاف ويحسم النزاع ويحكم بما أراه الله فيسلّمون ولو كان في أنفسهم حرج، وإن وجود مثل هذا الشخص ضروري في حياة الأمة وعلى طول مداها! هكذا يحكم العقل ولا يمكن أن يغفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وهو يعلم بأن أمته ستتأول كلام الله من بعده، فكان لزاماً عليه أن يحضر لها معلماً قادراً ليقودها إلى الجادة إذا ما حاولت الإنحراف عن الصراط المستقيم، وقد هيّأ بالفعل لأمته قائداً عظيماً بذل كل جهوده في تربيته وتعليمه منذ ولد إلى أن بلغ الكمال وصار منه بمنزلة هارون من موسى، فأوكل إليه هذه المهمة النبيلة بقوله
                      «أنا أقاتلهم على تنزيل القرآن وأنت تقاتلهم على تأويله»(1).
                      ______________________________
                      (1) الخوارزمي في المناقب ص 44. ينابيع المودة ص 233.
                      الإصابة لابن حجر العسقلاني ج 1 ص 25 كفاية الطالب ص 334.
                      منتخب كنز العمال ج 5 ص 36 إحقاق الحق ج 6 ص 37.
                      {128}
                      وقوله:
                      «أنت يا علي تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي»(1).
                      فإذا كان القرآن وهو كتاب الله الغزيز يتطلب من يقاتل في سبيل تفسيره وتوضيحه، لأنه كتاب صامت لا ينطق، وهو حمال أوجه متعددة وفيه الظاهر والباطن فكيف بالأحاديث النبوية؟!
                      وأذا كان الأمر كذلك في الكتاب والسنة، فلا يمكن للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك لأمته ثقلين صامتين أبكمين لا يتورع الذين في قلوبهم زيغ أن يتأولوهما لغرض ويتبعوا ما تشابه منهما إبتغاء الفتنة وإبتغاء الدنيا ويكونوا سببا لضلالة من يأتي بعدهم، لأنهم أحسنوا الظن بهم واعتقدوا بعد التهم ويوم القيامة يندمون فيصدق فيهم قوله تعالى: (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا)(2) (كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم، ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار، قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون)(3)
                      وهل كانت الضلالة إلا من ذلك؟ فليس هناك أمة لم يبعث الله فيهم رسولاً أوضح لهم السبيل وأنار لهم الطريق ولكنهم بعد نبيهم راحو يحرفون ويتأولون ويبدلون كلام الله! فهل يتصور عاقل أن رسول الله عيسى (عليه السلام) قال للنصارى بأنه إله؟ حاشا وكلا(ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) ولكن الأهواء والأطماع وحب الدنيا هو الذي جر النصارى لذلك ألم يبشرهم
                      ______________________________
                      (1) مستدرك الحاكم ج 3 ص 122 تاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 488.
                      المناقب للخوارزمي ص 236 كنوز الحقائق للمناوي ص 203.
                      منتخب كنز العمال ج 5 ص 33 ينابيع المودة ص 182.
                      (2) سورة الأحزاب آية 66 - 68.
                      (3) سورة الأعراف آية 38.
                      {129}
                      عيسى بمحمد؟ ومن قبله موسى كذلك، وكنهم تأولوا إسم محمد وأحمد «بالمنقذ» وهم حتى الآن ينتظرونه.
                      وهل كانت أمة محمد على مذاهب وفرق متعددة إلى «ثلاث وسبعين كلها في النار إلى فرقة واحدة» إلا بسبب التأويل: وها نحن نعيش اليوم بين هذه الفرق هل هناك فرقة واحدة تنسب لنفسها الضلالة؟ أو بتعبير آخر: هل هناك فرقة واحدة تدعي أنها خالفت كتاب الله وسنة رسوله؟ بالعكس كل فرقة تقول بأنها هي المتمسكة بالكتاب والسنة، فما هو الحل إذاً؟؟
                      أكان يغيب الحل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بالأحرى عن الله؟ أستغفر الله إنه لطيف بعباده ويحب لهم الخير فلا بد أن يضع لهم حلا، ليهلك من هلك على بينة. وليس في شأنه سبحانه إهمال مخلوقاته وتركهم بدون هداية، اللهم إلا إذا إعتقدنا بأنه هو الذي أراد لهم الإختلاف والفرقة والضلالة ليزجّ بهم في ناره، وهو إعتقاد باطل فاسد. أستغفره وأتوب إليه من هذا القول الذي لا يليق بجلال الله وحكمته وعدالته.
                      فقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ترك كتاب الله وسنة نبيه ليس هو الحل المعقول لقضيتنا، بل يزيدنا تعقيدا وتأويلاً ولا يقطع دابر المشاغبين والمنحرفين، ألا تراهم عندما خرجوا على إمامهم رفعوا شعار: ليس الحكم لك يا علي وإنما الحكم لله! إنه شعار براق يأخذ بلب السامع فيخال القائل به حريصاً على تطبيق أحكام الله، ورافضاً لأحكام غيره من البشر، ولكن الحقيقة ليست كذلك.
                      قال الله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه، وهو ألد الخصام)(1)
                      نعم كثيراً ما نغتر بالشعارات البراقة ولا نعرف ماذا تخفي وراءها، ولكن
                      ______________________________
                      (1) سورة البقرة آية 204.
                      {130}
                      الإمام علياً يعرف ذلك لأنه باب مدينة العلم، فأجابهم «إنها كلمة حق يراد بها باطل».
                      نعم كثيرة هي كلمات الحق التي يراد بها الباطل، كيف ذلك؟ عندما يقول الخوارج للإمام علي الحكم لله ليس لك يا علي، فهل سيظهر الله على الأرض ويفصل بينهم في ما اختلفوا فيه؟ أم أنهم يعلمون أن حكم الله في القرآن، ولكن علياً تأوّله حسب رأيه؟ فما هي حجتهم ومن يقول بأنهم هم الذين تأولوا حكم الله، والحال أنه أعلم منهم وأصدق وأسبق للإسلام وهل الإسلام غيره؟
                      إذن هو شعار براق ليموّهوا به على بسطاء العقول فيكسبوا تأييدهم ليستعينوا بهم على حربه وكسب المعركة لصالحهم كما يقع اليوم فالزمان زمان والرجال رجال والدهاء والمكر لا ينقطع بل يزداد وينموا لأن دهاة هذا العصر يستفيدون من تجارب الأولين، فكم من كلمة حق يراد بها باطل في يومنا هذا؟ شعارات براقة كالذي يرفعها الوهابيون في وجه المسلمين وهو «التوحيد وعدم الشرك» فمن من المسلمين لا يوافق عليه؟ وكتسمية فرقة من المسلمين أنفسهم «بأهل السنة والجماعة» فمن من المسلمين لا يوافق أن يكون مع الجماعة التي تتبع سنة النبي؟ وكشعار البعثيين «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» فمن من المسلمين لا يغترّ بهذا الشعار، قبل أن يعرف خفايا حزب البعث ومؤسسه النصراني ميشال عفلق؟
                      لك الله يا علي بن أبي طالب إن حكمتك بقيت وستبقى مدوية على مسمع الدهر فكم من كلمة حق يراد بها الباطل، صعد أحد العلماء إلى منصة الخطابة وصاح بأعلى صوته: من قال بأنني شيعي نقول له: أنت كافر، ومن قال بأنني سني نقول له: أنت كافر، نحن لا نريد شيعة ولا سنة وإنما نريد إسلاماً فقط - إنها كلمة حق يراد بها باطل - فأي إسلام يريده هذا العالم؟ وفي عالمنا اليوم إسلام متعدد، بل وحتى في القرن الأول كان الإسلام متعدداً فهناك إسلام علي وإسلام معاوية وكلاهما له أتباع ومؤيدون حتى وصل الأمر إلى القتال وهناك إسلام
                      {131}
                      الحسين وإسلام يزيد الذي قتل أهل البيت باسم الإسلام وادعى أن الحسين خرج عن الإسلام بخروجه عليه وهناك إسلام أئمة أهل البيت وشيعتهم، وإسلام الحكام وشعوبهم، وعلى مر التاريخ نجد إختلافا بين المسلمين وهناك إسلام متسامح كما يسميه الغرب لأن أتباعه ألقوا بالمودة لليهود والنصارى وأصبحوا يركعون للقوتين العظيمتين وهناك إسلام متشدد يسميه الغرب إسلام التعصب والتحجر أو مجانين الله.
                      وبعد كل هذا لم يبق معنا مجال للتصديق بحديث «كتاب الله وسنتي» للأسباب التي ذكرت.
                      وتبقى الحقيقة ناصعة جلية في الحديث الثاني الذي أجمع عليه المسلمون وهو «كتاب الله وعترتي أهل بيتي» لأن هذا الحديث يحل كل المشكلات فلا يبقى إختلاف في تأويل أية آية من القرآن أو في تصحيح وتفسير أي حديث نبوي شريف إذا ما رجعنا إلى أهل البيت الذين أمرنا بالرجوع إليهم وخصوصاً إذا علمنا بأن هؤلاء الذين عيّنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم أهل لذلك، ولا يشك أحد من المسلمين في غزارة علمهم وفي زهدهم وتقواهم، وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم وأورثهم علم الكتاب فلا يخالفونه ولا يختلفون فيه بل لا يفارقونه حتى قيام الساعة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                      «إني تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1).
                      «ولأكون مع الصادقين يجب علي قول الحق لا تأخذني في ذلك لومة لائم وهدفي رضا الله سبحانه وإرضاء ضميري قبل رضا الناس عني».
                      ______________________________
                      (1) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 5 ص 122. الدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 60 كنز العمال ج 1 ص 154. مجمع الزوائد ج 9 ص 162 ينابيع المودة ص 38 و 183.
                      عبقات الأنوار ج 1 ص 16 - الحاكم في المستدرك ج 3 ص 148.
                      {132}
                      والحقيقة في هذا البحث هي في جانب الشيعة الذين إتبعوا وصية رسول الله في عترته وقدموهم على أنفسهم وجعلوهم أئمتهم يتقربون إلى الله بحبهم والإقتداء بهم فهنيئاً لهم بالفوز في الدنيا وفي الآخرة حيث يحشر المرء مع من أحب فكيف بمن أحبهم واقتدى بهديهم.
                      قال الزمخشري في هذا الصدد:
                      كثر الشك والإختلاف وكل ***يدعي أنه الصراط السوي
                      فتمسكت بلا إله إلا الله *** وحبي لأحمد وعلي
                      فاز كلب بحب أصحاب كهف *** فكيف أشقى بحب أل النبي
                      اللهم إجعلنا من المتمسكين بحبل ولائهم والسائرين على مناهجهم والراكبين سفينتهم والقائلين بإمامتهم والمحشورين في زمرتهم إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
                      القضاء والقدر (عند أهل السنة)
                      كان موضوع القضاء والقدر لغزاً عويصاً في ما مضى من حياتي إذ لم أجد فيه تفسيراً شافياً وكافياً يريح فكري ويقنع قلبي، وبقيت محتاراً، بين ما تعلمته في مدرسة اهل السنة من أن الإنسان مسيّر في كل أفعاله بما يوافق: «كل مسيّر لما خلق له» وأن الله سبحانه يبعث إلى الجنين في بطن أمه ملكين من الملائكة فيكتبان أجله ورزقه وعمله، وإن كان شقياً أو سعيداً(1)، وبين ما يمليه عقلي وضميري، من عدالة الله سبحانه وتعالى وعدم ظلمه لمخلوقاته، إذ كيف يجبرهم على أفعال ثم يحاسبهم عليها ويعذبهم من أجل جرم كتبه هو عليهم وأجبرهم عليه.
                      فكنت كغيري من شباب المسلمين أعيش تلك التناقضات الفكرية في تصوري بأن الله سبحانه هو القوي الجبار الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون(2) - وهو فعال لما يريد -(3) - وقد خلق الخلق وجعل قسماً منهم في الجنة
                      ______________________________
                      (1) صحيح مسلم ج 8 ص 44.
                      (2) سورة الأنبياء آية 23.
                      (3) سورة البروج آية 16.
                      {134}
                      وقسماً آخر في الجحيم - ثم هو رحمن رحيم بعباده لا يظلم مثقال ذرة(1) (وما ربك بظلام للعبيد)(2) - (إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون)(3) ثم هو أحن عليه من المرأة على ولدها كما جاء ذلك في الحديث الشريف(4).
                      وكثيراً ما يتراءى هذا التناقض في فهمي لآيات القرآن الكريم فمرة أفهم بأن الإنسان على نفسه بصيرة وهو المسؤول الوحيد عن أعماله (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)(5).
                      ومرة أفهم بأنه مسيّر وليس له حول ولا قوة، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا رزقاً، (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله)(6) (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء)(7).
                      نعم لست وحدي بل أغلب المسلمين يعيش هذه التناقضات الفكرية ولذلك تجد أغلب الشيوخ والعلماء إذا ما سألتهم عن موضوع القضاء والقدر لا يجدون جواباً يقنعون به أنفسهم قبل إقناع غيرهم، فيقولون: هذا موضوع لا يجب الخوض فيه، وبعضهم يحرّم الخوض فيه ويقول: يجب على المسلم أن يؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره وأنه من عند الله.
                      وإذا ما سألهم معاند: كيف يجبر الله عبده على إرتكاب جريمة ثم يزج به في نار جهنم؟ أتهموه بالكفر والزندقة والخروج عن الدين إلى غير ذلك من التهم
                      ______________________________
                      (1) سورة النساء آية 40.
                      (2) سورة فصلت آية 46.
                      (3) سورة يونس آية 44.
                      (4) صحيح البخاري ج 7 ص 75.
                      (5) سورة الزلزلة آية 7-8.
                      (6) سورة الإنسان آية 30.
                      (7) سورة فاطر آية 8.

                      تعليق


                      • #26
                        {135}
                        الباردة، فجمدت العقول وتحجرت وأصبح الإيمان بأن الزواج بالمكتوب، والطلاق بالمكتوب، وحتى الزنا فهو مكتوب إذ يقولون: مكتوب على كل فرج إسم ناكحه، وكذلك شرب الخمر، وقتل النفس وحتى الأكل والشرب، فلا تأكل ولا تشرب إلا ما كتبه الله لك!
                        قلت لبعض علمائنا بعد إستعراض كل هذه المسائل: إن القرآن يكذّب هذه المزاعم، ولا يمكن للحديث أن يناقض القرآن! قال تعالى في شأن الزواج (وانحكوا ما طاب لكم من النساء)(1) فهذا يدل على مرتبة الإختيار وفي شأن الطلاق (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)(2) وهو أيضاً إختيار وفي الزنا قال (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً)(3) وهو أيضاً دليل الإختيار وفي الخمر قال (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)(4) وهي أيضاً تنهى بمعنى الإختيار.
                        اما قتل النفس فقد قال فيها: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)(5) وقال: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً إليما)(6) فهذه أيضاً تفيد الإختيار في القتل.
                        وحتى بخصوص الأكل والشرب فقد رسم لنا حدوداً فقال: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)(7) فهذه أيضاً بالإختيار.
                        فكيف يا سيدي بعد هذه الأدلة القرآنية تقولون بأن كل شيء من الله
                        ______________________________
                        (1) سورة النساء آية 3
                        (2) سورة البقرة آية 229.
                        (3) سورة الإسراء آية 32.
                        (4) سورة المائدة آية 91.
                        (5) سورة الأنعام آية 151.
                        (6) سورة النساء آية 93.
                        (7) سورة الأعراف آية 31.
                        {136}
                        والعبد مسيّر في كل أفعاله؟؟
                        أجابني: بأن الله سبحانه هو وحده الذي يتصرف في الكون واستدل بقوله (قل اللهم مالك الملك تؤت الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير)(1).
                        قلت: لا خلاف بيننا في مشيئة الله سبحانه وإذا شاء الله أن يفعل شيئاً، فليس بإمكان الإنس والجن ولا سائر المخلوقات أن يعارضوا مشيئته! وأنما أختلافنا في أفعال العباد هل هي منهم ام من الله؟؟
                        أجابني: لكم دينكم ولي ديني، وأغلق باب النقاش بذلك. هذه هي في أغلب الأحيان حجة علمائنا، وأذكر أني رجعت إليه بعد يومين وقلت له: إذا كان إعتقادك أن الله هو الذي يفعل كل شيء وليس للعباد أن يختاروا أي شيء فلماذا لا تقول في الخلافة نفس القول، وأن الله سبحانه هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة؟
                        فقال: نعم أقول بذلك، لأن الله هو الذي إختار أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ولو شاء الله أن يكون علي هو الخليفة الأول ما كان الجن والإنس بقادرين على منع ذلك.
                        قلت: الآن وقعت.
                        قال: كيف وقعت؟
                        قلت: إما أن تقول بأن الله إختار الخلفاء الراشدين الأربعة ثم بعد ذلك ترك الأمر للناس يختارون من شاؤوا.
                        وأما أن تقول بأن الله لم يترك للناس الإختيار وإنما يختار هو كل الخلفاء من وفاة الرسول إلى قيام الساعة؟
                        أجاب: أقول بالثاني (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع
                        ______________________________
                        (1) سورة آل عمران آية 26.
                        {137}
                        الملك ممن تشاء...).
                        قلت: إذاً فكل إنحراف وكل ضلالة وكل جريمة وقعت في الإسلام بسبب الملوك والأمراء فهي من الله، لأنه هو الذي أمّر هؤلاء على رقاب المسلمين؟
                        أجاب: وهو كذلك، ومن الصالحين من قرأ (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمّرنا مترفيها أي جعلناهم أمراء).
                        قلت متعجباً: إذاً فقتل علي على يد ابن ملجم وقتل الحسين بن علي أراده الله؟؟
                        فقال منتصراً: نعم طبعاً - ألم تسمع قول الرسول لعلي:
                        «أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه حتى تبتل هذه. وأشار إلى رأسه ولحيته كرم الله وجهه».
                        وكذلك سيدنا الحسين قد علم رسول الله بمقتله في كربلاء وحدث أم سلمة بذلك كما علم بأن سيدنا الحسن سيصلح الله به فرقتين عظيمتين من المسلمين، فكل شيء مسطر ومكتوب في الأزل وليس للإنسان مفر. وبهذا أنت الذي وقعت لا أنا.
                        سكتّ قليلاً أنظر إليه وهو مزهو بهذا الكلام، وظن أنه أفحمني بالدليل؛ كيف لي أن أقنعه بأن علم الله بالشيء لا يفيد حتماً بأنه هو الذي قدّره واجبر الناس عليه، وأنا أعلم مسبقاً بأن فكره لا يستوعب مثل هذه النظرية.
                        سألته من جديد: إذاً فكل الرؤساء والملوك قديماً وحديثاً والذين يحاربون الإسلام والمسلمين نصّبهم الله - قال نعم بدون شك.
                        قلت حتى الإستعمار الفرنسي على تونس والجزائر والمغرب هو من الله
                        قال: بلى، لما جاء الوقت المعلوم خرجت فرنسا من تلك الأقطار.
                        قلت سبحان الله! فكيف تدافع سابقاً عن نظرية أهل السنة بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وترك الأمر شورى بين المسلمين
                        {138}
                        ليختاروا من يشاؤون؟
                        قال:
                        نعم ولا زلت على ذلك وسأبقى على ذلك إن شاء الله!
                        قلت: فكيف توفّق بين القولين: إختيار الله وإختيار الناس بالشورى؟
                        قال: بما أن المسلمين إختاروا أبابكر فقد إختاره الله!
                        قلت: أنزل عليهم الوحي في السقيفة يدلهم على إختيار الخليفة؟
                        قال: أستغفر الله ليس هناك وحي بعد محمد كما يعتقد الشيعة! (والشيعة كما هو معروف لا يعتقدون بهذا وإنما هي تهمة الصقها بهم اعداؤهم).
                        قلت: دعنا من الشيعة وأباطيلهم، وأقنعنا بما عندك! كيف علمت بأن الله أختار أبابكر؟
                        قال: لو أراد الله خلاف ذلك لما تمكّن المسلمون، ولا العالمون خلاف ما يريده الله تعالى؟
                        عرفت حينئذ أن هؤلاء لا يفكرون ولا يتدبرون القرآن، وعلى رأيهم سوف لن تستقيم أية نظرية فلسفية أو علمية.
                        وهذا يذكرني بقصة أخرى كنت أمشي مع صديق في حديقة كان بها نخل كثير وكنت أحدثه في القضاء والقدر فسقطت فوق رأسي تمرة ناضجة أخذتها من فوق الحشائش لأكلها وضعتها في فيّ.
                        تعجب صديقي قائلاً: لا تأكل إلا ما كتبه الله لك! هذه التمرة سقطت باسمك قلت: ما دمت تؤمن بأنها مكتوبة فسوف لن آكلها. ولفظتها.
                        قال: سبحان الله! إذا كان الشيء غير مكتوب لك يخرجه الله حتى من بطنك قلت: إذاً سآكلها والتقطتها من جديد لأثبت له بأني مخيّر في أكلها أو تركها بقي صديقي يرقبني حتى مضغتها وابتلعتها، عند ذلك قال: هي والله كاتبة لك (يقصد كتبها الله إليك)، وانتصر عليّ بتلك الطريقة لأنه لا يمكن لي بعد، أن أخرج التمرة من جوفي.
                        {139}
                        نعم هذه عقيدة أهل السنة في خصوص القضاء والقدر أو قل هذه عقيدتي عندما كنت سنيا.
                        ومن الطبيعي أن أعيش بهذه العقيدة مشوش الفكر بين المتناقضات ومن الطبيعي أن نبقى في جمود دائم وننتظر ان يغيّر الله ما بنا، عوض أن نغيّر نحن ما بأنفسنا لكي يغيّر الله ما بنا، ونتهرب من المسؤولية التي تحمّلناها ونلقي بها عليه سبحانه، فإذا قلت للزاني أو للسارق أو حتى للمجرم الذي إغتصب فتاة قاصرة وقتلها بعد شهوته فيسيجيبك: الله غالب، قدّر ربي. سبحان هذا الرب الذي يامر الأنسان بدفن إبنته ثم يسأله بأي ذنب قتلت؟ سبحانك إن هذا إلا بهتان عظيم!
                        ومن الطبيعي أن يزدري بنا علماء الغرب ويضحكون لسخافة عقولنا، بل وينبزوننا بالألقاب فيسمونه «مكتوب العرب» ويجعلونه سببا رئيسياً لجهلنا وتخلفنا.
                        ومن الطبيعي أيضاً أن يعر ف الباحثون بأن هذا الإعتقاد نشأ من الدولة الأموية الذين كانوا يروّجون بأن الله سبحانه هو الذي أعطاهم الملك وأمّرهم على رقاب الناس فيجب على الناس إطاعتهم وعدم التمرد عليهم لأن مطيعهم مطيع لله والخارج عليهم هو متمرد على الله يجب قتله. ولنا في ذلك شواهد عديدة من التاريخ الإسلامي:
                        فهذا عثمان بن عفان عندما يطلبون منه أن يعتزل يرفض ويقول لا أخلع قميصاً قمصنيه الله(1) فعلى رأيهالخلافة هي لباس له وقد ألبسه الله إياه فلا ينبغي لأحد من الناس أن ينزعه عنه إلا الله سبحانه يعني بالوفاة.
                        وهذا معاوية ايضاً يقول: إني لم أقاتلكم لتصوموا ولتزكوا وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون فهذا يذهب شوطاً أبعد من
                        ______________________________
                        (1) تاريخ الطبري حصار عثمان وتاريخ ابن الاثير.
                        {140}
                        عثمان لأنه يتهم رب العزة والجلالة بأنه أعانه على قتل المسلمين ليتآمر عليهم وخطبة معاوية هذه مشهورة(1).
                        وحتى في إختيار ليزيد إبنه وتوليته على الناس رغم أنوفهم فقد إدعى معاوية أن الله هو الذي إستخلف إبنه يزيداً على الناس وذلك ما رواه المؤرخون، عندما كتب بيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم، فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد(2).
                        وكذلك فعل إبن زياد الفاسق عندما أدخلوا عليه علياً زين العابدين مكبلاً بالأغلال فسأل قائلاً من هذا فقالوا علي بن الحسين! قال: ألم يقتل الله علي بن الحسين فأجابته زينب عمته: بل قتله أعداء الله وأعداء رسوله.
                        فقال لها إبن زياد: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك.
                        قالت: ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلح يومئذ، ثكلتك أمك ياابن مرجانة(3).
                        وهكذا تفشى هذا الإعتقاد من بني أمية وأعوانهم وسرى في اللأمة الإسلامية عدا شيعة أهل البيت.
                        ______________________________
                        (1) مقاتل الطالبين ص 70 وابن كثير ج 8 ص 131 وابن أبي الحديد ج 3 ص 16
                        (2) الإمامة والسياسة ج 1 ص 151 بيعة معاوية ليزيد بالشام.
                        (3) مقاتل الطالبين - مقتل الحسين.
                        عقيدة الشيعة في القضاء والقدر
                        وما إن عرفت علماء الشيعة(1) وقرأت كتبهم حتى إكتشفت علماً جديداً في القضاء والقدر.
                        وقد أوضحه الإمام علي (عليه السلام) بأوضح بيان وأشمله إذ قال لمن سأله عن القضاء والقدر:
                        «ويحك لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حاتماً، ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد.
                        إن الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرها، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً. (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار...)(2).
                        ______________________________
                        (1) كالشهيد محمد باقر الصدر طيّب الله ثراه الذي أفادني كثيراً في الموضوع وكالسيد الخوئي والعلامة محمد علي الطباطبائي والسيد الحكيم وغيرهم.
                        (2) شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده ج 4 ص 673.
                        {142}
                        فما أوضحه من بيان، وما قرأت في الموضوع كلاماً أبلغ منه وبرهاناً أدل على الحقيقة منه، فالمسلم يقتنع بأن أعماله هي من محض إرادته واختياره، لأن الله سبحانه أمرنا ولكنه ترك لنا حرية الإختيار وهو قول للإمام «إن الله أمر عباده تخييرا».
                        كما أنه سبحانه نهانا وحذّرنا عقاب مخالفته فدلّ كلامه على أن للإنسان حرية التصرّف وبإمكانه أن يخالف أوامر الله، وفي هذه الحالة يستوجب العقاب، وهو قول الإمام «ونهاهم تحذيراً»
                        وزاد الإمام علي (عليه السلام) توضيحاً للمسألة فقال: بأن الله سبحانه لم يعص مغلوباً، ومعنى ذلك بأن الله لو أراد جبر عباده وإرغامهم على شيء، لم يكن بمقدورهم جميعاً أن يغلبوه على أمره فدل ذلك على أنه ترك لهم حرية الإختيار في الطاعة والمعصية وهو مصداق لقوله تعالى (قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(1)
                        ثم بعد ذلك يخاطب الإمام علي ضمير الإنسان ليصل إلى أعماق وجدانه فيأتي بالدليل القاطع على أنه لو كان الإنسان مجبوراً على أفعاله، كما يعتقده البعض لكان إرسال الأنبياء وإنزال الكتب ضرباً من اللعب والعبث الذي يتنزّه الله جل جلاله عنه، لأن دور الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين وإنزال الكتب هو لإصلاح الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وإعطائهم العلاج النافع لأمراضهم النفسية، وتوضيح الطريقة المثلى للحياة السعيدة قال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)(2)
                        ويختم الإمام علي بيانه بأن الإعتقاد بالجبر هو نفس الإعتقاد (يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً) وهو كفر توعد الله القائلين به بالنار-
                        ______________________________
                        (1) سورة الكهف آية 29.
                        (2) سورة الإسراء آية 9.
                        {143}
                        وإذا محصنا قول الشيعة في القضاء والقدر وجدناه قولاً سديداً ورأياً رشيداً، فبينما فرّطت طائفة فقالت بالجبر أفرطت أخرى فقالت بالتفويض، جاء أئمة أهل البيت سلام الله عليهم ليصححوا المفاهيم والمعتقدات ويرجعوا بهؤلاء وأولئك، فقالوا: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»(1).
                        وقد ضرب الإمام جعفر الصادق لذلك مثلاً مبسطا يفهمه كل الناس وعلى قدر عقولهم فقال للسائل عندما سأله: ما معنى قولك لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين؟ أجابه عليه السلام: «ليس مشيك على الأرض كسقوطك عليها» ومعنى ذلك أننا نمشي على الأرض باختيارنا - ولكننا عندما نسقط على الأرض فهو بغير إختيارنا، فمن منا يحبّ السقوط الذي قد يسبب كسر بعض الأعضاء من جسمنا فنصبح معاقين.
                        فيكون القضاء والقدر أمراً بين أمرين، أي قسم هو من عندنا وباختيارنا ونحن نفعله بمحض إرادتنا.
                        وقسم ثان هو خارج عن إرادتنا ونحن خاضعون له، ولا نقدر على دفعه، فنحاسب على الأول ولا نحاسب على الثاني.
                        والإنسان في هذه الحالة وفي تلك مخيّر ومسيّر في نفس الوقت.
                        أ- مخيّر في أفعاله التي تصدر منه بعد تفكير ورويّة إذ يمر بمرحلة التخيير والصراع بين الإقدام والإحجام، وينتهي به الأمر إما بالفعل أو الترك، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دساها)(2)
                        فالتزكية للنفس والدس لها هما نتيجة إختيار الضمير في كل إنسان - كما أن الفلاح والخيبة هما نتيجة حتمية وعادلة لذلك الإختيار.
                        ______________________________
                        (1) عقائد الشيعة في القضاء والقدر.
                        (2) سورة الشمس آية 6 - 10.
                        {144}
                        ب- مسيّر في كل ما يحيط به من نواميس الكون وحركته الخاضعة كلها لمشيئة الله سبحانه بكل أجزائها ومركّباتها وأجرامها وذراتها، فالإنسان ليس له أن يختار جنسه من ذكورة وأنوثة ولا أن يختار لونه فضلاً عن إختيار أبويه ليكون في أحضان أبوين موسرين بدلاً من أن يكونوا فقراء، ولا أن يختار حتى طول قامته وشكل جسده.
                        فهو خاضع لعدة عوامل قاهرة (كالأمراض الوراثية مثلا) ولعدة نواميس طبيعية تعمل لفائدته بدون أن يتكلف فهو ينام عندما يتعب ويستيقظ عندما يرتاح، ويأكل عندما يجوع ويشرب عندما يعطش، ويضحك وينشرح عندما يفرح، ويبكي وينقبض عندما يحزن، وفي داخله معامل ومصانع تصنع الهورمونات والخلايا الحية، والنطف القابلة للتحول، وتبني في نفس الوقت جسمه في توازن منسق عجيب، وهو في كل ذلك غافل لا يدري بأن العناية الإلهية محيطة به في كل لحظة من لحظات حياته بل وحتى بعد مماته! يقول الله عز وجل في هذا المعنى:
                        (أيحسب الإنسان أن يترك سدى، ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)(1)
                        بلى، سبحانك وبحمدك ربنا الأعلى أنت الذي خلقت فسويت وانت الذي قدّرت فهديت وأنت الذي أمت ثم أحييت، تباركت وتعاليت، فتعساً وبعداً لمن خالفك ونأي عنك ولم يقدّرك حق قدرك.
                        ولنختم هذا البحث بما قاله الإمام علي بن موسى الرضا وهو الإمام الثامن من أئمة أهل البيت عليهم السلام وقد إشتهر بالعلم في عهد المأمون ولم يبلغ
                        ______________________________
                        (1) سورة القيامة آية 36 - 40.

                        تعليق


                        • #27
                          {145}
                          الرابعة عشر من عمره حتى كان أعلم أهل زمانه(1).
                          سأله سائل عن معنى قول جده الإمام الصادق «لاجبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» فأجابه الإمام الرضا:
                          «من زعم أن الله يفعل أفعالنا، ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر، ومن زعم أن الله فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه - أي الأئمة - فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك.
                          أما معنى الأمر بين الأمرين فهو وجود السبيل إلى إتيان ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، أي أن الله سبحانه أقدره على فعل الشر وتركه، كما أقدره على فعل الخير وتركه، وأمره بهذا ونهاه عن ذاك».
                          وهذا لعمري بيان كاف وشاف على مستوى العقول ويفهمه كل الناس من المثقفين وغير المثقفين.
                          وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال في حقهم:
                          «لا تتقدموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم»(2).
                          ______________________________
                          (1) العقد الفريد لابن عبد ربه. ج 3 ص 42.
                          (2) ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 148. مجمع الزوائد ج 9 ص 163.
                          ينابيع المودة ص 41 - الدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 60 كنز العمال ج 1 ص 168 أسد الغابة ج 3 ص 137 عبقات الأنوار ج 1 ص 184.
                          تعليقة على الخلافة ضمن القضاء والقدر
                          والطريف في هذا الموضوع أن اهل السنة والجماعة رغم إعتقادهم بالقضاء والقدر الحتمي وأن الله سبحانه هو الذي يسيّر عباده في أعمالهم وليس لهم الخيرة في شيء، ولكنهم في أمر الخلافة يقولون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وترك الأمر شورى بين الناس ليختاروا لأنفسهم.
                          والشيعة على العكس تماماً، فرغم إعتقادهم بأن الإنسان مخيّر في أعماله وأن عباد الله يفعلون ما شاؤوا (ضمن مقولة لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين) إلا أنهم في أمر الخلافة يقولون بأنه لا حق لهم في الأختيار!
                          ويبدو هذا وكأنه تناقض من الطرفين، السنة والشيعة لأول وهلة، ولكن الحقيقة ليست كذلك.
                          فالسنة عندما يقولون بأن الله سبحانه هوالذي يسيّر عباده في أعمالهم، يتناقضون مع الواقع إذ أن الله سبحانه (عندهم) هو المخيّر الفعلي ولكنه يترك لهم الخيار الوهمي إذ أن الذي إختار أبابكر يوم السقيفة، هو عمر ثم بعض الصحابة، ولكن في الحقيقة هو منفذون لأمر الله الذي جعلهم واسطة ليس إلا على حسب هذا الزعم.
                          {148}
                          وأما الشيعة عندما يقولون بأن الله سبحانه خيّر عباده في أفعالهم، فلا يتناقضون مع قولهم بأن الخلافة هي باختيار الله وحده (وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة) لأن الخلافة كالنبوة ليست هي من أعمال العباد ولا موكولة إليهم، فكما أن الله يصطفي رسوله من بين الناس ويبعثه فيهم فكذلك بالنسبة لخليفة الرسول، وللناس أن يطيعوا أمر الله ولهم أن يعصوه، كما وقع بالفعل في حياة الأنبياء وعلى مر العصور فيكون العباد أحراراً في قبول اختيار الله، فالمؤمن الصالح يقبل ما اختاره الله، والكافر بنعمة ربه يرفض ما اختاره الله له ويتمرد عليه، قال تعالى:
                          (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك أياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تنسى)(1).
                          ثم انظر إلى نظرية أهل السنة والجماعة في هذه المسألة بالذات فسوف لن تلقي باللوام على أحد، لأن كل ما وقع ويقع بسبب الخلافة وكل الدماء التي أريقت والمحارم التي هتكت كل ذلك من الله، حيث عقب بعض من يدعي العلم منهم بقوله تعالى: (ولوشاء ربك ما فعلوه)(2).
                          أما نظرية الشيعة فهي تحمل المسؤولية كل من تسبب في الإنحراف وكل من عصى أمر الله وكل على قدر وزره ووزر من تبع بدعته إلى يوم القيامة (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) قال تعالى: (وقفوهم إنهم مسؤولون)(3).
                          ______________________________
                          (1) سورة طه آية 123 - 126.
                          (2) سورة الأنعام آية 112.
                          (3) سورة الصافات آية 24
                          الخمس
                          وهو أيضاً من المواضيع الذي يختلف فيه الشيعة والسنة وقبل الحكم لهم أو عليهم. لابد لنا من بحث موجز في موضوع الخمس: ولنبدأ بالقرآن الكريم. قال تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل...)(1).
                          وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                          «أمركم بأربع: الإيمان بالله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تؤدوا لله خمس ما غنمتم»(2).
                          فالشيعة - إمتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - يخرجون خمس ما حصلوا عليه من أموال طيلة سنتهم، ويفسرون معنى الغنيمة بكل ما يكسبه الإنسان من أرباح بصفة عامة.
                          أما أهل السنة والجماعة فقد أجمعوا على تخصيص الخمس بغنائم الحرب
                          ______________________________
                          (1) سورة الأنفال آية 41.
                          (1) صحيح البخاري ج 4 ص 44.
                          {150}
                          فقط، وفسّروا قوله سبحانه وتعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء) يعني ما حصّلتم خلال الحرب.
                          هذه خلاصة أقوال الفريقين في الخمس وقد كتب علماء الفريقين عدة مقالات في المسالة.
                          ولست أدري كيف أقنع نفسي أو غيري بآراء أهل السنة التي اعتمدت على ما أظن أقوال الحكام من بني أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان الذي إستأثر بأموال المسلمين وخص نفسه وحاشيته بكل صفراء وبيضاء.
                          فلا غرابة في تأويلهم لآية الخمس على أنها خاصة بدار الحرب لأن سياق الآية الكريمة جاء ضمن آيات الحرب والقتال، وكم لهم من تأويل للآيات على سياق ما قبلها أو ما بعدها.
                          فهم يؤولون مثلاً أية إذهاب الرجس والتطهير على أنها خاصة بنساء النبي لأن ما قبلها وما بعدها يتكلم عن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
                          كما يؤولون قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) على أنها خاصة في أهل الكتاب.
                          وقصة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه مع معاوية وعثمان بن عفان ونفيه إلى الربذة من أجل ذلك مشهورة. إذ أنه عاب عليهم كنزهم الذهب والفضة وكان يحتج بهذه الآية عليهم - ولكن عثمان إستشار كعب الأحبار عنها فقال له بأنها خاصة بأهل الكتاب، فشتمه أبو ذر الغفاري وقال له: ثكلتك أمك يا ابن اليهودية أو تعلمنا ديننا؟ فغضب لذلك عثمان، ثم نفاه إلى الربذة بعدما تعاظم إنزعاجه منه فمات هناك وحيداً طريداً لم تجد إبنته حتى من يغسله ويكفنه.
                          وأهل السنة والجماعة لهم في تأويل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فن معروف وفقه مشهور وذلك إقتداء بما تأوله الخلفاء الأولون والصحابة المشهورة
                          {151}
                          في خصوص النصوص الصريحة من الكتاب والسنة(1).
                          ولو أردنا إستقصاء ذلك لاستوجب كتاباً خاصاً، ويكفي الباحث أن يرجع إلى كتاب «النص والإجتهاد» ليعرف كيف يتلاعب المتأولون بأحكام الله سبحانه.
                          وأنا كباحث ليس لي أن أتأول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حسب ما أهوى أو حسب ما يمليه علي المذهب الذي أميل إليه.
                          ولكن ما حيلتي إذا كان أهل السنة والجماعة هم الذين أخرجوا في صحاحهم فرض الخمس في غير دار الحرب، ونقضوا بذلك تأويلهم ومذهبهم.
                          فقد جاء في صحيح البخاري في باب «في الركاز الخمس» وقال مالك وابن ادريس الركاز دفن الجاهلية في قليلة وكثيره الخمس، وليس المعدن بركاز وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «في المعدن جبار وفي الركاز الخمس»(2) وجاء في باب ما يستخرج من البحر: وقال ابن عباس رضي الله عنهما ليس العنبر بركاز هو شيء دسره البحر وقال الحسن في العنبر واللؤلؤ الخمس فإنما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الركاز الخمس ليس في الذي يصاب في الماء(3).
                          والباحث يفهم من خلال هذه الأحاديث بأن مفهوم الغنيمة التي أوجب الله فيها الخمس لا تختص بدار الحرب لأن الركاز الذي هو كنز يستخرج من باطن الأرض وهو ملك لمن إستخرجه، ولكن يجب عليه دفع الخمس منه لأنه غنيمة. كما أن الذي يستخرج العنبر واللؤلؤ من البحر يجب عليه إخراج الخمس لأنه
                          ______________________________
                          (1) جمع الإمام شرف الدين في كتابه النص والإجتهاد أكثر من مائة مورد تأولوا فيها النصوص الصريحة فعلى الباحثين قراءة هذا الكتاب لأنه ما جمع إلا ما أخرجوه علماء السنة معترفين بصحته.
                          (2) صحيح البخاري ج 2 ص 137 (باب في الركاز الخمس).
                          (3) صحيح البخاري ج 2 ص 136 (باب ما يستخرج من البحر).
                          {152}
                          غنيمة.
                          وبما أخرجه البخاري في صحيحه يتبين لنا أن الخمس لا يختص بغنائم الحرب.
                          فرأي الشيعة يبقى دائماً مصداق الحقيقة التي لا تناقض فيها ولا إختلاف وذلك لأنهم يرجعون في كل أحكامهم وعقائدهم إلى أئمة الهدى الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، والذين هم عدل الكتاب لا يضل من تمسك بهم ويأمن من يلجأ إليهم.
                          على أنه لا يمكن لنا أن نعتمد على الحروب لإقامة دولة الإسلام، وذلك يخالف سماحة الإسلام ودعوته للسلم فالإسلام ليس دولة إستعمارية تقوم على إستغلال الشعوب ونهب خيراتها وهو ما يحاول الغربيون إلصاقه بنا عندما يتكلمون عن نبي الإسلام بكل إزدراء ويقولون بأنه توسع بالقوة والقهر وبالسيف لاستغلال الشعوب.
                          وبما أن المال هو عصب الحياة، وخصوصاً إذا كانت نظرية الإقتصاد الإسلامي تقتضي إيجاد ما يسمى اليوم بالضمان الإجتماعي لتضمن للمعوزين والعاجزين معاشهم بكرامة وشهامة.
                          فلا يمكن لدولة الإسلام أن تعتمد على ما يخرجه أهل السنة والجماعة من الزكاة وهي تمثل في أحسن الأحوال اثنين ونصف بالمائة وهي نسبة ضعيفة لا تقوم بحاجة الدولة من إعداد القوة ومن بناء المدارس والمستشفيات وتعبيد الطرقات فضلاً عن أن تضمن لكل فرد دخلاً يكفي معاشه ويضمن حياته، كما لا يمكن لدولة الإسلام أن تعتمد على الحروب الدامية وقتال الناس لتضمن بقاءها وتطور مؤسساتها على حساب المقتولين الذين لم يرغبوا في الإسلام.
                          فأئمة أهل البيت سلام الله عليهم كانوا أعلم بمقاصد القرآن، كيف لا وهم ترجمانه، وكانوا يرسمون للدولة الإسلامية معالم الإقتصاد، ومعالم الإجتماع، لو كان لهم رأي يطاع.
                          {153}
                          ولكن للأسف الشديد كانت السلطة والقيادة في يد غيرهم الذين إغتصبوا الخلافة بالقوة والقهر وبقتل الصلحاء من الصحابة واغتيالهم كما فعل ذلك معاوية، وبدلوا أحكام الله بما إقتضته مصالحهم السياسية والدنيوية فضلوا وأضلوا وتركوا هذه الأمة تحت الحضيض لم تقم لها قائمة حتى يومنا هذا.
                          فبقيت تعاليم أئمة أهل البيت مجرد أفكار ونظريات يؤمن بها الشيعة ولم يجدوا لتطبيقها من سبيل إذ أنهم كانوا مطاردين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد تتبعهم الأمويون والعباسيون عبر العصور.
                          وما أن أنقرضت الدولتان وأوجد الشيعة مجتمعاً عملوا بأداء الخمس الذي كانوا يؤدونه للأئمة سلام الله عليهم خفية، وهم الآن يؤدونه إلى المرجع الذي يقلدونه، نيابة عن الإمام المهدي عليه السلام، وهؤلاء يقومون بصرفه في أبوابه المشروعة، من تأسيس حوزات علمية، ومبرّات خيرية ومكتبات عمومية، ودور أيتام وغير ذلك من أعمال جليلة كدفع رواتب شهرية لطلبة العلوم الدينية والعلمية وغيرها.
                          ويكفينا أن نستنتج من هذا أن علماء الشيعة مستقلون عن السلطة الحاكمة، لأن الخمس يفي بحاجاتهم ويقومون بإعطاء كل ذي حق حقه.
                          أما علماء أهل السنة والجماعة فهم عالة على الحكام وموظفون لدى السلطة الحاكمة في البلاد، وللحاكم أن يقرّب من شاء منهم أو يبعّد حسب تعاملهم معه وإفتائهم لمصالحه.فأصبح العالم بذلك أقرب إلى الحاكم منه إلى مجرد عالم! وهو بعض الآثار الوخيمة التي ترتبت على ترك العمل بفريضة الخمس بمعناها الذي فهمه أهل البيت عليهم السلام.
                          التقليد
                          يقول الشيعة: أما فروع الدين وهي أحكام الشريعة المتعلقة بالأعمال العبادية: كالصلاة والصيام، والزكاة والحج فالواجب في أحكامها أحد الأمور الثلاثة:
                          أ-أن يجتهد وينظر الإنسان في أدلة الأحكام إذا كان أهلاً لذلك.
                          ب-أو أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الإحتياط.
                          ت-أو أن يقلد المجتهد الجامع للشرائط، بأن يكون من يقلده حياً عاقلاً، عادلاً، عالماً، صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه.
                          والإجتهاد في الأحكام الفرعية واجب كفائي على جميع المسلمين، فإذا نهض به من اجتمعت فيه الشروط سقط عن باقي المسلمين، فيجوز لهم تقليده والرجوع إليه في فروع دينهم، لأن رتبة الإجتهاد ليست من الأمور الميسورة ولا هي في متناول الجميع - بل تحتاج إلى كثير من الوقت والعلوم والمعارف والإطلاع، وهذا لا يتهيأ إلا لمن جد وكد وأمضى عمره في البحث والتعلم، ولا ينال الإجتهاد إلا ذو حظ عظيم.
                          قال صلى الله عليه وآله وسلم:

                          تعليق


                          • #28
                            {155}
                            «من أراد الله به خيراً فقهه في الدين»
                            وقول الشيعة هذا لا يختلف عن قول أهل السنة والجماعة، إلا في شرط حياة المجتهد.
                            غير أن الخلاف الواضح بينهم هو في العمل بالتقليد إذ أن الشيعة يعتقدون بأن المجتهد الجامع للشروط المذكورة، هو نائب للإمام عليه السلام في حال غيبته فهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الإمام.
                            فليس المجتهد الجامع للشروط عند الشيعة مرجعاً يرجع إليه في الفتيا فحسب، بل أن له الولاية العامة على مقلديه فيرجعون إليه في الأحكام والفصل بينهم في ما اختلفوا فيه من القضاء، ويعطونه الزكاة وخمس أموالهم يتصرف بها كما تفرضه عليه الشريعة نيابة عن إمام الزمان (عليه السلام).
                            أما عند أهل السنة والجماعة فليس للمجتهد هذه المرتبة، ولكنهم يرجعون في المسائل الفقهية لأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب، وهم أبو حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والمعاصرون من أهل السنة قد لا يلتزمون بتقليد واحد من هؤلاء على سبيل التعيين، فقد يأخذون بعض المسائل من أحدهم والبعض الآخر من غيره حسبما تقتضيه حاجتهم كما فعل ذلك السيد سابق الذي ألف فقهاً مأخوذاً من الأربعة.
                            لأن أهل السنة والجماعة يعتقدون بأن الرحمة في إختلافهم فللمالكي مثلاً أن يأخذ برأي أبي حنيفة إذا وجد حلا لمشكلته قد لا يجده عند مالك.
                            وأضرب لذلك مثلا حتى يتبين للقارئ فيفهم المقصود كان عندنا في تونس (في وقت المحاكم القضائية) فتاة بالغة أحبت رجلا وأرادت الزواج منه، ولكن أباها رفض أن يزوجها من هذا الشاب لسبب «الله أعلم به» فهربت الفتاة من بيت أبيها وتزوجت ذلك الشاب بدون إذن أبيها، ورفع الأب شكوى ضد الزواج
                            {156}
                            ولما حضرت الفتاة وزوجها لدى القاضي وسألها عن السبب في الهروب من البيت والزواج بدون إذن وليها قالت: سيدي، أنا عمري خمسة وعشرون عاماً وأحببت الزواج من هذا الرجل على سنة الله ورسوله، ولأن أبي يريد أن يزوجني بمن أكره، فتزوجت على رأي أبي حنيفة الذي يعطيني حق الزواج بمن أحب لأني بالغة.
                            يقول القاضي رحمة الله عليه (روى لي هو بنفسه هذه القصة) «فجئنا في المسألة فوجدناها على حق، وأعتقد بأن أحد العلماء المطّلعين هو الذي لقّنها ماذا تقول» يقول هذا القاضي فرددت دعوة الأب وأمضيت الزواج فخرج الأب غاضباً يضرب يديه على بعضها ويقول: «حنّفت الكلبة» أي أن أبنته تركت مالك واتبعت أباحنيفة، وكلمة الكلبة فيها إهانة لإبنته التي قال فيما بعد بأنه يتبرأ منها. والمسألة هي إختلاف في إجتهاد المذاهب فبينما يرى مالك أن الفتاة البكر لا يصح زواجها إلا بأذن ولي الأمر وحتى إذا كانت ثيبا فهو شريكها في الزواج فلا تنفرد به وحدها ولابد من موافقته، يرى أبو حنيفة: أن البالغة بكراً كانت أم ثيباً، لها أن تنفرد باختيار الزوج وأن تنشئ العقد بنفسها.
                            فهذه المسألة الفقهية فرّقت بين الاب وابنته حتى تبرأ منها وكثيراً ما كان الآباء يتبرّؤون من بناتهم لعدة أسباب منها الهروب من البيت مع رجل تحب الزواج منه ولهذا التبرئ عواقب وخيمة إذا أن الأب يلجأ في أغلب الأحيان إلى حرمان إبنته من الميراث وتبقى الفتاة عدوة للإخوة الذين يتبرّؤون بدورهم من أختهم التي جلبت لهم العار.
                            فليست القضية إذن كما يقول أهل السنة بأن في أختلافهم رحمة - أو على الأقل ليست الرحمة في كل القضايا الخلافية.
                            ويبقى بعد هذا خلاف آخر بينهما ألا وهو تقليد الميت، فأهل السنة يقلدون أئمة ماتوا منذ قرون، وأغلق عندهم باب الإجتهاد من ذلك العهد، وكل من جاء بعدهم من العلماء إقتصروا على الشروح والمدونات شعراً ونثراً لفقه المذاهب الأربعة، وقد تعالت أصوات المنادين من بعض المعاصرين بفتح الباب
                            {157}
                            والرجوع للإجتهاد لما تقتضيه مصلحة الزمان ولما إستجد من أمور كانت مجهولة في زمن الأئمة الأربعة.
                            أما الشيعة فلا يجوّزون تقليد الميت ويرجعون في كل أحكامهم إلى المجتهد الحي الجامع للشروط التي ذكرناها سابقاً وذلك بعد غيبة الإمام المعصوم والذي كلفهم بالرجوع إلى العلماء العدول في زمن غيبته وحتى ظهوره.
                            فالسني المالكي مثلاً يقول: هذا حلال وهذا حرام على قول الإمام مالك: وهو ميت منذ أكثر من اثني عشر قرناً، وكذلك يقول السني الحنفي والشافعي والحنبلي لأن هؤلاء الأئمة عاشوا في عصر واحد وتتلمذ بعضهم على بعض.
                            كما لا يعتقد السني في عصمة هؤلاء الأئمة الذين لم يدّعوها لأنفسهم بل جوّزوا عليهم الخطأ والصواب ويقولون بأنهم مأجورون في كل إجتهاداتهم فلهم أجران إن أصابوا ولهم أجر واحد إذا أخطأوا.
                            والشيعي الإمامي مثلاً عنده مرحلتان في التقليد:
                            المرحلة الأولى: وهي زمن الأئمة الإثني عشر وقد إمتدت هذه المرحلة ثلاثة قرون ونصف تقريباً، وفيها كان الشيعي يقلد الإمام المعصوم الذي لا يقول برأيه واجتهاده، وإنما بعلم وروايات توارثها عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول في المسألة: روى أبي عن جدي عن جبريل عن الله عز وجل
                            المرحلة الثانية: وهي زمن الغيبة التي إمتدت حتى اليوم فالشيعي يقول هذا حلال وهذا حرام على رأي السيد الخوئي أو السيد الخميني مثلاً، وكلاهما حي ورأيهما لا يتعدى الإجتهاد في إستنباط الأحكام من نصوص القرآن والسنة على روايات أئمة أهل البيت أولاً ثم الصحابة العدول ثانياً وهم عندما يبحثون في روايات أئمة أهل البيت بالدرجة الأولى ذلك لأن هؤلاء الأئمة يرفضون إستعمال الرأي في الشريعة ويقولون: ما من شيء إلا ولله فيه حكم، فإذا ما فقدنا حكما في مسألة ما فليس ذلك يعني أن الله سبحانه أهمله، ولكن قصورنا وجهلنا لم يصلا بنا إلى معرفة الحكم - فالجهل بالشيء وعدم معرفته ليس دليلاً على عدمه -
                            {158}
                            والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى (وما فرطنا في الكتاب من شيء)(1).
                            ______________________________
                            (1) سورة الأنعام آية 38.
                            العقائد التي يشنع بها أهل السنة على الشيعة
                            ومن العقائد التي يشنع بها أهل السنة على الشيعة ما هو محض التعبالمقيت الذي أولده الأمويون والعباسيون في صدر الإسلام، بما كانوا يحقدون على الإمام علي ويبغضونه حتى لعنوه على المنابر أربعين عاماً.
                            فلا غرابة ان يشتموا كل من تشيع له ويرموه بكل عار وشنار حتى وصل الأمر بهم أن يقال لأحدهم يهودي أحب إليه من أن يقال له شيعي. ودأب أتباعهم على ذلك في كل عصر ومصر وأصبح الشيعي مسبّة عند أهل السنة والجماعة لأنه يخالفهم في معتقداتهم وخارج عن جماعتهم، فهم يقذفونه بما شاؤوا ويرمونه بكل التهم وينبزونه بشتى الألقاب، ويخالفونه في كل أقواله وأفعاله.
                            ألا ترى بأن بعض علماء أهل السنة المشهورين يقولون: «بان لبس الخاتم في اليد اليمنى هو سنة نبوية، ولكن يجب تركها لأن الشيعة إتخذوا ذلك شعاراً لهم».
                            ______________________________
                            (1) مصنف «الهداية»
                            كما أخرج الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار بأن أول من تختّم باليسار خلاف السنة النبوية هو معاوية بن أبي سفيان.
                            {160}
                            وهذا حجة الإسلام أبو حامد الغزالي يقول: إن تسطيح القبور هو المشروع في الدين لكن لما جعلته الرافضة شعاراً لهم عدلنا عنه إلى التسنيم.
                            وهذا ابن تيمية الموصوف بالمصلح المجدد عند بعضهم يقول: ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعارا لهم - أي للشيعة - فإنه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم فلا يتميّز السني من الرافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحب(1).
                            وقال الحافظ العراقي عندما تساءل عن كيفية إسدال العمامة: لم أر ما يدل على تعيين الأيمن إلا في حديث ضعيف عند الطبراني، وبتقدير نبوته فلعله كان يرخيها من الجانب الأيمن ثم يردها إلى الجانب الإيسر كما يفعله بعضهم، إلا أنه صار شعاراً للإمامية فينبغي تجنبه لترك التشبه بهم(2).
                            سبحان الله! ولا حول ولا قوة إلا بالله! أنظر أخي القارئ إلى هذا التعصب الأعمى كيف يجيز لهؤلاء «العلماء» أن يخالفوا سنة النبي صلى الله عليهم وآله وسلم لأن الشيعة تمسكت بتلك السنين حتى صارت شعاراً لهم، ثم هم لا يتحرجون من الإعتراف بذلك صراحة، وأنا أقول الحمد لله الذي أظهر الحق لذي عينين ولكل مخلص يبحث عن الحقيقة، الحمد لله الذي أظهر لنا بأن الشيعة هم الذين يتبعون سنة رسول الله وذلك بشهادتكم أنتم! كما شهدتم على أنفسكم بأنكم تركتم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمداً لتخالفوا بذلك أئمة أهل البيت وشيعتهم المخلصين واتبعتم سنة معاوية بن أبي سفيان كما شهد بذلك الإمام الزمخشري عندما أثبت أن أول من تختم باليسار خلاف السنة النبوية هو معاوية بن أبي سفيان(3).
                            ______________________________
                            (1) منهاج السنة لابن تيمية ج 2 ص 143 (التشبه بالروافض)
                            (2) شرح المواهب للزرقاني ج 5 ص 13.
                            (3) الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار.
                            {161}
                            واتبعتم سنة عمر في بدعته للتراويح خلافاً للسنة النبوية التي أمرت المسلمين بصلاة النافلة في بيوتهم فرادى لا جماعة كما أثبت ذلك البخاري في صحيحه(1) وكما اعترف عمر نفسه بأنها بدعة(2) ابتدعها مع أنه لم يصلها لأنه لا يؤمن بها، فقد جاء في البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلّى بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر نعم البدعة هذه...(3)
                            ومن المستغرب عدها نعمة بعد نهي الرسول عنها؟ وذلك عندما رفعوا أصواتهم وحصبوا بابه ليصلي بهم نافلة رمضان، فخرج إليهم مغضباً فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم:
                            «ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة»(4).
                            كما إتبعتم سنة عثمان بن عفان وهي إتمام صلاة السفر خلافاً لسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي صلاها قصراً(5).
                            ولو أردت أن أحصي ما خالفتم به سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاستوجب ذلك كتاباً خاصاً ولكن تكفي شهادتكم فيما أقررتم به على أنفسكم - وتكفي شهادتكم أيضاً بإقراركم بأن الشيعة الروافض هو الذين إتخذوا سنة النبي شعاراً لهم.
                            ______________________________
                            (1) صحيح البخاري ج 7 ص 99 (باب ما يجوز من الغصب والشدة لأمر الله عز وجل).
                            (2،3) صحيح البخاري ج 2 ص 252 (كتاب صلاة التراويح).
                            (4) صحيح البخاري: ج 7 ص 99 (باب ما يجوز من الغصب والشدة لأمر الله عز وجل)
                            (5) صحيح البخاري ج 2 ص 35 وكذلك تأولت عائشة فصلت أربعاً ص 36.
                            {162}
                            أفبعد هذا يبقى دليل على قول الجهلة الذين يدعون بأن الشيعة إتبعوا علي بن أبي طالب، أما أهل السنة فإنهم إتبعو رسول الله؟ أيريد هؤلاء أن يثبتوا بأن علياً خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابتدع ديناً جديداً؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم، فعلي هو محض السنة النبوية وهو مفسرها والقائم عليها وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                            «علي مني بمنزلتي من ربي»(1).
                            أي كما أن محمد هو الوحيد الذي يبلغ عن ربه، فعلي هو الوحيد الذي يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن ذنب علي هو أنه لم يعترف بخلافة من قبله وذنب شيعته أنهم إتبعوه في ذلك فرفضوا أن ينضووا تحت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ولذلك سموهم «الروافض».
                            فإذا أنكر هؤلاء السنة على معتقدات الشيعة وأقوالهم فهو لسببين، أولهما العداء الذي أجج ناره حكام بني أمية بالأكاذيب والدعايات واختلاف الروايات المزوّرة.
                            وثانيهما: لأن معتقدات الشيعة تتنافى وما ذهبوا إليه من تأييد الخلفاء وتصحيح أخطائهم واجتهاداتهم مقابل النصوص خصوصاً حكام بني أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.
                            ومن هنا يجد الباحث المتتبع أن الخلاف بين الشيعة وأهل السنة نشأ يوم السقيفة، وتفاقم، وكل خلاف جاء بعده فهو عيال عليه، وأكبر دليل على ذلك أن العقائد التي يشنع أهل السنة على إخوانهم من الشيعة، ترتبط إرتباطاً وثيقاً بموضوع الخلافة وتتفرع منه، كعدد الأئمة والنص على الإمام، والعصمة، وعلم الأئمة، والبداء، والتقية والمهدي المنتظر وغير ذلك.
                            ______________________________
                            (1) الصواعق المحرقة لابن حجر ص 106 - ذخائر العقبى ص 64.
                            الرياض النضرة ج 2 ص 215- إحقاق الحق ج 7 ص 217.
                            {163}
                            ونحن إذا بحثنا في أقوال الطرفين مجردين عن العاطفة فسوف لا نجد بعداً شاسعاً بين معتقداتهم، ولا نجد مبرراً لهذا التهويل وهذا التشنيع، لأنك عندما تقرأ كتب السنة الذي يشتمون الشيعة، يخيل إليك بأن الشيعة ناقضوا الإسلام وخالفوه في مبادئه وتشريعه، وابتدعو دينا آخر.
                            بينما يجد الباحث المنصف في كل عقائد الشيعة أصلاً ثابتاً في القرآن والسنة وحتى في كتب من يخالفهم في تلك العقائد ويشنع بما عليهم.
                            ثم ليس هناك في تلك العقائد ما يخالف العقل أو النقل أو الأخلاق - وليتبيّن لك أيها القارئ اللبيب صحة ما أدعيه سأستعرض معك تلك العقائد.
                            العصمة
                            يقول الشيعة: ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً.
                            كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسان، لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامين عليه حالهم في ذلك حال النبي والدليل الذي إقتضانا ان نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق(1).
                            نعم هذا كما نرى هو رأي الشيعة في موضوع العصمة فهل فيه ما ينافي القرآن والسنة؟ أو ما يقول العقل باستحالته؟ أو ما يشين الإسلام ويسيء إليه، أو ما ينقص قدر النبي أو الإمام؟
                            حاشا وكلا، لم نجد في هذا القول إلا التأييد لكتاب الله وسنة نبيه، وما يتماشى مع العقل السليم ولا يناقضه، وما يرفع من قيمة النبي والإمام ويشرفه.
                            ولنبدأ بحثنا في استقراء القرآن الكريم.
                            ______________________________
                            (1) عقائد الإمامية ص 67 العقيدة رقم 24.
                            {166}
                            قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا...)(1).
                            فإذا كان إذهاب الرجس الذي يشمل كل الخبائث، والتطهير من كل الذنوب، لا يفيد العصمة، فما هو المعنى إذاً؟؟
                            يقول الله تعالى:
                            (إن الذين إتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)(2).
                            فإذا كان المؤمن التقي يعصمه الله من مكايد الشيطان إذا حاول إستفزازه وإضلاله، فيتذكر ويبصر الحق فيتبعه، فما بالك بمن إصطفاهم الله سبحانه وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.؟
                            ويقول تعالى:
                            (ثم أورثنا الكتاب الذين أصطفينا من عبادنا)(3) والذي يصطفيه الله سبحانه يكون بلا شك معصوما من الخطأ وهذه الآية بالذات هي التي إحتج بها الإمام الرضا من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) على العلماء الذين جمعهم الخليفة العباسي المأمون ابن هارون الرشيد وأثبت لهم بأنهم (أي أئمة أهل البيت) هم المقصودون بهذه الأية وبأن الله إصطفاهم وأورثهم علم الكتاب واعترفوا له بذلك(4).
                            هذه بعض الأمثلة مما جاء في القرآن الكريم وهناك آيات أخرى تفيد العصمة للأئمة كقوله (أئمة يهدون بأمرنا) وغيرها ولكن نكتفي بهذا القدر روماً للإختصار دائماً.
                            ______________________________
                            (1) سورة الأحزاب آية 33.
                            (2) سورة الأعراف آية 201.
                            (3) سورة فاطر آية 32.
                            (4) العقد الفريد لابن عبد ربه ج 3 ص 42.
                            {167}
                            وبعد القرآن الكريم فإليك ما ورد في السنة النبوية
                            قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                            «يا أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي(1).
                            وهو كما ترى صريح بأن الأئمة من أهل البيت معصومون أولاً لأن كتاب الله معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو كلام الله، ومن شك فيه كفر.
                            ثانياً: لأن المتمسك بهما «الكتاب والعترة» يأمن من الضلالة فدل هذا الحديث على أن الكتاب والعترة لا يجوز فيهما الخطأ.
                            وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                            «إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»(2).
                            وهو كما ترى صريح في أن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام معصومون، عن الخطأ ولذلك يأمن وينجو كل من ركب سفينتهم وكل من تأخر عن ركوب سفينتهم غرق في الضلالة.
                            وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                            «من أحب أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي، وهي
                            ______________________________
                            (1) صحيح الترمذي ج 5 ص 328.
                            الحاكم في المستدرك ج 3 ص 148.
                            الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج 5 ص 189.
                            (2) مستدرك الحاكم ج 2 ص 343.
                            كنز العمال ج 5 ص 95.
                            الصواعق المحرقة لابن حجر ص 184.
                            {168}
                            جنة الخلد، فليتول علياً وذريته من بعده فإنهم لن يخرجوكم باب هدى ولن يدخلوكم باب ضلالة»(1).
                            وهو كما ترى صريح في أن الأئمة من أهل البيت وهم علي وذريته معصومون عن الخطأ لأنهم لن يدخلوا الناس الذين يتبعوهم في باب ضلالة، ومن البديهي أن الذي يجوز عليه الخطأ لا يمكن له هداية الناس.
                            وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                            «أنا المنذر وعلي الهادي، وبك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي»(2).
                            وهذا الحديث هو الآخر صريح في عصمة الإمام كما لا يخفى على أولي الألباب.
                            والإمام علي نفسه أثبت العصمة لنفسه وللأئمة من ولده عندما قال: «فأين تذهبون وأنى تؤفكون؟ والأعلام قائمة والآيات واضحة، والمنار منصوبة فأين يتاه بكم، بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش، أيها الناس خذوها من خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم إنه يموت
                            ______________________________
                            (1) كنز العمال ج 6 ص 155. ومجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 108.
                            الإصابة لابن حجر العسقلاني - الطبراني في الجامع الكبير. تاريخ ابن عساكر ج 2 ص 99.
                            مستدرك الحاكم ج 3 ص 128 حلية الأولياء ج 4 ص 349 - إحقاق الحق ج 5 ص 108.
                            (2) تفسير الطبري ج 13 ص 108 تفسير الرازي ج 5 ص 271 تفسير ابن كثير ج 2 ص 502.
                            تفسير الشوكاني ج 3 ص 70 تفسير السيوطي الدر المنثور ج 4 ص 45 نور الأبصار ص 71.
                            مستدرك الحاكم ج 3 ص 129 تفسير ابن الجوزي ج 4 ص 307. شواهد التنزيل ج 1 ص 293 الفصول المهمة - ينابيع المودة.

                            تعليق


                            • #29
                              {169}
                              من مات منا وليس بميت، ويبلى من بلي منا وليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون فإن أكثر الحق فيما تنكرون، واعذروا من لا حجة لكم عليه وأنا هو، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر، وركزت فيكم راية الإيمان...»(1).
                              وبعد هذا البيان من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأقوال الإمام علي الدالة كلها على عصمتهم سلام الله عليهم.
                              هل يرفض العقل عصمة من يصطفيه الله سبحانه للهداية؟ والجواب: كلا لا يرفض ذلك، بالعكس، العقل يقول: بوجوب تلك العصمة، لأن توكل إليه مهمة القيادة وهداية البشرية لا يمكن أن يكون إنساناً عادياً يعتريه الخطأ والنسيان وتثقل ظهره الذنوب والأوزار فيكون عرضه لانتقاص الناس ونقدهم.
                              بل العقل يفرض أن يكون أعلم الناس في زمانه وأعدلهم وأشجعهم وأتقاهم، وهي صفات ترفع من شأن القائد وتعظمه في أعين الناس وتجلب له إحترام الجميع وتقديرهم وبالتالي طاعتهم له بدون تحفظ ولا تملق.
                              وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا كل هذا التشنيع والتهويل على من يعتقد بذلك؟
                              ويخيل إليك وأنت تسمع وتقرأ إنتقاد أهل السنة على موضوع العصمة بأن الشيعة، هم الذين يقلدون وسام العصمة لمن أحبوا، أو أن القائل بالعصمة يقول منكراً وكفراً، فلا هذا ولا ذاك، إنما العصمة عند الشيعة هي أن يكون المعصوم محاطاً بعناية إلهية ورعاية ربانية فلا يتمكن الشيطان من إغوائه، ولا تتمكن النفس الأمارة بالسوء من التغلب على عقله فتجره للمعصية وهذا الأمر لم
                              ______________________________
                              (1) نهج البلاغة للإمام علي ج 1 ص 155.
                              وقد علق الشيخ محمد عبده في شرحه لهذه الخطبة بقوله: إنه يموت الميت من أئمة أهل البيت وهو في الحقيقة غير ميت. لبقاء روحه ساطعة النور في عالم الظهور.
                              {170}
                              يحرم الله منه عباده المتقين كما تقدم في أية (الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
                              وهذه العصمة الموقوتة لعباد الله في حالة معينة، قد تزول لفقد سببها ألا وهي التقوى، فالعبد إذا كان بعيداً عن تقوى الله لا يعصمه الله، أما الإمام الذي إصطفاه الله سبحانه فلا يحيد ولا يتزحزح عن التقوى وخشية الله سبحانه وتعالى.
                              وقد جاء في القرآن الحكيم حكاية عن سيدنا يوسف عليه السلام (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)(1).
                              ولأن سيدنا يوسف لم يهم بالزنا كما فسره بعض المفسرين فحاشا أنبياء الله من هذا الفعل القبيح، ولكنه هم بدفعها وضربها إذا إقتضت الحال ولكن الله سبحانه عصمه من إرتكاب مثل هذا الخطأ لأنه لو فعله لكان سبباً في إتهامه بالفاحشة وتكون حجتها قوية ضده فيلحقه منهم عند ذلك السوء.
                              ______________________________
                              (1) سورة يوسف آية 24.
                              عدد الأئمة (الاثني عشر)
                              يقول الشيعة بأن عدد الأئمة المعصومون بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو إثنا عشر إماماً لا يزيدون ولا ينقصون، وقد ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسمائهم وعددهم(1) وهم:
                              1- الإمام علي بن أبي طالب.
                              2- الإمام الحسن بن علي.
                              3- الإمام الحسين بن علي.
                              4- الإمام علي بن الحسين (زين العابدين).
                              5- الإمام محمد بن علي (الباقر).
                              6- الإمام جعفر بن محمد (الصادق).
                              7- الإمام موسى بن جعفر (الكاظم).
                              8- الإمام علي بن موسى (الرضا)
                              9- الإمام محمد بن علي (الجواد)
                              10- الإمام علي بن محمد (الهادي)
                              ______________________________
                              (1) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 99 الجزء الثالث.
                              {172}
                              11- الإمام الحسن بن علي (العسكري).
                              12- الإمام محمد بن الحسن (المهدي المنتظر).
                              فهؤلاء هم الأئمة الإثنا عشر الذين تقول الشيعة بعصمتهم، حتى لا ينطلي المكر على بعض المسلمين.
                              فالشيعة لا يعترفون قديماً وحديثاً بالعصمة إلا لهؤلاء الأئمة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يولدوا بعد، وقد أخرج بعض علماء السنة أسماءهم كما مر علينا وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الأئمة بعددهم وهم إثنا عشر كلهم من قريش(1)
                              وهذه الأحاديث لا تصح ولا تستقيم إلا إذا فسرناهم على إئمة أهل البيت الذين تقول بهم الشيعة الإمامية وأهل السنة والجماعة هم المطالبون بحل هذا اللغز إذ أن عدد الأئمة الإثني عشر الذي أخرجوه في صحاحهم بقي حتى الآن لغزاً لا يجدون له جواباً.
                              ______________________________
                              (1) صحيح البخاري ج 8 ص 127.
                              صحيح مسلم ج 6 ص 3.
                              علم الأئمة
                              ومما يشنع به أهل السنة والجماعة على الشيعة قولهم: بأن الأئمة من أهل البيت سلام الله عليهم قد خصهم الله سبحانه بعلم لم يشاركهم فيه أحد من الناس، ومن أن الإمام يكون أعلم أهل زمانه فلا يمكن أن يسأله أحد فيعجز عن الجواب!
                              فهل لهذا الإدعاء من دليل؟
                              ولنبدأ كما هي عادتنا في كل بحث بالقرآن الكريم.
                              يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله:
                              (ثم أورثنا الكتاب الذين إصطفينا من عبادنا)(1) فالآية تدل دلالة واضحة بأن الله سبحانه إصطفى عباداً من بين الناس وأورثهم علم الكتاب، فهل لنا أن نعرف هؤلاء العباد المصطفين؟
                              ذكرنا في ما تقدم بأن الإمام الثامن من أئمة أهل البيت علي بن موسى الرضا إستدل بنزول هذه الآية فيهم، وذلك لما جمع المأمون أربعين قاضياً من
                              ______________________________
                              (1) سوره فاطر آية 32.
                              {174}
                              مشاهير القضاة، وأعد له كل واحد منهم أربعين مسألة، فأجاب عليها وأفحمهم وأقرّوا له بالأعلمية(1)
                              وإذا كان هذا الإمام الثامن ولما يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً عندما وقعت هذه المحاورة بينه وبين الفقهاء الذين أقروا له بالأعلمية فكيف يستغرب بعدها قول الشيعة بأعلميتهم مادام أن علماء السنة وأئمتهم يعترفون لهم بذلك.
                              أما إذا أردنا تفسير القرآن بالقرآن فسوف نجد العديد من الآيات ترمي إلى معنى واحد وتبيّن بأنه سبحانه ولحكمة بالغة إختص الأئمة من أهل البيت النبوي بعلم من لدنه موهوب حتى يكونوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى.
                              قال تعالى: (يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكّر إلا أولوا الألباب)(2).
                              وقال أيضاً: (فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون)(3).
                              أقسم سبحانه في هذه الآية بقسم عظيم بأن القرآن الكريم له أسرار ومعان باطنية مكنونة، لا يدرك معانيها وحقائقها إلا المطهرون، وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
                              دلت الآية أيضاً على أن للقرآن باطناً إختص الله سبحانه به أئمة أهل البيت ولا يمكن لغيرهم معرفتها إلا عن طريقهم.
                              ولذلك أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه الحقيقة فقال:
                              «لا تتقدموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهم
                              ______________________________
                              (1) العقد الفريد لابن عبد ربه ج 3 ص 42.
                              (2) سورة البقرة آية 269.
                              (3) سورة الواقعة آية 75 - 79.
                              {175}
                              أعلم منكم»(1).
                              وكما قال الإمام علي نفسه:
                              «أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطي الهدى ويستجلي العمى.. إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم»(2).
                              وقال تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(3) وهذه الآية أيضاً نزلت في أهل البيت (عليهم السلام)(4).
                              وتفيد بأن الأمة لابد لها بعد فقد نبيها أن ترجع إلى الأئمة من أهل البيت لمعرفة الحقائق، وقد رجع الصحابة رضي الله عنهم إلى الإمام علي بن أبي طالب ليبيّن لهم ما أشكل عليهم، كما رجع الناس على مر السنين إلى الأئمة من أهل البيت لمعرفة الحلال والحرام ولينهلوا من معارفهم وعلومهم واخلاقهم.
                              وإذا كان أبو حنيفة يقول: لولا السنتان لهلك النعمان يقصد بذلك العامين الذين قضاهما في التعلم من الإمام جعفر الصادق.
                              وإذا كان الإمام مالك بن أنس يقول: ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً(5).
                              ______________________________
                              (1) الصواعق المحرقة لابن حجر الشافعي ص 148 - الدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 60.
                              كنز العمال ج 1 ص 168 أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 137
                              (2) نهج البلاغة ج 2 ص 143 شرح محمد عبده الخطبة رقم 143.
                              (3) سورة النحل آية 43 وسورة الأنبياء آية 7.
                              (4) تفسير الطبري ج 14 ص 134 تفسير ابن كثير ج 2 ص 570 تفسير القرطبي ج 11 ص 272 شواهد التنزيل للحسكاني ج 1 ص 334 ينابيع المودة إحقاق الحق للتستري ج 3 ص 482.
                              (5) كتاب مناقب آل أبي طالب في احوال الإمام الصادق.
                              {176}
                              إذا كان الأمر كذلك باعتراف أئمة أهل السنة والجماعة فلماذا كل هذا التشنيع وهذا الإستنكار بعد هذه الأدلة وبعدما أثبت تاريخ المسلمين كافة بأن أئمة أهل البيت عليهم السلام كانوا أعلم أهل زمانهم، فأي غرابة في أن يخص الله سبحانه وتعالى أولياءه «الذين اصطفاهم» بالحكمة والعلم اللدني ويجعلهم قدوة المؤمنين وأئمة المسلمين.
                              ولو تتبع المسلمون أدلة بعضهم بعضاً، لاقتنعوا بقول الله ورسوله، ولكانوا أمة واحدة يشد بعضها بعضاً، ولم يكن هناك إختلاف ولا مذاهب متعددة!
                              ولكن لابد من كل ذلك ليقضي الله أمراً كان مفعولاً (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بيّنة وإن الله لسميع عليم)(1).
                              ______________________________
                              (1) سورة الأنفال آية 42.
                              البداء
                              وهو أن يبدو له شيء في أمر ما يريد فعله ثم يتغيّر رأيه في ذلك الشيء فيفعل فيه غير ما عزم على فعله سابقاً.
                              وأما قول الشيعة بالبداء ونسبته إلى الله تعالى والتشنيع عليهم بأنه يستوجب نسبة الجهل والنقص إلى الله سبحانه وتعالى - كما يريد أهل السنة والجماعة حمله على هذا المعنى، فهذا التفسير باطل ولا تقول به الشيعة أبداً ومن ينسب ذلك إليهم فقد إفترى عليهم، وهذه أقوالهم قديماً وحديثاً تشهد لهم.
                              قال الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه عقائد الإمامية: «والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى لأنه من الجهل والنقص وذلك محال عليه تعالى ولا تقول به الإمامية.
                              قال الإمام الصادق عليه السلام: «من زعم أن الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم» وقال أيضاً: «من زعم أن الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه».
                              إذاً فالبداء الذي تقول به الشيعة، لا يتعدى حدود القرآن في قوله سبحانه
                              {178}
                              وتعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)(1)
                              وهذا القول يقول به أهل السنة والجماعة كما يقول به الشيعة، فلماذا يشنع على الشيعة ولا يشنع على اهل السنة والجماعة القائلين بأن الله سبحانه يبدل الأحكام ويغير الآجال والأرزاق.
                              فقد أخرج ابن مردوية وابن عساكر عن علي رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
                              «لأقرن عينيك بتفسيرها، ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها وبر الوالدين، واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء».
                              وأخرج ابن المنذر وابن حاتم والبيهقي في الشعب عن قيس بن عباد رضي الله عنه قال: لله أمر في كل ليلة العاشر من أشهر الحرم، أما العاشر من رجب ففيه يمحو الله ما يشاء ويثبت.
                              وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - أنه قال وهو يطوف بالبيت
                              «اللهم إن كنت كتبت علي شقاوة أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة»(2).
                              وأخرج البخاري في صحيحه(3) قصة عجيبة وغريبة تحكي معراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولقاءه مع ربه، وفيما يقول الرسول صلى الله عليه آله وسلم:
                              ______________________________
                              (1) سورة الرعد: آية 39.
                              (2) جلال الدين السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج 4 ص 661.
                              (3) صحيح البخاري ج 4 ص 78 (كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة).
                              {179}
                              ثم فرضت علي خمسون صلاة فأقبلت حتى جئت موسى، فقال: ما صنعت؟ قلت: فرضت علي خمسون صلاة. قال: أنا أعلم بالناس منك عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة وإن أمتك لا تطيق، فارجع إلى ربك فسله، فرجعت فسالته فجعلها أربعين، ثم مثله، ثم ثلاثين ثم مثله فجعل عشرين، ثم مثله فجعل عشراً فأتيت موسى فقال: مثله فجعلها خمساً، فأتيت موسى فقال: ما صنعت؟ قلت جعلها خمساً فقال مثله، قلت: فسلمت فنودي إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي الحسنة عشرا»(1)
                              وفي رواية أخرى نقلها البخاري أيضاً، وبعد مراجعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه عديد المرات وبعد فرض الخمس صلوات، طلب موسى (عليه السلام) من محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يراجع ربه للتخفيف لأن أمته لا تطيق حتى خمس صلوات، ولكن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أجابه:
                              قد استحييت من ربي(2).
                              نعم إقرأ واعجب من هذه العقائد التي يقول بها رواة أهل السنة والجماعة ومع ذلك فهم يشنعون على الشيعة أتباع أهل البيت في القول بالبداء.
                              وهم في هذه القصة يعتقدون بأن الله سبحانه فرض على محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمسين صلاة، ثم بدا له بعد مراجعة محمد إياه أن جعلها أربعين، ثم بدا له بعد مراجعة ثانية أن جعلها ثلاثين، ثم بدا له بعد مراجعة ثالثة أن جعلها عشرين ثم بدا له بعد مراجعة رابعة أن جعلها عشراً، ثم بدا له بعد مراجعة خامسة أن جعلها خمساً
                              وبغض النظر عن قبولنا لهذه الرواية وعدمه فإن القول بالبداء عقيدة سليمة
                              ______________________________
                              (1) صحيح البخاري ج 4 ص 250 (باب المعراج)
                              صحيح مسلم ج 1 ص 101 (باب الإسراء برسول الله وفرض الصلوات).
                              {180}
                              تتماشى ومفاهيم الدين الإسلامي وروح القرآن (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ولولا إعتقادنا - سنة وشيعة - بأن الله سبحانه يبدل ويغير، لما كان لصلاتنا ودعائنا من فائدة ولا تعليل ولا تفسير، كما أننا نؤمن جميعاً بأن الله سبحانه يبدل الأحكام، وينسخ الشرائع من نبي لآخر بل وحتى في شريعة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم هناك ناسخ ومنسوخ، فالقول بالبداء ليس كفراً ولا خروجاً على الدين، وليس لأهل السنة أن يشنعوا على الشيعة من أجل هذا الإعتقاد، كما أنه ليس للشيعة أن يشنعوا على أهل السنة أيضاً.
                              والحقيقة أني أرى رواية المعراج هذه مستوجبة لنسبة الجهل إلى الله عز وجل، وموجبة لإنتقاص شخصية أعظم إنسان عرفه تاريخ البشرية، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أذ تقول الرواية بأن موسى قال لمحمد: إنا أعلم بالناس منك، وتجعل هذه الرواية الفضل والمزية لموسى الذي لولاه لما خفف الله عن أمة محمد.
                              ولست أدري كيف يعلم موسى بأن أمة محمد لا تطيق حتى خمس صلوات في حين أن الله لا يعلم ذلك ويكلف عباده بما لا يطيقون فيفرض عليهم خمسين صلاة؟!
                              وهل تتصور معي أخي القارئ كيف تكون خمسين صلاة في اليوم الواحد، فلا شغل ولا عمل، ولا دراسة ولا طلب رزق ولا سعي ولا مسؤولية، فيصبح الإنسان كالملائكة مكلف بالصلاة والعبادة، وما عليك إلا بعملية حسابية بسيطة لتعرف كذب الرواية، فإذا ضربت عشر دقائق - وهو الوقت المعقول لأداء فريضة واحدة للصلاة جماعة - في الخمسين فسيكون الوقت المفروض بمقدار عشر ساعات، وما عليك إلا بالصبر، أو انك ترفض هذا الدين الذي يكلف أتباعه فوق ما يتحملون ويفرض عليهم ما لايطيقون.
                              فإذا كان أهل السنة والجماعة يشنعون على الشيعة قولهم بالبداء، وأن الله سبحانه وتعالى يبدوا فيغير ويبدل كيف شاء فلماذا لا يشنعون على أنفسهم في
                              {181}
                              قولهم بأن الله سبحانه يبدو له فيغيّر ويبدّل الحكم خمس مرات في فريضة واحدة وفي ليلة واحدة وهي ليلة المعراج -
                              لعن الله التعصب الأعمى والعناد المقيت الذي يغطي الحقائق ويقلبها ظهر على عقب، فيتحامل المتعصب على من يخالفه في الرأي وينكر عليه الأمور الواضحة ويقوم بالتشنيع عليه وبث الإشاعات ضده، والتهويل في أبسط القضايا، التي يقول هو بأكثر منها.
                              وهذا يذكرني بما قاله سيدنا عيسى عليه السلام لليهود عندما قال لهم:
                              «أنتم تنظرون إلى التبنة في أعين الناس. ولا تنظرون إلى الخشبة في أعينكم».
                              أو بالمثل القائل: «رمتني بدائها وانسلت» ولعل البعض يعترض بأنه لم يرد لفظ البداء عند أهل السنة، وبأن هذه القصة وأن كان معناها التغيير والتبديل في الحكم ولكن لا تقطع بانه بدا لله فيها.
                              وأقول هذا لأنه كثيراً ما كنت أستعرض قصة المعراج للإستدلال بها على القول بالبداء عند أهل السنة، فاعترض عليّ بعضهم بهذا الرأي ولكنهم سلموا بعدها عندما أوقفتهم على رواية أخرى من صحيح البخاري تذكر البداء بلفظة صراحة لا لبس فيها.
                              فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص واعمى وأقرع بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ فقال لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس فمسحه فذهب عنه، فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، ثم قال له: أي المال أحب إليك، فقال: الإبل، فأعطى ناقة عشراء، وأتى الأقرع فقال: أي شيء، أحب إليك، قال: شعر حسن ويذهب عني هذا قد قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعراً حسناً، ثم قال له: أي المال أحب إليك فقال: البقر، فأعطاه بقرة حاملاً، وأتى الأعمى فقال: أي شيء
                              {182}
                              أحب إليك قال: يرد الله بصري، فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك، قال: الغنم، فأعطاه شاة ولوداً...
                              ثم رجع الملك بعد أن تكاثرت عند هؤلاء الإبل والبقر والغنم حتى أصبح يملك كل منهم قطيعاً فأتى الأبرص والأقرع والأعمى كل على صورته، وطلب من كل واحد منهم أن يعطيه مما عنده فرده الأقرع والأبرص فأرجعهما الله إلى ما كانا عليه، وأعطاه الأعمى فزاده الله وأبقاه مبصراً»(1)
                              ولهذا أقول لإخواني قول الله تعالى:
                              (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)(2).
                              كما أتمنى من كل قلبي أن يثوب المسلمون إلى رشدهم وينبذوا التعصب ويتركوا العاطفة لتحل العقل محلها في كل بحث، حتى مع أعدائهم وليتعلموا من القرآن الكريم أسلوب البحث والنقاش والمجادلة بالتي هي أحسن، فقد أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمعاندين (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)(3) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع من قيمة هؤلاء المشركين ويتنازل هو ليعطيهم النصف حتى يدلوا ببرهانهم وأدلتهم إن كانوا صادقين - فأين نحن من هذا الخلق العظيم.
                              ______________________________
                              (1) صحيح البخاري ج 2 ص 259.
                              (2) سورة الحجرات آية 11.
                              (3) سورة سبأ آية 24.
                              التقية
                              وكما قدمنا بالنسبة إلى القول بالبداء فإن التقية هي أيضاً من الأمور المستنكرة عند أهل السنة والجماعة وهم ينبزون بها إخوانهم الشيعة ويعتبرونهم منافقين إذ يظهرون ما لا يبطنون!!
                              وكثيراً ما حاورت البعض منهم وحاولت إقناعهم بأن التقية ليست نفاقاً، ولكنهم لم يقتنعوا بل إنك تجد السامع لهذا يشمئز أحياناً، ويتعجب أحياناً أخرى، وهو يظن أن هذه العقائد مبتدعة في الإسلام وكأنها من مختلقات الشيعة وبدعهم.
                              ولكن إذا بحث الباحث وأنصف المنصف سيجد ان هذه العقائد كلها من صلب الإسلام وهي وليدة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، بل لا تستقيم المفاهيم الإسلامية السمحاء والشريعة القويمة إلا بها.
                              والأمر العجيب في أهل السنة والجماعة، أنهم يستنكرون عقائد يقولون بها، وكتبهم وصحاحهم ومسانيدهم مليئة بذلك وتشهد عليهم.
                              فاقرأ معي ما يقوله أهل السنة والجماعة في مسألة التقية:
                              - أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله
                              {184}
                              تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)(1) قال: التقية باللسان، من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله فيتكلم به مخافة الناس، وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره، إنما التقية باللسان(2).
                              -وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن أبن عباس في قوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) قال: التقاة هي التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإيمان(3).
                              -واخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة(4)
                              -واخرج عبد بن أبي رجاء أنه كان يقرأ: (إلا أن تتقوا منهم تقية)(5).
                              -واخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه، وصححه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في الدلائل: قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما وراءك شيء؟ قال: شر، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، فنزلت (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
                              -واخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي عماراً وهو يبكي، فجعل يمسح عن عينيه ويقول: «أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت كذا وكذا فإن عادوا فقل لهم ذلك»(7)
                              ______________________________
                              (1) سورة آل عمران آية 28.
                              (2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي.
                              (3) سنن البيهقي - مستدرك الحاكم.
                              (4،5) جلال الدين السيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 176.
                              (6) سورة النحل آية 106.
                              (7) الطبقات الكبرى لابن سعد.
                              {185}
                              -وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طريق علي عن ابن عباس قي قوله تعالى: (من كفر بالله...) الآية قال: أخبر الله سبحانه: أن من كفر بالله من بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، فأما من أكره، فتكلم بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يؤاخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم(1).
                              -وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة، أن هاجروا فإنا لا نرى أنكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم، فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)(2).
                              - وأخرج البخاري في صحيحه في باب المداراة مع الناس ويذكر عن أبي الدرداء قال: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وأن قلوبنا لتلعنهم».(3)
                              -وأخرج الحلبي في سيرته قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدينة خيبر، قال له حجاج بن علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالاً وإن لي بها أهلاً، وأنا اريد أن آتيهم فأنا في حل إن أنا نلت منك، وقلت شيئاً؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول ما يشاء»(4).
                              -وجاء في كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي قوله: «إن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد أختفى من ظالم فالكذب فيه واجب(5)
                              ______________________________
                              (1) سنن البيهقي.
                              (2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي ج 2 ص 178.
                              (3) صحيح البخاري ج 7 ص 102.
                              (4) السيرة الحلبية ج 3 ص 61.
                              (5) إحياء علوم الدين لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي.
                              {186}
                              -وأخرج جلال الدين السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر. قال: «ويجوز أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر والتلفظ بكلمة الكفر، ولو عم الحرام قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً فإنه يجوز إستعمال ما يحتاج إليه».
                              -وأخرج أبوبكر الرازي في كتابه أحكام القرآن في تفسيره قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» قال يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء، فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير إعتقاده لها، وهذا ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من اهل العلم، كما جاء عن قتادة في قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله) قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية»(1).
                              -وأخرج البخاري في صحيحه عن قتيبة بن سعيد عن سفيان عن ابن المكندر حدثه عن عروة بن الزبير ان عائشة أخبرته أنه إستأذن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل، فقال: إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام فقلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم النت له في القول؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
                              «أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس إتقاء فحشه»(2).
                              وهذا يكفينا دلالة بعد إستعراض ما سبق على أن أهل السنة والجماعة يومنون بجواز التقية إلى أبعد حدودها من أنها جائزة إلى يوم القيامة كما مر عليك ومن وجوب الكذب كما قال الغزالي، ومن إظهار الكفر وهو مذهب الجمهور من أهل العلم كما إعترف بذلك الرازي ومن جواز الإبتسام في الظاهر واللعن في
                              ______________________________
                              (1) أحكام القرآن للرازي ج 2 ص 10
                              (2) صحيح البخاري ج 7 ص 81 (باب لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاحشاً ولا متفحشاً).
                              {187}
                              الباطن كما إعترف بذلك البخاري ومن جواز أن يقول الإنسان ما يشاء وينال من رسول الله خوفاً على ماله كما صرح بذلك صاحب السيرة الحلبية، وأن يتكلم بما فيه معصية الله مخافة الناس كما أعترف به السيوطي.
                              فلا مبرر لأهل السنة والجماعة في التشنيع والإنكار على الشيعة من أجل عقيدة يقولون بها هم أنفسهم ويروونها في صحاحهم ومسانيدهم بأنها جائزة بل واجبة، ولم يزد الشيعة على ما قاله أهل السنة شيئاً، سوى أنهم إشتهروا بالعمل بها أكثر من غيرهم لما لاقوه من الأمويين والعباسيين من ظلم واضطهاد، فكان يكفي في تلك العصور أن يقال: هذا رجل يتشيع لأهل البيت ليلاقي حتفه ويقتل شر قتلة على يد أعداء أهل البيت النبوي.
                              فكان لابد لهم من العمل بالتقية إقتداء بما أشار عليهم أئمة أهل البيت عليهم السلام، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال «التقية ديني ودين أبائي» وقال: «من لا تقية له لا دين له» وقد كانت التقية شعاراً لأئمة أهل البيت أنفسهم دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم ومحبيهم، وحقناً لدمائهم واستصلاحاً لحال المسلمين الذين فتنوا في دينهم كما فتن عمار بن ياسر رضي الله عنه وحتى أكثر.
                              أما أهل السنة والجماعة فقد كانوا بعيدين عن ذلك البلاء لأنهم كانوا في معظم عهودهم على وفاق تام مع الحكام فلم يتعرضوا لا لقتل ولا لنهب ولا لظلم، فكان من الطبيعي جداً أن ينكروا التقية ويشنعون على العاملين بها وقد لعب الحكام من بني أمية وبني العباس دوراً كبيراً في التشهير بالشيعة من أجل التقية.
                              وبما أن الله سبحانه أنزل فيها قرآنا يتلى وأحكاماً تقضى وبما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمل هو نفسه بها كما مر عليك في صحيح البخاري، وانه أجاز لعمار بن ياسر أن يسبه ويكفر إذا عاوده الكفار بالتعذيب، وبما أن علماء المسلمين أجازوا ذلك إقتداء بكتاب الله وسنة رسوله فأي تشنيع وأي استنكار بعد هذا يصح أن يوجه إلى الشيعة؟!
                              {188}
                              وقد عمل بالتقية الصحابة الكرام في عهد الحكام الظالمين أمثال معاوية الذي كان يقتل كل من امتنع عن لعن علي بن أبي طالب، وقصة حجر بن عدي الكندي وأصحابه مشهورة وأمثال يزيد وابن زياد والحجاج وعبد الملك بن مروان وأضرابهم ولو شئت جمع الشواهد على عمل الصحابة بالتقية لاستوجب كتاباً كاملاً، ولكن ما أوردته من أدلة أهل السنة والجماعة كاف بحمد الله.
                              ولا أترك هذه الفرصة تفوت لأروي قصة طريفة وقعت لي شخصياً مع عالم من علماء أهل السنة إلتقينا في الطائرة وكنا من المدعوين لحضور مؤتمر إسلامي في بريطانيا وتحادثنا خلال ساعتين عن الشيعة والسنة وكان من دعاة الوحدة وأعجبت به غير أنه ساءني قوله بأن على الشيعة الآن أن تترك بعض المعتقدات التي تسبب إختلاف المسلمين والطعن على بعضهم البعض، وسألته مثل ماذا؟ وأجاب على الفور: مثل المتعة والتقية، وحاولت جهدي إقناعه بأن المتعة هي زواج مشروع والتقية رخصة من الله، ولكنه أصر على رأيه ولم يقنعه قولي ولا أدلتي مدّعياً أن ما أوردته كله صحيح ولكن يجب تركه من أجل مصلحة أهم ألا وهي وحدة المسلمين.
                              واستغربت منه هذا المنطق الذي يأمر بترك أحكام الله من أجل وحدة المسلمين وقلت له مجاملة: لو توقفت وحدة المسلمين على هذا الأمر لكنت أول من أجاب.
                              ونزلنا في مطار لندن وكنت أمشي خلفه ولما تقدمنا إلى شرطة المطار سئل عن سبب قدومه إلى بريطانيا فأجابهم بأنه جاء للمعالجة، وادعيت أنا بأني جئت لزيارة بعض أصدقائي، ومررنا بسلام وبدون تعطيل إلى قاعة إستلام الحقائب، عند ذلك همست له: أرأيت كيف أن التقية صالحة في كل زمان؟ قال كيف؟ قلت لأننا كذبنا على الشرطة، أنا بقولي جئت لزيارة أصدقائي، وأنت بقولك جئت للعلاج، في حين أننا قدمنا للمؤتمر.
                              إبتسم وعرف بأنه كذب على مسمع مني فقال: أليس في المؤتمرات الإسلامية علاج لنفوسنا؟ ضحكت قائلاً أوليس فيها زيارة لإخواننا؟
                              {189}
                              أعود إلى الموضوع فأقول بأنالتقية ليست كما يدعي أهل السنة - بأنها ضرب من النفاق، فالعكس هو الصحيح، لأن النفاق هو إظهار الإيمان وكتمان الكفر بينما التقية أظهار الكفر وكتمان الإيمان وشتان ما بين الموقفين، هذا الموقف أعني النفاق الذي قال في شأنه سبحانه وتعالى:
                              (وأذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) فهذا يعني إيمان ظاهر+ كفر باطن = نفاق.
                              أما الموقف الثاني أعني التقية التي قال في شأنها سبحانه وتعالى:
                              (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) فهذا يعني كفر ظاهر+ إيمان باطن = تقية.
                              فأن مؤمن آل فرعون كان يكتم في الباطن إيمانه ولا يعلم به إلا الله ويتظاهر لفرعون وللناس جميعاً أنه على دين فرعون - (وقد ذكره الله في محكم كتابه تعظيماً لقدره).
                              وتعالى معي الآن أيها القارئ الكريم لتعرف قول الشيعة في التقية حتى لا تغترّ بما يقال فيهم كذبا وبهتانا -
                              يقول الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه (عقائد الإمامية) ما هذا نصه:
                              «وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب إختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية، وليست هي بواجبه على كل حال، بل قد يجوز أن يجب خلافها في بعض الأحوال، كما إذا كان في إظهار الحق والتظاهر به نصرة للدين وخدمة للإسلام وجهاد في سبيله، فإنه عند ذلك يستهان بالأموال ولا تعز النفوس. وقد تحرم التقية في الأعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة أو رواجاً للباطل، أو فساداً في الدين أو ضررا بالغاً على المسلمين. بإضلالهم أو إفشاء الظلم والجور فيهم.
                              وعلى كل حال ليس معنى التقية عند الأمامية أنها تجعل منهم جمعية سرية

                              تعليق


                              • #30
                                {190}
                                لغاية الهدم والتخريب - كما يريد أن يصورها بعض أعدائهم غير المتورعين في إدراك الأمور على وجهها ولا يكلفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا.
                                كما أنه ليس معناها أنها تجعل الدين وأحكامه سراً من الأسرار لا يجوز أن يذاع لمن لا يدين به، كيف وكتب الإمامية ومؤلفاتهم فيما يخص الفقه والأحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملأت الخافقين وتجاوزت الحد الذي ينتظر من أية أمة تدين بدينها» إنتهى كلامه.
                                وأنت ترى أنه ليس هناك نفاق ولا غش ولا دس ولا كذب ولا خداع كما يدعيه أعداؤهم.
                                المتعة (أو الزواج المؤقت)
                                والمقصود بها نكاح المتعة، أو الزواج المنقطع، أو الزواج المؤقت إلى أجل مسمى، وهي كالزواج الدائم لا تصح إلا بعقد يشتمل على قبول وإيجاب، كأن تقول المرأة للرجل زوجتك نفسي بمهر قدره كذا ولمدة كذا فيقول الرجل قبلت.
                                ولهذا الزواج شروطه المذكورة في كتب الفقه عند الإمامية كوجوب تعيين المهر والمدة، فيصح بكل ما يتراضى عليه الطرفان، وكحرمة التمتع بذات محرم كما في الزواج الدائم.
                                وعلى المرأة المتمتع بها أن تعتد بعد إنتهاء الأجل بحيضتين وبأربعة أشهر وعشرة أيام في حالة وفاة زوجها.
                                وليس بين المتمتعين إرث ولا نفقة فلا ترثه ولا يرثها والولد من الزواج المؤقت كالولد من الزواج الدائم تماماً في حقوق الميراث والنفقة وكل الحقوق الأدبية والمادية، ويلحق بأبيه.
                                هذه هي المتعة بشروطها وحدودها وهي كما ترى ليست من السفاح في شيء كما يدعيه الناس.
                                وأهل السنة والجماعة كإخوانهم الشيعة متفقون على تشريع هذا الزواج من الله سبحانه وتعالى في الآية 24 من سورة النساء بقوله: (فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، إن
                                {192}
                                الله كان عليما حكيما).
                                كما أنهم متفقون في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن بها واستمتع الصحابة على عهده.
                                إلا أنهم يختلفون في نسخها أو عدم نسخها فأهل السنة والجماعة يقولون بنسخها وأنها حرّمت بعد أن كانت حلالاً، وأن النسخ وقع بالسنة. لا بالقرآن.
                                والشيعة يقولون بعدم النسخ وأنها حلال إلى يوم القيامة.
                                إذن فالبحث يتعلق فقط في نسخها أو عدمه والنظر في أقوال الفريقين حتى يتبين للقارئ جلية اللأمر وأين يوجد الحق فيتبعه بدون تعصب ولا عاطفة.
                                أما من ناحية الشيعة القائلين بعدم النسخ وحليتها إلى يوم القيامة فحجتهم هي: لم يثبت عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها، وأئمتنا من العترة الطاهرة يقولون بحليتها ولو كان هناك نسخ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلمه الأئمة من أهل البيت وعلى رأسهم الإمام علي فأهل البيت أدرى بما فيه، ولكن الثابت عندنا أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب هو الذي نهى عنها وحرمها أجتهادا منه كما يشهد بذلك علماء السنة أنفسهم، ونحن لا نترك أحكام الله ورسوله لرأي واجتهاد عمر بن الخطاب! هذا ملخص ما يقوله الشيعة في حلية المتعة، وهو قول سديد ورأي رشيد، لأن كل المسلمين مطالبون باتباع أحكام الله ورسوله ورفض ما سواهما مهما علت مكانته إذا كان في أجتهاده مخالفة للنصوص القرآنية أو النبوية.
                                أما أهل السنة والجماعة فيقولون بأن المتعة كانت حلالاً، ونزل فيها القرآن ورخص فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفعلها الصحابة، ثم بعد ذلك نسخت. ويختلفون في الناسخ لها. فمنهم من يقول بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها قبل موته، ومنهم من يقول بأن عمر بن الخطاب هو الذي حرّمها، وقوله حجة عندنا لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
                                {193}
                                «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي عضوا عليها بالنواجذ».
                                أما القائلين بتحريمها لأن عمر بن الخطاب حرمها وان فعله سنة ملزمة فهؤلاء لا كلام لنا معهم ولا بحث لأنه محض التعصب والتكلف، وإلا كيف يترك المسلم قول الله وقول الرسول ويخالفهما ويتبع قول بشر مجتهد يخطئ ويصيب - هذا إذا كان إجتهاده في مسألة ليس فيها نص من الكتاب والسنة -أما إذا كان هناك نص (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)(1)
                                ومن لا يتفق معي على هذه القاعدة فعليه بمراجعة معلوماته في مفاهيم التشريع الإسلامي ودراسة القرآن الكريم والسنة النبوية - فالقرآن دل بذاته في الآية المذكورة أعلاه ومثلها في القرآن كثير يدل على كفر وضلال من لا يتمسك بالقرآن والسنة النبوية.
                                أما الدليل من السنة النبوية الشريفة فكثير أيضاً، ولكن نكتفي بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
                                «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة».
                                فليس من حق أحد أن يحلل أو يحرم في مسالة ثبت فيها نص وحكم من الله أو من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
                                ولكل ذلك نقول لهؤلاء الذين يريدون إقناعنا بأن أفعال الخلفاء الراشدين واجتهاداتهم ملزمة لنا، نقول: (أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون)(2).
                                على أن هؤلاء القائلين بهذا الدليل يوافقون الشيعة على دعواهم ويكونون حجة على إخوانهم من أهل السنة والجماعة.
                                ______________________________
                                (1) سورة الأحزاب آية 36.
                                (2) سورة البقرة آية 139.
                                {194}
                                فبحثنا يتعلق فقط مع الفريق القائل بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي حرمها ونسخ القرآن بالحديث.
                                وهؤلاء مضطربون في أقوالهم وحجتهم واهية لا تقوم على أساس متين ولو روى النهي عنه مسلم في صحيحه لأنه لو كان هناك نهي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما غاب عن الصحابة الذين تمتعوا في عهد أبي بكر وشطر من عهد عمر نفسه كما روى ذلك مسلم في صحيحه(1)
                                قال عطاء قدم جابر بن عبد الله معتمراً فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة: فقال نعم إستمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وأبي بكر وعمر -
                                فلو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المتعة لما جاز للصحابة أن يتمتعوا على عهد أبي بكر وعمر كما سمعت.
                                فالواقع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عنها ولا حرّمها وإنما وقع النهي من عمر بن الخطاب كما جاء ذلك في صحيح البخاري.
                                - عن مسدد حدثنا يحيى عن عمران ابي بكر حدثنا أبو رجاء عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: نزلت أية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء قال محمد يقال إنه عمر(2).
                                فأنت ترى أيها القارئ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عنها حتى مات كما صرح به هذا الصحابي وتراه ينسب التحرّم إلى عمر صراحة وبدون غموض ويضيف أنه قال برأيه ما شاء.
                                ______________________________
                                (1) صحيح مسلم ج 4 ص 158.
                                (2) صحيح البخاري ج 5 ص 158.
                                {195}
                                وهاهو جابر بن عبد الله الانصاري يقول بصراحة: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث(1).
                                ومما يدلنا على أن بعض الصحابة كانوا على رأي عمر وهذا ليس غريب إذ تقدم في بحثنا خلال رزية يوم الخميس أن بعض الصحابة كانوا على رأي عمر في قوله بأن رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله! وإذا ساندوه في مثل ذلك الموقف الخطير بما فيه من طعن على الرسول فكيف لا يوافقوه في بعض إجتهاداته، فلنستمع إلى قول أحدهم: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: ابن عباس وابن الزبير إختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما(2).
                                ولذلك أعتقد شخصياً بأن بعض الصحابة نسب النهي عن المتعة وتحريمها إلى النبي صلى الله عليه وآله سلم لتبرير موقف عمر بن الخطاب وتصويب رأيه.
                                وإلا فما يكون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحرم ما أحل القرآن لأنا لا نجد حكماً واحداً في كل الأحكام الإسلامية أحله الله سبحانه وحرّمه رسوله، ولا قائل بذلك إلا معانداً ومتعصبا، ولو سلمنا جدلاً بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها فما كان للإمام علي وهو أقرب الناس للنبي وأعلمهم بالأحكام أن يقول:
                                «إن المتعة رحمة رحم الله بها عباده. ولولا نهي عمر ما زنا إلا شقي»(3).
                                على أن عمر بن الخطاب نفسه لم ينسب التحريم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل قال قولته المشهورة بكل صراحة:
                                ______________________________
                                (1) صحيح مسلم ج 4 ض 131.
                                (2) صحيح مسلم ج 4 ص 131.
                                (3) الثعلبي في التفسير الكبير والطبري عند تفسير آية المتعة في تفسيره الكبير أيضاً
                                {196}
                                «متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، متعة الحج ومتعة النساء»(1).
                                وهذا مسند الإمام أحمد بن حنبل خير شاهد على أن أهل السنة والجماعة مختلفون في هذه المسألة إختلافاً كبيراً فمنهم من يتبع قول الرسول فيحللها، ومنهم من يتبع قول عمر بن الخطاب فيحرمها، أخرج الإمام أحمد:
                                - عن ابن عباس قال: تمتع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عروة ابن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: ما يقول عرية؟ (تصغير لعروة) قال: يقول نهى أبوبكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول: قال النبي ويقولون نهى أبوبكر وعمر(2).
                                وجاء في صحيح الترمذي أن عبد الله بن عمر سئل عن متعة الحج، قال: هي حلال. فقال له السائل إن أباك قد نهى عنها. فقال: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله أأمر أبي أتبع أم أمر رسول الله؟ فقال الرجل بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(3).
                                وأهل السنة والجماعة أطاعوا عمر في متعة النساء وخالفوه في متعة الحج - على أن النهي عنهما وقع منه في موقف واحد كما قدمنا.
                                والمهم في كل هذا أن الأئمة من أهل البيت وشيعتهم خالفوه وانكروا عليه وقالوا بحليتهما إلى يوم القيامة. وهناك من علماء أهل السنة والجماعة من تبعهم في ذلك أيضاً وأذكر من بينهم عالم تونس الجليل وزعيم الجامع الزيتوني فضيلة الشيخ الطاهر بن عاشور رحمة الله عليه، فقد قال بحليتها في تفسيره المشهور عند ذكره آية (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة)(4).
                                ______________________________
                                (1) التفسير الكبير للفخر الرازي في تفسير قوله تعالى (فما استمتعتم به منهن)
                                (2) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 1 ص 337.
                                (3) صحيح الترمذي ج 1 ص 157.
                                (4) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور ج 3 ص 5.
                                {197}
                                وهكذا يجب أن يكون العلماء أحراراً في عقيدتهم لا يتأثرون بالعاطفة ولا بالعصبية ولا تأخذهم في الله لومة لائم
                                وبعد هذا البحث الموجز، لا يبقى لتشنيع أهل السنة والجماعة وطعنهم على الشيعة في إباحتهم نكاح المتعة مبرر ولا حجة، فضلاً عن أن الدليل القاطع والحجة الناصعة مع الشيعة
                                وللمسلم أن يتصور قول الإمام علي عليه السلام: بأن المتعة رحمة رحم الله بها عباده، وفعلاً أية رحمة هي أكبر منها وهي تطفي نار شهوة جامحة قد تطغى على الإنسان ذكراً كان أم أنثى فيصبح كالحيوان المفترس.
                                وللمسلمين عامة وللشبان خاصة أن يعرفوا بأن الله سبحانه أوجب على الزاني عقوبة القتل رجماً بالحجارة على المحصنين ذكوراً وإناثاً، فلا يمكن أن يترك عباده بغير رحمة وهو خالقهم وخالق غرائزهم ويعرف ما يصلحهم، وإذا كان الله الرحمن الرحيم رحم عباده بأن رخص لهم في المتعة فلا يدخل في الزنا بعدها إلا الشقي تماماً كالحكم بقطع يد السارق، فما دام هناك بيت مال للمعوزين والمحتاجين، فلا يسرق إلا الشقي.
                                القول بتحريف القرآن
                                هذا القول في حد ذاته شنيع لا يتحمله مسلم آمن برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان شيعياً أم سنياً
                                لأن القرآن الكريم تكفل رب العزة والجلالة بحفظه فقال عز من قائل (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فلا يمكن لأحد أن ينقص منه أو يزيد فيه حرفاً واحداً وهو معجزة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الخالدة، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
                                والواقع العملي للمسلمين يرفض تحريف القرآن لأن كثيراً من الصحابة كانوا يحفظونه عن ظهر قلب، وكانوا يتسابقون في حفظه وتحفيظه إلى أولادهم على مر الأزمنة حتى يومنا الحاضر، فلا يمكن لإنسان ولا لجماعة ولا لدولة أن يحرفوه أو يبدلوه -
                                ولو جبنا بلاد المسلمين شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً وفي كل بقاع الدنيا فسوف نجد نفس القرآن بدون زيادة ولا نقصان. وإن إختلف المسلمون إلى مذاهب وفرق، وملل ونحل فالقرآن هو الحافز الوحيد الذي يجمعهم ولا يختلف فيه من الأمة إثنان، إلا ما كان من التفسير أو التأويل فكل حزب بما لديهم
                                {200}
                                فرحون.
                                وما ينسب إلى الشيعة من القول بالتحريف هو مجرد تشنيع وتهويل وليس له في معتقدات الشيعة وجود.
                                وإذا ما قرأنا عقيدة الشيعة في القرآن الكريم، فسوف نجد إجماعهم على تنزيه كتاب الله من كل تحريف.
                                يقول صاحب كتاب عقائد الإمامية الشيخ المظفر: «نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم فيه تبيان كل شيء، وهو معجزته الخالدة ألتي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة وفيما إحتوى من حقائق ومعارف عالية، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي، ومن أدعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، وكلهم على غير هدى، فإنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - (إنتهى كلامه).
                                وبعد هذا فكل بلاد الشيعة معروفة وأحكامهم في الفقه معلومة لدى الجميع، فلو كان عندهم قرآن غير الذي عندنا لعلمه الناس، وأتذكر أني عندما زرت بلاد الشيعة للمرة الأولى كان في ذهني بعض هذه الإشاعات، فكنت كلما رأيت مجلدا ضخماً تناولته علّني أعثر على هذا القرآن المزعوم، ولكن سرعان ما تبخر هذا الوهم، وعرفت فيما بعد أنها أحدى التشنيعات المكذوبة لينفروا الناس من الشيعة ولكن يبقى هناك دائماً من يشنع ويحتج على الشيعة بكتاب إسمه «فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الارباب» ومؤلفه محمد تقي النوري الطبرسي المتوفي سنة 1320 هجري وهو شيعي ويريد هؤلاء المتحاملون أن يحمّلوا الشيعة مسؤولية هذا الكتاب! وهذا مخالف للإنصاف.
                                فكم من كتب كتبت وهي لا تعبّر في الحقيقة إلا عن رأي كاتبها ومؤلفها، ويكون فيها الغث والسمين وفيها الحق والباطل وتحمل في طيها الخطأ والصواب ونجد ذلك عند كل الفرق الإسلامية ولا يختص بالشيعة دون سواها. أفيجوز لنا

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, 21-02-2015, 05:21 PM
                                ردود 119
                                18,094 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, 23-05-2024, 02:34 PM
                                استجابة 1
                                100 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, 23-05-2024, 02:27 PM
                                استجابة 1
                                72 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, 04-10-2023, 10:03 AM
                                ردود 2
                                156 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, 29-06-2022, 06:45 AM
                                استجابة 1
                                109 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                يعمل...
                                X