موقف علماء أهل السنة :
افترق المساكين إلى فرقتين ، فمنهم من خضع دون مكابرة وأقرّ ما جاء به صحيح البخاري وغيره من المصنفات ، ومنهم من كابر ورفض الفكرة من الأساس وقال بكذب تلك المرويات وعاند بلا دليل وقال ( هذا غير معقول ! ) ، ولا أرى وجها للاستحالة عند هؤلاء إلا أن ابن مسعود معصوم عن الخطأ !ثم انقسم من أقر بما جاء به الأثر الصحيح إلى قسمين قسم يُؤول ما فعله ابن مسعود ، وسيتضح أن تأويلهم بعيد كل البعد عن الواقع مع صراحة الروايات ، وقسم آخر أقر واستسلم للأمر الواقع وطفق يقلب كفيّه !
- ص 449 -
* التفصيل : ذهب القاضي الباقلاني والنووي وابن حزم وقيل هو رأي الفخر الرازي إلى أن ما ذكر عن ابن مسعود باطل مكذوب لا يلتفت إليه ، لأن من أنكر شيئا من القرآن فقد كفر ولو صح عن ابن مسعود هذا لكان كافراً وللزم أن بعض القرآن لم يثبت بالتواتر وهذا في غاية الإشكال ، لذا أراد هؤلاء نفي تلك النسبة عن ابن مسعود حتى يبعدوه عن الكفر ، فمنهم من رد الروايات بلا تعليل وحكم ببطلانـها وكذبـها شاء الواقع أم أبى ! ، وتصدى لهم العسقلاني وردّ عليهم القول بعدم إمكان تكذيب الروايات الصحيحة بالمزاج . ومنهم من قال إن التأويل مقبول والطعن في الروايات مرفوض كابن حجر نفسه ، ولكنه ولم يأت بتأويل مقبول ! قال :
" وأما قول النووي في شرح المهذب ( أجمع المسلمون على أن المعوّذتين والفاتحة من القرآن ، وأن من جحد منهما شيئا كفر ، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح ) ففيه نظر ، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل المحلى ( ما نقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنيّة المعوذتين فهو كذب باطل ) وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره ( الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل ) ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل مقبول ، والإجماع الذي نقله إن أراد شـموله لكل عصر فهو مخدوش ، وأن أراد استقراره فهو مقبول " ( 1 ) .
وكذا رجّح السيوطي في الإتقان كلام ابن حجر لأن ما ورد عن ابن مسعود صحيح ولا مجال لإنكاره ، ولم يقبل ما ذهب له الفخر الرازي والقاضي أبو بكر والنووي وابن حزم من تكذيب الروايات ، ويتضح من إشكال الفخر الرازي أن المشكلة لا تكمن في سند الروايات وإنما فيما يلزم من قبول تلك الروايات وإن كانت صحيحة ، قال الرازي :
( 1 ) فتح الباري ج 8ص743 ط دار المعرفة .
- ص 450 -
"إن قلنا أن كونـهما – المعوّذتين- من القرآن كان متواترا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرها ، وان قلنا إن كونـها من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعـض الـقرآن لم يتواتـر، قال : وهذه عقدة صعبة " ( 1 ) .إذن ، فالذي أجبرهم على ردها هو ما يلزم منها من الحكم بالتكفير أو عدم التواتر ، فالروايات من حيث السند والدلالة لا يمكن ردّها أو التغلّب على صراحتها بالتأويل ولو أمكن لما استصعب على الفخر الرازي حل عقدتـها .
وهنا وجه آخر لرد هذه النسبة لابن مسعود وهو كلام ابن حزم الذي أكثر ترديده بعض الوهابية ، ومفاده أن بعض شيوخ القراءة قرؤوا على ابن مسعود ، وهؤلاء أثبتوا المعوذتين في مصاحفهم ، فلو كان ابن مسعود ينكر المعوذتين لاقتفوا أثره في ذلك ، قال في المحلى :
" وكل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتان " ( 2 ) .
غاية هذا الكلام أن ابن مسعود ما أنكر المعوذتين ! ، وهذا الكلام تافه للغاية ويرده رواياتـهم الصريحة الصحيحة ، وعلى أي حال فلا بأس بالتعقيب على هذا كلام المتهالك الباطل صغرويا وكبرويا ، بأمور :
1- إن وظيفة القارئ هي اقتفاء أثر الشيخ في نحو القراءة وكيفية إخراج الحروف لا أن يحذف ويزيد سورا !!
2- سلمنا ، ولكن من قال إن القارئ يجب عليه اقتفاء أثر شيخه فيما علم خطؤه به ؟!
( 1 ) ن.م.( 2 ) المحلى ج1ص13 .
- ص 451 -
3- سلمنا ، ولكن من قال إن الذين قرؤوا على ابن مسعود لم يعترضوا على إنكاره للمعوذتين ؟! فهاهي الروايات صريحة في اعتراض زر بن حبيش عليه وابن مسعود شيخه في القراءة ! فدفاع ابن حزم فاسد من رأسه إلى أخمص قدميه ، والوهابية الغرقى يلقون السمع لأي قائل ويتسمكون به ، والغريق يتمسك بقشه !
* ابتدأت معمعة التأويل !
ولدفع إشكال الرازي ذكر ابن حجر جوابا عنه ، قال : " وأجيب باحتمال أنه كان متواترا في عصر ابن مسعود لكن لم يتواتر عند ابن مسعود ، فانحلت العقدة بعون الله " ( 1 ) .
وللأسف ، فإن العقدة مازالت عالقة بل تعقدت أكثر ! ، لأمور :
1- ما ذكره ابن حجر ليس إلا احتمال لم يقم الدليل عليه وقد نص ابن حجر على كونه احتمالا .
2- من قال إن وجوه الصحابة الذين سمعوا آيات القرآن وعلموا بـها وجدانا يحتاجون لتواتر النقل لتثبت الآيات عندهم ؟! هذا خلاف المنطق ، لأن التواتر طريق إلى اليقين والحس المباشر هو عين اليقين ، ناهيك عما في يتضمنه هذا الكلام من تعذر اليقين بالقرآن لابتلائه بالدور ، حيث يحتاج كل صحابي للتواتر .
3- سلمنا ، ولكن من غير المعقول أن تتواتر سورتان بين الصحابة بعددهم الهائل الذي يصل قرابة مائة ألف صحابي وفي نفس الوقت يقصر التواتر عن ابن مسعود الذي بقي على قيد الحياة بينهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
( 1 ) فتح الباري ج 8ص743 ط دار المعرفة.
- ص 452 -
مدة أكثر من ثلاث عشرة سنة !! ، هذا أمرٌ لا يمكن تصوّره فضلا عن قبوله فابن مسعود لم يكن يسكن الوديان وكهوف الجبال حتى يتحقق التواتر عند الصحابة ولا يتحقق عنده !4- ثم إن موقف ابن مسعود وكلامه ليس موقف من لم يثبت عنده قرآنية السورتين ، الذي من شأنه أن يتوقف في حكم المسألة ويكل أمرها إلى الله عز وجل ، لأن موقفه هو موقف الرافض المعارض للفكرة والمتشبث برأيه ، فقد قام بحكها من الصحف ودعا الناس لعدم خلطها بالقرآن لأن المعوذتين من غيره ، وأنـهما نزلتا كعوذتين وليستا كقرآن ، فأين هذا من ذاك ؟!!
وعليه ، فمازالت الروايات سليمة وبعيدة عن الطعن والخدش في السند والدلالة وهذا يعني أن ما ذهب له الفخر الرازي وجماعته من تكذيب الروايات ليس بصحيح ، وما أشكله الفخر الرازي على بني جلدته ما زال قائما لم يدفعه تـهالك ابن حجر .
ولتفاهة توجيه ابن حجر لم يقبله بعض الأساتذة فقال معرضا به :
" وقد أبى ابن حجر إلا تصحيح تلك الرواية ( 1 ) ، فقال في شرح البخاري (فقول من قال إنه كذب عليه مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل). ثم لم يستطع تأويلا مقبولا ، والله يغفر لنا وله " ( 2 ) .
( 1 ) كلامه يوهم أن تصحيح الروايات نبع من ابن حجر ! مع أن صحة السند هو القول الفصل في المسألة لا رأي فلان وفلان ! وليس ابن حجر هو الوحيد الذي صحح الروايات ، فقد صححها كثير غيره ، وصححها كل من التمس للروايات تأويلا ، وصححها كل من حكم بصحة كل ما أخرجه البخاري في صحيحه ، وكذا من أخذ بالروايات واعترف بأن ابن مسعود أنكر المعوذتين ، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .
( 2 ) هامش إعجاز القرآن للباقلاني ص442 تحقيق أحمد صقر ط دار المعارف بمصر .
- ص 453 -
والذين ركبوا صعب ابن حجر كثيرون ، فقبلوا الروايات والتمسوا لـها الوجوه والتخريجات ، نحو هذا التأويل الذي شاع وذاع مع أنه أكثر تفاهة من السابق ، وقد ذكره القرطبي في تفسيره ثم رده في وجه صاحبه :" وقال بعض الناس : لم يكتب عبد الله المعوِّذتين لأنّه أمن عليهما من النسيان فأسقطهما وهو يحفظهما كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه وما يُشكّ في حفظه وإتقانه لها . فرُدّ هذا القول على قائله وأقبح عليه بأنّه قد كتب : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} و{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وهنّ يجرين مجرى المعوذتين في أنـهن غير طوال والحفظ إليهن أسرع ونسيانـهن مأمون وكلّهن يخالف فاتحة الكتاب إذ الصلاة لا تتم إلا بقراءتـها وسبيل كل ركعة أن تكون المقدّمة فيها قبل أن يقرأ من بعدها فإسقاط فاتحة الكتاب من المصحف على معنى الثقة ببقاء حفظها والأمن من نسيانـها صحيح وليس من السور ما يجري في هذا المعنى مجراها ولا يسلك به طريقها وقد مضى هذا المعنى في سورة الفاتحة والحمد لله " ( 1 ) .
ثم ذكر القرطبي في موضع آخر من تفسيره تأويلا يتخلص به من إشكال الكفر الذي ذكره الفخر الرازي ، فعن يزيد بن هارون أنه قال :
" المعوّذتان بمنـزلة البقرة وآل عمران من زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر بالله العظيم ، فقيل له : فقول عبد الله بن مسعود فيهما ؟ فقال : لا خلاف بين المسلمين في أن عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله " ( 2 ) .
وهذه أوهن من بيت العنكبوت ، لمناقضتها للأحاديث التي لا كلام عندهم في صحّتها من أن ابن مسعود كانت قراءته آخر قراءة ، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة باستقرائه القرآن ، بالإضافة إلى إن هذا القول لا يرفع شبهة الكفر ، إذ ليس من اللازم كي يحكم بكفر المنكر لآيات القرآن أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب ! فقد ينكر المرء سورة البقرة فيحكم بكفره وإن لم يكن حافظا لها ! ، ثم هل من المعقول ألا يحفظ ابن مسعود المعوذتين ؟!!
( 1 ) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج20ص251.( 2 ) ن.م ج1ص53.
- ص 454 -
* الغريق والقشة !وبقيت آخر ورقة عند القوم وهي أن ابن مسعود رجع عن إنكاره لقرآنية المعوذتين ، وقد ذهب له بعضهم كابن كثير في تفسير سورة الفلق ، والفخر الرازي في مقدمة تفسيره وقال إن هذا من باب حسن الظن بابن مسعود !
وكلام هؤلاء يتضمن اعترافا صريحا بتحريف ابن مسعود للقرآن وأنه أنكر قرآنية المعوذتين ، ولكنهم من باب حسن الظن به قالوا برجوعه عن تحريفه ، ونحن نقبل ما قامت عليه الأدلة وهو ثبوت التحريف وقد اعترفوا به ، أما رجوعه عن التحريف فهذا لا دليل عليه إلا حسن الظن ! ، فنأخذ منهم ما قام عليه الدليل ونترك لهم حسن الظن ، ولو كان حسن الظن يجدي نفعا في المقام لقال الشيعة إن العلماء الشيعة الذين قالوا بتحريف القرآن تراجعوا عن أقوالهم وبنفس الدليل ، وتنتهي القضية .
* وشهِد شاهدٌ من أهلها :
وبعد أن ذكرنا قول مَن قبل الروايات وحاول بتكلف تأويلها ، نذكر هنا بعض من اعترف بدلالتها الواضحة ، فصرح أن ابن مسعود أخطأ ولا يمكن القول بأن الصحابة كلهم أخطأوا وابن مسعود أصاب بمفرده ، وما شذ به ابن مسعود من القول بتحريف القرآن يلزمه وحده ، ومن هؤلاء العلماء ابن قتيبة الدينوري في تأويل مشكل القرآن والقرطبي في تفسيره ، والعلامة البزار في مسنده ، وغيرهم الكثير من علماء أهل السنة الآتية أسماؤهم وكلماتـهم في مقام آخر بإذنه تعالى
يتبع
تعليق