اسطورة عبد الله بن سبأ :
اعتمدنا في ما أوردنا من روايات في " مقتل الخليفة عثمان " و " حرب الجمل " على روايات موثوقة لدينا ، ويقابل هذه الروايات روايات موضوعة وضعها راو واحد ، ومنه أخذ الكتاب والمؤرخون كافة ، والواضع لتلك المجموعة من الروايات هو : " سيف بن عمر التميمي البرجمي الكوفي " المتوفى سنة 170 ه ، فإن هذا الراوي وضع أسطورة خرافية بطلها : " عبد الله بن سبأ " اليهودي الذي نسبه إلى صنعاء اليمن وعبر عنه بابن السوداء أحيانا .
وموجز الاسطورة : أن هذا الشخص الخرافي " عبد الله بن سبأ " أظهر الإسلام في عصر عثمان ليكيد المسلمين فتنقل في الحواضر الإسلامية ، مصر ، والشام ، والكوفة ، والبصرة مبشرا برجعة النبي وأن عليا هو وصيه وأن عثمان غاصب حق هذا الوصي ، فمال إليه وتبعه جماعات من كبار الصحابة والتابعين من أمثال عمار بن ياسر ، وأبي ذر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، وغيرهم ، واستطاع أن يجيش الجيوش لقتل الخليفة عثمان حتى قتلوه في داره ، وهكذا يسلسل " سيف بن عمر " الحوادث في أسطورته الموضوعة حتى ينتهي إلى حرب الجمل ، فيخلق هناك وسيطا للصلح اسمه " القعقاع بن عمرو " ( 1) يقوم بالسفارة للصلح بين علي من جهة وعائشة وطلحة والزبير من جهة أخرى
حتى إذا تم أمر المعسكرين على الصلح ورأى " السبئيون " أتباع " عبد الله بن سبأ " ذلك ، خافوا على أنفسهم من مغبة هذا الصلح ، فاجتمعوا سرا في سواد الليل يتشاورون فأوعز إليهم رئيسهم ( بطل القصة " ابن سبأ " ) أن يندسوا بين الجيشين ، فيهجم من اندس منهم في جيش علي على جيش عائشة ، ومن اندس منهم في جيش عائشة يهاجم جيش علي ، ويثيروا الحرب فجأة ، فراقت لهم الخطة ، ونفذوها في غلس الليل دون علم علي وعائشة .
وهكذا أنشبت الحرب خلافا لرغبة قادة الجيشين . وهكذا وقعت حرب الجمل .
هذه الاسطورة الخرافية وضعها " سيف بن عمر " قبل سنة 170 ه ، ومنه أخذ جميع المؤرخين ، ثم اشتهرت القصة وانتشرت في كتب التاريخ مدى القرون حتى يومنا هذا حتى أصبحت من الحوادث التاريخية الشهيرة التي لا يتطرق إليها الشك ، وقد فات الغالب من الكتاب والمؤرخين من الشرقين والمستشرقين : أن هذه الاسطورة وضعها راو واحد ، وأن هذه الراوي مشهور عند القدامى من علماء الحديث بالوضع ، ومتهم بالزندقة ( 2) .
وقد أخذ من هذا الراوي الطبري ( 310 ه ) في تاريخه .
وابن عساكر ( 571 ه ) في موسوعته " تاريخ مدينة دمشق " .
وابن أبي بكر ( 741 ه ) في كتابه " التمهيد والبيان في فضائل الخليفة عثمان " ( 3) .
ومن الطبري أخذ سائر الكتاب والمؤرخين إلى يومنا هذا مما بيناه مفصلا في كتابنا : " عبد الله بن سبأ - المدخل " فراجعه إلى ص 17 منه ( 4) .
ونشير هنا مضافا إلى ما بيناه هناك من استناد الكتاب والمؤرخين إلى الطبري فيما أوردوه من أسطورة " السبئية " :
أولا : من القدامى إلى فيلسوف المؤرخين ابن خلدون فإنه بعدما أورد فصولا من القصة عند ذكره " مقتل عثمان " و " حرب الجمل " من تاريخه " المبتدأ والخبر " قال في ص 425 من ج 2 منه : هذا أمر الجمل ملخصا من كتاب أبي جعفر الطبري ، اعتمدناه للوثوق به .
وقال في صح 247 منه : هذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية ، وما كان من الردة ، والفتوحات ، والحروب ، ثم الاتفاق والجماعة ، أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها من كتاب محمد بن جرير الطبري ، وهو تاريخه الكبير ، فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك وأبعد عن المطاعن والشبه في كبار الأمة من خيارهم وعدولهم من الصحابة ( رض ) والتابعين . .
وثانيا : من المتأخرين : إلى سعيد الافغاني في كتابه " عائشة والسياسة " فإنه أيضا ذكر فصولا من قصة السبئية فيه تحت عنوان " اجتماع عثمان وتتابع الحوادث " ص 32 35 منه و " ابن سبأ البطل الخفي المخيف " ص 48 52 منه و " الاشراف على الصلح " 145 147 منه و " المؤامرات والدسيسة " ص 155 180 منه .
وقد قال في ص 5 منه : " إني جعلت أكثر اعتمادي . . على تاريخ الطبري خاصة ، وهو أقرب المصادر من الواقع ، وصاحبه أكثر المؤرخين تحريا
وأمانة ، وعليه اعتمد كل من أتى بعده من الثقات . . وحرصت هنا كل الحرص على عبارته ما وجدت إلى ذلك سبيلا . . " . وقال في ص 67 منه : " معظم اعتمادنا فيما نسوق على الطبري " ( 5) .
هكذا انتشرت هذه الأسطورة في الكتب التاريخية بعد أن رواها الطبري من " سيف بن عمر " وحده ( 6) اعتمادا منهم على جلالة قدر الطبري .
والجدول الآتي يبين سلسلة رواة أسطورة السبئية من واضعها الأول " سيف بن عمر " حتى رواتها من المتأخرين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
( 1) قد أوردنا مجمل ما نسب إلى هذا الشخص الاسطوري " القعقاع بن عمرو " من بطولات في حروب الردة ، وفتوح الشام ، القادسية ، إلى غيرها ، وصحبته للنبي وبعض ما نسب إليه من شعر في ص 136 152 من كتابنا عبد الله بن سبأ المدخل ضمن ذكرنا أربعين صحابيا ممن اختلقهم سيف ، في أساطيره ، وأبنا هناك : أن أولئك الصحابة لم يخلقهم الله وأن من ترجمهم من العلماء انما استند إلى أحاديث سيف وحده ، فراجعه ، ففيه فوائد مهمة .
ومما تركنا ذكره في استعراضنا لحوادث الجمل حكايتان عند المسعودي وابن أعثم : أولاهما ارسال عائشة أخاها محمد ليأتي بابن الزبير ، والثانية دخول علي على عائشة بعد الحرب ، تركنا ذكر هاتين الحكايتين لاننا لم نجد لهما سندا إلا عند الطبري 5 / 220 221 بسنده إلى سيف . ( * )
( 2) راجع ص 17 من : " عبد الله بن سبأ " لترى ترجمته عند العلماء .
( 3) راجعنا مصور دار الكتب المصرية بالقاهرة رقم 6322 . وقد ورد في الصفحة الاولى منه : " أما بعد فهذا كتاب أذكر فيه مصرع الامام الشهيد في النورين عثمان بن عفان . . أذكر ما نقلته الائمة العلماء في كتبهم وتواريخهم مثل . . كتاب الفتوح لسيف بن عمر التميمي . . ، وكتاب التاريخ للشيخ عبد الكريم المعروب بابن الاثير الجزري . . " .
وقال في آخر الكتاب ص 248 منه : ( وفرغ من جمعه وتأليفه الفقير إلى الله محمد بن يحيى بن أبي بكر . . . ، وذلك في يوم الثلاثاء خامس عشر ذي القعدة من سنة تسع وتسعين وستمائة . . ) .
إذن فابن أبي بكر قد أخذ من " سيف بن عمر " مباشرة عن كتابه الفتوح كما أخذ من تاريخ ابن الاثير أيضا الذي لم يكتب عن أحوال الصحابة في تاريخه عدا ما أورده الطبري راجع : " عبد الله بن سبأ " المدخل ص 8 9 . ( * )
( 4) وفي بقية الكتاب مقارنات بين بعض روايات سيف والوقائع التاريخية الثابتة التي حدث عنها ثقات الرواة .
(5) ومضافا إلى الطبري قد يستند في بيانه بعض أجزاء الاسطورة الخرافية " السبئية " وذيولها إلى : " تهذيب تاريخ ابن عساكر " كما فعل ذلك في الصفحات 34 و 49 و 51 و 187 من كتابه . " التمهيد والبيان في مقتل الخليفة عثمان " كما فعله في ص 34 و 58 منه ، وقد علمنا أنهما أيضا يستندان إلى " سيف بن عمر " في بيانهما الاسطورة الخرافية .
( 6) راجع ص 16 من " عبد الله بن سبأ " تجد بيان ذلك . ( * )
تعليق