الحمد لله المتصف بصفات الكمال ، المنزه عن النقص و بذيء المقال ، أحمده و أشكره على كل حال ، و أصلي و أسلم على النبي و على الآل ، و على الصحب و التابعين لهم بإحسان في الحل و الترحال .
ثم أما بعد ،،
حياكم الله تعالى في هذه الصفحة المتواضعة ، و التي أدعو الله الكريم أن تكون مفيدة لكل من يقرؤها .
موضوع المقال كما في العنوان هو " لماذا أنا سلفي في عقيدة الأسماء و الصفات ؟؟!! " ، فهذا المقال عرض و سرد للأسباب التي قادتني إلى اختيار منهج السلفية في عقيدة الأسماء و الصفات دون غيرها من المناهج و المذاهب و المدارس .
في البدء لا بد من بيان وجه الاختلاف ، إذ مما لا يخفى على أيّ مسلم أن المسلمين انقسموا إلى مذاهب و فرق مختلفة ، و هذه الاختلافات منها ما هو عقائدي و منها ما هو فقهي و منها ما هو سياسي ، و هناك مذاهب تختلف في الثلاثة معا على حد سواء . و من ضمن ما اختلف فيه المسلمون قضية صفات الله سبحانه و تعالى و هي قضية تصب في توحيد الله و الذي هو لب الإسلام و جوهره . فأصبح المسلمون يتفقون بأن الإله الحق هو الله وحده لا شريك له ، لكن يختلفون في صفات هذا الإله العظيم الذي يجب أن نوحّده في الربوبية و نوحّده في الألوهية و نوحّده في الأسماء و الصفات . و هذا الاختلاف تجلّى في مدراس شتّى و لكن يمكن اختزال تلك المدارس إلى مدرستين اثنتين .المدرسة الأولى تقول : بأننا يجب أن نعرف صفات الله بالنقل ، فكما أننا عرفنا أسماءه بالنقل فكذلك سنعرف صفاته بالنقل كذلك . فيجب أن نؤمن بكل صفة نسبها الله إلى نفسه في كتابه أو نسبها إليه رسوله في سنته ، دون تحريف لتلك الصفة أو تشبيه لها ، ودون تمثيل أو تعطيل أو تأويل ؛ لأن الله ليس كمثله شيء و هو السميع البصير .كما أننا يجب أن ننفي عنه ما نفاه عن نفسه و نسكت عمّا سكت عنه . بينما المدرسة الثانية تقول : بأننا يجب أن نعرف صفات الله بالعقل ، فكما أننا عرفنا وجوده بالعقل فكذلك سنعرف صفاته بالعقل كذلك . فالعقل يدرك ما هو واجب الوجود و ما هو ممكن الوجود ، فكل صفة لازمة لواجب الوجود فالله متصف بها ، و كل صفة لازمة لممكن الوجود فالله منزه عنها . فلكي يكون الله ليس كمثله شيء يجب أن لا يتصف بصفات الأجسام . وهكذا نجد أن المدرستين يحملان مبدأين مختلفين تماما ، و الغريب أنه في الوهلة الأولى يعتقد المتأمل للمدرستين أن كلاهما مصيب في المبدأ ، لكن يتجلّى خطأ أحد المدرستين عند المقارنة بينهما و تطبيق المبدأ على أرض الواقع . و الغريب أن كل المذاهب و الفرق تبنت المدرسة الثانية – مدرسة العقل – في معرفة صفات الله ، بينما مذهب واحد فقط تبنى المدرسة الأولى – مدرسة النقل – في معرفة صفات الله ! و الأغرب من هذا أن معظم المسلمين العوام الذين ليس لهم أي اطلاع على الاختلافات العقائدية بين الفرق و المذاهب لا سيّما في الموضوع المتباحث فيه ، وجدتهم من خلال استطلاعي الشخصي يتبنون المدرسة الأولى . فكل مسلم بسيط عامي أسأله : كيف تعرف صفات ربك ؟ يقول لي : أعرفها من القرآن و السنة . وحينما أشكل عليه بما يقوله أهل المدرسة الثانية من المتكلمين ، أجد المسلم العامي البسيط يردّ عليّ قائلا : الله له الصفة و نحن لنا الصفة و لكن صفة الله ليست كصفتنا . و هذا الاستطلاع أكد لي أن المسلم البسيط لن يتبنى المدرسة الثانية إلا بعلم مكتسب، و إلا فإن اعتمد على فطرته السليمة سيجد نفسه في المدرسة الأولى دون أن يشعر . و قد قمت بالمقارنة بين المدرستين من كل الجوانب ، و طرحت أمام كل مدرسة أكبر الإشكالات الممكن طرحها ، متجردا من الهوى و الموروث و ساعيا إلى الحق و الصواب . فتوصلت بتوفيق الله تعالى إلى أن المدرسة الأولى هي المدرسة التي على الحق . و المذهب الذي يتبنى المدرسة الأولى هو مذهب أهل السنة و الجماعة على المنهج السلفي .
و سأسرد في هذا المقال الأسباب التي قادتني إلى أن أكون سلفيا في عقيدة الأسماء و الصفات . و هذه الأسباب كالتالي :
أولا : صفات الله سبحانه و تعالى من ضمن الغيب ، و المصدر الحقيقي لمعرفة الغيب هو النقل و ليس العقل ، فجعل العقل أساس معرفة الغيب خطأ كبير . إلا إذا اعتبرنا الله ضمن عالم الشهادة فحينها يكون العقل أساس معرفة صفاته .
ثانيا : التوحيد مبني على الإيمان ، والإيمان مبني على التصديق . و التصديق لا يكون إلا إذا كان هناك نص ، فيصدقه الإنسان أو يكذبه . فإن جعلنا توحيد الأسماء و الصفات رهن على العقل ، خرج الموضوع من دائرة الإيمان ، فلا سبيل لإبقاء التوحيد ضمن دائرة الإيمان إلا إذا جعلناه رهن على النقل .
ثالثا : عقول البشر متباينة ، فقد يختلف عقلان في صفة ما ، فيعتقد العقل الأول أن هذه الصفة ضمن لوازم واجب الوجود و هي صفة كمال لا تنفك عنه ، و في المقابل يعتقد العقل الثاني أن تلك الصفة ضمن لوازم ممكن الوجود و هي صفة نقص لا تليق بواجب الوجود . فحين وجود هكذا اختلاف لا يوجد مصدر ملزم نخضع العقلين له ، إذ كل عقل مصدر مستقل بذاته إلا إذا جعلنا جميع العقول تبع لعقل واحد نجتمع جميعا على أفضليته على جميع العقول .
رابعا : العقل البشري غير معصوم ، فهو يصيب و يخطئ . و بالتالي جعل العقل أساس معرفة صفات الله هو إخضاع توحيد الأسماء و الصفات لمصدر غير معصوم ، فكل النتائج التي يتوصل إليها العقل في صفات الله لا يوجد ضمان أنه لا يوجد خطأ فيها ، إذ الأصل أن العقل غير معصوم و هو يخطئ . و بهذا نجعل صفات الله رهن لمصدر يخطئ .
خامسا : القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع باتفاق جميع المسلمين ، و بالتالي إذا اختلف مسلمان في صفة من صفات الله يسهل إخضاعهما لمصدر واحد متفق عليه و هو القرآن ، على غرار لو كان الاعتماد على العقل فلن نستطيع حلّ النزاع إلا بجعل أحد العقلين تبع للآخر دون دليل على هذه التبعية .
سادسا : مدرسة العقل تنطلق في أطروحاتها العقائدية من علم الفلسفة وعلم المنطق ، و هي علوم متأخرة في وصولها إلى المسلمين . و بالتالي فالمسلمون المعاصرون للرسول صلى الله عليه و آله و سلم لم تكن لديهم الأدوات التي يحملها أصحاب مدرسة العقل . و بالتالي فعندما يقرأون قول الله تعالى :" ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " ص:75 ، أو قوله : " الرحمن على العرش استوى " طه:5 أو غيرها من الآيات ، فإنهم يفهمونها الفهم العربي الطبيعي للجملة ، دون استقباح ذلك المفهوم باعتبار أنهم لا يعرفون أن هذا المفهوم يلزم التجسيم و المحدودية و الجهة و التجزؤ ؛ فهذه اللوازم طرحها أهل الفلسفة و الكلام ، و لم تطرحها اللغة بنفسها بحيث يعلم بتلك اللوازم كل عربي دون الحاجة لدراسة الفلسلفة و المنطق . مما يعني أن كل مسلم يقرأ القرآن دون دراسة الفلسلفة و علم المنطق سيقع في تلك اللوازم ، مما يدل على بطلان مدرسة الفلسفة و التكلم ؛ إذ لا يعقل أن يضل كل مسلم معاصر للرسول لا لشيء فقط لأنه لم يقرأ كتب أفلاطون و أرسطو !
سابعا : مدرسة العقل تؤدي في الغالب إلى الإنكار ، فمعظم اطروحات هذه المدرسة هو إنكار لصفات يرون أن الله غير متصف بها . مع العلم أن محض النفي ليس كمال ؛ إلا إذا كان النفي لإثبات صفة كمال وجودها لا يكون إلا بنفي تلك الصفة . و بالتالي فالنفي في مدرسة العقل هو نفي عدمي . فهذه المدرسة يسهل عندها نفي الصفات عن الله بحجة أن تلك الصفات يلزم منها التجسيم أو أن تلك الصفات عوارض أو من ضمن صفات ممكن الوجود .
ثامنا : مدرسة العقل ضعيفة جدا في الإثبات ، فهي لا تستطيع إثبات صفة لله إلا إذا استطاعت أن تثبت أن تلك الصفة من لوازم واجب الوجود و ليس ممكن الوجود ، و إثبات أن تلك الصفة ليست عارض . و إثبات هذا مشكل جدا . فمثلا ، يجد أهل هذه المدرسة صعوبة في إثبات صفة " الغضب " على سبيل المثال ، فليس من السهولة القول بأن الله يغضب على المشركين ، إلا بعد إثبات أن الغضب ليس عارض ، و ليس من ضمن ممكن الوجود ، وحيث أن إثبات ذلك مشكل ، يتم في الغالب تأويل الصفة إلى صفة أخرى . فهذه المدرسة ضعيفة جدا في إثبات الصفات لله حتى و إن كانت الصفة تدل على جبروت الله و قيّوميّته و عظمته !
تاسعا : الحق واحد و الباطل متعدد ، و حسب حديث " تفترق أمتي على ثلاث و سبعين فرقة " ، نجد أن التوحيد هو أهم شيء في الدين نحكم من خلاله على صحة الملّة من عدمها . وحيث أن كل المذاهب تتبنى مدرسة العقل في معرفة صفات الله ما عدا مدرسة واحدة ، وحيث أن الحق واحد ، وحيث أن الفرقة الناجية واحدة ، دل ذلك على أنّ المذهب الحق هو المذهب المخالف للأثنين وسبعين فرقة .إذ لو قلنا أن مدرسة العقل هي الحق لماكان هذا لوحده كفيلا لمعرفة المذهب الصحيح إذ هناك مذاهب كثيرة تتبنى تلك المدرسة و تلك العقائد ! و بالتالي سنجعل غير التوحيد أساس لمعرفة الفرقة الناجية . ولا شك أن التوحيد أهم من غيره .فجعل غيره معيار لمعرفة الفرقة الناجية أمر خاطئ .
عاشرا : الفطرة البشرية السليمة تقول بمدرسة النقل ، إذ كل مسلم عامي لا يعرف الاختلافات المذهبية سيؤمن بالقرآن و بما وصف الله نفسه فيه دون أن يعتقد أن إيمانه هذا مشكل ؛ لأن الإشكالات المطروحة ناتجة عن فلسفة زائدة مكتسبة و ليست إشكالات فطرية . إذ الفطرة لا تعرف الفرق بين لوازم وجوب الوجود و لوازم إمكانية الوجود ، أو الفرق بين الجوهر و العرض و غيرها ، إذ كلها تأتي بالاكتساب من الخارج لا من الداخل .
الحادي عشر : أصحاب مدرسة العقل يقعون في الكثير من التناقضات ، ففي ظل سعيهم الدؤوب إلى نفي كون الله متصف بصفة اليد و الوجه و الساق و القدم و الاستواء و النزول ، نجدهم في المقابل يتخبطون في بعض الصفات كالكلام ما بين قائل بأنه متكلم بلا كيف و ما بين قائل بأنه يخلق المتكلم والكلام . و ما بين قائل بأن المؤمنين يرونه في الجنة رؤية لايلزم منها التجسيم و ما بين قائل بأنهم ينتظرون نعيمه فقط . كما أنهم يتخبطون في تفسير بعض الآيات ، مثل قوله : " و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " الحاقة:17 ،فهذه الآية تقول بأن العرش يحمل يوم القيامة ، في ظل استنكار المدرسة أن يكون لله عرش يستوي عليه ،و قيام البعض الآخر بتأويل العرش على أنه أمر مجازي ! و غيرها الكثير من الآيات التي لا تتحدث عن صفات الله بل تتحدث عن صفات مخلوقاته ، لكن تؤدي بالتبعية إلى بيان بطلان ماذهب إليه أهل المدرسة في تأويلهم لصفات الله .
الثاني عشر : الآية التي يتمسك بها المدرستين في تأصيل القاعدتين هي قول الله تعالى :" ليس كمثله شيء و هو السميع البصير " الشورى:11، و تفسير مدرسة النقل لهذه الآية أصح من تفسير مدرسة العقل . إذ مدرسة النقل تقول بأن هذه الآية فيها نفي و إثبات ، و بالتالي يجب إثبات صفة السمع و لكن مع نفي مماثلتها لسمع غيره . وهكذا فالله متصف بالصفة دون مماثلة لصفة غيره . بينما مدرسة العقل تقول بأن مجرد الاتصاف بالصفة يلزم المماثلة و بالتالي يجب نفي الصفة لنفي المماثلة . وهذا يلزم أن مجرد كون الله سميع يلزم مماثلته لغيره ممن يتصف بذات الصفة و هذا باطل . و القول بأن سمعه ليس كسمع غيره ، يهدم قاعدة أن مجرد الاتصاف تماثل ، وبالتالي ليس مجرد اتصافه باليد أو الوجه أو غيرها مما يستنكره المتكلمون تماثل ؛ لأن مجرد الاتصاف ليس تماثل إلا إذا كانت كيفية الاتصاف مماثلة لكيفية اتصاف غيره .
فهذه أهم الأسباب التي قادتني إلى الوصول بفضل الله سبحانه و تعالى إلى أن المذهب الحق في عقيدة الأسماء و الصفات هو مذهب أهل السنة و الجماعة على نهج السلف الصالح ، الذين لا يخوضون في صفات الله بعقولهم و فلسفتهم ، بل يقولون بأنهم يؤمنون بكل ما أخبر الله عن نفسه و كل ما أخبر به رسوله عنه ، دون تلازم بأن يؤدي تصديق الله و رسوله إلى وجود إشكالات على الله ، باعتبار أن الله ليس كمثله شيء ، فاتصافه بتلك الصفات التي أخبرنا بها يكون على الوجه اللائق به ، تطبيقا لقول الله تعالى :" آمنّا به كلّ من عند ربنا " آل عمران:7 . و ما الإشكالات الواهية التي يطرحها البعض إلا لدفع المسلم إلى عدم الإيمان بمنطوق كلام الله وبالتالي الإلحاد بصفاته ، وبالتالي الدخول ضمن قوله تعالى :" و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ماكانوا يعملون " ، الأعراف:180
أسأل الله العظيم أن يهدي الجميع إلى الحق و إلى سواء السبيل .
تعليق