عندما أعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولاية علي عليه السلام، سمعت بطون قريش -مهاجرها وطليقها- البيان النبوي فتأثروا تأثرا بالغاً وأدركوا ان الهاشميين سيجمعون النبوة مع الملك، وهكذا تحرم البطون من الشرفين معاً، ويختص الهاشميون والشرفين معاً، وأدركوا إن النبي جاد في ما يقوله، والأعظم فإن محمداً يقول أن هذه الترتيبات والتعيينات من عند الله لأنه يتبع مايوحى اليه!
وقررت قيادة البطون ــ المهاجرن والطلقاء معا ـ أن تتحرك؛ وأن تحول دون تحقيق ذلك، ورفعت شعاراً بدا لها معقولا، وعرضت قسمه لاح لها بأنها عادله، فقالت: لتبقى النبوة لبني هاشم لايشاركهم فيها أحد من البطون، ولتكن الخلافه لبطون قريش وللناس عند الاقتضاء لايشاركهم فيها هاشمي قط!
وفي سبيل إقناع الناس، ((بإجحاف بقسمه الله ورسوله))! وعدالة قسمه البطون، أخذ قادة البطون يبثون الدعايات والشائعات سراً التي تهدف إلى التشكيك بقول الرسول، وبشخص الرسول، وأن الترتيبات التي أعلنها الرسول ليست من عند الله، إنما هي بإجتهاده الشخصي وتأويله، إذ من غير المعقول أن يعطي الله النبوة لبني هاشم ثم يعطيهم الملك، ويجمع لهم الشرفين معاً، واستمالت هذه الدعايات الكاذبه والمنافقين ودغدغت احلامهم بتفويض الإسلام ووجدها فرصه، فمد المنافقون أيديهم القذرة للبطون ، وأدرك طلاب الدنيا أن بطون قريش والمنافقين كونوا حزباً قوياً، وأنهم قوة واقعية، قد تنجح فعلاً بانقلابها، وتستولي على السلطه بالقوة.
وتعاطف مع البطون طلاب الدنيا أيضاً، وانضمت المرتزقـه من الاعراب إلى هذا التجمع، وصار هذا التحالف الواقعي السري المكون من بطون قريش ومن المنافقين، ومن طلاب الدنيا، ومن المرتزقه ومن الاعراب، قوة هائله.
وصارت الفئه المؤمنه الصادقه اقليه، وسط بحر هذاالتجمع، وقد سمع المؤمنون الصادقون بدعايات البطون وشائعاتهم، فظنوها نفثات الصدور، وسمعوا بالتقارب الذي حدي بين بطون قريش والمنافقين والمرتزقه من الاعراب، ولكنهم لم يعطوا أهميه، فطوال تاريخ الدعوة والدوله الإسلاميه كان المؤمنون أقليه، وشكل المنافقون الأكثريه، ولكن المؤمنين كانو هم الفائزون، وكلمتهم في المجتمع هي العليا، وقياده البلاد بأيديهم.
لم تخطر فكرة وجود انقلاب على البال، ولافكرة وجود قاعدة شعبيه لهذا الانقلاب، ولا وجود للانقلابيين، ولو وجود خطط لهذا الانقلاب، ولم يخطر ببال أحد أن قاده الانقلاب سيواجهون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في بيته المقدس ويقولوه له ولكل جرأة: ((لا حاجة لنا بوصيتك ولا بكتابك، عندنا كتاب الله يكفينا أنت تهجر يا محمد))!!
مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مفاجأة، لقــد أعلن رسول الله مراراً وتكرارا بـأنه سيمرض في ذلك العام، ويموت في مرضه لأنه قد خُيّر فاختار ماعندالله، فقال للناس في حجه الوداع: ((لا ألقاكم بعد عامي هذا)) وقال للناس في غدير خم: ((يوشك أن أُدعي فأجيب)). لقد قعد رسول الله على فراش المرض، في بيت عائشه، وأحيط الناس علماً بإن الرسول سيموت من مرضه هذا، كل شئ واضح تماماً، أكمل الله الدين وأتم النعمه، ولقـــد جرت العادة أن تجتمع الأسرة عند مرضها. وأن تستمع إليه، فيلخص لها الموقف. وجرت العاده أن تجتمع عليه القوم عند زعيمهم إذا مرض مرض الموت ليلخص لهم الموقف وليعبروا له عن ارتباطهم به، وعن تقدريهم لجهده المميز الذي بذلوه طوال فترة قيادته لهم، هذا أمر طبيعي قد ألفته البشرية كلها، وقد حدث ويحدث مع كل أرباب الأسر وزعماء العالم فكيف بسيد ولد آدم محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو قائد الدعوة وقائد الدوله، العارف بماضيه وحاظره ومستقبله المشفق على أمته الرؤوف الرحيم بها؟! فهو الأولى بتلخيص الموقف، وإصدار توجيهاته النهائيه بالوقت الذي يراه مناسباً، ولم لا؟ فمحمد سيبقى رسمياً رسول الله ومتمتعاً بحقوق الرساله، ويبقى قائداً للدوله وإماماً وولياً للأمه ومتمتعاً بصلاحياته كافة حتى اللحظه التي تصعد فيها روحه الطاهرة إلى بارئها عز وجل.
ثم إن رسول الله كان يقعد على فراش مملوك له، وداخل بيته المملوك له لا في بيوت الناس، ومن حق المريض اي مريض على الاطلاق أن يقول مايشاء، ومن حق صاحب البيت - أي صاحب البيت - أن يقول داخل بيته ما يشاء، هذا حق طبيعي للإنسان تعارفت عليه البشريه واحترمته على مختلف ألوانها ومعتقداتها، ومحمد كسيد ولد آدم وكإنسان هو الأولى بممارسه هذا الحق!! ثم إن محمداً رسول الله على صلة دائمة بالله تعالى، وعلى ارتباط عميق بالوحي، والملائكة تنزل وتصعد في كل لحظة، وأهل السماء في شغل شاغل لتغطيه حدث موته وهو يعي وعياً تاماً مايدور حوله، ومتأثر بحفاوة أهل السماء به!!
ثم إن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الوقت يخطط ويعبئ ويشرف على تسيير جيش أسامة انذاك!!
ومن كانت حاله كحالة النبي هذه، لايمكن أن يكون قاصراً، ولايمكن أن يكون بحاجة إلى توجيهات رعاع العرب، وليس مجنوناً، أو فاقداً للسـيطرة على نفسه، ولا هاجراً أو يهجر ،كما زعم عمر بن الخطاب، والانقلابيون الذين أقتحموا عليه الغرفة المقدسة!!
من المؤكد أن رسول الله قد حدد موعداً لكتابة توجيهاته النهائية وتلخيصه للموقف،
ومن المؤكد أنه قد طلب حظور عدد من أهل ثقته ومن خواصه ليشهدوا كتابة توجيهاته ،حتى يكونوا عوناً لولي الأمر من بعده، وحجٍة على خصمه، فمحمد ليس رجلاً عادياً ،إنما هو خيرة الله من خلقه، ورسول الله، و ولي الأمة، وقائد دولتها، فمن غير الممكن عقــلاً أن لايستحظر أحداً عند كتابة توجيهاته النهائيه.
طالما أن الرسول قد حدد الموعد داخل بيته، ولم يعلم به إلا أهل بيت النبوة وزوجات الرسول فكيف عرف عمر بن الخطاب بهذا الموعد المحدد حتى جاء إليه ومعه حشد هائل من أنصاره ومن قادة التحالف ليحولوا بين رسول الله وبين كتابة توجيهاته النهائية؟ ومن الذي أخبر عمر عن مضمون التوجيهات النهائيه حتـى عرفها تماماً وحشد حشده، أعترف عمر بن الخطاب في ما بعد قائلاً: ((لقد أراد رسول الله في مرضه أن يصرح باسم علي بن أبي طالب فمنعته)). (شرح النهج ج3 ص105).
مما يعني: أن عمر عرف وقت كتابـة التوجيهات النهائية، ومضمون هذه التوجيهات من مصدر ما داخل بيت الرسول!! عندئذ كانت مع عمر المدة الكافية ليجمع قادة التحالف، ويخبرهم بالموعد وبالمضمون معاً ويتفق وإياهم على خطة للحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما أراد. فمن هو هذا المصدر من بيت الرسول الذي أنبــأ عمر بموعد كتابة التوجيهات النهائية وبمضمون هذه التوجيهات؟
هذا المصدر أو المخبر يكره علي بن أبي طالب بالضرورة، ويعارض خلافة علي للنبي؛ وتربطه بعمر وبأبي بكر علاقة قوية جداً ومميزة! ومن المستحيل استحالة مطلقه أن يكون من أهل بيت النبوة، إذن لابد أن يكون أحد الخدم، أو زوجات الرسول، والخدم لايجرؤون إطلاقاً على مثل هذا العمل الخطير، فيبقى الاحتمال المؤكد إن احد زوجات الرسول قد أطلعت عمر على وقت كتابة التوجيهات وعلى مظمون هذه التوجيهات لأنها سمعت الرسول يتكلم بذلك مع علي بن أبي طالب عليهما السلام.
وبهذه الحالة تقفز إلى الذهن حفصة زوجة الرسول وإبنه عمر بن الخطاب، وتقفز عائشه زوجة الرسول وإبنه أبو بكر، قال الواقدي في مغازيه: ((إن ابا بكر وعمر لايفترقان، وإن عائشة وحفصة ابنتاهما كانتا معاً)). ربما كانتا معا قد أخبرتا عمر، أو كانت إحداهما قد اخبرت عمر عن موعد كتابة التوجيهات النهائية وعن مضمون هذه التوجيهات.
وقد أخبرنا الله تعالى عن تظاهر زوجتين من زوجات الرسول عليه فقال: (إن تظاهرا عليه فأن الله هو مولاه). وقال عمر بـن الخطاب في ما بعد أن اللتين تظاهرتا على الرسول هما حفصة وعائشة، وهكذا اخرج البخاري في تفسير هذه الآيه (صحيح البخاري 3/137،3/136)، وأن الله سبحانه وتعالى طلب منهما أن تتوبا إلى الله، والتوبـة لاتطلب إلا من المذنب.
واتلوا ما أنزل الله تعالى: ((أن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)). قالت عائشة للنبي يوما: ((أنت الذي تزعم أنك رسول الله))! ( آداب النكاح من الأحياء 2/35 لمحمد الغزالي، وذكره في مكاشفة القلوب باب 94 ص237)، ولهما ضرب الله مثلا امرأة نوح وامرأة لوط (تفسير القرطبي 18/202، وفتح القدير للشوكاني 5/255). كل هذا يرجع أن تكون إحداهما قد أخبرت عمر بموعد كتابة التوجيهات النهائية وبمضمون هذه التوجيهات. ولكن من منهما؟ لنتابع استقراءنا للنصوص:
روى البخاري في صحيحه (كتاب الجهاد والسير) باب ماجاء في أزواج الرسول عن عبدالله بن عمر بن الخطاب قال: ((قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: هاهنا الفتنة، هاهنا الفتنة، هاهنا الفتنة، - ثلاثا- من حيث يطلع قرن الشيطان)) راجع صحيح البخاري ج4 ص100.
وفي لفظ آخر خرج رسول الله من بيت عائشة فقال: ((رأس الكفر من ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان)). (صحيح مسلم كتاب الفتن باب القتنة من المشرق 560/2, 31/18_ 33 بشرح النووي).
فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الرسول كان مريضاً في بيت عائشه وأن المواجهة بين الرسول وبين عمر بن الخطاب تمت في بيت عائشة قرب الاحتمال أن تكون عائشة زوجة النبي هي التي أخبرت عمر بن الخطاب عن موعد كتابة التوجيهات النهائية، وعن مضمون هذه التوجيهات!! وعلى اثرها استعد عمر وحشد عدداً كبيراً من أعوانه فكسروا خاطر النبي الشريف وحاولوا بينه وبين كتابة ما أراد.
ومن جهة أخرى، فأن عائشة كانت تكره الإمام علي وتحقد عليه ولاتطيق ولاتحتمل أن تلفظ حتى اسمه بدليل: عن عبيدالله بن عبدالله بن مسعود عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله وأشتد به وجعه.. فخرج بين رجلين تخط رجلاه الأرض بين ابن عباس ((تعني الفضل)) وبين رجل اخر قال عبيدالله فأخبرت عبدالله بن عباس بالذي قالت عائشه فقال لي عبدالله بن عباس هل تدري من الرجل الأخر الذي لم تسـم عائشة؟ قال:قلت لا. قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب، ثم قال: إن عائشة لاتطيب له نفساً بخير)).(الطبقات الكبرى لابن سعد 2/29بسند صحيح ط ليدن،2/232طبعة دار صادر بيروت،وصحيح البخاري باب مرض النبي ووفاته239 /5-140 طبعة دار الفكر "ولكن البخاري حذف لاتطيب له نفسا بخير" وراجع السيرة الحلبية 3/334 )!
عن عطاء بن يسار قال: جاء رجل فوقع في علي وفي عمار عند عائشة فقالت عائشة: ((أما علي فلست قائلة لك فيه شئ وأما عمار فقد سمعت رسول الله يقول فيه لايخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما)). (مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/113).
وفي ما بعد خرجت على الامام علي، وحاربته ونبحتها كلاب الحوأب، بدعوى المطالبة بدم عثمان مع أنها هي التي افتت بقتله!! (تاريخ اليعقوبي 2/152،وشرح النهج تحقيق أبي الفضل 215/ 6-216 وتذكرة الخواص ص 64/61، وتاريخ الطبري 4/407، والكامل لابن اثير 3/206)!
مع أن عائشة قد خسرت حربها، ووقعت أسيرة بعد أن اثارتها فتنة عمياء إلا أن الإمام علي أكرمها وأعادها معززة مكرمة. ولما قتل عثمان كانت تتصورأن الناس سيبايعون ابن عمها طللحة. قال البلارذي في أنساب الأشراف (ص217): (كانت عائشة في مكة حين بلغها قتل، ولم تكن تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر فقالت:بعداً ((لنعثل)) أي لعثمان وسحقاً إيه ذا الأصبع أبا شبل إيه يا ابن عم لكأني أنظر إلى أصبعه وهو يبايع)،تعني بذلك ابن عمها طلحة.
ولما علمت أن طلحة لم يُبايع، وأن النـاس قد أجتمعوا على علي ابن ابي طالب صعقت فقالت: (والله، ليت أن هذه انطبقت على هذه) أي انطبقت السماء على الأرض. ثم قالت ردوني ردوني وقادت فتنتها العمياء بالتعاون مع طلحة والزبير أكثر المؤبلين على عثمان للمطالبة بدم عثمان!!
ومع أن الإمام علي أكرمها وأعادها معززة مكرمة إلى بيتها التي خرجت منه وقد أمرت أن تقرّ فيه إلا إنه لما بلغها موت الإمام علي ((سجدت لله شكراً)). (مقاتل الطالبين لأبي فرج الاصفهاني ص 43، وكتاب الجمل للشيخ المفيد 83-84).
هذه طبيعة مشاعر عائشة نحو علي بن أبي طالب عليه السلام، فمن الطبيعي أن تتحالف مع أي كان لصرف الأمر عنه، ومن الطبيعي أن تخبر عمر وأبا بكر عن موعد كتابة التوجيهات النبوية النهائية وعن مضمون هذه التوجيهات وأن تشترك معهما باتخاذ كل مايلزم للحيلولة بين الإمام علي وحقه الشرعي بالقيادة من بعد النبي، وهي تعلم علم اليقين أن علي هو صاحب الأمر شرعاً من بعد النبي.
ولكن كيف تحب من قتل اولاد عمها في بدر، إنها تكره علي وتكره ذريته، فعندما أرادوا دفن ابن النبي الحسن بن علي بجانب جده رسول الله، ركبت عائشة بغلاً، واستعونت بني أمية ليحولوا بين الحسن وبين أن يدفن بجانب جده!! (راجع ترجمه الحسن من مقاتل الطالبيين).
وجائها القاسم بن محمد بن أبي بكر وقال لها: ((ياعمة ماغسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال (يوم البغلة الشهباء))!! (مروج الذهب للمسعودي).
فعلت كل هذا وقد أذنت أن يدفن ابوها، وعمر بن الخطاب مع أن الدار لرسول الله لا لها ،ولها منها 1/9 الثمن فقط وفي ذلك يقول ابن العباس:
تجملت تبغلت
ولو عشت تفيّلت
لك التسع من الثمن
وبالكل تملّكت
والتي تفعل كل هذا يهون عليها أن تخبر عمر بن الخطاب وقادة التحالف عن موعد كتابة التوجيهات النبوية النهائية وعن مضمون هذه التوجيهات.
والمكانة التي تمتعت بها عائشة هي التي اخبرتهما بموعد ومضمون التوجيهات النبوية الإلهية، حتى عدا العدة، وحالا بين الرسول وبين كتابة ما أراد، وكسرا خاطره الشريف.
فلا أحد من المسلمين والمسلمات كان يأخذ عطاء في عهدي أبـي بكر وعمر أكثر من عائشة وحفصة، فلكل منهما إثتنا عشر ألفا فهما مميزتان على نساء الرسول اللواتي أعطيت لكل واحدة منهن عشرة الاف.
وكلمة عائشة عند عمر كانت أمراً، أنظر إلى قوله: ((ومن تأمرني أن أستخلف)) ذلك أنه لما طعن عمر أرسل ابنه عبدالله بن عمار ليستأذن عائشة فيدفن في بيت الرسول إلى جانبه وجانب أبي بكر، فقالت عائشة حباً وكرامة، ثم قالت لعبدالله بن عمر ((يا بني أبلغ عمر سلامي وقل لاتدع أمه محمد بلا راع، أستخلف عليهم ولاتدعهم بعدك هملاً، فإني أخشى عليهم الفتنة!!! عندئذ قال عمر: ومن تأمرني أن استخلف)). (الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري22/1).
فلو أمرته أم المؤمنين أن يستخلف أعرابياً من البادية لفعل، فهو مدين لها بمنصب الخلافة، فلو لم تخبره بموعد ومضمون التوجيهات النبوية النهائية لسار الأمر سيراً طبيعيا لما اختلف اثنان في ما بعد.
والخلاصة وغلى ضوء ماذكرنا: فإن عائشة هي المصدر والمخبر الذي أخبر عمر بن الخطاب وقادة التحالف بموعد كتابة التوجيهات النبوية النهائية وبمضمون هذه التوجيهات، مما أعطي عمر الوقت والفرصة ليجمع قادة التحالف ويقتحم بهم بيت رسول الله فيحولوا بينه وبين كتابة ما أراد.
منذ اعلان النبوة والرسالة، وبطون قريش بحركة لايستقيم لها حال، وهمها الاعظم صرف شرف النبوة عن محمد الهاشمي، والحيلولة بين العرب وبين الاعتراف بهذه النبوة، لا كراهية بالدين الجديد، فليس في الدين الجديد ماتعافه النفس البشرية، ولكن حسداً لبني هاشم، وبعد مقاومة ضارية، وحرب ضروس دامتا 21 عاماً قتل الهاشميون خلالها أكثر ابناء بطون قريش وجاهة وصارت البطون تحقد على محمد والهاشميون لانهم قتلة الأحبة وهكذا جمعت البطون بجيش جرار قوامه عشرة آلاف مقاتل يغزوها في عقر دارها بقيادة محمد والهاشميين، فاستسلمت وتلفظت بالشهادتين، ولكن الحسد والحقد على بني هاشم كانا قد استقرا في نفوس أبناء البطون نهائياً. ولم ينقب الرسول الكريم عما في نفوس البطون بلأكتفى بالظاهر لأن البواطن اختصاص إلهي، وفتح النبي صفحة جديدة، وقالت البطون أنها قد نسيت الماضي، وأسفت عليه وأنها تفتح صفحة جديدة أيضاً. وكان فتح مكه فرصة لألتقاء أبنـآء قبيلة قريش، المهاجر منهم والطليق، وفرصة لتذكر الذين قتلت أكثريتهم على يد الهاشميين وبسبب محمد، وكانت فرصة لتذكر الصيغة السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف بين البطون، وعلى التوازن والتعادل في ما بينها.
وركز النبي تركزا خاصا على منصب القيادة من بعده وعلى اعتباره النظام الواقعي الامثل الذي يبقى جموع المسلمين داخل اطار الشرعية والمشروعية، وبأمر من ربه قدم الرسول علي بن أبي طالب كأول إمام وقائد للأمه من بعده.
حظر اللذين اصطفاهم النبي ليكتب أمامهم التوجيهات النهائية وليلخص أمامهم الموقف، وفجأة حظر عمر بن الخطاب ومعه قادة التحالف وعدد كبير من أعوانه، الذين اتفق معهم عمر على خطة تحول بين النبي وبين كتابة ما أراد. وحظور أعوان عمر لم يكن بالحسبان!! كيف يفعل النبي أمام هذه المفاجأة؟ هل يلغي الموعد، ويضرب موعداً جديداً، أم يمضي قدماً إلى حيث أمره الله؟ لقد أختار النبي الحل الاخير فقال:
((قربو أكتب لكم كتابا لن تضلو بعده أبدا)) وفي رواية ثانية: ((أئتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تظلو بعده أبدا)) وفي رواية ثالثة: ((أئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تظلو بعده أبدا)) وفي رواية رابعة: ((أئتوني أكتب لكم كتابا لاتظلو بعده أبدا)) وفي رواية خامسة: ((أئتوني أكتب لكم كتابا لن تظلو بعده أبدا)) وفي رواية سادسة قال: ((ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لاتظلوا بعده أبدا))، وفي روايه سابعة قال الرسول: ((هلم أكتب لكم كتابا لن تظلوا بعده)).
وقررت قيادة البطون ــ المهاجرن والطلقاء معا ـ أن تتحرك؛ وأن تحول دون تحقيق ذلك، ورفعت شعاراً بدا لها معقولا، وعرضت قسمه لاح لها بأنها عادله، فقالت: لتبقى النبوة لبني هاشم لايشاركهم فيها أحد من البطون، ولتكن الخلافه لبطون قريش وللناس عند الاقتضاء لايشاركهم فيها هاشمي قط!
وفي سبيل إقناع الناس، ((بإجحاف بقسمه الله ورسوله))! وعدالة قسمه البطون، أخذ قادة البطون يبثون الدعايات والشائعات سراً التي تهدف إلى التشكيك بقول الرسول، وبشخص الرسول، وأن الترتيبات التي أعلنها الرسول ليست من عند الله، إنما هي بإجتهاده الشخصي وتأويله، إذ من غير المعقول أن يعطي الله النبوة لبني هاشم ثم يعطيهم الملك، ويجمع لهم الشرفين معاً، واستمالت هذه الدعايات الكاذبه والمنافقين ودغدغت احلامهم بتفويض الإسلام ووجدها فرصه، فمد المنافقون أيديهم القذرة للبطون ، وأدرك طلاب الدنيا أن بطون قريش والمنافقين كونوا حزباً قوياً، وأنهم قوة واقعية، قد تنجح فعلاً بانقلابها، وتستولي على السلطه بالقوة.
وتعاطف مع البطون طلاب الدنيا أيضاً، وانضمت المرتزقـه من الاعراب إلى هذا التجمع، وصار هذا التحالف الواقعي السري المكون من بطون قريش ومن المنافقين، ومن طلاب الدنيا، ومن المرتزقه ومن الاعراب، قوة هائله.
وصارت الفئه المؤمنه الصادقه اقليه، وسط بحر هذاالتجمع، وقد سمع المؤمنون الصادقون بدعايات البطون وشائعاتهم، فظنوها نفثات الصدور، وسمعوا بالتقارب الذي حدي بين بطون قريش والمنافقين والمرتزقه من الاعراب، ولكنهم لم يعطوا أهميه، فطوال تاريخ الدعوة والدوله الإسلاميه كان المؤمنون أقليه، وشكل المنافقون الأكثريه، ولكن المؤمنين كانو هم الفائزون، وكلمتهم في المجتمع هي العليا، وقياده البلاد بأيديهم.
لم تخطر فكرة وجود انقلاب على البال، ولافكرة وجود قاعدة شعبيه لهذا الانقلاب، ولا وجود للانقلابيين، ولو وجود خطط لهذا الانقلاب، ولم يخطر ببال أحد أن قاده الانقلاب سيواجهون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في بيته المقدس ويقولوه له ولكل جرأة: ((لا حاجة لنا بوصيتك ولا بكتابك، عندنا كتاب الله يكفينا أنت تهجر يا محمد))!!
مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مفاجأة، لقــد أعلن رسول الله مراراً وتكرارا بـأنه سيمرض في ذلك العام، ويموت في مرضه لأنه قد خُيّر فاختار ماعندالله، فقال للناس في حجه الوداع: ((لا ألقاكم بعد عامي هذا)) وقال للناس في غدير خم: ((يوشك أن أُدعي فأجيب)). لقد قعد رسول الله على فراش المرض، في بيت عائشه، وأحيط الناس علماً بإن الرسول سيموت من مرضه هذا، كل شئ واضح تماماً، أكمل الله الدين وأتم النعمه، ولقـــد جرت العادة أن تجتمع الأسرة عند مرضها. وأن تستمع إليه، فيلخص لها الموقف. وجرت العاده أن تجتمع عليه القوم عند زعيمهم إذا مرض مرض الموت ليلخص لهم الموقف وليعبروا له عن ارتباطهم به، وعن تقدريهم لجهده المميز الذي بذلوه طوال فترة قيادته لهم، هذا أمر طبيعي قد ألفته البشرية كلها، وقد حدث ويحدث مع كل أرباب الأسر وزعماء العالم فكيف بسيد ولد آدم محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو قائد الدعوة وقائد الدوله، العارف بماضيه وحاظره ومستقبله المشفق على أمته الرؤوف الرحيم بها؟! فهو الأولى بتلخيص الموقف، وإصدار توجيهاته النهائيه بالوقت الذي يراه مناسباً، ولم لا؟ فمحمد سيبقى رسمياً رسول الله ومتمتعاً بحقوق الرساله، ويبقى قائداً للدوله وإماماً وولياً للأمه ومتمتعاً بصلاحياته كافة حتى اللحظه التي تصعد فيها روحه الطاهرة إلى بارئها عز وجل.
ثم إن رسول الله كان يقعد على فراش مملوك له، وداخل بيته المملوك له لا في بيوت الناس، ومن حق المريض اي مريض على الاطلاق أن يقول مايشاء، ومن حق صاحب البيت - أي صاحب البيت - أن يقول داخل بيته ما يشاء، هذا حق طبيعي للإنسان تعارفت عليه البشريه واحترمته على مختلف ألوانها ومعتقداتها، ومحمد كسيد ولد آدم وكإنسان هو الأولى بممارسه هذا الحق!! ثم إن محمداً رسول الله على صلة دائمة بالله تعالى، وعلى ارتباط عميق بالوحي، والملائكة تنزل وتصعد في كل لحظة، وأهل السماء في شغل شاغل لتغطيه حدث موته وهو يعي وعياً تاماً مايدور حوله، ومتأثر بحفاوة أهل السماء به!!
ثم إن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الوقت يخطط ويعبئ ويشرف على تسيير جيش أسامة انذاك!!
ومن كانت حاله كحالة النبي هذه، لايمكن أن يكون قاصراً، ولايمكن أن يكون بحاجة إلى توجيهات رعاع العرب، وليس مجنوناً، أو فاقداً للسـيطرة على نفسه، ولا هاجراً أو يهجر ،كما زعم عمر بن الخطاب، والانقلابيون الذين أقتحموا عليه الغرفة المقدسة!!
من المؤكد أن رسول الله قد حدد موعداً لكتابة توجيهاته النهائية وتلخيصه للموقف،
ومن المؤكد أنه قد طلب حظور عدد من أهل ثقته ومن خواصه ليشهدوا كتابة توجيهاته ،حتى يكونوا عوناً لولي الأمر من بعده، وحجٍة على خصمه، فمحمد ليس رجلاً عادياً ،إنما هو خيرة الله من خلقه، ورسول الله، و ولي الأمة، وقائد دولتها، فمن غير الممكن عقــلاً أن لايستحظر أحداً عند كتابة توجيهاته النهائيه.
طالما أن الرسول قد حدد الموعد داخل بيته، ولم يعلم به إلا أهل بيت النبوة وزوجات الرسول فكيف عرف عمر بن الخطاب بهذا الموعد المحدد حتى جاء إليه ومعه حشد هائل من أنصاره ومن قادة التحالف ليحولوا بين رسول الله وبين كتابة توجيهاته النهائية؟ ومن الذي أخبر عمر عن مضمون التوجيهات النهائيه حتـى عرفها تماماً وحشد حشده، أعترف عمر بن الخطاب في ما بعد قائلاً: ((لقد أراد رسول الله في مرضه أن يصرح باسم علي بن أبي طالب فمنعته)). (شرح النهج ج3 ص105).
مما يعني: أن عمر عرف وقت كتابـة التوجيهات النهائية، ومضمون هذه التوجيهات من مصدر ما داخل بيت الرسول!! عندئذ كانت مع عمر المدة الكافية ليجمع قادة التحالف، ويخبرهم بالموعد وبالمضمون معاً ويتفق وإياهم على خطة للحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما أراد. فمن هو هذا المصدر من بيت الرسول الذي أنبــأ عمر بموعد كتابة التوجيهات النهائية وبمضمون هذه التوجيهات؟
هذا المصدر أو المخبر يكره علي بن أبي طالب بالضرورة، ويعارض خلافة علي للنبي؛ وتربطه بعمر وبأبي بكر علاقة قوية جداً ومميزة! ومن المستحيل استحالة مطلقه أن يكون من أهل بيت النبوة، إذن لابد أن يكون أحد الخدم، أو زوجات الرسول، والخدم لايجرؤون إطلاقاً على مثل هذا العمل الخطير، فيبقى الاحتمال المؤكد إن احد زوجات الرسول قد أطلعت عمر على وقت كتابة التوجيهات وعلى مظمون هذه التوجيهات لأنها سمعت الرسول يتكلم بذلك مع علي بن أبي طالب عليهما السلام.
وبهذه الحالة تقفز إلى الذهن حفصة زوجة الرسول وإبنه عمر بن الخطاب، وتقفز عائشه زوجة الرسول وإبنه أبو بكر، قال الواقدي في مغازيه: ((إن ابا بكر وعمر لايفترقان، وإن عائشة وحفصة ابنتاهما كانتا معاً)). ربما كانتا معا قد أخبرتا عمر، أو كانت إحداهما قد اخبرت عمر عن موعد كتابة التوجيهات النهائية وعن مضمون هذه التوجيهات.
وقد أخبرنا الله تعالى عن تظاهر زوجتين من زوجات الرسول عليه فقال: (إن تظاهرا عليه فأن الله هو مولاه). وقال عمر بـن الخطاب في ما بعد أن اللتين تظاهرتا على الرسول هما حفصة وعائشة، وهكذا اخرج البخاري في تفسير هذه الآيه (صحيح البخاري 3/137،3/136)، وأن الله سبحانه وتعالى طلب منهما أن تتوبا إلى الله، والتوبـة لاتطلب إلا من المذنب.
واتلوا ما أنزل الله تعالى: ((أن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)). قالت عائشة للنبي يوما: ((أنت الذي تزعم أنك رسول الله))! ( آداب النكاح من الأحياء 2/35 لمحمد الغزالي، وذكره في مكاشفة القلوب باب 94 ص237)، ولهما ضرب الله مثلا امرأة نوح وامرأة لوط (تفسير القرطبي 18/202، وفتح القدير للشوكاني 5/255). كل هذا يرجع أن تكون إحداهما قد أخبرت عمر بموعد كتابة التوجيهات النهائية وبمضمون هذه التوجيهات. ولكن من منهما؟ لنتابع استقراءنا للنصوص:
روى البخاري في صحيحه (كتاب الجهاد والسير) باب ماجاء في أزواج الرسول عن عبدالله بن عمر بن الخطاب قال: ((قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: هاهنا الفتنة، هاهنا الفتنة، هاهنا الفتنة، - ثلاثا- من حيث يطلع قرن الشيطان)) راجع صحيح البخاري ج4 ص100.
وفي لفظ آخر خرج رسول الله من بيت عائشة فقال: ((رأس الكفر من ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان)). (صحيح مسلم كتاب الفتن باب القتنة من المشرق 560/2, 31/18_ 33 بشرح النووي).
فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الرسول كان مريضاً في بيت عائشه وأن المواجهة بين الرسول وبين عمر بن الخطاب تمت في بيت عائشة قرب الاحتمال أن تكون عائشة زوجة النبي هي التي أخبرت عمر بن الخطاب عن موعد كتابة التوجيهات النهائية، وعن مضمون هذه التوجيهات!! وعلى اثرها استعد عمر وحشد عدداً كبيراً من أعوانه فكسروا خاطر النبي الشريف وحاولوا بينه وبين كتابة ما أراد.
ومن جهة أخرى، فأن عائشة كانت تكره الإمام علي وتحقد عليه ولاتطيق ولاتحتمل أن تلفظ حتى اسمه بدليل: عن عبيدالله بن عبدالله بن مسعود عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله وأشتد به وجعه.. فخرج بين رجلين تخط رجلاه الأرض بين ابن عباس ((تعني الفضل)) وبين رجل اخر قال عبيدالله فأخبرت عبدالله بن عباس بالذي قالت عائشه فقال لي عبدالله بن عباس هل تدري من الرجل الأخر الذي لم تسـم عائشة؟ قال:قلت لا. قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب، ثم قال: إن عائشة لاتطيب له نفساً بخير)).(الطبقات الكبرى لابن سعد 2/29بسند صحيح ط ليدن،2/232طبعة دار صادر بيروت،وصحيح البخاري باب مرض النبي ووفاته239 /5-140 طبعة دار الفكر "ولكن البخاري حذف لاتطيب له نفسا بخير" وراجع السيرة الحلبية 3/334 )!
عن عطاء بن يسار قال: جاء رجل فوقع في علي وفي عمار عند عائشة فقالت عائشة: ((أما علي فلست قائلة لك فيه شئ وأما عمار فقد سمعت رسول الله يقول فيه لايخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما)). (مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/113).
وفي ما بعد خرجت على الامام علي، وحاربته ونبحتها كلاب الحوأب، بدعوى المطالبة بدم عثمان مع أنها هي التي افتت بقتله!! (تاريخ اليعقوبي 2/152،وشرح النهج تحقيق أبي الفضل 215/ 6-216 وتذكرة الخواص ص 64/61، وتاريخ الطبري 4/407، والكامل لابن اثير 3/206)!
مع أن عائشة قد خسرت حربها، ووقعت أسيرة بعد أن اثارتها فتنة عمياء إلا أن الإمام علي أكرمها وأعادها معززة مكرمة. ولما قتل عثمان كانت تتصورأن الناس سيبايعون ابن عمها طللحة. قال البلارذي في أنساب الأشراف (ص217): (كانت عائشة في مكة حين بلغها قتل، ولم تكن تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر فقالت:بعداً ((لنعثل)) أي لعثمان وسحقاً إيه ذا الأصبع أبا شبل إيه يا ابن عم لكأني أنظر إلى أصبعه وهو يبايع)،تعني بذلك ابن عمها طلحة.
ولما علمت أن طلحة لم يُبايع، وأن النـاس قد أجتمعوا على علي ابن ابي طالب صعقت فقالت: (والله، ليت أن هذه انطبقت على هذه) أي انطبقت السماء على الأرض. ثم قالت ردوني ردوني وقادت فتنتها العمياء بالتعاون مع طلحة والزبير أكثر المؤبلين على عثمان للمطالبة بدم عثمان!!
ومع أن الإمام علي أكرمها وأعادها معززة مكرمة إلى بيتها التي خرجت منه وقد أمرت أن تقرّ فيه إلا إنه لما بلغها موت الإمام علي ((سجدت لله شكراً)). (مقاتل الطالبين لأبي فرج الاصفهاني ص 43، وكتاب الجمل للشيخ المفيد 83-84).
هذه طبيعة مشاعر عائشة نحو علي بن أبي طالب عليه السلام، فمن الطبيعي أن تتحالف مع أي كان لصرف الأمر عنه، ومن الطبيعي أن تخبر عمر وأبا بكر عن موعد كتابة التوجيهات النبوية النهائية وعن مضمون هذه التوجيهات وأن تشترك معهما باتخاذ كل مايلزم للحيلولة بين الإمام علي وحقه الشرعي بالقيادة من بعد النبي، وهي تعلم علم اليقين أن علي هو صاحب الأمر شرعاً من بعد النبي.
ولكن كيف تحب من قتل اولاد عمها في بدر، إنها تكره علي وتكره ذريته، فعندما أرادوا دفن ابن النبي الحسن بن علي بجانب جده رسول الله، ركبت عائشة بغلاً، واستعونت بني أمية ليحولوا بين الحسن وبين أن يدفن بجانب جده!! (راجع ترجمه الحسن من مقاتل الطالبيين).
وجائها القاسم بن محمد بن أبي بكر وقال لها: ((ياعمة ماغسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال (يوم البغلة الشهباء))!! (مروج الذهب للمسعودي).
فعلت كل هذا وقد أذنت أن يدفن ابوها، وعمر بن الخطاب مع أن الدار لرسول الله لا لها ،ولها منها 1/9 الثمن فقط وفي ذلك يقول ابن العباس:
تجملت تبغلت
ولو عشت تفيّلت
لك التسع من الثمن
وبالكل تملّكت
والتي تفعل كل هذا يهون عليها أن تخبر عمر بن الخطاب وقادة التحالف عن موعد كتابة التوجيهات النبوية النهائية وعن مضمون هذه التوجيهات.
والمكانة التي تمتعت بها عائشة هي التي اخبرتهما بموعد ومضمون التوجيهات النبوية الإلهية، حتى عدا العدة، وحالا بين الرسول وبين كتابة ما أراد، وكسرا خاطره الشريف.
فلا أحد من المسلمين والمسلمات كان يأخذ عطاء في عهدي أبـي بكر وعمر أكثر من عائشة وحفصة، فلكل منهما إثتنا عشر ألفا فهما مميزتان على نساء الرسول اللواتي أعطيت لكل واحدة منهن عشرة الاف.
وكلمة عائشة عند عمر كانت أمراً، أنظر إلى قوله: ((ومن تأمرني أن أستخلف)) ذلك أنه لما طعن عمر أرسل ابنه عبدالله بن عمار ليستأذن عائشة فيدفن في بيت الرسول إلى جانبه وجانب أبي بكر، فقالت عائشة حباً وكرامة، ثم قالت لعبدالله بن عمر ((يا بني أبلغ عمر سلامي وقل لاتدع أمه محمد بلا راع، أستخلف عليهم ولاتدعهم بعدك هملاً، فإني أخشى عليهم الفتنة!!! عندئذ قال عمر: ومن تأمرني أن استخلف)). (الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري22/1).
فلو أمرته أم المؤمنين أن يستخلف أعرابياً من البادية لفعل، فهو مدين لها بمنصب الخلافة، فلو لم تخبره بموعد ومضمون التوجيهات النبوية النهائية لسار الأمر سيراً طبيعيا لما اختلف اثنان في ما بعد.
والخلاصة وغلى ضوء ماذكرنا: فإن عائشة هي المصدر والمخبر الذي أخبر عمر بن الخطاب وقادة التحالف بموعد كتابة التوجيهات النبوية النهائية وبمضمون هذه التوجيهات، مما أعطي عمر الوقت والفرصة ليجمع قادة التحالف ويقتحم بهم بيت رسول الله فيحولوا بينه وبين كتابة ما أراد.
منذ اعلان النبوة والرسالة، وبطون قريش بحركة لايستقيم لها حال، وهمها الاعظم صرف شرف النبوة عن محمد الهاشمي، والحيلولة بين العرب وبين الاعتراف بهذه النبوة، لا كراهية بالدين الجديد، فليس في الدين الجديد ماتعافه النفس البشرية، ولكن حسداً لبني هاشم، وبعد مقاومة ضارية، وحرب ضروس دامتا 21 عاماً قتل الهاشميون خلالها أكثر ابناء بطون قريش وجاهة وصارت البطون تحقد على محمد والهاشميون لانهم قتلة الأحبة وهكذا جمعت البطون بجيش جرار قوامه عشرة آلاف مقاتل يغزوها في عقر دارها بقيادة محمد والهاشميين، فاستسلمت وتلفظت بالشهادتين، ولكن الحسد والحقد على بني هاشم كانا قد استقرا في نفوس أبناء البطون نهائياً. ولم ينقب الرسول الكريم عما في نفوس البطون بلأكتفى بالظاهر لأن البواطن اختصاص إلهي، وفتح النبي صفحة جديدة، وقالت البطون أنها قد نسيت الماضي، وأسفت عليه وأنها تفتح صفحة جديدة أيضاً. وكان فتح مكه فرصة لألتقاء أبنـآء قبيلة قريش، المهاجر منهم والطليق، وفرصة لتذكر الذين قتلت أكثريتهم على يد الهاشميين وبسبب محمد، وكانت فرصة لتذكر الصيغة السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف بين البطون، وعلى التوازن والتعادل في ما بينها.
وركز النبي تركزا خاصا على منصب القيادة من بعده وعلى اعتباره النظام الواقعي الامثل الذي يبقى جموع المسلمين داخل اطار الشرعية والمشروعية، وبأمر من ربه قدم الرسول علي بن أبي طالب كأول إمام وقائد للأمه من بعده.
حظر اللذين اصطفاهم النبي ليكتب أمامهم التوجيهات النهائية وليلخص أمامهم الموقف، وفجأة حظر عمر بن الخطاب ومعه قادة التحالف وعدد كبير من أعوانه، الذين اتفق معهم عمر على خطة تحول بين النبي وبين كتابة ما أراد. وحظور أعوان عمر لم يكن بالحسبان!! كيف يفعل النبي أمام هذه المفاجأة؟ هل يلغي الموعد، ويضرب موعداً جديداً، أم يمضي قدماً إلى حيث أمره الله؟ لقد أختار النبي الحل الاخير فقال:
((قربو أكتب لكم كتابا لن تضلو بعده أبدا)) وفي رواية ثانية: ((أئتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تظلو بعده أبدا)) وفي رواية ثالثة: ((أئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تظلو بعده أبدا)) وفي رواية رابعة: ((أئتوني أكتب لكم كتابا لاتظلو بعده أبدا)) وفي رواية خامسة: ((أئتوني أكتب لكم كتابا لن تظلو بعده أبدا)) وفي رواية سادسة قال: ((ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لاتظلوا بعده أبدا))، وفي روايه سابعة قال الرسول: ((هلم أكتب لكم كتابا لن تظلوا بعده)).
تعليق