بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خاتم النبيين وأشرف المرسلين وسيد الأولين والآخرين وخير خلق الله أجمعين حبيب إله العالمين أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الأخيار المنتجبين وزوجاته الصالحات أمهات المؤمنين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال تعالى في محكم كتابه المجيد (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة : 2 )
فقد امتن الله على خلقه ببعث نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعله مبلغا لوحيه سبحانه وشارحا لكتابه المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين ولا من خلفه.
وقد جعل سبحانه وتعالى كتابه المجيد نورا يهتدي به السالكون إليه سبحانه وتعالى، فأمرنا بتدبره والتزام نهجه وتصديق ما جاء به من خبر عن الأولين والآخرين فقال سبحانه (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرا)ً (النساء : 82 )، وقال سبحانه (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة : 121 )، وقال عز من قائل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً) (النساء : 136 )، وقال جل وعلا وتقدست أسماؤه (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام : 155 )
ومن سمات الكتاب المجيد أنك لا تجد فيه اختلافا ولا تناقضا، فقال سبحانه وتعالى(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء : 82 )، بل يعاضد بعضه بعضا ويفسر بعضه بعضا، وقد نهينا عن الأخذ ببعضه وترك بعضه فقال سبحانه(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة : 85 ) وإنما مسلك المؤمن المطيع لربه أن يفسر القرآن بالقرآن ولا يأخذ ببعضه دون بعض.
السابقون الأولون في القرآن
قال الله جل وعلا في محكم التنزيل:
(وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة : 100 )
ونحن بدورنا نحاول من خلال جهدنا المتواضع في هذا البحث وضع هذه الآية الكريمة تحت مجهر قرآني حتى نستكشف معانيها ومقاصدها والتماس الطريق القويم في تفسيرها اعتمادا على ما أسلفنا ذكره من تفسير آيات الذكر الحكيم تفسيرا ذاتيا يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن راجين الله جل وعلا أن يجعله في ميزان حسناتنا ويرزقنا به رضوانه سبحانه.
السبق في الآية الكريمة:
لقد وصف الله جل وعلا الفئة المذكورة بالآية الكريمة بـ (السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ)، فيجب علينا أولا أن نتعرف علي طبيعة هذا السبق ومقصوده من القرآن الكريم، هل هو سبق إلى مجرد النطق بالشهادتين؟؟ أم سبق إلى الإيمان وليس الإسلام فقط؟؟
قال الله جل وعلا في كتابه المجيد (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر : 10 )
لقد بين المولى عز وجل في هذه الآية الكريمة أن السبق المذكور في قوله سبحانه (السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ) إنما هو سبق للإيمان، وليس فقط الإسلام الذي يتحقق بمجرد النطق بالشهادتين، ومن المعلوم من آيات الكتاب المجيد أن الإيمان لا يتحقق بالضرورة بمجرد تحقق الإسلام، وقد بين سبحانه وتعالى ذلك في قوله عز من قائل (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات : 14 ).
كما أن الآية الكريمة موضع البحث قد تضمنت شرطا آخر ألا وهو شرط الإحسان في قوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ)، وقد علم كل عاقل أن الشرط إذا كان في التابعين فلا بد أن يكون متوفرا في المتبوعين أولا.
من ذلك نستنتج أن الله جل وعلا قد وضع شرطين أساسيين:-
أولا: الإيمان.
ثانيا: الإحسان.
حول الشرط الإيمان:
والآن نثير بعض التساؤلات التي سيظهر من خلالها الحق واضحا جليا إن شاء الله...
هل شرط الإيمان الذي شرطه الله جل وعلا قد تحقق في كل من تسموا بالهجرة والنصرة؟؟
بعبارة أخرى: هل كل المهاجرين والأنصار الأوائل بالضرورة متحقق فيهم شرط الإيمان؟؟ بحيث نكون في غنى عن البحث في سيرة كل واحد منهم لنعرف موقعه من الإيمان... أم أن هناك ما يدل على أن شرط الإيمان لم يكن موجودا فيهم بأجمعهم... فنلجأ إلى البحث بتعقل ومنطقية لنتعرف مدى تحقق هذا الشرط في كل واحد منهم ومن ثم معرفة مدى انطباق الآية عليه.
وبعد بحث متأن في آيات الذكر الحكيم تبين لنا الآتي :-
1- بالتأمل في الآية الكريمة نجد أن هذا السبق ليس متحققا فيهم بمجموعهم من باب الضرورة، ويظهر ذلك من التمعن في قوله تعالى (وًالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ)، فكلمة الأولون تفيد السبق الزماني، أي أوائل المذكورين بالآية المباركة وهم المهاجرون والأنصار، ولو كان كل الأولين من المهاجرين والأنصار سابقين إلى الإيمان لما وضع الله عز وجل شرط السبق قبل ذكر الأوليٍّة، ففي ذلك زيادة لا فائدة منها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
2- قال المولى عز وجل (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) (المدّثر : 31 )
لقد بين الله سبحانه في هذه الآية فئات أربع، وهم:
أ- الذين أوتوا الكتاب.
ب- المؤمنون.
ج- الذين في قلوبهم مرض.
د- الكافرون.
والآن نأتي إلى الذين في قلوبهم مرض... بالطبع هم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب لأن الله ميزهم عنهم في الآية، وكذلك ليسوا من الكافرين عبدة الأوثان لأن الكافرين جاءوا بالآية الكريمة معطوفين عليهم في قوله سبحانه (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ)، وطالما ليسوا من أهل الكتاب ولا الكافرين فهم مسلمون قطعا يشهدون بالشهادتين ، ليس كذلك فقط، بل إنهم من السابقين الأوائل للإسلام، حيث جاء ذكرهم بسورة المدثر التي تعد من أوائل السور التي نزلت في العهد المكي.
وبالطبع هم ليسوا بمؤمنين، فالله جل وعلا ميزهم عنهم كذلك في الآية الكريمة، مما يدل على أنه من السابقين الأوائل للإسلام قوم ليسوا بمؤمنبن، بل في قلوبهم مرض!!!
وهنا تساؤل... هل ظلت هذه الفئة إلى وقت الهجرة؟ وهل كان من بين صفوف المهاجرين من لم تكن هجرته خالصة لوجه الله تعالى؟
هنا نسوق حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والذي اتفق على صحته جل المسلمين بل كلهم... وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).. فالحديث يحمل بين طياته حقيقة ملفتة، وهي انه ليس كل من هاجر كانت هجرته لله ورسوله، بل منهم من هاجر لامرآة ينكحها، ومنهم من هاجر لدنيا يصيبها ...!!!!
وهذا يؤكد أن هذه الفئة غير المؤمنة ظلت متواجدة بل كانت في عداد المهاجرين، والهجرة لغرض دنيوي لهي أكبر مصداق لقوله تعالى (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ).
وبذلك يظهر واضحا جليا أن تطبيق الوعد في الآية الكريمة موضع البحث على كل المهاجرين والأنصار بشكل عام إنما هو تعسف في التفسير وتحميل للنص ما لا يحتمل، وعليه لابد من البحث في سيرة كل منهم وتتبع مسار حياته لنتأكد من شمول الوعد له بالآية المباركة.
حول شرط الإحسان:
إن الحديث حول ذلك الشرط لا يختلف كثيرا عن الحديث حول الشرط السابق، غير أن هذا الشرط مرتبط بمسألة هامة، وهي الخاتمة، فلا يمكن أن يسمى محسنا من كان في أول حياته كذلك ثم كانت خاتمته على خلاف ذلك، وإلا فإن إبليس كان من أعبد العابدين لله جل وعلا في بداية حياته..!!!!
خلاصة البحث
ويمكننا تلخيص نقاط البحث فيما يلي.
أولا: القرآن الكريم وضع شرطين رئيسيين للفئة المذكورة بالآية موضع البحث، وهما الإيمان والإحسان.
ثانيا: تبين لنا من خلال التمعن في آيات الذكر الحكيم أن السابقين الأوائل للإسلام ليسوا جميعا بالضرورة مؤمنين، بل كان منهم من في قلبه مرض!!
ثالثا: الآية الكريمة بينت أن الله جل وعلا رضي عن المذكورين في الآية بشرط، فلابد من تحقق هذا الشرط فيهم حتى نهاية حياتهم لا فقط وقت نزول الآية.
تعليق