الحسين بن علي بن ابي طالب عليهما السلام
الكلمة التي انطلقت من لسان لتُفرع الملايين من الأشياع، هذه الكلمة أعجوبتها إنها كانت جسدا. أعجوبتها أنها كانت إنسانا، إنسانا عرف البراءة، فعرف قسوة الحفاظ عليها، ولوعة الانعزال بها، ووحشة الغربة في فردوسها الوحيد. لقد كان حسين نفساً بريئة، براءة العارف فاجعة الوجود، لكن معرفته لم تبعثه على اليأس إنما على الشجاعة. فحين كان يصمت فاحتراما للحياة لا تسليماً لها، وحين كان يزهد فعن قوة لا عن بخل، وحين كان يغضب فقاعدة غضبه الرحمة.
ومن يقرؤه يقرأ لثائر. الكلمة عنده تتوتر باستمرار، تتوتر وتشتاق إلى ما هو أكثر منها، وتتعذب، وتصفو، وتفرد وراءها أصداء عميقة وظلالاً حية. الكلمة عنده كائن متحرق.
ليست بليغة فحسب، بل هي ما بقي على لسانه من لقاء التأمل الفكري بمعاناة الأعصاب.
أحب حسينا لأنه. بعد كل هذه المئات من السنين. أطالعه فأسمعه. واسمعه فأصغي إليه. وأصغي إليه فأشعر انه واقف في الزمان كالجرح. ككل صرخة بارة تكسر جدار الزمان. ليس بيننا وبينه مئات من السنين. أنه هنا. صوته في ملايين الناس مسلمين و مسيحيين و غيرهم . صراعه الذي كان.صراع في ما هو كائن. وكفاحه ضد ما كان كفاح ضد ما هو كائن.
تركت الخلق طرا في هواك و ايتمت العيال لكي اراك
فلو قطعتني في الحب اربا لما مال الفؤاد الى سـواك
بكاء أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق على مصيبة جده الحسين عليهما السلام
روى ابن قولويه في الكامل بسنده عن ابن خارجة قال : كنا عند أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام فذكرنا الحسين بن علي عليهما السلام فبكى أبو عبد الله و بكينا ثم رفع رأسه فقال: قال الحسين بن علي أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى (و روى) في الكتاب المذكور بسنده عن مسمع كردين قال : قال لي أبو عبد الله يا مسمع أنت من أهل العراق أما تأتي قبر الحسين قلت لا أنا رجل مشهور من أهل البصرة و عندنا من يتبع هوى هذا الخليفة و أعداؤنا كثيرة من أهل القبائل من النصاب و غيرهم و لست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيميلوا علي قال أ فما تذكر ما صنع به قلت بلى قال فتجزع قلت و الله و استعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك علي فامتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي قال رحم الله دمعتك أما إنك من الذين يعدون في أهل الجزع لنا و الذين يفرحون لفرحنا و يحزنون لحزننا و يخافون لخوفنا و يأمنون إذا أمنا (إلى أن قال) ثم استعبر و استعبرت معه فقال الحمد لله الذي فضلنا على خلقه بالرحمة و خصنا أهل البيت بالرحمة يا مسمع إن الأرض و السماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين رحمة لنا و ما بكى أحد رحمة لنا و ما لقينا إلا رحمهالله.
و روى الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد عن عبد الله بن سنان قال دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام في يوم عاشوراء فلقيته كاسف اللون ظاهر الحزن و دموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط فقلت يا ابن رسول الله مم بكاؤك لا أبكى الله عينيك فقال لي أو في غفلة أنت أما علمت أن الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم فقلت يا سيدي فما قولك في صومه فقال لي صمه من غير تبييت و أفطره من غير تشميت و لا تجعله يوم صوم كامل و ليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء فإنه في مثل ذلك الوقت من اليوم تجلت الهيجاء عن آل رسول الله صلى الله عليه و آله و انكشفت الملحمة عنهم و في الأرض منهم ثلاثون رجلا صريعا في مواليهم يعز على رسول الله صلى الله عليه و آله مصرعهم و لو كان في الدنيا يومئذ حيا لكان صلى الله عليه و آله هو المعزي بهم قال و بكى أبو عبد الله عليه السلام حتى أخضلت لحيته بدموعه.
بكاء الرضا على الحسين عليهما السلام
روى الصدوق في الأمالي بسنده عن الرضا عليه السلام أنه قال إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه الظلم و القتال فاستحلت فيه دماؤنا و هتكت فيه حرمتنا و سبي فيه ذرارينا و نساؤنا و أضرمت النار في مضاربنا و أنهب ما فيه من ثقلنا و لم ترع لرسول الله صلى الله عليه و آله حرمة في أمرنا أن يوم الحسين أقرح جفوننا و أسبل دموعنا و أذل عزيزنا بأرض كرب و بلاء و أورثنا الكرب و البلاء إلى يوم الانقضاء فعلى مثل الحسين فليبك الباكون.
روى الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال دخل دعبل بن علي الخزاعي رحمهالله علي أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام بمرو فقال له يا ابن رسول الله إني قد قلت فيكم قصيدة و آليت على نفسي أن لا أنشدها أحدا قبلك فقال عليه السلام هاتها فأنشده:
مدارس آيات خلت من تلاوة و منزل وحي مقفر العرصات
فلما بلغ إلى قوله:
أرى فيئهم في غيرهم متقسما و أيديهم من فيئهم صفرات
بكى أبو الحسن الرضا عليه السلام و قال له صدقت يا خزاعي. حداد بني هاشم و نسائهم على الحسين عليه السلام حتى قتل ابن زياد
عن الصادق عليه السلام أنه قال ما اكتحلت هاشمية و لا اختضبت و لا رئي في دار هاشمي دخان خمس سنين حتى قتل عبيد الله بن زياد .
و عن فاطمة بنت علي أمير المؤمنين عليه السلام أنها قالت ما تحنات امرأة منا و لا أجالت في عينها مرودا و لا امتشطت حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد .و روى ابن قولويه في كامل الزيارة بسنده عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام أنه قال : ما اختضب منا امرأة و لا أدهنت و لا اكتحلت و لا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد و ما زلنا في عبرة بعده و كان جدي »يعني علي بن الحسين عليهماالسلام« إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته و حتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه.
الحزن يوم عاشوراء سنة و جعله عيدا أقبح البدع
من السنة يوم عاشوراء إظهار الحزن و الجزع و البكاء و الجلوس لذلك، (أولا) لأن فيه مواساة لرسول الله صلى الله عليه و آله الذي لا شك في أنه حزين في ذلك اليوم جزعا على ولده و فلذة كبده و من كان في حياته يحبه أشد الحب و يعزه و يكرمه و يلاعبه و يداعبه و يحمله على كتفه و الذي كان بكاؤه يؤذيه و لم يرض من أم الفضل أن تناله بشيء يبكيه و أي مسلم يرغب عن مواساة نبيه في حزنه على حبيبه و ولده و فلذة كبده أم أي طاعة أعظم و أجل و أفضل عند الله تعالى و أحب إليه و أشد تقريبا لديه من مواساة أفضل رسله في حزنه على ولده الذي بذل نفسه لإحياء دينه.
ثانيا أنه ثبت عن أئمة اهل البيت النبوي أنهم أقاموا المآتم في مثل هذا اليوم بل في كل وقت و حزنوا و بكوا لهذه الفاجعة و حثوا أتباعهم على ذلك فقد ثبت عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا و كانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام منه فإذا كان العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته و حزنه و قد مر بكاء الصادق عليه السلام لما أنشده السيد الحميري حتى بكى حرمه من خلف الستر و مر بكاء زين العابدين بعد قتل أبيه عليه السلام طول حياته و احتجاجه لما ليم في ذلك بأن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيا ابن نبي و قد بكى على فراق ولده يوسف حتى ذهب بصره و احدودب ظهره و ابنه حي في دار الدنيا قال و أنا رأيت أبي و أخي و سبعة عشر رجلا من أهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني و يقل بكائي و تقدم بكاء سائر أئمة اهل البيت عليهم السلام لذلك و هم نعم القدوة و لنا بهم أحسن الأسوة.
أما اتخاذ يوم عاشوراء يوم عيد و فرح و سرور و إجراء مراسيم الأعياد فيه من طبخ الحبوب و شراء الألبان و الاكتحال و الزينة و التوسعة على العيال فهي سنة أموية حجاجية و هي من أقبح البدع و أشنعها و إن كان قد اختلق فيها علماء السوء و أعوان الظلمة شيئا من الأحاديث فإنما ذاك في عهد الملك العضوض عداوة لرسول الله صلى الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام و مراغمة لشيعتهم و محبيهم و تبعهم من تبعهم غفلة عن حقيقة الحال و كيف يرضى المسلم لنفسه أن يفرح في يوم قتل ابن بنت نبيه و في يوم يحزن فيه رسول الله صلى الله عليه و آله و أهل بيته كما مر في مطاوي ما تقدم و لم يكن جعل يوم عاشوراء عيدا معروفا في الديار المصرية و أول من أدخله إليها صلاح الدين الأيوبي كما حكاه المقريزي في خططه و الظاهر ان الباعث عليه كان أمرا سياسيا و هو مراغمة الفاطميين الذين سلبهم صلاح الدين ملكهم فقصد إلى محو كل أثر لهم.و من السنة في يوم عاشوراء ترك السعي في الحوائج و ترك ادخار شيء فيه.
خروجه من المدينة
قال المفيد : روى الكلبي و المدائني و غيرهما من أصحاب السيرة قالوا لما مات الحسن عليه السلام تحركت الشيعة بالعراق و كتبوا إلى الحسين عليه السلام في خلع معاوية و البيعة له فامتنع عليهم و ذكر أن بينه و بين معاوية عهدا و عقدا لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة فإذا مات معاوية نظر في ذلك.فلما مات معاوية منتصف رجب سنة ستين من الهجرة و تخلف بعده ولده يزيد و كان الوالي في ذلك الوقت على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان و على مكة عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق من بني أمية و على الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري و على البصرة عبيد الله بن زياد .كتب يزيد إلى ابن عمه الوليد بن عتبة والي المدينة مع مولى لمعاوية يقال له ابن أبي زريق يأمره بأخذ البيعة على أهلها و خاصة على الحسين عليه السلام و لا يرخص له في التأخر عن ذلك و يقول إن أبى عليك فاضرب عنقه و ابعث إلي برأسه.
و كان معاوية قبل وفاته قد حذر يزيد من أربعة: الحسين بن علي و عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر و لا سيما من الحسين و ابن الزبير أما ابن الزبير فهرب الى مكة على طريق الفرع هو و أخوه جعفر ليس معهما ثالث و أرسل الوليد خلفه أحد و ثمانين راكبا فلم يدركوه و كان ابن عمر بمكة .و أما الحسين عليه السلام فأحضر الوليد مروان بن الحكم و استشاره في أمره.فقال إنه لا يقبل و لو كنت مكانك لضربت عنقه، فقال الوليد : ليتني لم أك شيئا مذكورا، ثم بعث إلى الحسين عليه السلام في الليل فاستدعاه فعرف الحسين عليه السلام الذي أراد فدعا بجماعة من أهل بيته و مواليه و كانوا ثلاثين رجلا و أمرهم بحمل السلاح و قال لهم إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت و لست آمن أن يكلفني فيه أمرا لا أجيبه إليه و هو غير مأمون فكونوا معي فإذا دخلت فأجلسوا على الباب فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عني، فصار الحسين عليه السلام الى الوليد فوجد عنده مروان بن الحكم فنعى إليه الوليد معاوية فاسترجع الحسين عليه السلام ثم قرأ عليه كتاب يزيد و ما أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد ، فلم يرد الحسين عليه السلام أن يصارحه بالامتناع من البيعة و أراد التخلص منه بوجه سلمي، فورى عن مراده و قال: إني أراك لا تقنع ببيعتي سرا حتى أبايعه جهرا فيعرف ذلك الناس، فقال له الوليد أجل، فقال الحسين عليه السلام تصبح و ترى رأيك في ذلك، فقال له الوليد انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان و الله لئن فارقك الحسين الساعة و لم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم و بينه و لكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه، فلما سمع الحسين عليه السلام هذه المجابهة القاسية من مروان الوزغ ابن الوزغ صارحهما حينئذ بالامتناع من البيعة و أنه لا يمكن أن يبايع ليزيد أبدا، فوثب الحسين عليه السلام عند ذلك و قال لمروان : ويلي عليك يا ابن الزرقاء أنت تأمر بضرب عنقي، كذبت و الله و لؤمت ، ثم أقبل على الوليد فقال: أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة و مختلف الملائكة بنا فتح الله و بنا ختم، و يزيد فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، و مثلي لا يبايع مثله، و لكن نصبح و تصبحون و ننظر و تنظرون أينا أحق بالخلافة و البيعة، ثم خرج يتهادى بين مواليه و هو يتمثل بقول يزيد بن المفرع :
لا ذعرت السوام في غسق الصبح مغيرا و لا دعيت يزيدا
يوم أعطي مخافة الموت ضيما و المنايا يرصدنني أن أحيدا
حتى أتى منزله.
و قيل إنه أنشدهما لما خرج من المسجد الحرام متوجها إلى العراق ، و قيل غير ذلك، فقال مروان للوليد : عصيتني لا و الله لا يمكنك مثلها من نفسه أبدا، فقال له الوليد : ويحك إنك أشرت علي بذهاب ديني و دنياي و الله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها و إني قتلت حسينا ، سبحان الله أقتل حسينا لما أن قال لا أبايع، و الله ما أظن أحدا يلقى الله بدم الحسين إلا و هو خفيف الميزان لا ينظر الله إليه يوم القيامة و لا يزكيه و له عذاب أليم.فقال مروان فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت، يقول هذا و هو غير حامد له على رأيه، قال المؤرخون: و كان الوليد يحب العافية.و الحقيقة أنه كان متورعا عن أن ينال الحسين عليه السلام منه سوء لمعرفته بمكانته لا مجرد حب العافية.و لما بلغ يزيد ما صنع الوليد عزله عن المدينة و ولاها عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق فقدمها في رمضان .
و أقام الحسين عليه السلام في منزله تلك الليلة و هي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين فلما أصبح خرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان فقال له يا أبا عبد الله إني لك ناصح فأطعني ترشد، فقال الحسين عليه السلام و ما ذاك قل حتى أسمع، فقال مروان : إني آمرك ببيعة يزيد بن معاوية فإنه خير لك في دينك و دنياك، فقال الحسين عليه السلام : إنا لله و إنا إليه راجعون و على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد .
و طال الحديث بينه و بين مروان حتى انصرف و هو غضبان فلما كان آخر نهار السبت بعث الوليد الرجال الى الحسين عليه السلام ليحضر فيبايع فقال لهم الحسين عليه السلام أصبحوا ثم ترون و نرى فكفوا تلك الليلة عنه و لم يلحوا عليه فخرج في تلك الليلة و قيل في غداتها و هي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجها نحو مكة .و لما علم ابن الحنفية عزمه على الخروج من المدينة لم يدر أين يتوجه، فقال له يا أخي أنت أحب الناس إلي و أعزهم علي و لست و الله ادخر النصيحة لأحد من الخلق و ليس أحد من الخلق أحق بها منك لأنك مزاج مائي {ص} و نفسي و روحي و بصري و كبير أهل بيتي و من وجبت طاعته في عنقي لأن الله قد شرفك علي و جعلك من سادات أهل الجنة تنح ببيعتك عن يزيد و عن الأمصار ما استطعت ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن تابعك الناس و بايعوا لك حمدت الله على ذلك و إن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك و لا عقلك و لا تذهب به مروءتك و لا فضلك و إني أخاف عليك أن تدخل مصرا من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك و أخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة غرضا فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا و أبا و أما أضعيها دما و أذلها أهلا، فقال له الحسين عليه السلام فأين أذهب يا أخي؟قال تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك و إن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن فإنهم أنصار جدك و أبيك و هم أرأف الناس و أرقهم قلوبا و أوسع الناس بلادا فإن اطمأنت بك الدار و إلا لحقت بالرمال و شعف الجبال و جزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يئول إليه أمر الناس و يحكم الله بيننا و بين القوم الفاسقين فإنك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الأمر استقبالا.
فقال الحسين عليه السلام يا أخي و الله لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ، فقطع محمد بن الحنفية عليه الكلام و بكى، فبكى الحسين عليه السلام معه ساعة، ثم قال: يا أخي جزاك الله خيرا فقد نصحت و أشفقت و أرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا و أنا عازم على الخروج إلى مكة و قد تهيأت لذلك أنا و إخوتي و بنو أخي و شيعتي أمرهم أمري و رأيهم رأيي و أما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخفي عني شيئا من أمورهم.
و أقبلت نساء بني عبد المطلب فاجتمعن للنياحة لما بلغهن أن الحسين عليه السلام يريد الشخوص من المدينة ، حتى مشى فيهن الحسين عليه السلام فقال: أنشدكن الله أن تبدين هذا الأمر، معصية لله و لرسوله، قالت له نساء بني عبد المطلب : فلن نستبقي النياحة و البكاء فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه و آله و علي و فاطمة و الحسن و رقية و زينب و أم كلثوم جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور.
و لما عزم الحسين عليه السلام على الخروج من المدينة مضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودعها ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن عليه السلام ففعل كذلك و خرج معه بنو أخيه و إخوته و جل أهل بيته إلا محمد بن الحنفية و عبد الله بن جعفر .
و خرج عليه السلام من المدينة في جوف الليل و هو يقرأ (فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) و لزم الطريق الأعظم فقال له أهل بيته لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب فقال لا و الله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض، فلقيه عبد الله ابن مطيع فقال له جعلت فداك أين تريد؟قال أما الآن فمكة و أما بعد فإني استخير الله قال خار الله لك و جعلنا فداك فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة بها قتل أبوك و خذل أخوك و اغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه ألزم الحرم فأنت سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا و يتداعى إليك الناس من كل جانب لا تفارق الحرم فداك عمي و خالي، فو الله لئن هلكت لنسترقن بعدك.و كان دخوله عليه السلام إلى مكة يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان فيكون مقامه في الطريق نحوا من خمسة أيام لأنه خرج من المدينة لليلتين بقيتا من رجب كما مر.
و دخلها و هو يقرأ (و لما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) فأقام بمكة باقي شعبان و شهر رمضان و شوالا و ذا القعدة و ثماني ليال من ذي الحجة .و أقبل أهل مكة و من كان بها من المعتمرين و أهل الآفاق يختلفون إليه و ابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار و يطوف و يأتي الحسين عليه السلام فيمن يأتيه اليومين المتواليين و بين كل يوم مرة و لا يزال يشير عليه بالرأي و هو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأنه قد علم أن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين عليه السلام باقيا في البلد و أن الحسين عليه السلام أطوع في الناس منه و أجل.
دعوة أهل الكوفة
و لما بلغ أهل الكوفة موت معاوية و امتناع الحسين عليه السلام من البيعة ارجفوا بيزيد و عقد اجتماع في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فلما تكاملوا قام سليمان فيهم خطيبا و قال في آخر خطبته: إنكم قد علمتم بأن معاوية قد هلك و صار إلى ربه و قدم على عمله و قد قعد في موضعه ابنه يزيد و هذا الحسين بن علي قد خالفه و صار إلى مكة هاربا من طواغيت آل سفيان و أنتم شيعته و شيعة أبيه من قبله و قد احتاج إلى نصرتكم اليوم فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه و مجاهدو عدوه فاكتبوا إليه و إن خفتم الوهن و الفشل فلا تغروا الرجل من نفسه قالوا بل نقاتل عدوه و نقتل أنفسنا دونه فأرسلوا وفدا من قبلهم و عليهم أبو عبد الله الجدلي و كتبوا إليه معهم :
(بسم الله الرحمن الرحيم) للحسين بن علي من سليمان بن صرد و المسيب بن نجبة و رفاعة بن شداد البجلي و حبيب بن مظاهر و عبد الله بن وال و شيعته من المؤمنين و المسلمين سلام عليك أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك و عدو أبيك من قبل الجبار العنيد الغشوم الظلوم الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها و غصبها فيئها و تأمر عليها بغير رضا منها ثم قتل خيارها و استبقى شرارها و جعل مال الله دولة بين جبابرتها و عتاتها فبعدا له كما بعدت ثمود و أنه ليس علينا إمام غيرك فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق و النعمان بن بشير في قصر الإمارة و لسنا نجتمع معه في جمعة و لا نخرج معه إلى عيد و لو قد بلغنا أنك أقبلت أخرجناه حتى يلحق بالشام إن شاء الله تعالى و السلام عليك و رحمة الله يا ابن رسول الله و على أبيك من قبلك و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
و قيل إنهم سرحوا الكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمذاني و عبد الله بن وال و أمروهما بالنجاء فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين عليه السلام بمكة لعشر مضين من شهر رمضان ثم لبثوا يومين و أنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي و عبد الرحمن بن عبد الله بن شداد الأرحبي و عمارة بن عبد الله السلولي إلى الحسين عليه السلام و معهم نحو مائة و خمسين صحيفة من الرجل و الاثنين و الأربعة و هو مع ذلك يتأنى و لا يجيبهم فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب و تواترت الكتب حتى اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب ثم لبثوا يومين آخرين و سرحوا إليه هاني بن هاني السبيعي و سعيد بن عبد الله الحنفي و كانا آخر الرسل و كتبوا إليه:
(بسم الله الرحمن الرحيم) للحسين بن علي من شيعته من المؤمنين و المسلمين أما بعد فحيهلا فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل ثم العجل العجل و السلام.ثم كتب معهما أيضا شبث بن ربعي التميمي و حجار بن أبجر العجلي و يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم الشيباني و عزرة بن قيس الأحمسي و عمرو بن الحجاج الزبيدي و محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب ابن زرارة التميمي (أما بعد) فقد أخضر الجناب و أينعت الثمار فإذا شئت فأقبل على جند لك مجند و السلام عليك و رحمة الله و بركاته و على أبيك من قبلك.
و دعا الحسين عليه السلام ابن عمه مسلم بن عقيل و قيل إنه كتب معه جواب كتبهم فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي و رجلين آخرين و أمره بالتقوى و كتمان أمره و اللطف فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل اليه بذلك فأقبل مسلم رحمهالله حتى أتى المدينة و استأجر دليلين من قيس فأقبلا به يتنكبان الطريق و أصابهما عطش شديد فعجزا عن السير فأومأ له إلى سنن الطريق و مات الدليلان عطشا فكتب مسلم إلى الحسين عليه السلام من الموضع المعروف بالمضيق و هو ماء لبني كلب مع قيس بن مسهر أما بعد فإني أقبلت من المدينة مع دليليين فجارا عن الطريق فضلا و اشتد علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا و أقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا و ذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبت و قد تطيرت من توجهي هذا فإن رأيت أعفيتني منه و بعثت غيري و السلام فكتب إليه الحسين عليه السلام : قد خشيت أن لا يكون حملك لى الاستعفاء إلا الجبن فامض لوجهك الذي وجهتك فيه فقال مسلم أما هذا فلست أ تخوفه على نفسي فأقبل حتى مر بماء لطيء فنزل ثم ارتحل عنه فإذا برجل يرمي الصيد فنظر إليه و قد رمى ظبيا حين أشرف له فصرعه فقال مسلم نقتل عدونا إن شاء الله ثم أقبل حتى دخل الكوفة فنزل دار المختار و أقبلت الناس تختلف إليه فكلما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام و هم يبكون و بايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا.
فكتب الى الحسين عليه السلام أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله و إن جميع أهل الكوفة معك و قد بايعني منهم ثمانية عشر ألفا فعجل الإقبال حين تقرأ كتابي هذا و السلام و جعل الناس يختلفون إليه حتى علم بمكانه فبلغ النعمان بن بشير ذلك (و كان واليا على الكوفة من قبل معاوية فأقره يزيد عليها و كان صحابيا حضر مع معاوية حرب صفين و كان من أتباعه و قتله أهل حمص في فتنة ابن الزبير و كان واليا عليها) فصعد المنبر و خطب الناس و حذرهم الفتنة قام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال له إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم إن هذا الذي أنت عليه رأي المستضعفين فقال له النعمان أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله ثم نزل فكتب عبد الله بن مسلم إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل الكوفة و مبايعة الناس له و يقول إن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك و يعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف و كتب إليه عمارة بن الوليد بن عقبة و عمر بن سعد بنحو ذلك فدعا يزيد سرجون الرومي مولى معاوية (و كان سرجون مستوليا على معاوية في حياته) و استشاره فيمن يولي على الكوفة و كان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد و هو يومئذ وال على البصرة و كان معاوية قد كتب لابن زياد عهدا بولاية الكوفة و مات قبل إنفاذه فقال سرجون ليزيد لو نشر لك معاوية ما كنت آخذا برأيه قال بلى قال هذا عهده لعبيد الله على الكوفة فضم يزيد البصرة و الكوفة إلى عبيد الله و كتب إليه بعهده و سيره مع مسلم بن عمرو الباهلي و كتب إلى عبيد الله معه: أما بعد فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه و السلام فخرج مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيد الله بالبصرة فأمر عبيد الله بالجهاز من وقته و التهيؤ و المسير إلى الكوفة من الغد.
(و لما) بقي الحسين عليه السلام في ثلاثة أو أربعة من أصحابه و في رواية رهط من أهله قال أبغوني ثوبا لا يرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي لئلا أجرد منه بعد قتلي فإني مقتول مسلوب فأتي بتبان قال لا ذاك لباس من ضربت عليه الذلة و لا ينبغي لي أن ألبسه (و في رواية) أنه قال هذا لباس أهل الذمة فأخذ ثوبا خلقا فخرقه و جعله تحت ثيابه.
(و في رواية) أنه أتى بشيء أوسع منه دون السراويل و فوق التبان فلبسه فلما قتل جردوه منه (ثم) استدعى بسراويل من حبرة يمانية يلمع فيها البصر ففزرها و لبسها و إنما فزرها لئلا يلبسها بعد قتله فلما قتل سلبها منه أبجر بن كعب و تركه مجردا و أقبل الحسين عليه السلام على القوم يدفعهم عن نفسه و الثلاثة الذين معه يحمونه حتى قتل الثلاثة و بقي وحده و قد أثخن بالجراح في رأسه و بدنه فجعل يضاربهم بسيفه و حمل الناس عليه عن يمينه و شماله فحمل على الذين عن يمينه فتفرقوا ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا (قال) بعض الرواة فو الله ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جأشا و لا أمضى جنانا و لا أجرأ مقدما منه و الله ما رأيت قبله و لا بعده مثله و إن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه و عن شماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب و لقد كان يحمل فيهم و قد تكلموا {تكملوا} ثلاثين ألفا فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر ثم يرجع إلى مركزه و هو يقول لا حول و لا قوة إلا بالله.
(فلما) رأى شمر ذلك استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجالة و أمر الرماة أن يرموه فرشقوه بالسهام حتى صار كالقنفذ فأحجم عنهم فوقفوا بإزائه و جاء شمر في جماعة من أصحابه فحالوا بينه و بين رحله الذي فيه ثقله و عياله فصاح الحسين عليه السلام ويلكم يا شيعة آل سفيان إن لم يكن لكم دين و كنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم هذه و ارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون فناداه شمر ما تقول يا ابن فاطمة فقال أقول إني أقاتلكم و تقاتلونني و النساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم و جهالكم و طغاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حيا فقال شمر لك ذلك يا ابن فاطمة ثم صاح إليكم عن حرم الرجل و اقصدوه بنفسه فلعمري هو كفؤ كريم فقصدوه بالحرب و جعل شمر يحرضهم على الحسين عليه السلام و الحسين يحمل عليهم فينكشفون عنه و هو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد و كلما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم حتى أجلوه عنه.
(و لما) أثخن بالجراح و بقي كالقنفذ طعنه صالح بن وهب المزني على خاصرته طعنة فسقط عن فرسه على الأرض على خده الأيمن ثم قام و خرجت أخته زينب إلى باب الفسطاط و هي تنادي وا أخاه وا سيداه وا أهل بيتاه (و قد) دنا عمر بن سعد فقالت يا عمر : أ يقتل أبو عبد الله و أنت تنظر إليه فدمعت عيناه حتى سالت دموعه على خديه و لحيته و صرف وجهه عنها و لم يجبها بشيء فنادت ويلكم أما فيكم مسلم، فلم يجبها أحد بشيء و قاتل عليه السلام راجلا قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية و يفترص العورة و يشد على الخيل و هو يقول: أ على قتلي تجتمعون أما و الله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله، الله أسخط عليكم لقتله مني و ايم الله أني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون أما و الله لو قتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم و سفك دماءكم ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.
(و لم) يزل يقاتل حتى أصابه اثنان و سبعون جراحة فوقف يستريح ساعة و قد ضعف عن القتال فبينا هو واقف إذ أتاه حجر فوقع على جبهته فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه فقال باسم الله و بالله و على ملة رسول الله صلى الله عليه و آله ثم رفع رأسه إلى السماء و قال إلهي تعلم أنهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره فانبعث الدم كأنه ميزاب فضعف و وقف و تحاماه الناس فمكث طويلا من النهار و كلما جاءه أحد انصرف عنه كراهية أن يلقى الله بدمه (و صاح) شمر بالفرسان و الرجالة ويحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم فحملوا عليه من كل جانب فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى و ضرب الحسين عليه السلام زرعة فصرعه و ضربه آخر على عاتقه المقدس ضربة كبا بها لوجهه و كان قد أعيا و جعل يقوم و يكبو و طعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته ثم انتزع الرمح فطعنه في بواني صدره و رماه بسهم فوقع في نحره فسقط و جلس قاعدا فنزع السهم من نحره و قرن كفيه جميعا فكلما امتلأنا من دمائه خضب بها رأسه و لحيته و هو يقول: هكذا ألقى الله مخضبا بدمي مغصوبا علي حقي.
مقتله
قال هلال بن نافع إني لواقف مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخ أبشر أيها الأمير فهذا شمر قد قتل الحسين فخرجت بين الصفين فوقفت عليه و أنه ليجود بنفسه فو الله ما رأيت قتيلا مخضبا بدمه أحسن منه و لا أنور وجها و لقد شغلني نور وجهه و جمال هيئته عن الفكرة في قتله فاستسقى في تلك الحال فسمعت رجلا يقول و الله لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها فسمعته يقول أنا أرد الحامية فاشرب من حميمها لا و الله بل أرد على جدي رسول الله صلى الله عليه و آله فاسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر و اشرب من ماء غير آسن و أشكو إليه ما ارتكبتم مني و فعلتم بي فغضبوا بأجمعهم حتى كان الله لم يجعل في قلب أحد منهم من الرحمة شيئا.
(و قال) عمر بن سعد لرجل عن يمينه انزل ويحك إلى الحسين فأرحه (و قيل) بل قال سنان لخولي بن يزيد احتز رأسه فبدر خولي ليحتز رأسه فضعف و ارعد فقال له سنان و قيل شمر فت الله في عضدك ما لك ترعد و نزل سنان و قيل شمر إليه فذبحه ثم احتز رأسه الشريف و هو يقول إني لاحتز رأسك و أعلم أنك السيد المقدم و ابن رسول الله و خير الناس أبا و أما ثم دفع الرأس الشريف إلى خولي فقال احمله إلى الأمير عمر بن سعد ، و في ذلك يقول الشاعر:
فأي رزية عدلت حسينا غداة تبيره كفا سنان
و جاءت جارية من ناحية خيم الحسين عليه السلام فقال رجل يا أمة الله إن سيدك قتل قالت الجارية فأسرعت إلى سيداتي و أنا أصيح فقمن في وجهي و صحن.
أسماء من اتصلت بنا أسماؤهم من أنصار الحسين عليه السلام الذين قتلوا معه من بني هاشم
(أولاد أمير المؤمنين عليه السلام)
1 أبو بكر بن علي شك في قتله 2 عمر بن علي 3 محمد الأصغر بن علي 4 عبد الله بن علي 5 العباس بن علي 6 محمد بن العباس بن علي 7 عبد الله بن العباس بن علي 8 عبد الله الأصغر 9 جعفر بن علي 10 عثمان بن علي و في بعضهم خلاف.
(أولاد الحسن عليه السلام)
11 القاسم بن الحسن 12 أبو بكر بن الحسن 13 عبد الله بن الحسن 14 بشر بن الحسن.
(أولاد الحسين عليه السلام)
15 علي بن الحسين الأكبر 16 عبد الله الرضيع 17 إبراهيم بن الحسين ذكره ابن شهرآشوب و ذكر زيادة عن ذلك.
الأمور المتأخرة عن قتله
و أقبل القوم على سلب الحسين عليه السلام فأخذ قميصه إسحاق بن حوية الحضرمي و وجد في قميصه عليه السلام مائة و بضع عشرة ما بين رمية و طعنة و ضربة و قيل وجد في ثيابه مائة و عشرون رمية بسهم و في جسده الشريف ثلاث و ثلاثون طعنة برمح و أربع و ثلاثون ضربة بسيف (و عن) الصادق عليه السلام أنه وجد بالحسين عليه السلام ثلاث و ثلاثون طعنة و أربع و ثلاثون ضربة.
و عن الباقر عليه السلام أنه وجد به ثلاثمائة و بضع و عشرون جراحة (و في) رواية ثلاثمائة و ستون جراحة و أخذ سراويله أبجر بن كعب التميمي (و أخذ) ثوبه أخ لإسحاق بن حوية (و أخذ) قطيفة له كانت من خز قيس بن الأشعث بن قيس (و أخذ) عمامته الأخنس بن مرثد و قيل جابر بن يزيد (و أخذ) برنسه مالك بن النسر (و أخذ نعليه) الأسود بن خالد (و أخذ) درعه البتراء عمر بن سعد فلما قتل عمر أعطاها المختار لقاتله (و أخذ) سيفه الفلافس النهشلي من بني دارم و قيل جميع بن الخلق الأودي و قيل الأسود بن حنظلة التميمي (و أخذ) القوس الرجيل بن خيثمة الجعفي (و أخذ) خاتمه بجدل بن سليم الكلبي و قطع إصبعه مع الخاتم (و مال) الناس على الفرش و الورس و الحلل و الإبل فانتهبوها و انتهبوا رحله و ثقله و سلبوا نساءه.
(قال) حميد بن مسلم : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين عليه السلام في فسطاطهن و هم يسلبونهن أخذت سيفا و أقبلت نحو الفسطاط و قالت يا آل بكر بن وائل أ تسلب بنات رسول الله لا حكم إلا لله يا لثارات رسول الله فأخذها زوجها و ردها إلى رحله.
»و انتهوا«إلى علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام و هو منبسط على فراش و هو شديد المرض و كان مريضا بالذرب و قد أشرف على الموت و مع شمر جماعة من الرجالة فقالوا له ألا نقتل هذا العليل فأراد شمر قتله فقال له حميد بن مسلم : سبحان الله أ تقتل الصبيان إنما هو صبي و أنه لما به فلم يزل يدفعهم عنه حتى جاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه و بكين فقال لأصحابه لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء و لا تتعرضوا لهذا الغلام المريض و من أخذ من متاعهن شيئا فليردده فلم يرد أحد شيئا ثم إنهم أشعلوا النار في الفسطاط فخرجت منه النساء باكيات مسلبات»و نادى« عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره و صدره، فانتدب منهم عشرة و هم: إسحاق بن حوية الذي سلب قميص الحسين عليه السلام .
و الأخنس بن مرثد الذي سلب عمامة الحسين عليه السلام .و حكيم بن الطفيل الذي اشترك في قتل العباس عليه السلام .و عمرو بن صبيح الصيداوي الذي رمى عبد الله بن مسلم بسهم فسمر يده في جبهته.و رجاء بن منقذ العبدي .و سالم بن خيثمة الجعفي .و صالح بن وهب الجعفي .الذي طعن الحسين على خاصرته فسقط عن فرسه.و واخط بن غانم و هاني بن ثبيت الحضرمي الذي قتل جماعة من الطالبيين .و أسيد بن مالك فداسوا الحسين عليه السلام بحوافر خيلهم حتى رضوا ظهره و صدره»و جاء«هؤلاء العشرة حتى وقفوا على ابن زياد فقال أسيد بن مالك أحدهم:
نحن رضضنا الصدر بعد الظهر بكل يعبوب شديد الأسر
مدفن رأس الحسين عليه السلام
اختلف فيه على أقوال ذكرناها في لواعج الأشجان :
(الأول) أنه عند أبيه أمير المؤمنين عليه السلام بالنجف معه إلى جهة رأسه الشريف ذهب إليه بعض علماء الشيعة استنادا إلى أخبار وردت بذلك في الكافي و التهذيب و غيرهما من طرق الشيعة عن الأئمة عليهم السلام، و في بعضها أن الصادق عليه السلام قال لولده إسماعيل أنه لما حمل إلى الشام سرقه مولى لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين عليه السلام و يؤيده ورود زيارة للحسين من عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام عن أئمة أهل البيت.
(الثاني) أنه مدفون مع جسده الشريف، و في البحار أنه المشهور بين علمائنا الإمامية رده علي بن الحسين عليهما السلام ، و في الملهوف أنه أعيد فدفن بكربلاء مع جسده الشريف و كان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه (اه) .و اعتمده هو أيضا في كتاب الإقبال ، و قال ابن نما الذي عليه المعول من الأقوال أنه أعيد إلى الجسد بعد أن طيف به في البلاد و دفن معه (اه) .
و عن المرتضى في بعض مسائله أنه رد إلى بدنه بكربلاء من الشام ، و قال الشيخ الطوسي و منه زيارة الأربعين. و قال سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص أشهر الأقوال أن يزيد رده إلى المدينة مع السبايا ثم رد إلى الجسد بكربلاء فدفن معه قاله هشام و غيره (اه) .
(الثالث) أنه مدفون بظهر الكوفة دون قبر أمير المؤمنين عليه السلام رواه في الكافي بسنده عن الصادق عليه السلام.
(الرابع) أنه دفن بالمدينة المنورة عند قبر أمه فاطمة عليها السلام و أن يزيد أرسله إلى عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة فدفن عند أمه الزهراء عليها السلام و أن مروان بن الحكم كان يومئذ بالمدينة فأخذه و تركه بين يديه و قال:
يا حبذا بردك في اليدين و لونك الأحمر في الخدين
و الله لكأني أنظر إلى أيام عثمان .حكاه سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص عن ابن سعد في الطبقات . و في كتاب جواهر المطالب لأبي البركات شمس الدين محمد الباغندي الشافعي كما في نسخة مخطوطة في المكتبة الرضوية عند ذكر أحوال الحسين عليه السلام : و أما رأسه فالمشهور بين أهل التاريخ و السير أنه بعثه ابن زياد الفاسق إلى يزيد بن معاوية و بعث به يزيد إلى عمرو بن سعيد الأشدق لطيم الشيطان و هو إذ ذاك بالمدينة فنصبه و دفن عند أمه بالبقيع.
(الخامس) أنه بدمشق قال سبط ابن الجوزي حكى ابن أبي الدنيا قال وجد رأس الحسين عليه السلام في خزانة يزيد بدمشق فكفنوه و دفنوه بباب الفراديس و كذا ذكر البلاذري في تاريخه قال هو بدمشق في دار الإمارة و كذا ذكر الواقدي أيضا (اه) و في جواهر المطالب ذكر ابن أبي الدنيا أن الرأس لم يزل في خزانة يزيد حتى هلك فأخذ ثم غسل و كفن و دفن داخل باب الفراديس بمدينة دمشق (اه) (و يروى) أن سليمان بن عبد الملك قال وجدت رأس الحسين عليه السلام في خزانة يزيد بن معاوية فكسوته خمسة أثواب من الديباج و صليت عليه في جماعة من أصحابي و قبرته (و في رواية) أنه مكث في خزائن بني أمية حتى ولي سليمان بن عبد الملك فطلب فجيء به و هو عظم أبيض في سفط و طيبه و جعل عليه ثوبا و دفنه في مقابر المسلمين بعد ما صلى عليه فلما ولي عمر بن عبد العزيز سأل عن موضعه فنبشه و أخذه و الله أعلم ما صنع به (و قال) بعضهم: الظاهر من دينه أنه بعث به إلى كربلاء فدفنه مع الجسد الشريف.
و في جواهر المطالب عن الحافظ بن عساكر أن يزيد بعد ما نصبه بدمشق ثلاثة أيام وضعه بخزانة السلاح حتى كان زمن سليمان بن عبد الملك فجيء به و قد بقي عظما أبيض فكفنه و طيبه و صلى عليه و دفنه في مقابر المسلمين (و روى) ابن نما عن منصور بن جهور أنه دخل خزانة يزيد لما فتحت فوجد بها جونة حمراء فقال لغلامه سليم احتفظ بهذه الجونة فإنها كنز من كنوز بني أمية فلما فتحها إذا فيها رأس الحسين عليه السلام و هو مخضوب بالسواد فلفه في ثوب و دفنه عند باب الفراديس عند البرج الثالث مما يلي المشرق »انتهى« (أقول) : و كأنه هو الموضع المعروف الآن بمسجد أو مقام أو مشهد مشيد معظم.
(السادس) أنه بمسجد الرقة على الفرات بالمدينة المشهورة، حكى سبط ابن الجوزي عن عبد الله بن عمر الوراق أن يزيد لعنه الله قال لأبعثنه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان و كانوا بالرقة فبعثه إليهم فدفنوه في بعض دورهم ثم أدخلت تلك الدار في المسجد الجامع ، قال و هو إلى جنب سدرة هناك و عليه شبه النيل أو لا يذهب شتاء و لا صيفا.
(السابع) أنه بمصر نقله الخلفاء الفاطميون من باب الفراديس إلى عسقلان ثم نقلوه إلى القاهرة و له فيها مشهد عظيم يزار نقله سبط ابن الجوزي (أقول) : حكى غير واحد من المؤرخين أن الخليفة الفاطمي بمصر أرسل إلى عسقلان و هي بين مصر و الشام فاستخرج رأسا قال إنه رأس الحسين عليه السلام و جيء به إلى مصر فدفن فيها في المشهد المعروف الآن و هو مشهد معظم يزار و إلى جانبه مسجد عظيم رأيته في سنة1321 و المصريون يتوافدون إلى زيارته أفواجا رجالا و نساء و يدعون و يتضرعون عنده و أخذ الفاطميين لذلك الرأس من عسقلان و دفنه بمصر لا ريب فيه لكن الشأن في كونه رأس الحسين عليه السلام.
(و هذه) الوجوه الأربعة الأخيرة كلها من روايات أهل السنة و أقوالهم خاصة و الله أعلم.
مشهد رءوس العباس و علي الأكبر و حبيب بن مظاهر بدمشق الفهرس
رأيت بعد سنة1321 في المقبرة المعروفة بمقبرة باب الصغير بدمشق مشهدا وضع فوق بابه صخرة كتب عليها ما صورته: (هذا مدفن رأس العباس بن علي و رأس علي بن الحسين الأكبر و رأس حبيب بن مظاهر) ثم إنه بعد ذلك بسنين هدم هذا المشهد و أعيد بناؤه و أزيلت هذه الصخرة و بني ضريح داخل المشهد و نقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء ، و لكن الحقيقة أنه منسوب إلى الرءوس الشريفة الثلاثة المقدم ذكرها بحسب ما كان موضوعا على بابه كما مر.
و هذا المشهد: الظن قوي بصحة نسبته لأن الرءوس الشريفة بعد حملها إلى دمشق و الطواف بها و انتهاء غرض يزيد من إظهار الغلبة و التنكيل بأهلها و التشفي لا بد أن تدفن في إحدى المقابر فدفنت هذه الرءوس الثلاثة في مقبرة باب الصغير و حفظ محل دفنها و الله أعلم.
البناء على قبر الحسين عليه السلام
أول من بنى القبر الشريف بنو أسد الذين دفنوا الحسين عليه السلام و أصحابه يظهر ذلك من الخبر المروي في (كامل الزيارة) عن زائدة عن زين العابدين عليه السلام حيث قال فيه : قد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض هم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة و هذه الجسوم المضرجة فيوارونها و ينصبون بهذا الطف علما لقبر سيد الشهداء لا يدرس أثره و لا يعفو رسمه على كرور الليالي و الأيام (اه) .
و من قول ابن طاوس في الإقبال إنهم أقاموا رسما لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء يكون علما لأهل الحق. و يدل خبر مجيء التوابين إلى القبر الشريف أنه في ذلك الوقت و هو سنة هلاك يزيد (63 أو 64 20) كان ظاهرا معروفا و لا يكون ذلك إلا ببنائه.أما تعمير القبة عليه فقد تكرر مرارا.
في إحدى المحطَّات الواقعة في الطريق إلى كربلاء قام الإمام الحسين ( عليه السلام ) خطيباً ، موضِّحاً لأصحابه المصير الذي ينتظرهم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( إنَّه قدْ نَزَل بنا من الأمر ما قد تَرَون ، وإن الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت ، وأدبَر مَعروفُها ، واستمرَّت حدَّاء [ مقطوعة ] ، ولم تبقَ منها إلا صبابة كَصبابة الإناء ، وخَسيس عَيشٍ كالمَرْعى الوَبيل .
ألاَ تَرَون إلى الحقِّ لا يُعمَل به ، وإلى الباطلِ لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمنُ في لقاء ربِّه مُحقاً ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً [ مللاً ] ) .
وسار الركب نحو كربلاء ، ولم يقطع مسافة طويلة حتى اعترضه الجيش الأموي ، واضطرَّه للنزول .
فراح الإمام ( عليه السلام ) يسأل وكأنَّه يبحث عن أرض كربلاء ، فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( مَا اسْمُ هَذه الأرض ؟ ) .
فقيل له : أرض الطف .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( هَلْ لَهَا اسمٌ غير هذا ؟ ) .
قيل : اسمُها كربلاء .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( اللَّهُمَّ أعوذُ بك من الكَرْبِ والبَلاء ) .
ثم قال الإمام ( عليه السلام ) : ( هَذا مَوضع كَربٍ وبَلاء ، انزلوا ، هَاهُنا مَحطُّ رِحالِنا ، ومَسفَكُ دِمائِنَا ، وهَاهُنا مَحلُّ قبورِنا ، بِهَذا حدَّثني جَدِّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فنزل الإمام الحسين ( عليه السلام ) في أرض كربلاء ، وضَرَب فِسْطَاطه ، وراحَ يُعدُّ سِلاحه ، ويصلح سَيفه ، مُردِّدا ( عليه السلام ) الأبيات الآتية :
يَا دَهْرُ أُفُّ لَكَ مِن خَليلِ كمْ لك بالإشرَاقِ والأصيلِ
مِن طَالبٍ وصَاحبٍ قَتيل والدَّهْر لا يَنفَعُ بالبَديلِ
فكان الإمام الحسين ( عليه السلام ) يردد أبيات الشعر وزينب ( عليها السلام ) تنصت إليه ، وتقرأ من خلال الشعر مشاعره وأحاسيسه ، فتندبه وتناديه بصوتٍ يملأه الحنان ، فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( نَعَمْ يا أختَاه ) .
فقالت ( عليها السلام ) : ( وَاثكْلاه ، يَنعي الحُسَين إليَّ نَفسَه ) .
لما أصبح الحسين يوم عاشوراء قام خطيباً في أصحابه بعد صلاة الغداة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله سبحانه وتعالى قد أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم فعليكم بالصبر والقتال ثم صفهم للحرب فكانوا سبعة وسبعين ما بين فارس وراجل فجعل زهير بن القين في الميمنة وحبيب بن مظاهر في الميسرة وأعطى رايته أخاه العباس عليه السلام وثبت هو عليه السلام وأهل بيته في القلب وجعلوا البيوت في ظهورهم وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت ان يترك في خندق كانوا قد حفروه هناك في ساعة من الليل وأن يحرق بالنار مخافة ان يأتوهم من ورائهم فنفعهم ذلك واقبل عمر بن سعد نحو الحسين بن علي عليهما السلام على اقل الروايات في ثلاثين الفاً جعل على الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي وعلى الميسرة شمر بن ذي الجوشن وعلى الخيل عروة بن قيس وعلى الرجالة شبث بن ربعي وكانت الراية مع دريد مولاه وأقبلوا يجولون حول البيوت فيرون النار تضطرم في الخندق فنادى شمر : يا حسين تعجلت بالنار قبل يوم القيامة فقال الحسين (ع) : من هذا ؟ كأنه شمر ؟ قيل نعم فقال له الحسين : يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صلياً فرام مسلم بن عوسجة ان يرميه بسهم فمنعه الحسين وقال أكره ان ابدأهم بقتال .
من خلال ما تقدم يمكن القول بإجمال أن أسباب النهضة الحسينية بحسب رؤية الإمام الخميني (قدس سره) تتلخص بوجود حكومة طاغوتية آثمة جائرة وغاشمة تستغل الحرمات وتشوه الدين ومفاهيمه وتلحق أذية كبرى بصورة الإسلام وسمعته وسمعة النبي الأعظم (قدس سره) لذلك فإن حركة الإمام الحسين بحسب ما يراه الإمام (قدس سره) هي إزالة كل هذا الواقع وقلعه واستنفاذ الإسلام وصورة نبيّه وتنظيف سمعة الإسلام والنبي من التشوه والتلوث الذي ألحقته بهما ممارسات بني أمية ولنعد إلى تلمس أهداف الثورة الحسينية من أقوال الإمام الخميني (قدس سره).
1ـ أحياء الإسلام واستنقاذه:
يقول (قدس سره): "وقد قتل سيد الشهداء (عليه السلام) ولم يكن طامعاً في الثواب، فهو (عليه السلام) لم يعر هذا الأمر كثير الاهتمام، لقد كانت نهضته لإنقاذ الدين ولإحياء الإسلام ودفع عجلته إلى الأمام".
"محرم هو الشهر الذي أحيى فيه الإسلام على سيد المجاهدين والمظلومين (عليه السلام) وأنقذ من تآمر العناصر الفاسدة وحكم بني أمية، الذين أوصلوا الإسلام إلى حافة الهاوية".
ويقول كذلك: "في صدر الإسلام وبعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ مُرسي أُسس العدالة والحرية ـ أوشك الإسلام أن ينمحي ويتلاشى بسبب انحرافات بني أمية وكاد يسحق تحت أقدام الظالمين ويبتلع من قبل الجبابرة، فهبّ سيد الشهداء (عليه السلام) لتفجير نهضة عاشوراء العظيمة".
2ـ صون مستقبل الإسلام والمسلمين:
عن ذلك يقول الإمام (قدس سره): "لقد كان الحسين (عليه السلام) يفكر بمستقبل الإسلام والمسلمين باعتبار أن الإسلام سينتشر بين الناس نتيجة لتضحياته ولجهاده المقدس وإن نظامه السياسي والاجتماعي سيقام في مجتمعنا، فرفع لواء المعارضة والنضال والتضحية".
ويقول (قدس سره): "... فسيد الشهداء (عليه السلام) قتل وأولئك الشبان والأنصار في سبيل الإسلام ضحوا بأرواحهم وأحيوا الإسلام".
ويقول كذلك: "إن سيد الشهداء (عليه السلام) لبى صرخة الإسلام واستجاب لاستغاثته وإنقاذه".
3ـ كسر عقدة الخوف:
لقد كان المجتمع غارقاً في حالة من الرعب مستسلماً للطاغية نتيجة ممارساته الجائرة وكان على أحد أن يواجهه ليبث الشجاعة والإقدام وعن ذلك يتحدث الإمام (قدس سره): "لقد علم (عليه السلام) الناس أن لا يخشوا قلة العدد فالعدد ليس هو الأساس بل الأصل والمهم هو النوعية، والمهم هو كيفية التصدي للأعداء والنضال ضدهم والمقاومة بوجههم فهذا هو الموصل إلى الهدف".
ويقول (قدس سره): "لقد أفهمونا أنه لا ينبغي للنساء ولا للرجال أن يخافوا في مقابل حكومة الجور".
"فسيد الشهداء قد حدد تكليفنا فلا تخشوا من قلة العدد ولا من الاستشهاد في ميدان الحرب".
4ـ مقاومة الظلم والفساد (روح المقاومة):
"لقد ضحى سيد الشهداء (عليه السلام) بجميع أصحابه وشبابه وبكل ما يملكه في سبيل الله ولتقوية الإسلامية ومكافحة الظلم، ومعارضة الإمبراطورية التي كانت قائمة آنذاك...".
"وكان الواحد منهم يزعم أنه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشرب الخمر في مجلسه ويلعب القمار! ثم يبقى خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتوجه إلى الصلاة ويؤم صلاة الجماعة. إن هذا خطر كبير واجه الإسلام مما دفع سيد الشهداء (عليه السلام) للقيام لرفضه".
"... هنا اقتضى التكليف أن ينهض عظماء الإسلام بمهمة المعارضة والمعاهدة وإزالة التشويه الذي يوشك أن يلحقه هؤلاء بسمعة ومكانة الإسلام...".
5ـ الثورة والنهي عن المنكر:
"لقد تحرك سيد الشهداء مع عدد قليل من الأنصار وثار بوجه يزيد الذي كان حاكماً متجبّراً يرأس حكومة غاشمة جائرة ويتظاهر بالإسلام ويستغل قرابته وصلته العائلية بالإمام (عليه السلام) قد كان رغم تظاهره بالإسلام وزعمه أن حكومته حكومة إسلامية وأنه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان امرءاً ظالماً يهيمن على مقدرات بلدٍ دون حق لذا فإن الإمام أبا عبد الله الحسين (عليه السلام) ثار بوجهه مع قلة الأنصار لأنه رأى أن واجبه وتكليفه يقتضي ذلك، وإن عليه أن يستنكر ما يحدث وأن ينهى عن المنكر".
ويقول (قدس سره): "لقد أعلن سيد الشهداء (عليه السلام) بصراحة أن هدفه من قيامه هو إقامة العدل فالمعروف لا يعمل به والمنكر لا يتناهى عنه لذا فهو يريد إقامة المعروف ومحو المنكر فجميع الإنحرافات منشؤها المنكر وما عدا خط التوحيد المستقيم فكل ما في العالم منكرات ويجب أن تزول".
"لقد ضحى سيد الشهداء بكل حياته من أجل إزالة المنكر ومحوه ومكافحة حكومة الظلم والحيلولة دون المفاسد التي أوجدتها الحكومات المنحرفة في العالم".
6ـ إصلاح الأمة وتدمير حكومة الجور:
"ونحن الموالون لسيد الشهداء (عليه السلام) السائرون على نهجه ينبغي أن ننظر في حياته وفي قيامه الذي كان الدافع إليه النهي عن المنكر ومحوه ومن المنكر حكومة الجور وهي يجب أن تزول".
"فما سعى (سيد الشهداء) بجد للإطاحة بحكومة الجور وإزالتها "كان التكليف يوجب على سيد الشهداء (عليه السلام) أن يقوم ويثور ويضحي بدمه كي يصلح هذه الأمة ويهزم راية يزيد".
ثم انه عليه السلام بعد ان القى عليهم الحجة توجهوا نحوه يزحفون بخيلهم ورجالهم ، ونشبت بينهم معركة دامية وكان اول من رمى من الطرفين هو عمر بن سعد عليه اللعنة قائلاً : إشهدوا لي عند الأمير بأنني أول سهم رميته ، وكان اول من تقدم من جهة الامام الحسين (ع) أصحابه ، فصاروا يتقدمون واحداً تلو الآخر ، رضوان الله عليهم فكان يتقدم الواحد ، يودع الحسين قائلاً : السلام عليك يا أبا عبد الله ، صلى الله عليك وعلى أهل بيتك وعرف بيننا وبينك في الجنة ، وعرّف بيننا وبين محمد وآل محمد فكان الحسين عليه السلام يقول : آمين آمين ويرد عليهم السلام .
مقتل القاسم
ثم بعد ذلك تقدم القاسم عليه السلام وطلب الإذن من الحسين (ع) ، فأذن له الحسين (ع) بعد أن أراه وصية والده الحسن ، أتى به الحسين الى خيمة سميت باسم الحسن (ع) وكانت أمه رملة في داخلها فأخرج الحسين من الخيمة صندوقاً فتحه وأخرج منه عمامة الحسن ، فعمم بها القاسم ثم ألبسه ثيابا بهيئة الأموات ، وبعد ذلك وإذ ببنات رسول الله أحطن به يودعنه ، وبينهن أمه التفتت عليه:
يا ابني يا جاسم هالوقت حيلك لعمك ضمه لهالوقت أنا ذاخرتك بالك تخيب ظنوني
هز الرمح وتكنى وقلها يا والدة دعيلي رايح أن يا والدة من غير ما تقوليلي
فخرج القاسم من الخيمة ثم توجه نحو المعركة يرتجز قائلاَ :
ان تنكروني فأنا نجل الحسن سبط النبي المصطفى والمؤتمن
هذا حسين كالأسير المرتهن بين أناس لا سقوا صوب المزن
حتى قتل منهم جماعة ، فبرز اليه عند ذلك عمر بن سعد الاسدي عليه اللعنة ، قائلا : والله لأثكلن به عمه الحسين فقال له حميد بن مسلم : ويلك يكفينا الذين احتوشوه من كل جانب ، فقال : لا لا والله حتى اضرب ضربتي ، فما ولى اللعين حتى ضرب القاسم على هامته فخر الى الارض مضرجاً بدمه ، مستغيثا بعمه الحسين أقبل اليه الحسين فقتل قاتله وأقبل جلس عند راسه :
بكى وناداه يا جاسم اش بايدي يا ريت السيف قبلك حز وريدي
جلس عنده يقول : يعز والله على عمك ان تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا يعينك او يعينك فلا ينفعك فحمله وتوجه به نحو المخيم .
الطفل الرضيع
عاد الامام الحسين الى المخيم منحني الظهر واذ بزينب استقبلته بطفل تحمله ، وهو عبد الله الرضيع قائلةً أخي يا أبا عبد الله هذا الطفل قد جفَّ حليب أمه ، فاذهب به الى القوم علّهم يسقوه قليلاً من الماء ، خرج الامام الحسين سلام الله عليه اليهم وكان من عادته اذا خرج الى الحرب ركب ذا الجناح، واذا توجه الى الخطاب كان يركب الناقة، ولكن هذه المرة يقول الراوون : خرج راجلاً يحمل شيئاً يظلله من حرارة الشمس صاح ايها الناس ، فاشرأبت الاعناق نحوه قال : أيها الناس إن كان ذنب للكبار فما ذنب الصغار فاختلف القوم ما بينهم : منهم من قال لا تسقوه ، ومنهم من قال اسقوه ، ومنهم من قال لا تبقوا لاهل هذا البيت باقية ، عندها التفت عمر بن سعد الى حرملة بن كاهل الاسدي ، قال له يا حرملة اقطع نزاع القوم ، يقول حرملة : فهمت كلام الامير ، فسددت السهم في كبد القوس وصرت أنتظر أين أرميه ، فبينما أنا كذلك اذ لاحت مني التفاتة الى رقبة الطفل ، تلمع على عضد ابيه الحسين كانها إبريق فضة عندها رميته بالسهم ، ذلك الطفل كان مغمىً عليه من شدة الظمأ ولكن عندما وصل اليه السهم ذبحه من الوريد إلى الوريد ، ذلك الطفل كان مغمىً عليه رفع يديه من تحت قماطه واعتنق اباه الحسين وصار يرفرف بين يديه كالطير المذبوح ، وضع الحسين يده تحت نحر الرضيع حتى امتلأت دماً رمى بها نحو السماء ، قائلا : اللهم لا يكن عليك اهون من فصيل ناقة صالح ، قال الراوون : فلم يقع من ذلك الدماء إلى الارض نقطة واحدة ، عاد به الحسين الى المخيم ، استقبلته سكينة : ابه يا حسين ، لعلك سقيت عبد الله ماءً وأتيتنا بالبقية ، قال بني سكينة هذا أخوك مذبوح من الوريد الى الوريد .
الإمام في المخيم مجددا
التفت يمينا وشمالا :
ألا هل من يقدم لي جوادي وانا ابن بنت رسول الله
فسمعت زينب عليها السلام نداء الحسين فخرجت اليه وهي مكسورة الخاطر آخذة بعنان الجواد تقول : أخي أبا عبد الله ، لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ، وليس في الخيام سوى الاطفال و النساء ، ولكنها تبكي ، دموعها تتحادر على خديها ، التفت اليها قائلا لها : اخيَّ زينب مما بكاؤك فقالت أخي ، أي اخت تقدم جواد المنية لأخيها ، ثم سألها عن سكينة قبل أن يذهب ، فقالت له انها في خيمتها تبكي ، فذهب اليها ، وصل ، وجدها واضعة رأسها بين ركبتيها تنشج نشيجاً عالياً ، جلس إلى جنبها : بني سكينة ، أنا موجود ، لماذا تبكين ، قالت : أبه كأنك استسلمت للموت ، قال : بلى بلى بنيَّ ، وكيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين ، قالت : أبه ابه اذاً ردنا الى حرم جدنا ، فقال : بني ، بني سكينة ، هيهات ، لو ترك القطا ليلا لغفا ونام
يا بوي نروح كلتنا فداك خدنا للقبر يا حسين واياك
اهي ساعة يا بوية واقعد واياك
خرج (ع) ، ما ان خرج واذ به يصطدم بطفلة من آل عقيل ، أمسكها ، ضمها الى صدره رآها ترتعش ، ترجف ، قال : فاطمة بني ماذا دهاك قالت : عم عم يا حسين العطش قد أضر بي ، قالت خذني معك للعلقم ، اسقني معك ، فقال بني انا ذاهب اليهم اخبرهم بظمأك قالت : لا لا يا عم تذهب وترجع هذا يطول علي لكن احملني معك ، قال بني فاطمة : إذا حملتك من الذي يردُّك ، صاحت زينب : بني فاطمة انزلي ، أحرقت قلوبنا ، أجريت دموعنا ، بينما هو كذلك واذ بالقوم ينادوه : يا حسين جبنت عن الحرب وجلست في خيمة النساء ، فقام الحسين (ع) وركب جواده وتوجه نحو القوم ، واذ بصوت من خلفه : أبه يا حسين ، لي اليك حاجة التفت الى ورائه واذ هي حبيبة قلبه سكينة ، قال : بني وما حاجتك ، قالت : أبه اطلب منك أن تنزل من على ظهر جوادك ، فنزل الحسين من على ظهر الجواد ، دنت منه وقالت : أبه اجلس على الارض ، فجلس الحسين عليه السلام ، فجلست في حجره وقالت : ابه ابه امسح على رأسي فتحادرت دموع الحسين على خديه وعلم بأنها تقول : ابه ابه امسح على رأسي كما يمسح على رؤوس اليتامى
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي منك البكاء اذا الحمام دهاني
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة ما دام مني الروح في جثماني
قام عليه السلام ، مشى قليلاً ، واذ بمصيبةٍ اخرى ، فاجعةٍ اخرى ، سمع صوتاً آخر ، التفت خلفه ، واذا هي زينب عاثرة بأذيالها حافيةً تمشي على رمضاء كربلاء ، قالت له ، أخي حسين لي اليك حاجة ، قال وما حاجتك أخيه يا زينب ، قالت : أخي اكشف لي عن بعض صدرك فكشف لها الحسين عن صدره ، تقدمت اليه ، وضعت فمها على نحره ، على صدره جعلت تشمه في نحره وتقبله في صدره ثم وجهت وجهها نحو المدينة وصاحت : أماه يا زهراء ، أماه يا فاطمة لقد استرجعت الوديعة واخذت الأمانة ، ما إن سمع الحسين بذكر أمه الزهراء حتى بكى قال اخيه ما الوديعة ومن الامانة قالت اعلم يا ابن ام لما دنت الوفاة من أمنا فاطمة قربتني اليها ، شمتني في نحري ، قبلتني في صدري قالت لي بني زينب هذه وديعة لي عندك اذا رأيت أخاك الحسين وحيداً فريداً شميه في نحره قبليه في صدره أما نحره فانه موضع السيوف وأما صدره فانه موضع حوافر الخيول .
خطبة الإمام الحسين الأولى
ولما نظر الحسين الى جمعهم كأنه السيل رفع يديه بالدعاء وقـــال اللهم انت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو أنزلته بك وشكوته اليك رغبة مني اليك عمن سواك فكشفته وفرجته فأنت ولي كل نعمة ومنتهى كل رغبة ، ثم دعا براحلته فركبها ونادى بصوت عالٍ يسمعه جلُّهم أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم فان قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم علي سبيل وان لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من انفسكم فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن امركم عليكم غمة ثم اقضوا الي ولا تنظرون ان وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين فلما سمعن النساء هذا منه صحن وبكين وارتفعت أصواتهن فأرسل اليهم أخاه العباس وابنه علياً الأكبر وقال لهما سكتاهن فلعمري ليكثر بكاؤهن ولما سكتن حمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد (ص) وعلى الملائكة والأنبياء وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره ولم يُسمع متكلمٌ قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه ثم قال : الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها درا فناءٍ وزوال متصرفةً بأهلها حالاً بعد حال فالمغرور من غرته والشقي من فتنته فلا تغرنكم هذه الدنيا فانها تقطع رجاء من ركن اليها وتخيب طمع من طمع فيها وأراكم قد اجتمعتم على امر أرى أنكم قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحل بكم نقمته وجنبكم رحمته فنعم الرب ربنا وبئس العبيد أنتم أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد (ص) ثم إنكم زحفتم الى ذريته وعترته تريدون قتلهم لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم فتبَّاً لكم ولما تريدون انا لله وانا اليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد ايمانهم فبعداً للقوم الظالمين أيها الناس انسبوني من أنا ثم ارجعوا الى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق برسوله بما جاء من عند ربه أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي أوليس جعفر الطيار عمي أولم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي هذان سيدا شباب أهل الجنة فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق والله ما تعمدت الكذب منذ علمت ان الله يمقت عليه أهله ويضر به من اختلقه وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيدٍ الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي أما في هذا حـاجـزٌ لكم عن سفك دمي؟ فقال الشمر : هو يـعـبــد اللّه على حــرف إنْ كـانَ يدري ما يقول فقال له حــبــيـب بن مظـاهر والله اني أراك تعبد الله على سبعين حرفاً وأنا أشهدُ انك صادق ما تدري ما يقول قد طبع الله على قلبك ثم قال الحسين : إن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أني ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مال لكم استهلكته او بقصاص جراحة فأخذوا لا يكلمونه فنادى يا شبث بن ربعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إلي أن اقدم قد أينعت الثمار واخضر الجناب وإنما تقدم على جند لك مجندة فقالوا لم نبعث قال سبحان الله بلى والله لقد فعلتم ثم قال أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم الى مأمني من الأرض فقال له قيس بن الأشعث أولا تنزل على حكم بني عمك فإنهم لن يروك الا ما تحب ولن يصل اليك منهم مكروه فقال الحسين أنت أخو أخيك أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ثم أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعاناً فعقلها :
لم أنسه إذ قام فيهم خاطباً فإذا هم لا يملكون خطابا
يدعو ألست أنا ابن بنت نبيكم وملاذكم إن صرف دهر نابا
هل جئت في دين النبي ببدعة أم كنت في أحكامه مرتابا
أم لم يوص بنا النبي وأودع الثقلين فيكم عترةً وكتابا
إن لم تدينوا بالمعاد فراجعوا أحسابكم إن كنتم أعرابا
فغدوا حيارى لا يرون لوعظه إلا الأسنة والسهام جواباً
لما أراد وهب أن ينصر مولاه الحسين توجه الى ميدان كربلا ، أخذ يقاتل قتال الأبطال ، ثم رجع الى أمه : أماه هل رضيتي عني ؟
قالت له : أماه لن أرضى عنك حتى تقتل بين يدي الحسين ، سمعته زوجته ، قالت : لا تفجعني بنفسك ، وإذا بأمه تخاطبه : بني لا لك عليها ، أبرز وقاتل دون الطيبين . يقول : بينما أنا أقاتل دون الحسين وإذا بي أرى من يشجعني خلفي ، لما التفتت واذا بها زوجتي : ما بالك ، قبل قليل كنت تمنعيني والآن تشجعيني ؟ قالت : يا وهب لا تلمني ، فإن واعية الحسين قطعت نياق قلبي . قال لها : ويحك ماذا سمعتيه يقول ؟ تقول : رأيت سيدي ومولاي واقفاً عند باب خيمته ينظر يميناً وشمالاً وهو يقول : ألا من ناصر ينصرنا ، ألا من معين يعيننا ، وقف عند أجساد أصحابه وهو يناديهم يا حبيب ويا زهير ويا برير مالي اناديكم فلا تجيبون ، وادعوكم فلا تأتمرون ، نيام أنتم أرجوكم تنتبهون
مقتل العباس
عندها تقدم ابو الفضل نحو الحسين وقد خنقته العبرة ، قال : والآن يا ابن رسول الله أما لي من رخصة ، قال: اخي اخي عباس أنت حامل لوائي فمن لي بعدك
قال : أخي اذا كان لا بد اذهب واطلب لهؤلاء الاطفال ماء ، فحمل على القوم قائلا :
انا الذي اعرف عند الزمجرة بابن علي المسمى حيدرة
انا الذي اعرف عند الزمجرة بابن علي المسمى حيدرة
حتى كشفهم عن الماء ، ما ان وصل الى الماء ، ملئ القربة ولكن من شدة عطشه غرف غرفة من الماء ليشرب فتذكر عطش الحسين فرمى الماء وقال :
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت او تكوني
هذا حسين وارد المنون وتشربين بارد المعين
ثم حمل نحو القوم ، فصاح عمر بن سعد : ويلكم حولوا بينه وبين ايصال الماء الى المخيم فلئن وصل الماء الى الحسين لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم فحمل عليهم العباس وقتل منهم مقتلة عظيمة ، الى ان كمن له رجل وراء نخلة ،فلما مر به ابو الفضل ضربه بسيفه على يمينه فبراها ، فالتقت السيف بشماله وهو يقول :
والله ان قطعتم يميني اني احامي ابدا عن ديني
وعن امام صادق اليقين سبط النبي الطاهر الامين
ثم قطعوا شماله فراح يقول :
قد قطعوا ببغيهم يساري فاصلهم يا رب حر النار
يا نفس لا تخشي من الكفار وابشري برحمة الجبار
مع النبي السيد المختار
فبينما هو كذلك واذ بالسهام نزلت عليه مثل المطر ، فوقع سهم في نحره ، وسهم في صدره وأصاب سهم عينه اليمنى فطفاها ، وسهم أصاب القربة فأريق ماؤها ، فجاؤا بعمد الحديد ، وضربوه على ام رأسه فهوى على الارض مناديا : أخي يا حسين ادركني فوصل اليه وجلس عنده فوجده مطبوخ الجبين : أخي ابا الفضل ، الآن انكسر ظهري الآن شمت بي عدوي وقلت حيلتي ، أراد أن يحمله الحسين الى المخيم
يقلله خوي حسين خليني بمكاني يقلله ليش يا زهرة زماني
يقلله واعدت سكنة وتراني بماي واستحي منها وما اقدر
قال: أخي دعني أموت في مكاني ، اوّلاً نزل بي الموت ، وثانياً أنا مستح من سكينة لاني وعدتها بالماء وكذلك الاطفال ، ثم ان العباس رفع رأسه من حجر الحسين ومرغه بالتراب ، فأمسك الحسين رأس العباس وأعاده الى حجره ن فأرجع العباس رأسه الى الارض ثانية حتى فعلها ثلاث مرات ، فقال له : أخي أبا الفضل لماذا كلما رفعت رأسك ووضعته في حجري تعيده الى الأرض ، قال : اخي أبا عبد الله أنت الآن تأخذ برأسي ولكن بعد ساعة من يأخذ برأسك
يا خوي من يغمضلك عيونك ومين يوقف لعند الموت دونك
عند ذلك صاح : أخي ابا عبد الله ، ضع فمك على فمي ، فوضع فمه على فمه حتى أفاضت روحه الزكية، أي واسيداه واعباساه .
ولما ضاق الامر بالحسين (ع) وقد بقي وحيداً فريداً ، توجه نحو القوم وقال : يا ويلكم علام تقاتلوني : على حق تركته أم على سنة غيرتها ام على شريعة بدلتها فقالوا بل نقاتلك بغضاً منَّا بأبيك وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين ، فلما سمع كلامهم بكى وصار ينظر يميناً وشمالاً ، فلم يرى أحداً من اصحابه وأنصاره الا من صافح التراب جبينه ، ومن قطع الحمام أنينه ، فنادى : يا مسلم بن عوسجة ويا حبيب بن مظاهر ، يا زهير بن القين ، يا عباس بن علي ، يا علي الأكبر ، يا فلان ، يا فلان ، يا ابطال الصفا وفرسان الهيجا مالي اناديكم فلا تجيبون ، وأدعوكم فلا تسمعون ، أأنتم نيام أرجوكم تنتبهون ، أم حالت مودتكم عن إمامكم فلا تنصروه ، هذه نساء الرسول لفقدكم قد علاهن النحول، فقوموا من نومتكم أيها الكرام ، وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام ، ولكن صرعكم والله ريب المنون ، وغدر بكم الدهر الخؤون ، والا عن نصرتي فلا تقصرون ، ولا عن دعوتي تحتجبون فها نحن عليكم مفتجعون ، وبكم لاحقون فإنا لله وانا اليه راجعون ، ثم التفت الى خيم بني ابيه فرآها خالية منهم ثم التفت الى خيم بني عقيل فوجدها خالية منهم أيضا ، ثم التفت الى خيم أصحابه فلم ير أحدا منهم فجعل يكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
مقتل الإمام الحسين عليه السلام
عاد الى قتال العسكر ودخل وسطهم وضربهم بالسيف فضعضع اركان العسكر والرجال تفر من بين يديه وتنحاز عنه يمنةً ويسرى حتى خضَّب الارض بدماء القتلى فجعل يقاتلهم حتى قتل منهم ألوفاً ولا يبين النقص فيهم لكثرتهم ، قال حميد بن مسلم لقد رأيت الحسين يجول بين الصفوف وشيبته مخضوبة بالدم ودرعه بني عليه بنياناً ليس يرى للناظر حتى أثخنوه بالجراح ، هذا والأعداء يحملون عليه وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه وهو في ذلك يطلب شربة من الماء فلا يسقوه أبداً ، هذا والعطش أثر بعينيه حتى صار لا يبصر بهما وأثر بلسانه حتى صار كالخشبة اليابسة وأثر بأحشائه بحيث صار الغبار يدخل في فمه وينزل في جوفه أي وآ اماماه ، وأثر العظش في قواه وهو مع ذلك يضرب فيهم بسيفه فصاح عمر بن سعد عليه اللعنة ، صاح بأصحابه : الويل لكم يا حمقاء أتدرون من تقاتلون ؟ هذا ابن الانزع البطين ، هذا ابن قتال العرب ، فحملوا عليه حملة رجل واحد وافترقوا عليه أربعة فرق ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورمياً بالسهام ورضخاً بالحجارة ، ولم يزل يقاتل عليه السلام حتى أصابه اثنان وسبعون جراحة ، فوقف يستريح ساعةً وقد ضعف عن القتال فبينما هو واقف اذ رماه أبو الحتوف الجعفي بسهم فوقع على جبهته المباركة ، أخذ الثوب ليمسح الدم عن جبينه الشريف فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب ، فوقع على قلبه الشريف فرفع رأسه الى السماء قائلاً : إلهي تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره ، وكلما أراد أن ينتزع ذلك السهم من موضعه لم يتمكن ، انحنى على سرج قربوس فرسه قائلا : بسم الله وبالله وعلى ملة جدي رسول الله فاستخرج السهم من قفاه وجرى الدم كالميزاب من صدر إمامنا الحسين ، قال الراوي : خرج مع ذلك السهم ثلثا كبد ابي عبد الله ، خر صريعاً الى الارض ، جعل جواده يدور حوله ويأخذ عنانه بأسنانه ويضعه بيد الحسين (ع) مشيراً إليه بالقيام فلما رأى الجواد أن الحسين لا قابلية له على النهوض ، خضَّب ناصيته بدمه ثم أقبل نحو المخيم يحمحم ويصهل صهيلاً عالياً يقول : الظليمة الظليمة لأمةٍ قتلت ابن بنت نبيها ، ما ان وصل إلى المخيم خرجن بنات رسول الله لاستقباله وقد ظنن بأن الحسين عاد مرة ثانية ، خرجن وبينهن زينب ، نظرن وإذ بالجواد خالٍ من راكبه ، وكأني بزينب :
يا مهر حسين وين حسين قلي انا شوفك جيتني تصهل بذلي
والله انا بعد حسين قلي وين أولي ومالك روعت قلبي ما اقدر
خرجنا بنات رسول الله من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات ، للوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات ، وبعد العز مذللات ، والى مصرعك مبادرات ، حتى وصلن الى ابي عبد الله وهو ملقىً على وجه الارض والدم يجري من جسده الشريف ، القين بأنفسهن عليه ، هذه تخضب شعرها بدمه ، تلك تشمه ، تلك تظلل عليه من حرارة الشمس بردائها
فواحدة تحنو عليه تضمه واخرى عليه بالرداء تظلله
واخرى بفيض النحر تصبغ شعرها واخرى تفديه واخرى تقبله
وكاني بزينب جلست عند راسه سكينة عند رجليه زينب تخاطب سكينة تقول لها : عمه عمه يا ابنة اخي ، عليك باخي ان نجلسه ، عله يتكلم معنا عله يحاكينا .
بينما هنّ كذلك واذ بشمر قد اقبل وهو يقول تنحي تنحي عنه يا زينب ، هذا وزينب منكبة على اخيها تقبله فوصل اليها ماسكا رمحها وضربها برأس الرمح فوقعت مغمى عليها فتحت عينيها واذ بها ترى راس الحسين على راس الرمح
وآحسيناه وآاماماه
يا محمداه صلى عليك مليك السماء هذا حسين مرمل بالدماء
مقطع الاعضاء مسلوب العمامة والرداء وشيبته مخضوبة بدمائه
يداعبها غاد النسيم ورائح
تعليق