الغلـوّ والغـلاة
عرّف بعضهم الغلو بقوله: هو التجاوز عن الحد والخروج عن القصد.
وهنا نسأل ما هو هذا الحد الذي من تجاوزه صنّف مغالياً ؟
أهو القول بأن عليّاً (ع) هو أفضل الصحابة ؟
أو الإعتقاد بأنه الخليفة الشرعي للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ؟
أو الإيمان بعصمته وعصمة أبنائه الكليّة ؟
أو التصديق بأن الله أيدهم بخوارق المعجزات ؟
أو التسليم اليقيني بكل ما ورد عنهم وصدر منهم ؟
فهل هذا هو الغلو الذي من قال به اعتبر متجاوزاً للحد خارجاً عن القصد ؟
فإن كان هو كما صرّح بذلك بعض المتعصبين والمقصرين فان الشيخ ومن قال بقوله من العلماء والفقهاء يعدون من أكثر الناس غلوّا.
ولكن هل نسي مطلقو هذه الفريّة بأن الأدلّة على صحة هذه المقولات الاعتقادية أكثر من أن تُحصى، وهي مبثوثة بكثرة ملحوظة في كتب الفريقين رواها عشرات العلماء في مصنّفاتهم المعتمدة والموثوقة عند أجلّتهم.
أقول متيقّناً بأنهم لم ينسوا ذلك، ولكنها الغايات التي تبرر الوسائل عندهم، حتى وإن كانت هذه الوسائل تنصبّ في تكفير أهل الايمان واليقين.
إنّ تجاوز الحد والخروج عن القصد ليس في قول ما هو صحيح و ثابت، بل هو كما اتفق عليه في تأليه الأئمة، أو تأليه غيرهم، وفي تصوري أنه لا يوجد من يقول بذلك لا من هنا ولا من هناك.
وعلى هذا الأساس الراسخ فان الاتهام بالغلو هو مرض قديم وداء عضال ابتليت به الأمة الاسلامية فأدى الى زيادة تنفير أبنائها من بعضهم البعض مما أعان عليها أخصامها الأَلدَّاء، وهذا المرض الخبيث له أسبابه المباشرة ومن جملتها:
- اختلاف أبنائها في العقائد وانقسامهم الى فرق ومذاهب.
- اختلاف أبناء المذهب الواحد سببه تفاوت في العقول وتفاضل في الأذهان.
فحينما يختلف هذا مع ذاك في تفضيل شخص على آخر سينتج عن خلافهما طعن وتكفير يؤدي الى افتراقهما وهذا الافتراق يؤدي إلى إختلاق الاتهامات المتبادلة.
وفي يقيني أنهما لو تبصّرا في عاقبة فعلهما لما تجرّءا على فعل ما فعلا.
وحينما ينكر أحدهما ما أقرّ به صاحبه فسيصدر عن المنكر تكفير بحق المقر، وعن المقر تضعيف بحق المنكر وهكذا الى ما لا نهاية.
إذاً فالغلو كذبة قديمة لا أساس لوجودها والاتهام بها صورة ضعف وعجز المتهم الذي لا حجة له إلا التكفير لستر عجزه المكشوف.
وبعد هذا التقديم السليم، والتعريف اللطيف، والتحليل الجميل أقول بأن بعض العلماء عرّف فرقة الغلاة بالقول التالي:
( هم الذين غلوا في حق النبي وآله حتى أخرجوهم عن حدود الخليقة ) (1) .
وقد عدّهم الشهرستاني ( المشكوك بنزاهته والمعروف بافراطه في التعصب ) بأنهم إحدى عشر صنفاً وذكر من جملتهم النصيرية، وذكر آراءهم وعقائدهم (2).
ويرى بعض الفقهاء كالعلامة الشيخ جعفر السبحاني بأن ما ذكره الشهرستاني من الصنوف وما نسب إليهم من الآراء السخيفة غير ثابت جداً، وبرهن على صحة قوله بشواهد كثيرة إلى أن قال نقلاً عن أحد العلماء:
( هذه ليست أول قارورة كسرت في التاريخ، بل لها نظائر وأمائل كثيرة، فكم من رجال صالحين شوّه التاريخ سمعتهم (3) وكم من أشخاص طالحين قد وزن لهم التاريخ بصاع كبير، وعلى أي تقدير فلا نجد لأكثر هذه الفرق بل جميعها مصداقاً في أديم الأرض).(4)
وقال أيضاً:
( فلا جدوى في البحث عن الغلاة على النحو الذي ذكره الشهرستاني وغيره ( كالكشي والنوبختي ) في كتابه فان الرواة الواردين في اسناد الروايات منزهون عن الغلو بهذا المعنى الذي يوجب الخروج عن التوحيد والاسلام ويلحق الرجل بالكفار والمشركين ) .
ثم أبان عن الفرقة الغالية بقوله:
( ان الفرقة المعروفة بالغلو هي فرقة المفوضة غير أنه يجب تحقيق معناها حتى يتبين الصحيح من الزائف ) .
ثم أوضح معنى التفويض وفصل بين الصحيح والزائف إلى أن قال:
( المراجع إلى كلمات القدماء يجد أنهم يرمون كثيرا من الرواة بالغلو حسب ما أعتقد به في حق الأئمة، وان لم يكن غلواً في الواقع ).
واستشهد بقول الوحيد البهبهاني في الفوائد الرجالية حيث يقول:
( فأعلم أن الظاهر أن كثيراً من القدماء لا سيما القميّين منهم والغضائري كانوا يعتقدون للأئمة عليهم السلام منزلة خاصة من الرفعة والجلالة، ومرتبة معينة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يجوزون التعدي عنها، وكانوا يعدون التعدي ارتفاعاً وغلواً حسب معتقدهم، حتى أنهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلواً بل ربما جعلوا مطلق التفويض اليهم، أو التفويض الذي اختلف فيه، أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم، أو الاغراق في شأنهم واجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص، واظهار كثير قدرة لهم وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض (جعلوا كل ذلك ) ارتفاعاً مورثاً للتهمة به، لا سيما بجهة أن الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلسين ) .
وبالجملة الظاهر أن القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأصولية أيضاً، فربما كان شيء عند بعضهم فاسداً، أو كفراً، أو غلواً، أو تفويضاً، أو جبراً، أو تشبيهاً، أو غير ذلك، وكان عند آخر مما يجب اعتقاده أو لا هذا ولا ذاك.
فيجب على العالم الباحث، التحقيق في كثير من النسب المرمي بها الأجلة، لما عرفت من أنه لم يكن في تلك الأزمنة ضابطة واحدة ليتميز الغالي عن غيره. (5)
ولا بد من التأمل في جرحهم بأمثال هذه الأمور ومن لحظ مواقع قدحهم في كثير من المشاهير كيونس بن عبد الرحمن، ومحمد بن سنان، والمفضل بن عمر وأمثالهم، عرف الوجه في ذلك، وكفاك شاهداً اخراج أحمد بن محمد بن عيسى، أحمد بن محمد بن خالد البرقي من قم، بل عن المجلسي الأول، أنه أخرج جماعة من قم، بل عن المحقق الشيخ محمد ابن صاحب المعالم، أن أهل قم كانوا يخرجون الراوي بمجرد توهم الريب فيه.
فاذا كانت هذه حالتهم وذا ديدنهم فكيف يعوّل على جرحهم وقدحهم بمجرّده، بل لا بد من التروي والبحث عن سببه والحمل على الصحة مهما أمكن، كيف لا، ولو كان الاعتقاد بما ليس بضروري البطلان عن اجتهاد، موجباً للقدح في الرجل، للزم القدح في كثير من علمائنا ( الكلام للممقاني ) المتقدمين، لأن كلاً منهم نسب اليه القول بما ظاهره مستنكر فاسد.
ومما يؤيد ذلك ما ذكره الوحيد البهبهاني في ترجمة أحمد بن محمد بن نوح السيرافي قال:
( انه حُكيَ في الخلاصة أن الشيخ كان يذهب الى مذهب الوعيدية ( وهم الذين يكفّرون صاحب الكبيرة ويقولون بتخليده في النار )، وهو وشيخه المفيد إلى أن الله تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد كما هو مذهب الجبائي والسيد المرتضى الى مذهب البهشمية من أن ارادته عرض لا في محل، والشيخ الجليل ابراهيم بن نوبخت الى جواز اللذة العقلية عليه سبحانه، وأن ماهيته معلومة كوجوده وأن ماهيته الموجود، والمخالفين يخرجون من النار ولا يدخلون الجنة، والصدوق وشيخه ابن الوليد والطبرسي الى جواز السهو على النبي، ومحمد بن عبدالله الأسدي إلى الجبر والتشبيه، وغير ذلك مما يطول تعداده، والحكم بعدم عدالة هؤلاء لا يلتزمه أحد يؤمن بالله، والذي ظهر لي من كلمات أصحابنا المتقدمين، وسيرة أساطين المحدثين أن المخالفة في غير الأصول الخمسة لا يوجب الفسق، الا أن يستلزم انكار ضروري الدين كالتجسيم بالحقيقة لا بالتسمية، وكذا القول بالرؤية بالانطباع أو الانعكاس، وأما القول بها لا معها فلا، لأنه لا يبعد حملها على ارادة اليقين التام، والانكشاف العلمي، وأما تجويز السهو عليه وادراك اللذة العقلية عليه تعالى مع تفسيرها بارادة الكمال من حيث أنه كمال فلا يوجب فسقاً ) .
ثم قال:
( ونسب ابن طاووس ونصير الدين المحقق الطوسي وابن فهد والشهيد الثاني وشيخنا البهائي وجدي العلامة وغيرهم من الأجلة الى التصوف، وغير خفي أن ضرر التصوف انما هو فساد الاعتقاد من القول بالحلول أو الوحدة في الوجود أو الاتحاد أو فساد الأعمال المخالفة للشرع التي يرتكبها كثير من المتصوفة في مقام الرياضة أو العبادة. و غير خفي على المطلعين على أحوال هؤلاء الأجلة من كتبهم وغيرهم أنهم منزهون من كلتا المفسدتين قطعاً، ونسب جدي العالم الرباني والمقدس الصمداني مولانا محمد الصالح المازندراني وغيره من الأجلة الى القول باشتراك اللفظ، وفيه أيضاً ما أشرنا اليه ونسب المحمدون الثلاثة والطبرسي الى القول بتجويز السهو على النبي، ونسب ابن الوليد والصدوق أيضاً منكر السهو الى الغلو، وبالجملة أكثر الأجلة ليسوا بخالصين عن أمثال ما أشرنا اليه، ومن هذا يظهر التأمل في ثبوت الغلو وفساد المذهب بمجرد رمي علماء الرجال من دون ظهور الحال).
ونحن بعدما قرأنا ذلك انتقلنا الى ما ذكره العلامة الزمخشري في حق نفسه حيث يقول:
والذي تبين لنا من مراجعة هذه الكلم هو أن أكثر علماء الرجال، أو من كان ينقل عنه علماء الرجال لم يكن عندهم ضابطة خاصة لتضعيف الراوي من حيث العقيدة، بل كلما لم تنطبق عقيدة الراوي وعقيدته رماه بالغلو والضعف في العقيدة، وربما يكون نفس الرامي مخطئاً في اعتقاده بحيث لو وقفنا على عقيدته لحكمنا بخطئه، أو وقف في كتاب الراوي على أخبار نقلها هو من غير اعتقاد بمضمونها فزعم الراوي أن المؤلف معتقد به، الى غير ذلك مما يورث سوء الظن، مثل اذا ادّعى بعض أهل المذاهب الفاسدة أن الراوي منهم وليس هو منهم.
فتلخّص أن تضعيف الراوي من جانب العقيدة لا يتم الا بثبوت أمرين:
الأول: أن يثبت أن النظرية مما توجب الفسق.
الثاني: أن يثبت أن الراوي كان معتقداً بها.
وأنى لنا بإثبات الأمرين.
أما الأول، فلوجود الخلاف في كثير من المسائل العقيدية حتى مثل سهو النبي في جانب التفريط أو نسبة التفويض في بعض معانيها في جانب الإفراط.
وأما الثاني، فإن إثباته في غاية الإشكال، خصوصاً بالنظر إلى بعض الأعمال التي كان يقوم بها بعض الرواة في حق بعض، من الاخراج والتشديد بمجرد النقل عن الضعفاء وان كان ثقة في نفسه، وما لم يثبت الأمران لا يعتني بهذه التضعيفات الراجعة الى جانب العقيدة.(6)
فالتكفير لا يجوز اذا في متفرعات الأصول وجزئيات كلياتها الا أن يكون الأمر المقال من قبل قائله مزيلاً للأصل المعتمد ومتناقضاً معه.
فالتوحيد أصلٌ بلا خلاف، وان عدم اعتقاده كفر محض، والقول بالشريك يضاده، وقائل ذلك مشرك وراويه مشكوك بأمره ومطعون به، فاما أن يكون معتقده فيحكم بشركه وكفره، واما لا فيحكم بتخطئته لروايته ما يخالف عقيدته.
وأما مبحث الصفات فلا يستوجب التكفير الا في حال تشبيه الخالق بالمخلوق، وايقاعه في حدود العجز، ونسبة ما لا يليق بذاته اليه، وما عدا ذلك فمتروك لأن تناوله يؤدي الى الوقوع في ملابسات عديدة وحالة فريدة تؤدي بنا الى عدم وجود مؤمن بين المسلمين، ولا مسلماً بين المخلوقين، وذلك لأن القائلين بالصفات على أقسام:
قسم يقول بعينيتها.
وقسم يقول بغيريتها.
وقسم يقول بأنها ليست عين الذات وليست غيرها.
فالأسلم ترك هذه الأمور المتعلقة في بحث عدالة الراوي ما دام مؤمناً بالله ورسوله واليوم الآخر ومقرّاً بولاية أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين ومسلماً لهم ومستسلماً لأمرهم.
وكذلك فالنبوة أصل بلا نزاع، ومن لم يعتقدها أو أنكر أصلاً من أصولها كالوحي، والعصمة 000فليس بمسلم، أما فيما يتعلق بالعصمة الكلية، أو الجزئية، أو نفي السهو عن النبي أو عدمه، فلا يستوجب التكفير والتفسيق، وانما يستوجب تحديد اللفظ بمقتضى الأمر المتعلق به.
وكذلك فان ضعف الراوي لا يستوجب القدح كما هو دأب الكثيرين، ونقله عن الضعيف لا يدل على ضعفه الا عند الضعفاء فربما نقل رواية صحيحة عن ضعيف فهل يستوجب ذلك تضعيفه، أو نقل رواية مشبوهة لغاية ما ولكنه لا يعتقدها فهل يستحق التفسيق على ذلك، فيجب بحث الأسباب أولاً، ثم يأتي الحكم منزهاً عن الأهواء والغايات ثانياً.
وان الميزان الصحيح في تنقيح الروايات وتصحيحها هو كتاب الله وسنة رسوله ونهج الأئمة المعصومين عليهم السلام، وليس محدودية عقول الرجال وأهواءهم لأن ذلك يؤدي الى انكار الضروريات.
أما التقليد في توثيق الرجال وتضعيفهم فباطل لأسباب (7):
- إن أكثر المصنفين في علم الرجال ليسوا بأفضل من الذين تحدثوا عنهم، والمفضول عند ذوي العقول لا يقيّم الفاضل بل العكس هو الصحيح.
- إن بعضهم ارتكز على عقيدته في تقييم الرجل وهذا التقييم غير سليم وذلك تحسباً من أن تكون عقيدة المصنف معلولة فستكون النتيجة مجهولة والمقيّم مظلوماً.
- إن بعضهم لم يشاهد الرجل الذي تحدث عنه بل اعتمد على السماع وهذا الاستدلال باطل بالبديهة.
- إن بعضهم اعتمد على رواية الرجل فحكم عليه من خلال اتفاقها مع عقيدته أو عدمها.
ان أكثرهم نقل عمن كان قبله ومن كان قبله يندرج ضمن الأقسام المذكورة أعلاه.
فالتقليد المقبول والمعمول به هو تقليد أهل العصمة، ولكنه عسير اذ يقتضي التحقق من صحة الروايات الواردة بحق الأشخاص. فيقتضي اذا الاجتهاد في هذا المجال بموجب ما عرف عن الرجل المستقصى عن حاله دراية ورواية، قولاً وفعلاً، وهذا أيضاً عسير لأن الاجتهاد يتطلب شروطاً عديدة يصعب على الكثيرين امتهانها واتقانها، فأسلم الطرق وأسهلها هو التسليم لله بقلب سليم وحسن الظن بأهل الولاية وعدم التقحم في المسالك العويصة التي تؤدي الى ما لا يحمد عقباه.
هذه هي حالة الاتهامات بين علماء المذهب الواحد وفقهائه، أما من حيث اتهام علماء المذاهب لبعضها البعض فهو كما أوضحنا بأنه لمجرد قول الامامي بأن علياً (ع) أفضل الصحابة أو الاعتقاد بعصمته كان يُرمى بالغلو والمروق عن الدين ويتّهم بالزندقة والضلال المبين، وخصوصاً في العصر العباسي الذي فاق سابقه بطغيان حكامه، وتعصب فقهائه، فتبيّن لنا أن الغلو كما ذكره ملصقوه لا أساس لوجوده، أو لوجود فرقة تقول به بل هو عبارة عن وصمة كانت تلصق بكل معارض لسياسة عصره وملوك زمانه، ولو سلمنا جدلاً بوجوده فهو غير القرمطة المعروفة تاريخياً، وهاتين التهمتين لا تجتمعان في شخص واحد، والشيخ الخصيبي (ق) من أبعد الناس عنهما لصفاء عقيدته الاسلامية، وصحة ولايته العلوية، ومن يراجع الهداية الكبرى المعتمدة والمتقنة عند الثقاة يتضح له بأن هذا الشيخ الجليل : متّبع غير مبتدع، ولم ينطق بكلمة واحدة الا من بعد التحقق بأنها صادرة عن أئمته المعصومين عليهم السلام. وان ما رواه فيها من الأخبار الصادقة فهو محض عقيدته بدليل أنه ألّفها وهو مطمئن البال ومن دون حذر وكان ذلك في عصر الدولة الحمدانية المعروف عن أمرائها تمسكهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولاية أهل البيت عليهم السلام.
وبعد هذا البيان المؤيد بالدليل والبرهان أقول انه من المعيب والمخجل اعتماد بعض الكتّاب بل أكثرهم على ما جاء في كتاب تاريخ العلويين لمحمد أمين غالب الطويل فيما يتعلق بالشيخ الخصيبي، لعلم أهل الانصاف ومعرفتهم بأن الطويل استقى معلوماته من ساداته الأتراك والفرنسيين الذين أملوا عليه هذا التاريخ العليل المليء بالأباطيل والذي لا يمت الى الحقيقة بصلة، ولا يمكن الاعتماد عليه كمستند تاريخي لمغايرته للواقع، وهذه الحقيقة التي سنبرهن عنها في كتاب آخر أكّدناها سابقاً باختصار لذوي الأفكار.
ومن التّهم التي ألصقت بحق الشيخ من قبل المغرضين القول بأن له رأياً خاصاً في حادثة كربلاء مفادها أن الامام الحسين (ع) لم يُقتل على الحقيقة بل رفعه الله الى السماء كما فعل بعيسى بن مريم (ع)، ولا أدري من أين استقى معلوماته مُطلق هذه الفريّة ؟ ومن أوحى له بها، وكأنه أراد أن يقول بأن الشيخ قد غاير علماء زمانه في مفهوم الامامة.
وهنا لا بد لي من القول:
بأن رأي الشيخ في مصرع الامام الحسين (ع) وموقفه من حادثة كربلاء الأليمة في غاية الوضوح، ولا يختلف في ذلك مع رواة الحديث وأهل العلم من الفقهاء الاماميين ومن أراد التوسع فليقرأ هذا الخبر ليتضح له من خلاله الأمر:
قال الحسين بن حمدان الخصيبي شرّف الله مقامه:
حدّثني أبو الحسين محمد بن علي الفارسي عن أبي بصير عن أبي جعفر الباقر (ع) قال:
لما أراد الحسين بن علي (ع) الخروج الى الشآم بعثت اليه أم سلمة وهي التي كانت ربّته وكان هو أحبّ اليها من كل أحد وكانت أرأف الناس عليه، وكانت تربة الحسين عندها في قارورة مختومة دفعها اليها رسول الله صلى الله عليه وآله وقال لها اذا خرج ابني الى العراق فاجعلي هذه القارورة نصب عينيك فاذا استحالت التربة في القارورة دماً عبيطاً فاعلمي أن ابني الحسين قد قتل، فقالت له أذكرك رسول الله أن تخرج الى العراق قال: ولم يا أم سلمة ؟
قالت: سمعت رسول الله صلى اله عليه وآله يقول يقتل ابني الحسين بالعراق، وعندي يا بني تربتك في قارورة مختومة دفعها اليّ النبي صلى الله عليه وآله، فقال:
يا أم سلمة اني مقتول لا محالة فأين أفر من القدر والقضاء المحتوم والأمر الواجب من الله سبحانه وتعالى، قالت: واعجباه فأين تذهب وأنت مقتول ؟
قال: يا أمّ اني ان لم أذهب اليوم ذهبت غداً، وان لم أذهب غداً ذهبت بعد غد وما من الموت مفر، والله يا أمّ اني لأعرف اليوم الذي أقتل فيه والساعة التي أحمل فيها والحفرة التي أدفن فيها وأعرف قاتلي ومحاربي والمجلب عليّ والسائق والقائد والمحرّض ومن هو قاتلي ومن يحرّضه ومن يقتل معي من أهلي وشيعتي رجلاً رجلاً وأحصيهم عدداً وأعرفهم بأعيانهم وأسمائهم وقبائلهم وعشائرهم كما أعرفك وان أحببت أريتك مصرعي ومكاني فقالت: فقد شئت, فما زاد عليّ أن تكلم باسم الله فخضعت له الأرض حتى أراها مضجعه ومكانه ومكان أصحابه وأعطاها من تلك التربة التي كانت عندها ثم خرج الحسين (ع) وقال لها يا أمّ اني لمقتول يوم عاشوراء يوم السبت فكانت أم سلمة تعد الأيام وتسأل عن يوم عاشوراء فلما كانت تلك الليلة صبحته قتل الحسين (ع) فرأت في منامها أشعث مغبرّاً باكياً، وقال دفنت الحسين وأصحابه الساعة فانتبهت أم سلمة وخرجت صارخة بأعلى صوتها واجتمع اليها أهل المدينة فقالوا لها ما الذي دهاك ؟
قالت: قتل الحسين بن علي وأصحابه (ع) ، قالوا: أضغاث أحلام, فقالت: مكانكم فان عندي تربة الحسين فأخرجت اليهم القارورة فاذا هي دم عبيط فحسبوا الأيام فاذا الحسين قتل في ذلك اليوم. (8)
فلو تبصّر منصف في هذا الخبر الصحيح المروي في عدة مراجع (9) لتبيّن له رأي الخصيبي (ق) في حادثة كربلاء ولاتّضح له أيضاً بأنه لا يختلف في ذلك مع بقية العلماء.
وألفتُ نظر القارىء الكريم الى أن كلمة (القتل ) وردت في هذا الخبر احدى عشر مرة، ومن أراد المزيد فعليه بالهداية ليستفيد ويفيد ويرغم كل أفّاك عنيد، وجاهل بليد.
------------------------------------------------------------------------------
(1) - كنا نتمنى على هذا العالم أن يبين لنا ما هي حدود الخليقة حتى نعلم متى يخرج القائل الأئمة عنها بقوله فيهم حسب معتقده القائم على ما تحققه من النصوص الواردة عنهم من خلال الأمناء ؟ فهل القول بأنهم فوق المخلوقين ودون الخالق، أو أنهم يفعلون ما يعجز عنه غيرهم، أو أن الله اختصهم بخصائص لم يختص بها غيرهم غلوّاً ؟ أم أن مراده بحدود الخليقة اخراجهم عن الحدوث والامكان ؟ فهذه الناحية لا يقرّها علوي، أما الناحية الأولى المنصبّة على الاعتراف بخصائصهم وفضائلهم فهي عقيدة الشيخ ومقلديه القائمة على قواعد ثابتة والمنطلقة من أسس راسخة لا تتغير وهي القول أنهم عباد مكرمون.
(2) - لا يُلام الشهرستاني على كلامه لأن تعصبه هو الذي يُملي عليه أحكامه، فلو أن النصيريين قالوا بمقالته لصنّفهم من أعلام الشريعة وسدنتها، ولن يكونوا كذلك لا عنده ولا عند غيره لأنهم لن يغيروا مقالتهم العلوية بمقالة ناصبية.
(3) - أمثال شيخنا الأجل الذي نحن بصدد الحديث عنه والتبرك بذكره.
(4) - هذا ما بينّاه وبرهناه في مواضع عدة من كتابنا- المسلمون العلويون بين مفتريات الأقلام وجور الحكام - وأكدنا على أن أكثر الفرق المذكورة في كتب الفرق والنحل لا أساس لوجودها الّا في خيال أصحابها.
(5 - 6) - كليات في علم الرجال.
(7) - باستثناء الثقات الذين لا يشك في عقيدتهم وعدالتهم.
(8) - الهداية الكبرى ص /203/204/.
(9) - روى هذا الخبر العلامة محمد باقر المجلسي في بحار الأنوار نقل عن القطب الراوندي، ورواه عن المجلسي المحقق البهبهاني في الدمعة الساكبة، ورواه عن الشيخ الخصيبي صاحب صحيفة الأبرار وغيره.
الغلـوّ والغـلاة
عرّف بعضهم الغلو بقوله: هو التجاوز عن الحد والخروج عن القصد.
وهنا نسأل ما هو هذا الحد الذي من تجاوزه صنّف مغالياً ؟
أهو القول بأن عليّاً (ع) هو أفضل الصحابة ؟
أو الإعتقاد بأنه الخليفة الشرعي للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ؟
أو الإيمان بعصمته وعصمة أبنائه الكليّة ؟
أو التصديق بأن الله أيدهم بخوارق المعجزات ؟
أو التسليم اليقيني بكل ما ورد عنهم وصدر منهم ؟
فهل هذا هو الغلو الذي من قال به اعتبر متجاوزاً للحد خارجاً عن القصد ؟
فإن كان هو كما صرّح بذلك بعض المتعصبين والمقصرين فان الشيخ ومن قال بقوله من العلماء والفقهاء يعدون من أكثر الناس غلوّا.
ولكن هل نسي مطلقو هذه الفريّة بأن الأدلّة على صحة هذه المقولات الاعتقادية أكثر من أن تُحصى، وهي مبثوثة بكثرة ملحوظة في كتب الفريقين رواها عشرات العلماء في مصنّفاتهم المعتمدة والموثوقة عند أجلّتهم.
أقول متيقّناً بأنهم لم ينسوا ذلك، ولكنها الغايات التي تبرر الوسائل عندهم، حتى وإن كانت هذه الوسائل تنصبّ في تكفير أهل الايمان واليقين.
إنّ تجاوز الحد والخروج عن القصد ليس في قول ما هو صحيح و ثابت، بل هو كما اتفق عليه في تأليه الأئمة، أو تأليه غيرهم، وفي تصوري أنه لا يوجد من يقول بذلك لا من هنا ولا من هناك.
وعلى هذا الأساس الراسخ فان الاتهام بالغلو هو مرض قديم وداء عضال ابتليت به الأمة الاسلامية فأدى الى زيادة تنفير أبنائها من بعضهم البعض مما أعان عليها أخصامها الأَلدَّاء، وهذا المرض الخبيث له أسبابه المباشرة ومن جملتها:
- اختلاف أبنائها في العقائد وانقسامهم الى فرق ومذاهب.
- اختلاف أبناء المذهب الواحد سببه تفاوت في العقول وتفاضل في الأذهان.
فحينما يختلف هذا مع ذاك في تفضيل شخص على آخر سينتج عن خلافهما طعن وتكفير يؤدي الى افتراقهما وهذا الافتراق يؤدي إلى إختلاق الاتهامات المتبادلة.
وفي يقيني أنهما لو تبصّرا في عاقبة فعلهما لما تجرّءا على فعل ما فعلا.
وحينما ينكر أحدهما ما أقرّ به صاحبه فسيصدر عن المنكر تكفير بحق المقر، وعن المقر تضعيف بحق المنكر وهكذا الى ما لا نهاية.
إذاً فالغلو كذبة قديمة لا أساس لوجودها والاتهام بها صورة ضعف وعجز المتهم الذي لا حجة له إلا التكفير لستر عجزه المكشوف.
وبعد هذا التقديم السليم، والتعريف اللطيف، والتحليل الجميل أقول بأن بعض العلماء عرّف فرقة الغلاة بالقول التالي:
( هم الذين غلوا في حق النبي وآله حتى أخرجوهم عن حدود الخليقة ) (1) .
وقد عدّهم الشهرستاني ( المشكوك بنزاهته والمعروف بافراطه في التعصب ) بأنهم إحدى عشر صنفاً وذكر من جملتهم النصيرية، وذكر آراءهم وعقائدهم (2).
ويرى بعض الفقهاء كالعلامة الشيخ جعفر السبحاني بأن ما ذكره الشهرستاني من الصنوف وما نسب إليهم من الآراء السخيفة غير ثابت جداً، وبرهن على صحة قوله بشواهد كثيرة إلى أن قال نقلاً عن أحد العلماء:
( هذه ليست أول قارورة كسرت في التاريخ، بل لها نظائر وأمائل كثيرة، فكم من رجال صالحين شوّه التاريخ سمعتهم (3) وكم من أشخاص طالحين قد وزن لهم التاريخ بصاع كبير، وعلى أي تقدير فلا نجد لأكثر هذه الفرق بل جميعها مصداقاً في أديم الأرض).(4)
وقال أيضاً:
( فلا جدوى في البحث عن الغلاة على النحو الذي ذكره الشهرستاني وغيره ( كالكشي والنوبختي ) في كتابه فان الرواة الواردين في اسناد الروايات منزهون عن الغلو بهذا المعنى الذي يوجب الخروج عن التوحيد والاسلام ويلحق الرجل بالكفار والمشركين ) .
ثم أبان عن الفرقة الغالية بقوله:
( ان الفرقة المعروفة بالغلو هي فرقة المفوضة غير أنه يجب تحقيق معناها حتى يتبين الصحيح من الزائف ) .
ثم أوضح معنى التفويض وفصل بين الصحيح والزائف إلى أن قال:
( المراجع إلى كلمات القدماء يجد أنهم يرمون كثيرا من الرواة بالغلو حسب ما أعتقد به في حق الأئمة، وان لم يكن غلواً في الواقع ).
واستشهد بقول الوحيد البهبهاني في الفوائد الرجالية حيث يقول:
( فأعلم أن الظاهر أن كثيراً من القدماء لا سيما القميّين منهم والغضائري كانوا يعتقدون للأئمة عليهم السلام منزلة خاصة من الرفعة والجلالة، ومرتبة معينة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يجوزون التعدي عنها، وكانوا يعدون التعدي ارتفاعاً وغلواً حسب معتقدهم، حتى أنهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلواً بل ربما جعلوا مطلق التفويض اليهم، أو التفويض الذي اختلف فيه، أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم، أو الاغراق في شأنهم واجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص، واظهار كثير قدرة لهم وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض (جعلوا كل ذلك ) ارتفاعاً مورثاً للتهمة به، لا سيما بجهة أن الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلسين ) .
وبالجملة الظاهر أن القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأصولية أيضاً، فربما كان شيء عند بعضهم فاسداً، أو كفراً، أو غلواً، أو تفويضاً، أو جبراً، أو تشبيهاً، أو غير ذلك، وكان عند آخر مما يجب اعتقاده أو لا هذا ولا ذاك.
فيجب على العالم الباحث، التحقيق في كثير من النسب المرمي بها الأجلة، لما عرفت من أنه لم يكن في تلك الأزمنة ضابطة واحدة ليتميز الغالي عن غيره. (5)
ولا بد من التأمل في جرحهم بأمثال هذه الأمور ومن لحظ مواقع قدحهم في كثير من المشاهير كيونس بن عبد الرحمن، ومحمد بن سنان، والمفضل بن عمر وأمثالهم، عرف الوجه في ذلك، وكفاك شاهداً اخراج أحمد بن محمد بن عيسى، أحمد بن محمد بن خالد البرقي من قم، بل عن المجلسي الأول، أنه أخرج جماعة من قم، بل عن المحقق الشيخ محمد ابن صاحب المعالم، أن أهل قم كانوا يخرجون الراوي بمجرد توهم الريب فيه.
فاذا كانت هذه حالتهم وذا ديدنهم فكيف يعوّل على جرحهم وقدحهم بمجرّده، بل لا بد من التروي والبحث عن سببه والحمل على الصحة مهما أمكن، كيف لا، ولو كان الاعتقاد بما ليس بضروري البطلان عن اجتهاد، موجباً للقدح في الرجل، للزم القدح في كثير من علمائنا ( الكلام للممقاني ) المتقدمين، لأن كلاً منهم نسب اليه القول بما ظاهره مستنكر فاسد.
ومما يؤيد ذلك ما ذكره الوحيد البهبهاني في ترجمة أحمد بن محمد بن نوح السيرافي قال:
( انه حُكيَ في الخلاصة أن الشيخ كان يذهب الى مذهب الوعيدية ( وهم الذين يكفّرون صاحب الكبيرة ويقولون بتخليده في النار )، وهو وشيخه المفيد إلى أن الله تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد كما هو مذهب الجبائي والسيد المرتضى الى مذهب البهشمية من أن ارادته عرض لا في محل، والشيخ الجليل ابراهيم بن نوبخت الى جواز اللذة العقلية عليه سبحانه، وأن ماهيته معلومة كوجوده وأن ماهيته الموجود، والمخالفين يخرجون من النار ولا يدخلون الجنة، والصدوق وشيخه ابن الوليد والطبرسي الى جواز السهو على النبي، ومحمد بن عبدالله الأسدي إلى الجبر والتشبيه، وغير ذلك مما يطول تعداده، والحكم بعدم عدالة هؤلاء لا يلتزمه أحد يؤمن بالله، والذي ظهر لي من كلمات أصحابنا المتقدمين، وسيرة أساطين المحدثين أن المخالفة في غير الأصول الخمسة لا يوجب الفسق، الا أن يستلزم انكار ضروري الدين كالتجسيم بالحقيقة لا بالتسمية، وكذا القول بالرؤية بالانطباع أو الانعكاس، وأما القول بها لا معها فلا، لأنه لا يبعد حملها على ارادة اليقين التام، والانكشاف العلمي، وأما تجويز السهو عليه وادراك اللذة العقلية عليه تعالى مع تفسيرها بارادة الكمال من حيث أنه كمال فلا يوجب فسقاً ) .
ثم قال:
( ونسب ابن طاووس ونصير الدين المحقق الطوسي وابن فهد والشهيد الثاني وشيخنا البهائي وجدي العلامة وغيرهم من الأجلة الى التصوف، وغير خفي أن ضرر التصوف انما هو فساد الاعتقاد من القول بالحلول أو الوحدة في الوجود أو الاتحاد أو فساد الأعمال المخالفة للشرع التي يرتكبها كثير من المتصوفة في مقام الرياضة أو العبادة. و غير خفي على المطلعين على أحوال هؤلاء الأجلة من كتبهم وغيرهم أنهم منزهون من كلتا المفسدتين قطعاً، ونسب جدي العالم الرباني والمقدس الصمداني مولانا محمد الصالح المازندراني وغيره من الأجلة الى القول باشتراك اللفظ، وفيه أيضاً ما أشرنا اليه ونسب المحمدون الثلاثة والطبرسي الى القول بتجويز السهو على النبي، ونسب ابن الوليد والصدوق أيضاً منكر السهو الى الغلو، وبالجملة أكثر الأجلة ليسوا بخالصين عن أمثال ما أشرنا اليه، ومن هذا يظهر التأمل في ثبوت الغلو وفساد المذهب بمجرد رمي علماء الرجال من دون ظهور الحال).
ونحن بعدما قرأنا ذلك انتقلنا الى ما ذكره العلامة الزمخشري في حق نفسه حيث يقول:
تعجبت من هذا الزمان وأهله == فما أحد من ألسن الناس يسلم
والذي تبين لنا من مراجعة هذه الكلم هو أن أكثر علماء الرجال، أو من كان ينقل عنه علماء الرجال لم يكن عندهم ضابطة خاصة لتضعيف الراوي من حيث العقيدة، بل كلما لم تنطبق عقيدة الراوي وعقيدته رماه بالغلو والضعف في العقيدة، وربما يكون نفس الرامي مخطئاً في اعتقاده بحيث لو وقفنا على عقيدته لحكمنا بخطئه، أو وقف في كتاب الراوي على أخبار نقلها هو من غير اعتقاد بمضمونها فزعم الراوي أن المؤلف معتقد به، الى غير ذلك مما يورث سوء الظن، مثل اذا ادّعى بعض أهل المذاهب الفاسدة أن الراوي منهم وليس هو منهم.
فتلخّص أن تضعيف الراوي من جانب العقيدة لا يتم الا بثبوت أمرين:
الأول: أن يثبت أن النظرية مما توجب الفسق.
الثاني: أن يثبت أن الراوي كان معتقداً بها.
وأنى لنا بإثبات الأمرين.
أما الأول، فلوجود الخلاف في كثير من المسائل العقيدية حتى مثل سهو النبي في جانب التفريط أو نسبة التفويض في بعض معانيها في جانب الإفراط.
وأما الثاني، فإن إثباته في غاية الإشكال، خصوصاً بالنظر إلى بعض الأعمال التي كان يقوم بها بعض الرواة في حق بعض، من الاخراج والتشديد بمجرد النقل عن الضعفاء وان كان ثقة في نفسه، وما لم يثبت الأمران لا يعتني بهذه التضعيفات الراجعة الى جانب العقيدة.(6)
فالتكفير لا يجوز اذا في متفرعات الأصول وجزئيات كلياتها الا أن يكون الأمر المقال من قبل قائله مزيلاً للأصل المعتمد ومتناقضاً معه.
فالتوحيد أصلٌ بلا خلاف، وان عدم اعتقاده كفر محض، والقول بالشريك يضاده، وقائل ذلك مشرك وراويه مشكوك بأمره ومطعون به، فاما أن يكون معتقده فيحكم بشركه وكفره، واما لا فيحكم بتخطئته لروايته ما يخالف عقيدته.
وأما مبحث الصفات فلا يستوجب التكفير الا في حال تشبيه الخالق بالمخلوق، وايقاعه في حدود العجز، ونسبة ما لا يليق بذاته اليه، وما عدا ذلك فمتروك لأن تناوله يؤدي الى الوقوع في ملابسات عديدة وحالة فريدة تؤدي بنا الى عدم وجود مؤمن بين المسلمين، ولا مسلماً بين المخلوقين، وذلك لأن القائلين بالصفات على أقسام:
قسم يقول بعينيتها.
وقسم يقول بغيريتها.
وقسم يقول بأنها ليست عين الذات وليست غيرها.
فالأسلم ترك هذه الأمور المتعلقة في بحث عدالة الراوي ما دام مؤمناً بالله ورسوله واليوم الآخر ومقرّاً بولاية أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين ومسلماً لهم ومستسلماً لأمرهم.
وكذلك فالنبوة أصل بلا نزاع، ومن لم يعتقدها أو أنكر أصلاً من أصولها كالوحي، والعصمة 000فليس بمسلم، أما فيما يتعلق بالعصمة الكلية، أو الجزئية، أو نفي السهو عن النبي أو عدمه، فلا يستوجب التكفير والتفسيق، وانما يستوجب تحديد اللفظ بمقتضى الأمر المتعلق به.
وكذلك فان ضعف الراوي لا يستوجب القدح كما هو دأب الكثيرين، ونقله عن الضعيف لا يدل على ضعفه الا عند الضعفاء فربما نقل رواية صحيحة عن ضعيف فهل يستوجب ذلك تضعيفه، أو نقل رواية مشبوهة لغاية ما ولكنه لا يعتقدها فهل يستحق التفسيق على ذلك، فيجب بحث الأسباب أولاً، ثم يأتي الحكم منزهاً عن الأهواء والغايات ثانياً.
وان الميزان الصحيح في تنقيح الروايات وتصحيحها هو كتاب الله وسنة رسوله ونهج الأئمة المعصومين عليهم السلام، وليس محدودية عقول الرجال وأهواءهم لأن ذلك يؤدي الى انكار الضروريات.
أما التقليد في توثيق الرجال وتضعيفهم فباطل لأسباب (7):
- إن أكثر المصنفين في علم الرجال ليسوا بأفضل من الذين تحدثوا عنهم، والمفضول عند ذوي العقول لا يقيّم الفاضل بل العكس هو الصحيح.
- إن بعضهم ارتكز على عقيدته في تقييم الرجل وهذا التقييم غير سليم وذلك تحسباً من أن تكون عقيدة المصنف معلولة فستكون النتيجة مجهولة والمقيّم مظلوماً.
- إن بعضهم لم يشاهد الرجل الذي تحدث عنه بل اعتمد على السماع وهذا الاستدلال باطل بالبديهة.
- إن بعضهم اعتمد على رواية الرجل فحكم عليه من خلال اتفاقها مع عقيدته أو عدمها.
ان أكثرهم نقل عمن كان قبله ومن كان قبله يندرج ضمن الأقسام المذكورة أعلاه.
فالتقليد المقبول والمعمول به هو تقليد أهل العصمة، ولكنه عسير اذ يقتضي التحقق من صحة الروايات الواردة بحق الأشخاص. فيقتضي اذا الاجتهاد في هذا المجال بموجب ما عرف عن الرجل المستقصى عن حاله دراية ورواية، قولاً وفعلاً، وهذا أيضاً عسير لأن الاجتهاد يتطلب شروطاً عديدة يصعب على الكثيرين امتهانها واتقانها، فأسلم الطرق وأسهلها هو التسليم لله بقلب سليم وحسن الظن بأهل الولاية وعدم التقحم في المسالك العويصة التي تؤدي الى ما لا يحمد عقباه.
وختاماً لهذا البحث أقول:
هذه هي حالة الاتهامات بين علماء المذهب الواحد وفقهائه، أما من حيث اتهام علماء المذاهب لبعضها البعض فهو كما أوضحنا بأنه لمجرد قول الامامي بأن علياً (ع) أفضل الصحابة أو الاعتقاد بعصمته كان يُرمى بالغلو والمروق عن الدين ويتّهم بالزندقة والضلال المبين، وخصوصاً في العصر العباسي الذي فاق سابقه بطغيان حكامه، وتعصب فقهائه، فتبيّن لنا أن الغلو كما ذكره ملصقوه لا أساس لوجوده، أو لوجود فرقة تقول به بل هو عبارة عن وصمة كانت تلصق بكل معارض لسياسة عصره وملوك زمانه، ولو سلمنا جدلاً بوجوده فهو غير القرمطة المعروفة تاريخياً، وهاتين التهمتين لا تجتمعان في شخص واحد، والشيخ الخصيبي (ق) من أبعد الناس عنهما لصفاء عقيدته الاسلامية، وصحة ولايته العلوية، ومن يراجع الهداية الكبرى المعتمدة والمتقنة عند الثقاة يتضح له بأن هذا الشيخ الجليل : متّبع غير مبتدع، ولم ينطق بكلمة واحدة الا من بعد التحقق بأنها صادرة عن أئمته المعصومين عليهم السلام. وان ما رواه فيها من الأخبار الصادقة فهو محض عقيدته بدليل أنه ألّفها وهو مطمئن البال ومن دون حذر وكان ذلك في عصر الدولة الحمدانية المعروف عن أمرائها تمسكهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولاية أهل البيت عليهم السلام.
وبعد هذا البيان المؤيد بالدليل والبرهان أقول انه من المعيب والمخجل اعتماد بعض الكتّاب بل أكثرهم على ما جاء في كتاب تاريخ العلويين لمحمد أمين غالب الطويل فيما يتعلق بالشيخ الخصيبي، لعلم أهل الانصاف ومعرفتهم بأن الطويل استقى معلوماته من ساداته الأتراك والفرنسيين الذين أملوا عليه هذا التاريخ العليل المليء بالأباطيل والذي لا يمت الى الحقيقة بصلة، ولا يمكن الاعتماد عليه كمستند تاريخي لمغايرته للواقع، وهذه الحقيقة التي سنبرهن عنها في كتاب آخر أكّدناها سابقاً باختصار لذوي الأفكار.
ومن التّهم التي ألصقت بحق الشيخ من قبل المغرضين القول بأن له رأياً خاصاً في حادثة كربلاء مفادها أن الامام الحسين (ع) لم يُقتل على الحقيقة بل رفعه الله الى السماء كما فعل بعيسى بن مريم (ع)، ولا أدري من أين استقى معلوماته مُطلق هذه الفريّة ؟ ومن أوحى له بها، وكأنه أراد أن يقول بأن الشيخ قد غاير علماء زمانه في مفهوم الامامة.
وهنا لا بد لي من القول:
بأن رأي الشيخ في مصرع الامام الحسين (ع) وموقفه من حادثة كربلاء الأليمة في غاية الوضوح، ولا يختلف في ذلك مع رواة الحديث وأهل العلم من الفقهاء الاماميين ومن أراد التوسع فليقرأ هذا الخبر ليتضح له من خلاله الأمر:
قال الحسين بن حمدان الخصيبي شرّف الله مقامه:
حدّثني أبو الحسين محمد بن علي الفارسي عن أبي بصير عن أبي جعفر الباقر (ع) قال:
لما أراد الحسين بن علي (ع) الخروج الى الشآم بعثت اليه أم سلمة وهي التي كانت ربّته وكان هو أحبّ اليها من كل أحد وكانت أرأف الناس عليه، وكانت تربة الحسين عندها في قارورة مختومة دفعها اليها رسول الله صلى الله عليه وآله وقال لها اذا خرج ابني الى العراق فاجعلي هذه القارورة نصب عينيك فاذا استحالت التربة في القارورة دماً عبيطاً فاعلمي أن ابني الحسين قد قتل، فقالت له أذكرك رسول الله أن تخرج الى العراق قال: ولم يا أم سلمة ؟
قالت: سمعت رسول الله صلى اله عليه وآله يقول يقتل ابني الحسين بالعراق، وعندي يا بني تربتك في قارورة مختومة دفعها اليّ النبي صلى الله عليه وآله، فقال:
يا أم سلمة اني مقتول لا محالة فأين أفر من القدر والقضاء المحتوم والأمر الواجب من الله سبحانه وتعالى، قالت: واعجباه فأين تذهب وأنت مقتول ؟
قال: يا أمّ اني ان لم أذهب اليوم ذهبت غداً، وان لم أذهب غداً ذهبت بعد غد وما من الموت مفر، والله يا أمّ اني لأعرف اليوم الذي أقتل فيه والساعة التي أحمل فيها والحفرة التي أدفن فيها وأعرف قاتلي ومحاربي والمجلب عليّ والسائق والقائد والمحرّض ومن هو قاتلي ومن يحرّضه ومن يقتل معي من أهلي وشيعتي رجلاً رجلاً وأحصيهم عدداً وأعرفهم بأعيانهم وأسمائهم وقبائلهم وعشائرهم كما أعرفك وان أحببت أريتك مصرعي ومكاني فقالت: فقد شئت, فما زاد عليّ أن تكلم باسم الله فخضعت له الأرض حتى أراها مضجعه ومكانه ومكان أصحابه وأعطاها من تلك التربة التي كانت عندها ثم خرج الحسين (ع) وقال لها يا أمّ اني لمقتول يوم عاشوراء يوم السبت فكانت أم سلمة تعد الأيام وتسأل عن يوم عاشوراء فلما كانت تلك الليلة صبحته قتل الحسين (ع) فرأت في منامها أشعث مغبرّاً باكياً، وقال دفنت الحسين وأصحابه الساعة فانتبهت أم سلمة وخرجت صارخة بأعلى صوتها واجتمع اليها أهل المدينة فقالوا لها ما الذي دهاك ؟
قالت: قتل الحسين بن علي وأصحابه (ع) ، قالوا: أضغاث أحلام, فقالت: مكانكم فان عندي تربة الحسين فأخرجت اليهم القارورة فاذا هي دم عبيط فحسبوا الأيام فاذا الحسين قتل في ذلك اليوم. (8)
فلو تبصّر منصف في هذا الخبر الصحيح المروي في عدة مراجع (9) لتبيّن له رأي الخصيبي (ق) في حادثة كربلاء ولاتّضح له أيضاً بأنه لا يختلف في ذلك مع بقية العلماء.
وألفتُ نظر القارىء الكريم الى أن كلمة (القتل ) وردت في هذا الخبر احدى عشر مرة، ومن أراد المزيد فعليه بالهداية ليستفيد ويفيد ويرغم كل أفّاك عنيد، وجاهل بليد.
------------------------------------------------------------------------------
(1) - كنا نتمنى على هذا العالم أن يبين لنا ما هي حدود الخليقة حتى نعلم متى يخرج القائل الأئمة عنها بقوله فيهم حسب معتقده القائم على ما تحققه من النصوص الواردة عنهم من خلال الأمناء ؟ فهل القول بأنهم فوق المخلوقين ودون الخالق، أو أنهم يفعلون ما يعجز عنه غيرهم، أو أن الله اختصهم بخصائص لم يختص بها غيرهم غلوّاً ؟ أم أن مراده بحدود الخليقة اخراجهم عن الحدوث والامكان ؟ فهذه الناحية لا يقرّها علوي، أما الناحية الأولى المنصبّة على الاعتراف بخصائصهم وفضائلهم فهي عقيدة الشيخ ومقلديه القائمة على قواعد ثابتة والمنطلقة من أسس راسخة لا تتغير وهي القول أنهم عباد مكرمون.
(2) - لا يُلام الشهرستاني على كلامه لأن تعصبه هو الذي يُملي عليه أحكامه، فلو أن النصيريين قالوا بمقالته لصنّفهم من أعلام الشريعة وسدنتها، ولن يكونوا كذلك لا عنده ولا عند غيره لأنهم لن يغيروا مقالتهم العلوية بمقالة ناصبية.
(3) - أمثال شيخنا الأجل الذي نحن بصدد الحديث عنه والتبرك بذكره.
(4) - هذا ما بينّاه وبرهناه في مواضع عدة من كتابنا- المسلمون العلويون بين مفتريات الأقلام وجور الحكام - وأكدنا على أن أكثر الفرق المذكورة في كتب الفرق والنحل لا أساس لوجودها الّا في خيال أصحابها.
(5 - 6) - كليات في علم الرجال.
(7) - باستثناء الثقات الذين لا يشك في عقيدتهم وعدالتهم.
(8) - الهداية الكبرى ص /203/204/.
(9) - روى هذا الخبر العلامة محمد باقر المجلسي في بحار الأنوار نقل عن القطب الراوندي، ورواه عن المجلسي المحقق البهبهاني في الدمعة الساكبة، ورواه عن الشيخ الخصيبي صاحب صحيفة الأبرار وغيره.
تعليق