الفصل الرابع
إستدلالات غير مقنعة
هذا الزواج لم يكن معروفاًًً :وقد ذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني في حوادث سنة ست وخمسين وثلاث مئة ، أن معز الدولة عمران بن شاهين سأل أبا عبد الله البصري ، عن عمر بن الخطاب وعن الصحابة ، فذكر أبو عبد الله سابقتهم ، وأن علياًً (ع) زوج عمر إبنته أم كلثوم (ر) ، فاستعظم ذلك ، وقال : ما سمعت هذا قط [66].
فإن عدم سماعه بهذا الأمر لهو من الأمور التي تثير العجب والحيرة حقاًً ، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن معرفة الناس بأن هذا الزواج قد تم على سبيل الإكراه والإجبار ، قد أسقط من أيدي إتباع الخلفاء حجة كان يسعدهم الاحتفاظ بها ، فلم يعد يهمهم تناقل هذا الأمر في محافلهم ، أو إثباته في مجاميعهم الحديثية والتاريخية وغيرها.
كما إن محبي علي (ع) لم يجدوا في تداول هذا الأمر ، وإشاعته بين الناس فائدة أو عائدة ، فكان الإهمال من الفريقين نصيب هذه القضية إلى هذا الحد المثير..
السيد المقرم ينكر هذا الزواج :
وإذا أردنا أن ننظر في آراء العلماء في هذا الزواج ، فإننا نجدهم بين مؤيد ومفند.
فالبعض كالسيد عبد الرزاق المقرم قد أنكر هذا الزواج على أساس أنه لم يكن لأمير المؤمنين (ع) بنات سوى الحوراء زينب ، ولا يمكن إثبات غيرها تاريخياًً ، [67] خصوصاًً إذا علمنا : أنهم يطلقون على زينب العقيلة أنها أم كلثوم أيضاًًً [68].
غير أننا نقول :
إن قوله هذا لا يمكن قبوله ، فإن النصوص الصحيحة الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) إلى جانبها غيرها ، وهو كثير جداًً تؤكد وجود أم كلثوم هذه ، ولا نرى ضرورة لإيراد الشواهد على ذلك.
ومجرد إطلاق كنية أم كلثوم على زينب لا يكفي شاهداًً على ذلك ، فإن من الممكن أن تكنى زينب بأم كلثوم ، مع وجود بنت أخرى بهذا الإسم أيضاًًً..
كما إن تعدد المسمين بإسم واحد ، في أبناء الشخص الواحد كثير.
رأي المفيد (رحمه الله) :
أما الشيخ المفيد فإنه إعتبر الخبر الوارد حول زواج أم كلثوم بعمر ضعيفاًًًً.
أولاًًًً : لأنه مروي عن الزبير بن بكار ، وهو قد كان متهماًً ، خصوصاًً فيما ينقله عن علي (ع) وبني هاشم.
ثانياًً : لأجل تناقض رواياته واختلافها ، كما سيأتي.
ونقول :
1 ـ إن ضعف الزبير بن بكار في ما ينقله لا يعني كذب كل رواية يرويها..
2 ـ إن الرواية مروية ، عن غير الزبير بن بكار عند العامة .. ثم هي مروية بطرق صحيحة ومعتبرة عند الخاصة أيضاًًً كما سيأتي.
3 ـ إن الإختلاف والتناقض لا يدل على بطلان جميع الروايات ، بل يدل على بطلان الروايات ، ما عدا رواية واحدة ، حيث تبقى مشكوكة ، وإن لم تكن متعينة ومحددة لنا ، فيحتاج إثبات بطلان الجميع إلى دليل آخر..
أدلة الهندي مجرد إستبعادات :
كما إن البعض الآخر كصاحب كتاب إفحام الأعداء والخصوم قد أورد في الجزء الأول المطبوع من كتابه هذا ، إستبعادات غاية ما تفيده هو عدم إقدام علي (ع) على تزويج إبنته من عمر برضى منه وإختيار .. ولكنها لا تنفي حدوث الإجبار والإكراه على هذا الزواج.
ولولا خوف الإطالة لأوردنا كلامه بكامله ، وأرشدنا بالتفصيل إلى تصديق هذا الذي قلناه ، ولكنا نكتفي بهذه الإشارة ، ونحيل القارئ الكريم على الكتاب ليراجعه بنفسه إن شاء ، فنقول :
أدلة السيد الهندي :
إن ما إستدل به السيد ناصر حسين الموسوي الهندي يتلخص في ضمن النقاط التالية :
1 ـ إن الرسول قد رد أبابكر وعمر حينما خطبا فاطمة ، فعلي (ع) ، لابد أن يقتدي بالرسول (ص) ، ولا يزوج أياً منهما إبنته.
2 ـ إن عمر ليس كفؤاً لأم كلثوم ، والكفاءة شرط في النكاح.
3 ـ إن نسب عمر يمنع من إقدام علي (ع) على تزويجه إبنته.
4 ـ إن الفارق في السن كان كبيراًً بين عمر وبين أم كلثوم ، وقد نهى عمر ، عن نكاح الرجل إلاّ ما يوافقه ، وشبيهه ونظيره ، ولو كان هو قد خالف هذا الأمر ، لكان مصداقاًً لقوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم.
5 ـ إن هذا الزواج يستلزم الجمع بين بنت ولي الله تعالى ، وبنات أعداء الله ، وقد روى أهل السنة : أنه لا يجوز هذا الجمع.
6 ـ قد كان عمر معادياً للسيدة الزهراء (ع) ، وقد ظهر منه تجاهها ما هو معلوم فكيف يرضى علي (ع) بتزويجه بإبنتها؟ [69].
ونقول :
قد أشرنا إلى أن جميع هذه الوجوه إنما تدل على أن علياًً (ع) لا يقدم على تزويجه مختاراً مؤثراً لذلك ، وتدل على أن حدوث هذا الزواج معناه أن يقدم عمر على مخالفة أوامر الله تعالى :
ولا تدل على عدم وقوع هذا التزويج بالجبر والإكراه ، وتعمد إرتكاب المعصية في هذا السبيل ـ كما دلت روايات التزويج ـ وذلك ظاهر..
لو كان في عمر حركة للنساء :
وقد حاول بعضهم أن يستدل على نفي هذا الزواج بأنهم يروون : أن عمر قد قال : لولده في أمر جارية أعجبته : لو كان في أبيكم حركة إلى النساء لم يسبقه أحد إليها..
.. غير أننا نقول : إن العجز عن النساء لا يعدو كونه أمراًً طارئاً على هذا الرجل ، إذ أنه كان قبل ذلك قد تعرض للنساء ، وولد له منهن أولاد كثيرون .. ولذلك يرد سؤال :
متى حصل هذا العجز؟!.
هل حصل ، قبل الزواج بأم كلثوم؟! أو بعد الزواج بها؟
وهل هو عجز مستمر؟ أو إنه كان عجزاً طارئاً في تلك الساعات لمرض أو لغيره؟! فإن ذلك لا تظهره تلك الرواية المشار إليها..
فإذا صحت روايات الزواج كانت دليلاًً على أن هذا النص يتحدث عن وقت متأخر عنه ولو بساعة على الأقل..
لا تاريخ لزيد بن عمر :
وقد حاول بعضهم أن يستدل على عدم صحة روايات التزويج ، أو خصوص تلك الروايات التي تتحدث ، عن زيد بن عمر بأنه لم يجد لزيد بن عمر أي ذكر في التاريخ ، مع أن الأجواء تقتضي أن يكون موضع إهتمام الرواة والساسة وغيرهم ، لأنه ثـمـرة زواج فـريـد ، فإن أباه كان أشد الناس على فاطمة ، وعلي (ع).
وأم كلثوم هي بنت علي (ع) من جهة ، وبنت فاطمة (ع) من جهة ثانية ، فعدم وجود تاريخ له دليل على أنه شخصية وهمية.
ونقول :
1 ـ ليس بالضرورة أن يكون لكل إنسان دور مميز ولافت ، فإن الدور تابع لطبيعة ميزات ومواصفات الشخص ، وحالاته ، وإهتماماته.
2 ـ إن هذا الكلام ـ لو صح ـ فإنما يأتي في خصوص الروايات التي أثبتت وجود زيد ، وأنه قد عاش حتى صار رجلاًًًً ، وتبقى سائر الروايات التي تجاهلت هذا الأمر ، أو صرحت بأنه تزوجها ولم يدخل بها ، ومات عنها قبل بلوغها.. بحاجة إلى جواب.
3 ـ إن إنكار وجود تاريخ لزيد ليس دقيقاً ، إذ أن في التاريخ بعض الأمور التي تشير إلى نشاط له من نوع ما ، ويظهر ذلك بالمراجعة..
4 ـ وحتى لو لم يذكر التاريخ لنا عن زيد بن عمر شيئاًًً ذا بال ، فذلك لا يعني أنه شخصية هامشية أو وهمية ، فهناك كثيرون لم يستطع التاريخ أن يحدث عنهم بشيء.. وهم شخصيات حقيقية ، لا وهمية.
فإن تجاهل التاريخ لبعض الشخصيات له أسبابه السياسية والمذهبية ، وغيرها.
حديث الزواج بجنية :
ثم إن ثمة رواية تقول : إن هناك جنية يهودية من أهل نجران قد تشبهت له بصورة أم كلثوم ، وذلك بأمر من أمير المؤمنين (ع) [70].
وضعف سند هذه الرواية لا يوجب الحكم القاطع ببطلانها.. فإن من الممكن عقلاًً حدوث أمور من هذا القبيل.
بل لقد وقعت بعض الأمور التي تثبت تعاطي الأنبياء وغير الأنبياء مع الجن فعلاًً في العديد من الموارد ، كما دلت عليه الروايات الكثيرة [71].
إشكالات غير صالحة :
وقد يقال : إن الأخبار التي تحدثت ، عن أن علياًً (ع) قد زوج إبنته لعمر ، وقولهم (ع) : ذلك فرج غصبناه ينافي خبر تشبه الجنية لعمر بأم كلثوم..
ويجاب ، عن ذلك ، بأن هذه المنافاة غير ظاهرة ، لأنهم (ع) كانوا يحترزون ، عن إظهار مثل هذه الأمور حتى لأكثر الشيعة لئلا يقعوا في الغلو ، أو حتى لا يدخل عليهم الشك والشبهة.
وأما الشك في هذا الأمر بسبب إستبعاد وقوع شبه أم كلثوم على الجنية ، فهو في غير محله ، فإن وقوع شبه هذا على ذاك ، قد وقع نظيره أيضاًًً ، فقد وقع شبه عيسى بن مريم على نبينا وآله و(ع) ، على يهوذا.. فصلب وقتل..
ويتأكد ذلك إذا كان الإمام (ع) هو الذي يطلب ذلك..
وقد كان للإمام علي (ع) سلطة على الجن ، كما صرحت به الروايات ، كما كان لسليمان (ع) سلطة عليهم أيضاًًً..
ثم إن ثمة إشكالات أخرى أوردوها على هذه الرواية وهي لا تصلح للإشكال كما لا يخفى على من دقق النظر ، بل إنها لا تصلح حتى لإستبعاد صحة الرواية فضلاًً ، عن أن توجب ردها ، أو إسقاطها ، وذلك كقولهم :
إن الجنية لم تكن بارعة في عملها حتى إستراب بها عمر.
وكقولهم : إن رواية الجنية تعارض رواية إبن أعثم التي تقول : إن أم كلثوم إشتكت من حرمانها ميراث أمها فاطمة وميراث زوجها عمر...
وكقولهم : إن الجنية حجبت أم كلثوم ، عن الأبصار ، وأن أمير المؤمنين هو الذي أظهرها بعد مقتل عمر..
وقولهم : إن عمر : إنما هدد العباس بإنتزاع السقاية ، ولم يهدد علياًً.
وقولهم : إن صدر الرواية المصرح بأن علياًً يستطيع أن ينقذ إبنته ، يتناقض مع ذيلها الذي يقول : إنه إستعان بالجنية.
ثم قولهم أيضاًًً : إن هذه الرواية.. أشبه بالخيالات.
فإن جميع هذه الإشكالات لا تصلح لرد الرواية ، وإعتبارها خرافة :
إذ لا مانع من أن تحجب الجنية إنساناًًً ، عن الأبصار ، ثم يأتي أمير المؤمنين ý ويرفع هذا الحجاب.
كما إن تهديد عمر للعباس يثقل على علي (ع) ، ويضطره إلى أمر لا يفعله لولا حدوث هذا الأمر المزعج له.
على أن التهديد قد تجاوز عقيلاً إلى علي نفسه ، كما أثبتته روايات أخرى ، يمكن ضمها أيضاًًً إلى هذه الرواية ، لعدم المانع من ذلك.
وبالنسبة للتصريح بأن علياًً يستطيع أن ينقذ إبنته نقول : إن ذلك لا يمنع من إختياره لهذه الطريقة لينقذها بها.
كما إن تعارض هذه الرواية مع رواية أخرى لا يجعلها في عداد الخرافة والخيال..
فلم يبق مما يصلح للإشكال به على هذه الرواية سوى : أنها رواية ضعيفة السند ، لا يمكن تأكيد صحتها.
تأويلات غير ظاهرة :
وقد نجد محاولات للتخلص من دلالة بعض الروايات ، وتأكيد الإلتزام بعدم وقوع هذا الزواج ، في اللجوء إلى تأويلات بعيدة لا مجال لقبولها ،
فأولاً : قد زعم بعضهم أن حديث (ذلك فرج غصبناه) لا يدل على حصول الزواج بالفعل ، إذ لعله وأرد على سبيل التقدير والفرض ، أو على سبيل المجاراة لمن يدّعي ذلك [72] ، أي إن كان الأمر كما تقولون ، فهو إنما كان على سبيل القهر والإكراه والغصب.
لكننا نقول :
إن ذلك خلاف الظاهر ، ولا دليل عليه ، فلا مجال للإلتزام به إلاّ إذا ثبت بدليل آخر ما ينافي ويدفع ويبطل حديث ذلك فرج غصبناه ، فلابد في هذه الحالة من التماس التأويل له ، أو طرحه ، ورد علمه إلى أهله.
ثانياًً : قد إدعى بعضهم : أن هذه الروايات - روايات الشيعة - حول أن علياًً جاء بأم كلثوم بعد موت عمر لتمضي أيام عدتها في بيته ـ هي الأخرى ـ لا تدل علي وقوع الزواج ، إذ أن المراد إثبات الحكم على سبيل الإلزام للطرف الآخر بما يلزم به نفسه ، حيث يوجبون أن تعتد المرأة المتوفى عنها زوجها في نفس بيت الزوجية [73] ، فرد عليهم الإمام بأنهم هم يروون : أن علياًً حين توفي عمر أخذ بيد إبنته أم كلثوم ، وذهب بها إلى بيته..
ونقول :
1 ـ لم يظهر من الرواية أن الذي سأل الإمام (ع) كان ناظراًً إلى إبطال قول هذا المخالف أو ذاك ، بل هو يتحدث عن حكم الواقعة في نفسها بغض النظر عن أي شيء آخر.
2 ـ ليس في كلام الإمام (ع) ما يشير إلى أنه في مقام الرد على أحد ، بل هو قد أورد الكلام على سبيل الأخبار عن واقعة حصلت ، يريد (ع) أن يعلم القارئ بها ، فلا معنى للتحدث عن أمور ليس في النص ما يدل عليها ، أو يشير إلى ما يبررها..
تعليق