أقول: ذكر صاحب المنار في بعض كلامه: أن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أو رجل مني في رواية السدي قد فسرتها الروايات الأخرى عند الطبري و غيره بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أو رجل من أهل بيتي» و هذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة «مني» بأن معناها أن نفس علي كنفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنه مثله و أنه أفضل من كل أصحابه - انتهى -.
و الذي أشار إليه من الروايات هو ما رواه قبلا بقوله: و أخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال: لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي فبعث بها مع علي.
و هذه بعينها - على ما لا يخفى - هي الرواية السابقة التي أوردناها عن أنس، و قد وقع فيها «أو رجل من أهلي» و إن اختلف لفظا الروايتين بما عملت فيهما يد النقل بالمعنى.
و أول ما في كلامه: أن اللفظ: «أو رجل مني» لم يقع إلا في رواية واحدة موقوفة هي رواية السدي التي استضعفها قبيل ذلك بل الأصل في ذلك كلمة الوحي التي أثبتتها معظم الروايات الصحيحة على بلوغ كثرتها، و الروايات الآخر المشتملة على قوله: «من أهل بيتي» و هو يستكثرها إنما هي رواية أنس - على ما عثرنا عليها - و قد وقع في بعض ألفاظها قوله «من أهلي» مكان «من أهل بيتي».
و الثاني: أن الرواية - كما اتضح لك - منقولة بالمعنى، و مع ذلك لا يصلح ما وقع فيها من بعض الألفاظ لتفسير ما اتفقت عليه معظم الروايات الصحيحة الواردة من طرق الفريقين من لفظ الوحي المنقول فيها.
على أن قوله: «من أهل بيتي» في هذه لو صلح لتفسير ما وقع في سائر الروايات من «لفظ رجل منك» أو «رجل مني» لكان الواقع في رواية في سائر الروايات من لفظ رجل منك أو رجل مني لكان الواقع في رواية أبي سعيد الخدري السابقة من قوله (عليه السلام): «يا علي إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت» مفسرا لما في رواية أنس: «إلا رجل من أهل بيتي» أو «إلا رجل من أهلي» و ما في سائر الروايات: «إلا رجل منك» أو «إلا رجل مني».
فيعود هذه الألفاظ كناية عن شخص علي (عليه السلام)، بل الكناية بما لها من المعنى مشيرة إلى أنه من نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من أهله و من أهل بيته جميعا، و هذا عين ما فر منه و زيادة.
و الثالث: أن استفادة كونه (عليه السلام) بمنزلة نفسه (عليه السلام) ليست بمستندة إلى مجرد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «رجل مني» كما حسبه فإن مجرد قول القائل: فلان مني لا يدل على تنزيله منزلته في جميع شئون وجوده و مماثلته إياه، و إنما يدل على نوع من الاتصال و الاتباع كما في قول إبراهيم (عليه السلام): «فمن تبعني فإنه مني:» إبراهيم: - 36 إلا بنوع من القرينة الدالة على عناية كلامية كقوله تعالى: «و من يتولهم منكم فإنه منهم».
بل إنما استفيد ذلك من قوله: «رجل مني» أو «رجل منك» بمعونة قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت» على البيان الذي تقدم و على هذا فلو كان هناك قوله: «لا يؤدي عني إلا رجل من أهلي أو رجل من أهل بيتي» لاستفيد منه عين ما استفيد من قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و قوله: «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» مضافا إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عده منه في خطابه أبا بكر و هو أيضا منه بالاتباع.
و الرابع: أنه أهمل في البحث الروايات الصحيحة المستفيضة أو المتواترة التي تدل على أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم: علي و فاطمة و الحسنان على ما تقدم في أخبار آية المباهلة و سيجيء معظمها في أخبار آية التطهير إن شاء الله تعالى.
و لا رجل في أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا علي (عليه السلام) فيئول الأمر إلى كون اللفظ كناية عن علي (عليه السلام) فيرجع إلى ما تقدم من الوجه.
و أما ما احتمله من المعنى فهو أن المراد بأهل بيته عامة أقربائه من بني هاشم أو بنو هاشم و نساؤه فينزل اللفظ منزلة عادية من غير أن يحمل شيئا من المزية، و المعنى لا يؤدي نبذ العهد عني إلا رجل من بني هاشم، و القوم يرجعون غالبا في مفاهيم أمثال هذه الألفاظ إلى ما يعطيه العرف اللغوي في ذلك من غير توجه إلى ما اعتبره الشرع، و قد تقدم نظير ذلك في معنى الابن و البنت حيث حسبوا أن كون ابن البنت ابنا للرجل و عدمه مرجعه إلى بحث لغوي يعين كون الابن يصدق بحسب الوضع اللغوي على ابن البنت مثلا أو لا يصدق عليه، و جميع ذلك يرجع إلى الخلط بين الأبحاث اللفظية و الأبحاث المعنوية، و كذا الخلط بين الأنظار الاجتماعية و الأنظار الدينية السماوية على ما تقدمت الإشارة إليه.
و أعجب من الجميع قوله: و هذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة «مني» فإن مراده بدلالة السياق أن كلمة «من أهل بيتي» نص صريح في أن المراد برجل مني رجل من بني هاشم، و لا ندري أي نصوصية أو صراحة لكلمة «أهل البيت» في بني هاشم بعد ما تكاثرت الروايات أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) ثم في قوله: «أهل بيتي» بمعنى بني هاشم أن المراد بكلمة «مني» هو ذلك!.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر» قال: عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من ربيع الآخر.
أقول: و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد من الأربعة الأشهر هو ذلك، روى ذلك الكليني و الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم في كتبهم، و روي ذلك من طرق أهل السنة، و هناك روايات أخرى من طرقهم في غير هذا المعنى حتى وقع في بعضها أن أبا بكر حج بالناس عام تسع في شهر ذي القعدة، و هي غير متأيدة و لذلك أغمضنا عنها.
و في تفسير العياشي، عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين (عليهما السلام): في قوله تعالى: «و أذان من الله و رسوله» قال: الأذان أمير المؤمنين (عليه السلام). أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و عن جابر عن جعفر بن محمد و أبي جعفر (عليه السلام)، و رواه القمي عن أبيه عن فضالة عن أبان بن عثمان عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: و في حديث آخر قال: كنت أنا الأذان في الناس:، و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن حكيم عنه (عليه السلام)، و رواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن حكيم بن حميد عن علي بن الحسين (عليهما السلام)، و قال في تفسير البرهان:، قال السدي و أبو مالك و ابن عباس و زين العابدين: الأذان هو علي بن أبي طالب فأدى به. و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن الفضيل بن عياض عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الحج الأكبر فقال: عندك فيه شيء؟ فقلت: نعم كان ابن عباس يقول: الحج الأكبر يوم عرفة يعني أنه من أدرك يوم عرفة إلى طلوع الشمس من يوم النحر فقد أدرك الحج و من فاته ذلك فاته الحج فجعل ليلة عرفة لما قبلها و لما بعدها، و الدليل على ذلك أنه من أدرك ليلة النحر إلى طلوع الفجر فقد أدرك الحج و أجزي عنه من عرفة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الحج الأكبر يوم النحر و احتج بقول الله عز و جل: «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر» فهي عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشر من شهر ربيع الآخر، و لو كان الحج الأكبر يوم عرفة لكان السيح أربعة أشهر و يوما، و احتج بقوله عز و جل: «و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر» و كنت أنا الأذان في الناس. قلت: فما معنى هذه اللفظة: الحج الأكبر؟ فقال: إنما سمي الأكبر لأنها كانت سنة حج فيها المسلمون و المشركون، و لم يحج المشركون بعد تلك السنة.
و فيه، عنه بإسناده عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم النحر و الأصغر العمرة.
أقول: و في الرواية مضافا إلى تفسير اليوم بيوم النحر إشارة إلى وجه تسمية الحج بالأكبر، و قد أطبقت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إلا ما شذ على أن المراد بيوم الحج الأكبر في الآية هو يوم الأضحى عاشر ذي الحجة و هو يوم النحر، و رووا ذلك عن علي (عليه السلام).
و روى هذه الرواية الكليني في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و روى ذلك أيضا بإسناده عن ذريح عنه (عليه السلام)، و كذا الصدوق بإسناده إلى ذريح عنه (عليه السلام)، و رواه العياشي عن عبد الرحمن و ابن أذينة و الفضيل بن عياض عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن أبي أوفى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال يوم الأضحى: هذا يوم الحج الأكبر. و فيه، أيضا أخرج البخاري تعليقا و أبو داود و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر قال: هذا يوم الحج الأكبر.
أقول: و روي ذلك بطرق مختلفة عن علي (عليه السلام) و ابن عباس و مغيرة بن شعبة و أبي جحيفة و عبد الله بن أبي أوفى، و قد روي بطرق مختلفة أخرى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يوم عرفة، و كذا روي ذلك عن علي و ابن عباس و ابن الزبير، و روي عن سعيد بن المسيب أنه اليوم التالي ليوم النحر، و روي أنه أيام الحج كلها، و روي أنه الحج في العام الذي حج فيها أبو بكر، و هذا الوجه الأخير لا يأبى الانطباق على ما تقدم من الحديث عن الصادق (عليه السلام): أنه سمي الحج الأكبر لما حج في تلك السنة المسلمون و المشركون جميعا. و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم - فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» قال: هي يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الآخر. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة:» أخرج الحاكم و صححه عن مصعب بن عبد الرحمن عن أبيه رضي الله عنه قال: افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة ثم انصرف إلى الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعة ثم ارتحل غدوة و روحة ثم نزل ثم هجر. ثم قال: أيها الناس إني لكم فرط، و إني أوصيكم بعترتي خيرا موعدكم الحوض، و الذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة و لتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلا مني أو كنفسي فليضربن أعناق مقاتلهم و ليسبين ذراريهم. فرأى الناس أنه يعني أبا بكر أو عمر رضي الله عنهما فأخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: هذا.
أقول: يعني (صلى الله عليه وآله وسلم) به الكفر.
و في تفسير العياشي، في حديث جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): «فإن تابوا» يعني فإن آمنوا فإخوانكم في الدين. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و إن أحد من المشركين استجارك فأجره» الآية قال: قال، اقرأ عليه و عرفه ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مأمنه. و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير القشيري: أن رجلا قال لعلي يا ابن أبي طالب فمن أراد منا أن يلقي رسول الله في بعض الأمر من بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟ قال علي: بلى لأن الله قال: «و إن أحد من المشركين استجارك فأجره» الآية. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم» الآية: أخرج ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه: أنهم ذكروا عنده هذه الآية فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و ابن مردويه عن زيد بن وهب: في قوله: «فقاتلوا أئمة الكفر» قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة و لا من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبروننا بأمور لا ندري ما هي؟ فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا و يسرقون أعلاقنا؟ قال: أولئك الفساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده و في قرب الإسناد، للحميري: حدثني عبد الحميد و عبد الصمد بن محمد جميعا عن حنان بن سدير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: دخل علي أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة و الزبير فقلت لهم: كانوا من أئمة الكفر أن عليا يوم البصرة لما صف الخيل قال لأصحابه لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني و بين الله و بينهم. فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا: لا. قال: فحيفا في قسم؟ قالوا: لا. قال: فرغبه في دنيا أخذتها لي و لأهل بيتي دونكم فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال فأقمت فيكم الحدود و عطلتها في غيركم؟ قالوا: لا. قال: فما بال بيعتي تنكث و بيعة غيري لا تنكث إني ضربت الأمر أنفه و عينه فلم أجد إلا الكفر أو السيف. ثم ثنى إلى أصحابه فقال إن الله تبارك و تعالى يقول في كتابه: «و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم - فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون» فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): و الذي فلق الحبة و برأ النسمة و اصطفى محمدا بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية و ما قوتلوا مذ نزلت: أقول: و رواه العياشي عن حنان بن سدير عنه (عليه السلام). و في أمالي المفيد، بإسناده عن أبي عثمان مؤذن بني قصي قال: سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين خرج طلحة و الزبير على قتاله: عذرني الله من طلحة و الزبير، بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ثم تلا هذه الآية: «و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم - و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر - إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون:» أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن أبي عثمان المؤذن و أبي الطفيل و الحسن البصري: مثله، و رواه الشيخ في أماليه، عن أبي عثمان المؤذن. و في حديثه قال بكير: فسألت عنها أبا جعفر (عليه السلام) فقال: صدق الشيخ هكذا قال علي. هكذا كان. و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و البيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم و المسور بن مخرمة قال: كان في صلح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الحديبية بينه و بين قريش أن من شاء أن يدخل في عقد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عهده دخل فيه، و من شاء أن يدخل في عهد قريش و عقدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: ندخل في عهد محمد و عقده. و تواثبت بنو بكر فقالوا: ندخل في عقد قريش و عهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا. ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش و عهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عهده ليلا بماء لهم يقال له: الوتير قريب من مكة فقالت قريش ما يعلم بنا محمد و هذا الليل و ما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع و السلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و ركب عمرو بن سالم عند ما كان من أمر خزاعة و بني بكر بالوتير حتى قدم المدينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأبيات أنشده إياها: يا رب إني ناشد محمدا. حلف أبينا و أبيه الأتلدا. قد كنتم ولدا و كنا والدا. ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا. فانصر هداك الله نصرا أعتدا. و ادع عباد الله يأتوا مددا. فيهم رسول الله قد تجردا. إن سيم خسفا وجهه تربدا. في فيلق كالبحر يجري مزبدا. إن قريشا أخلفوك الموعدا. و نقضوا ميثاقك المؤكدا. و جعلوا لي في كداء رصدا. و زعموا أن لست أدعو أحدا. و هم أذل و أقل عددا. هم بيتونا بالوتير هجدا. و قتلونا ركعا و سجدا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نصرت يا عمرو بن سالم فما برح حتى مرت غمامة في السماء فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب، و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس بالجهاد و كتمهم مخرجه، و سأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.
أقول: أورد الرواية في الدر المنثور، بعد ما روي بطرق عن مجاهد و عكرمة أن قصة نقض قريش عهد الحديبية و إعانتهم بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو السبب لنزول قوله تعالى: «أ لا تقاتلون قوما» إلى قوله: «و يشف صدور قوم مؤمنين» و هم خزاعة.
و لو كان الأمر على ما ذكروا كانت الآية: «أ لا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم» - إلى تمام ثلاث آيات بل أربع - على ما يعطيه السياق مما نزل قبل فتح مكة فتكون نازلة قبل آيات براءة لا محالة.
لكن القصة التي رواها ابن إسحاق و البيهقي على اعتبارها لمكان المسور بن مخرمة لا تصرح بنزول الآيات في ذلك، و ما رواها مجاهد و عكرمة لا اعتماد عليه لمكان الوقف و الانقطاع، و سياق الآيات لا يأبى نزولها مع ما تقدم عليها و اتصالها بها على ما لا يخفى.
و الذي ذكر فيها من قوله: «نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدءوكم أول مرة» و إن كان يشير إلى صفات قريش الخاصة بهم لكن من الجائز أن تكون الآية مشيرة إلى حلفاء قريش و جيرانهم ممن لم يؤمنوا بعد فتح مكة و هم لاتحادهم مع قريش و اتصالهم بهم وصفوا بما يوصف به قريش بالأصالة.
و اعلم أن هناك روايات متفرقة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) تطبق الآيات على ظهور المهدي (عليه السلام)، و هي من الجري.
كلام في معنى العهد و أقسامه و و هي من أحكامه
قدمنا في أوائل الجزء السادس من الكتاب كلاما في معنى العقد و العهد و نستأنف البيان هاهنا في معنى ما تقدم و ما يستتبعه من الأقسام و الأحكام بتقرير آخر في فصول: 1 - قد لاح لك من تضاعيف الأبحاث المتقدمة في هذا الكتاب أن الإنسان في مسير حياته لا يزال يصور أعماله و ما يتعلق به أعماله من المادة تصور الأمور الكونية و يمثلها بها و يجري بينها أحكام الأمور الكونية و آثارها من القوانين العامة الجارية في الكون بحسب ما يناسب أغراضه الحيوية كما أنه يأخذ مثلا أصواتا متفرقة هي الزاي و الياء و الدال، و يؤلفها بشكل مخصوص و يعمل لفظ «زيد» ثم يفترض أنه زيد الإنسان الخارجي فيسميه به ثم كلما أراد أن يحضر زيدا في ذهن مخاطبه ألقى إليه لفظ «زيد» فكان ممثلا لعين زيد عنده، و حصل بذلك غرضه.
و إذا أراد أن يدير أمرا لا يدور إلا بعمل عدة مؤتلفة من الناس اختار جماعة و افترضهم واحدا كالإنسان الواحد، و فرض واحدا منهم للباقين كما يفرض الرأس لبدن الإنسان و يسميه رئيسا، و فرض كلا من الباقين كما يفرض العضو من البدن ذي الأعضاء و يسميه عضوا ثم يرتب على الرأس أحكام الرأس الخارجي، و على العضو آثار العضو الخارجي و على هذا القياس.
و إلى هذا يئول جميع أفكار الإنسان الاجتماعية بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط من التصورات و التصديقات إذا حللت تحليلا صحيحا كما تئول إليه أنظاره الفردية فيما يرتبط بأعماله و أفعاله.
الإنسان شديد الاهتمام بعقد العقود و تمثيل العهود و ما يرتبط بها من الحلف و اليمين و البيعة و نحو ذلك، و العامل الأولي في ذلك أن الإنسان لا هم له إلا التحفظ على حياته و الوصول إلى مزاياها و التمتع بالسعادة التي تستعقبها لو جرت على حقيقة مجراها.
فأي بغية من مبتغياته وجدها و سلط عليها أخذ في التمتع منها بما يناسبها من التمتع كالأكل و الشرب و غيرهما بما جهز به من أدوات التمتع، و دفع كل ما يمنعه من التمتع لو عرض هناك مانع عارض و رأى أنه إنما وفق لذلك في ضوء ما أوتيه من السلطة.
و قد أوتي الإنسان سلعة الفكر و بذلك يدبر أمر حياته و يصلح شأن معاشه فيعمل ليومه و يمهد لغده، و أعماله التي هي تصرفات منه في المادة أو عائدة إلى ذلك في عين أنها جميعا متوقفة على انبساط سلطته على الفعل و إحاطته بكل ما يتعلق به عمله، مختلفة في أن بعضها يتم بالسلطة المقصورة على الفعل مقدار زمانه كمن صادف غذاء و هو جوعان فتناوله فأكله، فإنه لا يتوقف على سلطة أوسع من زمان العمل، و لا على تمهيد و تقدمة.
و بعضها - و هو جل الأعمال الإنسانية الاجتماعية - يتوقف على سلطة وسيعة تنبسط على العمل في وقته و على زمان قبله فقط أو على زمان قبله و بعده، لحاجته إلى مقدمات يمهدها له، و تدبير سابق يقدمه لوجوده، فما كل عمل يعمله الإنسان بصدفة، بل جل الأمور الحيوية من شأنها أن يتهيأ الإنسان له قبل أوانه.
و من التهيؤ له أن يتهيأ لجمع أسبابه و نظم الوسائل التي يتوسل بها إليه و أن يتهيأ لرفع موانعه التي من شأنها أن تزاحمه في وجوده و عند حصوله، فالإنسان لا يوفق لعمل و لا ينجح في مسعاه إلا إذا كان في أمن من أن تفوته الأسباب أو تعارضه الموانع و المزاحمات.
و التنبه لهذه الحقيقة هو الذي بعث الإنسان إلى أن يأخذ أمنا من رقبائه في الحياة: أن يعينوه فيما يحتاج من الأمور إلى معين مشارك، أو أن لا يمانعوه من العمل فيما يتوقف إلى ارتفاع الموانع و زوالها.
فالإنسان و هو يريد أن يتخذ لباسا يلبسه من مادة بسيطة كالقطن أو الصوف، و الأمر متوقف على أعمال كثيرة يعملها الغزال و النساج و الخياط و من يصنع لهم أدوات الغزل و النسج و الخياطة، لا يتم له ما يريده من اتخاذ اللباس و لا ينجح سعيه إلا إذا كان في أمن من ناحية هؤلاء الرقباء: أن يعملوا على ما يريده و لا يخلوه وحده فيخيب سعيه و يخسر في عمله.
و كذا الإنسان القاطن في أرض أو الساكن في دار لا يتم له سكناه إلا مع الأمن من ممانعة الناس و مزاحمتهم له في سكناه و التصرف فيه بما يصلح به لذلك.
و هذا هو الذي هدى الإنسان إلى اعتبار العقد و إبرام العهد، فهو يأخذ ما يريده من العمل و يربطه بما يعينه عليه من عمل غيره و يعقدهما: يمثل به عقد الحبال الذي يفيد اتصال بعض أجزائها ببعض و عدم تخلف بعضها عن بعض، و مثله العهد الذي يعهده إليه غيره أن يساعده في ما يريده من الأمر أو أن لا يمانعه في ذلك.
و إلى ذلك يئول أمر عامة العقود لعقد النكاح و عقد البيع و الشرى و عقد الإجارة، و يصدق عليها العهد بمعناها العام و هو أن يعطي الإنسان لغيره قولا أو كتابا أن يعينه على كذا أو أن لا يمنعه من كذا إلى أجل مضروب أو لا إلى أجل.
يتبع...
و الذي أشار إليه من الروايات هو ما رواه قبلا بقوله: و أخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال: لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي فبعث بها مع علي.
و هذه بعينها - على ما لا يخفى - هي الرواية السابقة التي أوردناها عن أنس، و قد وقع فيها «أو رجل من أهلي» و إن اختلف لفظا الروايتين بما عملت فيهما يد النقل بالمعنى.
و أول ما في كلامه: أن اللفظ: «أو رجل مني» لم يقع إلا في رواية واحدة موقوفة هي رواية السدي التي استضعفها قبيل ذلك بل الأصل في ذلك كلمة الوحي التي أثبتتها معظم الروايات الصحيحة على بلوغ كثرتها، و الروايات الآخر المشتملة على قوله: «من أهل بيتي» و هو يستكثرها إنما هي رواية أنس - على ما عثرنا عليها - و قد وقع في بعض ألفاظها قوله «من أهلي» مكان «من أهل بيتي».
و الثاني: أن الرواية - كما اتضح لك - منقولة بالمعنى، و مع ذلك لا يصلح ما وقع فيها من بعض الألفاظ لتفسير ما اتفقت عليه معظم الروايات الصحيحة الواردة من طرق الفريقين من لفظ الوحي المنقول فيها.
على أن قوله: «من أهل بيتي» في هذه لو صلح لتفسير ما وقع في سائر الروايات من «لفظ رجل منك» أو «رجل مني» لكان الواقع في رواية في سائر الروايات من لفظ رجل منك أو رجل مني لكان الواقع في رواية أبي سعيد الخدري السابقة من قوله (عليه السلام): «يا علي إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت» مفسرا لما في رواية أنس: «إلا رجل من أهل بيتي» أو «إلا رجل من أهلي» و ما في سائر الروايات: «إلا رجل منك» أو «إلا رجل مني».
فيعود هذه الألفاظ كناية عن شخص علي (عليه السلام)، بل الكناية بما لها من المعنى مشيرة إلى أنه من نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من أهله و من أهل بيته جميعا، و هذا عين ما فر منه و زيادة.
و الثالث: أن استفادة كونه (عليه السلام) بمنزلة نفسه (عليه السلام) ليست بمستندة إلى مجرد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «رجل مني» كما حسبه فإن مجرد قول القائل: فلان مني لا يدل على تنزيله منزلته في جميع شئون وجوده و مماثلته إياه، و إنما يدل على نوع من الاتصال و الاتباع كما في قول إبراهيم (عليه السلام): «فمن تبعني فإنه مني:» إبراهيم: - 36 إلا بنوع من القرينة الدالة على عناية كلامية كقوله تعالى: «و من يتولهم منكم فإنه منهم».
بل إنما استفيد ذلك من قوله: «رجل مني» أو «رجل منك» بمعونة قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت» على البيان الذي تقدم و على هذا فلو كان هناك قوله: «لا يؤدي عني إلا رجل من أهلي أو رجل من أهل بيتي» لاستفيد منه عين ما استفيد من قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و قوله: «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» مضافا إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عده منه في خطابه أبا بكر و هو أيضا منه بالاتباع.
و الرابع: أنه أهمل في البحث الروايات الصحيحة المستفيضة أو المتواترة التي تدل على أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم: علي و فاطمة و الحسنان على ما تقدم في أخبار آية المباهلة و سيجيء معظمها في أخبار آية التطهير إن شاء الله تعالى.
و لا رجل في أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا علي (عليه السلام) فيئول الأمر إلى كون اللفظ كناية عن علي (عليه السلام) فيرجع إلى ما تقدم من الوجه.
و أما ما احتمله من المعنى فهو أن المراد بأهل بيته عامة أقربائه من بني هاشم أو بنو هاشم و نساؤه فينزل اللفظ منزلة عادية من غير أن يحمل شيئا من المزية، و المعنى لا يؤدي نبذ العهد عني إلا رجل من بني هاشم، و القوم يرجعون غالبا في مفاهيم أمثال هذه الألفاظ إلى ما يعطيه العرف اللغوي في ذلك من غير توجه إلى ما اعتبره الشرع، و قد تقدم نظير ذلك في معنى الابن و البنت حيث حسبوا أن كون ابن البنت ابنا للرجل و عدمه مرجعه إلى بحث لغوي يعين كون الابن يصدق بحسب الوضع اللغوي على ابن البنت مثلا أو لا يصدق عليه، و جميع ذلك يرجع إلى الخلط بين الأبحاث اللفظية و الأبحاث المعنوية، و كذا الخلط بين الأنظار الاجتماعية و الأنظار الدينية السماوية على ما تقدمت الإشارة إليه.
و أعجب من الجميع قوله: و هذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة «مني» فإن مراده بدلالة السياق أن كلمة «من أهل بيتي» نص صريح في أن المراد برجل مني رجل من بني هاشم، و لا ندري أي نصوصية أو صراحة لكلمة «أهل البيت» في بني هاشم بعد ما تكاثرت الروايات أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) ثم في قوله: «أهل بيتي» بمعنى بني هاشم أن المراد بكلمة «مني» هو ذلك!.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر» قال: عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من ربيع الآخر.
أقول: و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد من الأربعة الأشهر هو ذلك، روى ذلك الكليني و الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم في كتبهم، و روي ذلك من طرق أهل السنة، و هناك روايات أخرى من طرقهم في غير هذا المعنى حتى وقع في بعضها أن أبا بكر حج بالناس عام تسع في شهر ذي القعدة، و هي غير متأيدة و لذلك أغمضنا عنها.
و في تفسير العياشي، عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين (عليهما السلام): في قوله تعالى: «و أذان من الله و رسوله» قال: الأذان أمير المؤمنين (عليه السلام). أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و عن جابر عن جعفر بن محمد و أبي جعفر (عليه السلام)، و رواه القمي عن أبيه عن فضالة عن أبان بن عثمان عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: و في حديث آخر قال: كنت أنا الأذان في الناس:، و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن حكيم عنه (عليه السلام)، و رواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن حكيم بن حميد عن علي بن الحسين (عليهما السلام)، و قال في تفسير البرهان:، قال السدي و أبو مالك و ابن عباس و زين العابدين: الأذان هو علي بن أبي طالب فأدى به. و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن الفضيل بن عياض عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الحج الأكبر فقال: عندك فيه شيء؟ فقلت: نعم كان ابن عباس يقول: الحج الأكبر يوم عرفة يعني أنه من أدرك يوم عرفة إلى طلوع الشمس من يوم النحر فقد أدرك الحج و من فاته ذلك فاته الحج فجعل ليلة عرفة لما قبلها و لما بعدها، و الدليل على ذلك أنه من أدرك ليلة النحر إلى طلوع الفجر فقد أدرك الحج و أجزي عنه من عرفة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الحج الأكبر يوم النحر و احتج بقول الله عز و جل: «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر» فهي عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشر من شهر ربيع الآخر، و لو كان الحج الأكبر يوم عرفة لكان السيح أربعة أشهر و يوما، و احتج بقوله عز و جل: «و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر» و كنت أنا الأذان في الناس. قلت: فما معنى هذه اللفظة: الحج الأكبر؟ فقال: إنما سمي الأكبر لأنها كانت سنة حج فيها المسلمون و المشركون، و لم يحج المشركون بعد تلك السنة.
و فيه، عنه بإسناده عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم النحر و الأصغر العمرة.
أقول: و في الرواية مضافا إلى تفسير اليوم بيوم النحر إشارة إلى وجه تسمية الحج بالأكبر، و قد أطبقت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إلا ما شذ على أن المراد بيوم الحج الأكبر في الآية هو يوم الأضحى عاشر ذي الحجة و هو يوم النحر، و رووا ذلك عن علي (عليه السلام).
و روى هذه الرواية الكليني في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و روى ذلك أيضا بإسناده عن ذريح عنه (عليه السلام)، و كذا الصدوق بإسناده إلى ذريح عنه (عليه السلام)، و رواه العياشي عن عبد الرحمن و ابن أذينة و الفضيل بن عياض عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن أبي أوفى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال يوم الأضحى: هذا يوم الحج الأكبر. و فيه، أيضا أخرج البخاري تعليقا و أبو داود و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر قال: هذا يوم الحج الأكبر.
أقول: و روي ذلك بطرق مختلفة عن علي (عليه السلام) و ابن عباس و مغيرة بن شعبة و أبي جحيفة و عبد الله بن أبي أوفى، و قد روي بطرق مختلفة أخرى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يوم عرفة، و كذا روي ذلك عن علي و ابن عباس و ابن الزبير، و روي عن سعيد بن المسيب أنه اليوم التالي ليوم النحر، و روي أنه أيام الحج كلها، و روي أنه الحج في العام الذي حج فيها أبو بكر، و هذا الوجه الأخير لا يأبى الانطباق على ما تقدم من الحديث عن الصادق (عليه السلام): أنه سمي الحج الأكبر لما حج في تلك السنة المسلمون و المشركون جميعا. و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم - فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» قال: هي يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الآخر. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة:» أخرج الحاكم و صححه عن مصعب بن عبد الرحمن عن أبيه رضي الله عنه قال: افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة ثم انصرف إلى الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعة ثم ارتحل غدوة و روحة ثم نزل ثم هجر. ثم قال: أيها الناس إني لكم فرط، و إني أوصيكم بعترتي خيرا موعدكم الحوض، و الذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة و لتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلا مني أو كنفسي فليضربن أعناق مقاتلهم و ليسبين ذراريهم. فرأى الناس أنه يعني أبا بكر أو عمر رضي الله عنهما فأخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: هذا.
أقول: يعني (صلى الله عليه وآله وسلم) به الكفر.
و في تفسير العياشي، في حديث جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): «فإن تابوا» يعني فإن آمنوا فإخوانكم في الدين. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و إن أحد من المشركين استجارك فأجره» الآية قال: قال، اقرأ عليه و عرفه ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مأمنه. و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير القشيري: أن رجلا قال لعلي يا ابن أبي طالب فمن أراد منا أن يلقي رسول الله في بعض الأمر من بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟ قال علي: بلى لأن الله قال: «و إن أحد من المشركين استجارك فأجره» الآية. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم» الآية: أخرج ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه: أنهم ذكروا عنده هذه الآية فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و ابن مردويه عن زيد بن وهب: في قوله: «فقاتلوا أئمة الكفر» قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة و لا من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبروننا بأمور لا ندري ما هي؟ فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا و يسرقون أعلاقنا؟ قال: أولئك الفساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده و في قرب الإسناد، للحميري: حدثني عبد الحميد و عبد الصمد بن محمد جميعا عن حنان بن سدير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: دخل علي أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة و الزبير فقلت لهم: كانوا من أئمة الكفر أن عليا يوم البصرة لما صف الخيل قال لأصحابه لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني و بين الله و بينهم. فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا: لا. قال: فحيفا في قسم؟ قالوا: لا. قال: فرغبه في دنيا أخذتها لي و لأهل بيتي دونكم فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال فأقمت فيكم الحدود و عطلتها في غيركم؟ قالوا: لا. قال: فما بال بيعتي تنكث و بيعة غيري لا تنكث إني ضربت الأمر أنفه و عينه فلم أجد إلا الكفر أو السيف. ثم ثنى إلى أصحابه فقال إن الله تبارك و تعالى يقول في كتابه: «و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم - فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون» فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): و الذي فلق الحبة و برأ النسمة و اصطفى محمدا بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية و ما قوتلوا مذ نزلت: أقول: و رواه العياشي عن حنان بن سدير عنه (عليه السلام). و في أمالي المفيد، بإسناده عن أبي عثمان مؤذن بني قصي قال: سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين خرج طلحة و الزبير على قتاله: عذرني الله من طلحة و الزبير، بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ثم تلا هذه الآية: «و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم - و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر - إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون:» أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن أبي عثمان المؤذن و أبي الطفيل و الحسن البصري: مثله، و رواه الشيخ في أماليه، عن أبي عثمان المؤذن. و في حديثه قال بكير: فسألت عنها أبا جعفر (عليه السلام) فقال: صدق الشيخ هكذا قال علي. هكذا كان. و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و البيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم و المسور بن مخرمة قال: كان في صلح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الحديبية بينه و بين قريش أن من شاء أن يدخل في عقد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عهده دخل فيه، و من شاء أن يدخل في عهد قريش و عقدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: ندخل في عهد محمد و عقده. و تواثبت بنو بكر فقالوا: ندخل في عقد قريش و عهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا. ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش و عهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عهده ليلا بماء لهم يقال له: الوتير قريب من مكة فقالت قريش ما يعلم بنا محمد و هذا الليل و ما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع و السلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و ركب عمرو بن سالم عند ما كان من أمر خزاعة و بني بكر بالوتير حتى قدم المدينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأبيات أنشده إياها: يا رب إني ناشد محمدا. حلف أبينا و أبيه الأتلدا. قد كنتم ولدا و كنا والدا. ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا. فانصر هداك الله نصرا أعتدا. و ادع عباد الله يأتوا مددا. فيهم رسول الله قد تجردا. إن سيم خسفا وجهه تربدا. في فيلق كالبحر يجري مزبدا. إن قريشا أخلفوك الموعدا. و نقضوا ميثاقك المؤكدا. و جعلوا لي في كداء رصدا. و زعموا أن لست أدعو أحدا. و هم أذل و أقل عددا. هم بيتونا بالوتير هجدا. و قتلونا ركعا و سجدا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نصرت يا عمرو بن سالم فما برح حتى مرت غمامة في السماء فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب، و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس بالجهاد و كتمهم مخرجه، و سأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.
أقول: أورد الرواية في الدر المنثور، بعد ما روي بطرق عن مجاهد و عكرمة أن قصة نقض قريش عهد الحديبية و إعانتهم بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو السبب لنزول قوله تعالى: «أ لا تقاتلون قوما» إلى قوله: «و يشف صدور قوم مؤمنين» و هم خزاعة.
و لو كان الأمر على ما ذكروا كانت الآية: «أ لا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم» - إلى تمام ثلاث آيات بل أربع - على ما يعطيه السياق مما نزل قبل فتح مكة فتكون نازلة قبل آيات براءة لا محالة.
لكن القصة التي رواها ابن إسحاق و البيهقي على اعتبارها لمكان المسور بن مخرمة لا تصرح بنزول الآيات في ذلك، و ما رواها مجاهد و عكرمة لا اعتماد عليه لمكان الوقف و الانقطاع، و سياق الآيات لا يأبى نزولها مع ما تقدم عليها و اتصالها بها على ما لا يخفى.
و الذي ذكر فيها من قوله: «نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدءوكم أول مرة» و إن كان يشير إلى صفات قريش الخاصة بهم لكن من الجائز أن تكون الآية مشيرة إلى حلفاء قريش و جيرانهم ممن لم يؤمنوا بعد فتح مكة و هم لاتحادهم مع قريش و اتصالهم بهم وصفوا بما يوصف به قريش بالأصالة.
و اعلم أن هناك روايات متفرقة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) تطبق الآيات على ظهور المهدي (عليه السلام)، و هي من الجري.
كلام في معنى العهد و أقسامه و و هي من أحكامه
قدمنا في أوائل الجزء السادس من الكتاب كلاما في معنى العقد و العهد و نستأنف البيان هاهنا في معنى ما تقدم و ما يستتبعه من الأقسام و الأحكام بتقرير آخر في فصول: 1 - قد لاح لك من تضاعيف الأبحاث المتقدمة في هذا الكتاب أن الإنسان في مسير حياته لا يزال يصور أعماله و ما يتعلق به أعماله من المادة تصور الأمور الكونية و يمثلها بها و يجري بينها أحكام الأمور الكونية و آثارها من القوانين العامة الجارية في الكون بحسب ما يناسب أغراضه الحيوية كما أنه يأخذ مثلا أصواتا متفرقة هي الزاي و الياء و الدال، و يؤلفها بشكل مخصوص و يعمل لفظ «زيد» ثم يفترض أنه زيد الإنسان الخارجي فيسميه به ثم كلما أراد أن يحضر زيدا في ذهن مخاطبه ألقى إليه لفظ «زيد» فكان ممثلا لعين زيد عنده، و حصل بذلك غرضه.
و إذا أراد أن يدير أمرا لا يدور إلا بعمل عدة مؤتلفة من الناس اختار جماعة و افترضهم واحدا كالإنسان الواحد، و فرض واحدا منهم للباقين كما يفرض الرأس لبدن الإنسان و يسميه رئيسا، و فرض كلا من الباقين كما يفرض العضو من البدن ذي الأعضاء و يسميه عضوا ثم يرتب على الرأس أحكام الرأس الخارجي، و على العضو آثار العضو الخارجي و على هذا القياس.
و إلى هذا يئول جميع أفكار الإنسان الاجتماعية بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط من التصورات و التصديقات إذا حللت تحليلا صحيحا كما تئول إليه أنظاره الفردية فيما يرتبط بأعماله و أفعاله.
الإنسان شديد الاهتمام بعقد العقود و تمثيل العهود و ما يرتبط بها من الحلف و اليمين و البيعة و نحو ذلك، و العامل الأولي في ذلك أن الإنسان لا هم له إلا التحفظ على حياته و الوصول إلى مزاياها و التمتع بالسعادة التي تستعقبها لو جرت على حقيقة مجراها.
فأي بغية من مبتغياته وجدها و سلط عليها أخذ في التمتع منها بما يناسبها من التمتع كالأكل و الشرب و غيرهما بما جهز به من أدوات التمتع، و دفع كل ما يمنعه من التمتع لو عرض هناك مانع عارض و رأى أنه إنما وفق لذلك في ضوء ما أوتيه من السلطة.
و قد أوتي الإنسان سلعة الفكر و بذلك يدبر أمر حياته و يصلح شأن معاشه فيعمل ليومه و يمهد لغده، و أعماله التي هي تصرفات منه في المادة أو عائدة إلى ذلك في عين أنها جميعا متوقفة على انبساط سلطته على الفعل و إحاطته بكل ما يتعلق به عمله، مختلفة في أن بعضها يتم بالسلطة المقصورة على الفعل مقدار زمانه كمن صادف غذاء و هو جوعان فتناوله فأكله، فإنه لا يتوقف على سلطة أوسع من زمان العمل، و لا على تمهيد و تقدمة.
و بعضها - و هو جل الأعمال الإنسانية الاجتماعية - يتوقف على سلطة وسيعة تنبسط على العمل في وقته و على زمان قبله فقط أو على زمان قبله و بعده، لحاجته إلى مقدمات يمهدها له، و تدبير سابق يقدمه لوجوده، فما كل عمل يعمله الإنسان بصدفة، بل جل الأمور الحيوية من شأنها أن يتهيأ الإنسان له قبل أوانه.
و من التهيؤ له أن يتهيأ لجمع أسبابه و نظم الوسائل التي يتوسل بها إليه و أن يتهيأ لرفع موانعه التي من شأنها أن تزاحمه في وجوده و عند حصوله، فالإنسان لا يوفق لعمل و لا ينجح في مسعاه إلا إذا كان في أمن من أن تفوته الأسباب أو تعارضه الموانع و المزاحمات.
و التنبه لهذه الحقيقة هو الذي بعث الإنسان إلى أن يأخذ أمنا من رقبائه في الحياة: أن يعينوه فيما يحتاج من الأمور إلى معين مشارك، أو أن لا يمانعوه من العمل فيما يتوقف إلى ارتفاع الموانع و زوالها.
فالإنسان و هو يريد أن يتخذ لباسا يلبسه من مادة بسيطة كالقطن أو الصوف، و الأمر متوقف على أعمال كثيرة يعملها الغزال و النساج و الخياط و من يصنع لهم أدوات الغزل و النسج و الخياطة، لا يتم له ما يريده من اتخاذ اللباس و لا ينجح سعيه إلا إذا كان في أمن من ناحية هؤلاء الرقباء: أن يعملوا على ما يريده و لا يخلوه وحده فيخيب سعيه و يخسر في عمله.
و كذا الإنسان القاطن في أرض أو الساكن في دار لا يتم له سكناه إلا مع الأمن من ممانعة الناس و مزاحمتهم له في سكناه و التصرف فيه بما يصلح به لذلك.
و هذا هو الذي هدى الإنسان إلى اعتبار العقد و إبرام العهد، فهو يأخذ ما يريده من العمل و يربطه بما يعينه عليه من عمل غيره و يعقدهما: يمثل به عقد الحبال الذي يفيد اتصال بعض أجزائها ببعض و عدم تخلف بعضها عن بعض، و مثله العهد الذي يعهده إليه غيره أن يساعده في ما يريده من الأمر أو أن لا يمانعه في ذلك.
و إلى ذلك يئول أمر عامة العقود لعقد النكاح و عقد البيع و الشرى و عقد الإجارة، و يصدق عليها العهد بمعناها العام و هو أن يعطي الإنسان لغيره قولا أو كتابا أن يعينه على كذا أو أن لا يمنعه من كذا إلى أجل مضروب أو لا إلى أجل.
يتبع...
تعليق