إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

أحسن القصص : ((من قصص الأنبياء (ع)))

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    قالت آسية :

    أنت امرأة قوية ويمكنك إرضاع الاثنين معاً . . سوف اقدّم لك مكافأة جيدة .

    تظاهرت يوكابد بأنها ستوافق من أجل المكافأة . . وهكذا عاد موسى لأمّه مرّة أخرى ، وتحقق وعد الله .

    وتضاعف إيمان أم موسى بأن الله سبحانه هو القادر على كل شيء وأنه لا يردّ قضاءه أحد .


    ممفيس :

    ممفيس [1] هي عاصمة الفراعنة في ذلك الزمان . . على شاطئ النيل وفي خارج هذه المدينة بنى الفرعون قصره الكبير في الشمال . .

    قصر الفرعون في الضفة اليسرى من النيل ، وفي غرب المدينة وفي منطقة صحراوية جافّة بنى الفراعنة قبورهم وهي الأهرامات التي ما تزال قائمة حتى اليوم في منطقة الجيزة .

    وأتم موسى فترة الرضاعة في أحضان أمه ، ثم انتقل بعدها ليعيش في قصر الفرعون في الشمال خارج المدينة .

    وكبر موسى أصبح فتى رشيداً ، كان يرتدي زيّاً يشبه ما يرتديه النبلاء من الأقباط ، وكان الجميع ينظرون إليه ويحسبونه ابناً للفرعون .

    ولكن موسى في حقيقته كان غير ذلك . . كان فتىً طيباً يحب الضعفاء ويعطف عليهم وكان يتألم في أعماقه من أجل الناس الفقراء والمقهورين ، ويرفض في قرارة نفسه تصرفات الفرعون .

    وكبر موسى ونما عقله أصبح شاباً مفتول العضلات قوّياً يهابه الجميع .

    غير أن موسى لم يغتر بقوّته أبداً . . كان يزداد تواضعاً وكان ينظر إلى إدّعاء فرعون بأنه إله الشعب افتراءً على الحقيقة لأن الإله لا يمكن أن يكون بشراً فكيف بفرعون ذلك الإنسان المغرور الطائش ؟!

    وخلال تلك الفترة الطويلة التي تمتد إلى ثمانية عشرة سنة عرف موسى أشياء كثيرة وعرف حقائق كثيرة ، واكتشف انه ليس ابناً للفرعون ، بل انه ليس قبطياً أنه ابن عمران من بني إسرائيل .

    وعرف موسى ان بني يعقوب جاءوا إلى مصر من فلسطين . . جاءوا بعد ان أصبح يوسف بن يعقوب زعيماً كبيراً وهو الذي انقذ مصر من الجوع قبل مئات السنين . .

    والآن أصبح بنو إسرائيل أو بنو يعقوب عبيداً للفرعون الذي يصب عليهم العذاب . . يذبح الأطفال ويستبعد الرجال ويفرض على الجميع عبادته وحده!

    وراح موسى يتردد على المدينة بين فترة وأخرى . . وأصبح يغيب عن القصر أياماً . . وكان ينفر من ثيابه المصنوعة من الكتّان الرقيق ليرتدي لباساً خشناً مصنوعاً من الصوف .

    موسى يفكر بمصير بني يعقوب . . لقد أصبحوا أمّة كبيرة ولكنها خائفة وذليلة . . أبناء يعقوب يخافون من الفرعون . . كانوا ينتظرون من يخلصهم . . ينتظرون فقط !

    صراع مع الظلم :

    لم يقف موسى مكتوف الايدي . . كان يحاول أن يفعل شيئاً من أجل المظلومين . . لهذا كان يتسلل من القصر . ويذهب إلى المدينة وكان يقف بوجه الظالمين .

    عندما يدخل المدينة كان يشاهد بعض القبط وبأيديهم السياط ، وسرعان ما ينهالون لسبب ولغير سبب على رجل مظلوم من بني إسرائيل . .

    لهذا كان يهب لنجدة المظلوم ويوجه ضرباته العنيقة للظالم الذي يفضل الفرار أمام قبضة موسى المدمّرة .

    وذات يوم خرج موسى من القصر . . القصر يقع في شمال مدينة ممفيس .

    دخل المدينة وكان الوقت ظهراً وقد عاد الناس إلى بيوتهم كانت المدينة شبه معطلة . .الشوارع والأزقة خالية من الماره تقريباً .

    ورأى موسى رجلين يتشاجران أحدهما كان قبطياً والآخر كان من بني إسرائيل .

    كان القبطي ينهال على ذلك الرجل بالسياط وكان الرجل الإسرائيلي يستغيث ويطلب النجدة . .

    وهبّ موسى لنجدة المظلوم . . كان موسى قويّاً قد آتاه الله بسطة في الجسم .

    اعترض موسى الرجل القبطي ودفعه ولكن القبطي كان يريد مواصلة العدوان ، اضطر موسى أن يسدد له ضربة عنيفة ، سقط بعدها المعتدي صريعاً . .

    شعر موسى بأنه ارتكب خطأ جسيماً لأنه ليس من الصحيح أن يفعل ذلك . .

    ان فرعون ساخط عليه بسبب أفكاره التوحيدية وكان يضع عليه الجواسيس ويراقب كل حركاته .

    ان مقتل الرجل القبطي سيكون ذريعة للفرعون في الانتقام من بني إسرائيل . . سوف يثير الفرعون أحقاد القبط ويحرّكهم ضد موسى وبني إسرائيل .

    لم يكن هناك أحد يعرف ماذا حصل ؟ . اختفى موسى عن الأنظار .

    وكانت الشرطة تبحث عن الفاعل .

    لم يرجع موسى إلى القصر . . كان يخشى بطش الفرعون . .

    لهذا أمضى ليلته في المدينة . . وحدث ما لم يكن في الحسبان .

    رأى موسى الرجل الإسرائيلي يتشاجر مع رجل قبطي آخر . . استغاث الرجل الإسرائيلي بموسى ..

    كان موسى منزعجاً مما حصل بالأمس ، ومع ذلك فقد هبّ لنجدة المظلوم . . تقدّم إليهما وهو يخاطب الإسرائيلي قائلاً :

    { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } . . انت تتشاجر كل يوم وهذا ليس صحيحاً .

    ظن الإسرائيلي ان موسى سوف يبطش به لهذا صرخ قائلاً :

    { يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ؟ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ }. .

    عندما سمع الناس ذلك اكتشفوا ان القاتل لم يكن سوى موسى وركض الجواسيس لاخبار الفرعون بذلك .

    المؤامرة :

    في القصر كان الفرعون يتآمر مع أعضاء حكومته . . كان يفكر في أن موسى هو الرجل الموعود . . انه لا يكفّ عن بث أفكاره الخطيرة . . وكان يعرف قبل أن يخبره الجواسيس ان موسى هو الذي قضى على الرجل القبطي . .

    لهذا قرر ان يقتل موسى مهما كان الثمن . .

    وكان هناك رجل قبطي طيب . . يحب موسى لأخلاقه الرفيعة وحبّه للخير والضعفاء ولشجاعته . .

    أسرع الرجل يبحث عن موسى . . دخل المدينة وراح يسأل عن موسى حتى عثر عليه قال له محذّراً :

    { يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ }.

    لم يكن هناك وقت للانتظار. . ان هذا الفرعون الطاغية لن يتورّع عن قتله . .

    من أجل هذا أسرع موسى في اتخاذ قرار الهجرة من مصر كلها في أسرع وقت .

    استقل موسى زورقاً ليعبر نهر النيل إلى الضفة اليمنى . . ومن هناك انطلق باتجاه الشرق متوجهاً نحو خليج السويس . .كان هدف موسى أرض مدين . .

    نظر موسى إلى السماء وقال بخشوع :

    { عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ }.

    كانت شرطة فرعون تبحث عنه في كل مكان ، ومضى موسى يجتاز الصحراء والمنعطفات الجبلية على البحر الأحمر ودلتا النيل .

    الطريق إلى مدين :

    الرمال في سيناء مد البصر ، وموسى وحيداً في تلك المنعطفات الجبلية على شواطئ البحر الأحمر .

    ثلاثون يوماً تمرّ وموسى يقطع الطرق المقفرة الموحشة في صحراء سيناء .

    كانت قدماه قد تورمتا وهو يطوي عشرات الأميال مشياً ، ولم يكن طعامه طوال الطريق سوى ما يعثر عليه من بقول الأرض البرّية .

    وكانت الشمس ترسل أشعة الأصيل عندما وصل موسى أرض مدين .

    كانت مدين لا تخضع لنفوذ الفراعنة ، وهي منطقة تقع في منتصف الطريق بين الحجاز ومصر على مقربة من سواحل خليج العقبة شرقاً .

    أطلّ موسى على الوادي الفسيح وجلس عند صخرة تظلّلها شجيرة شائكة .

    كان موسى متعباً جداً بعد رحلته الشاقّة ، وكانت الشمس تجنح باتجاه المغيب .

    راح موسى يراقب قطعان الماشية يسوقها رعاة اشدّاء إلى البئر .

    واصطبغ الأفق الغربي بألوان حمراء وبرتقالية متموجة ، فشعر موسى وهو يتأمل جلال الطبيعة بخشوع يتغلغل في قلبه .

    نسي آلامه ومتاعبه وكانت روحه تذوب مع كل ذرّة من ذرّات الكون الفسيح .

    كانت رحلته التي استغرقت شهراً قد صنعت منه انساناً آخر . . أن قلبه يتفتح للحقائق الكبرى .

    كان موسى يصغي إلى ثغاء الأغنام وهي تنحدر باتجاه البئر الوحيدة في الوادي .

    وتصاعدت أصوات الرعاة وهم يتدافعون للاستباق ، ورأى موسى منظراً جديداً للاستضعاف . . رأى القويّ هو الذي يحوز الماء أما الضعيف فعليه ان ينتظر . . أن يتحمل ألم الانتظار ومرارة الصبر .

    راح الرعاة الأشداء يملأون الأحواض لأغنامهم ، فيما ظهرت فتاتان تذودان قطيعهما . . وكانتا تنتظران في انكسار فراغ الرعاة من السقي .

    وهبّ موسى كعادته إلى نجدتهما . . نسي آلام قدميه المتورّمتين .

    تقدم موسى نحو الفتاتين وقال بأدب :

    ما خطبكما ؟

    قالت الفتاتان :

    { لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }.

    بالرغم من تعبه وآلامه . . بالرغم من جوعه الشديد فلقد بعثت الحمية في قلبه قوّة كبيرة . .

    أمسك بالدلو ورماه في أعماق البئر . . وقف الرعاة ينظرون إليه . . ينظرون إلى الرجل الغريب وإلى عضلاته المفتولة . .

    ملأ موسى الحوض وساقت الفتاتان قطيعهما الذي راح ينهل الماء حتى ارتوى . .

    فرحت الفتاتان وفي ذلك اليوم عادتاً إلى المنزل مبكّرتين .

    لم يكن أبوهما ذلك الشيخ الكبير سوى شعيب النبي ( عليه السلام ) ، عندما رأى ابنتيه تعودان على غير عادتهما في التأخر قال متعجباً :

    ماذا حصل ؟

    قالت ابنته :

    جاءنا شاب طيب غريب عن هذه الديار . . رحمنا فسقى لنا .

    وقالت الأخرى :

    يبدو عليه التعب والجوع يا أبي .

    قال الأب :

    استدعيه يا ابنتي لنعطيه أجرته .

    رحمة الله :

    كان موسى قد عاد إلى مكانه ، وشعر بالجوع يعتصر بطنه نظر إلى السماء وقال : {ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير }.

    كان موسى يتمنى تمرة واحدة تهّدئ من ألم الجوع . . الله سبحانه استجاب دعاءه . .

    جاءت ابنة شعيب تمشي في حياء ، وقفت قريباً منه وقالت بأدب :

    { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا }.

    نهض موسى ملبيّاً دعوة رجل كريم . .

    وعلى مائدة الطعام ذكر موسى اسم الله شاكراً نعمته واستجابة دعائه .

    وراح موسى يروي قصص الظلم في مصر وما يعانيه المستضعفون تحت حكم الفرعون .

    طمأن شعيب ضيفه وقال :

    { لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }. . ان هذه الأرض لا تخضع لحكم الفراعنة .

    القويّ الأمين :

    احبّ شعيب ضيفه . . ان موسى لا ينفك يذكر الله سبحانه في كل شيء ، وكان شعيب يحبّ الله . . من أجل هذا فهو يحب المؤمنين . .

    أحبّ شعيب موسى أكثر عندما عرف انه من نسل يعقوب من ذرّية إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) . .

    وأحبّ شعيب موسى لأمانته لقد عرف ذلك بعد أن دار حديث عائلي . . قالت ابنته :

    { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }.

    قال شعيب متسائلاً :

    لقد عرفنا قوّته فكيف عرفت أمانته .

    قالت :

    عندما ذهبت إليه أدعوه إلى المنزل . . كان مطرقاً ولم ينظر إليّ . . قال لي تأخرى عني ودلّيني على الطريق !

    عندما جلس موسى يتحدث إلى شعيب قال له في حضور ابنته :

    يا موسى { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ }.

    سكت موسى حياءً لأنه رجل فقير لا يملك شيئاً ، ولكن شعيباً ( عليه السلام ) قال له :

    شرط أن ترعى غنمنا ثمان سنين وإن شئت أن تجعلها عشراً فمن فضلك . . أنني لا أريد أن اشق عليك ستجدني رجلاً يعرف حقك .

    قال موسى بأدب :

    { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }.

    العودة إلى الوطن :

    تزوج موسى في أرض مدين ، واستقرّ به المقام ولكنه لم ينس مصر ولم ينس الناس المستضعفين المقهورين هناك غير انه انصرف إلى عمله في نشاط وإخلاص يرعى الغنم يذهب بها على المروج . . إلى التلال . . إلى الوديان ثم يعود بها في الغروب .

    لم يكن موسى ليزاحم الرعاة أبداً ، وكان يختار لماشيته أمكنة مليئة بالعشب . ثم ينصرف إلى تأملاته . . كان يفكر . .

    تعلم أشياء كثيرة . . عرف كيف يهش على الغنم ويسوقها إلى المراعي .

    وكان يراقبها ويحافظ عليها من الذئاب . . الأغنام لا تعرف ماذا عليها أن تفعل فهي تستجيب لعصا الراعي . وعندما تنظر إليه تشعر بالأمن ، فتنصرف إلى تناول العشب بسلام .

    ما أجمل الحياة في المراعي . . ان نفس موسى تمتلأ جلالاً لله سبحانه .

    في كل يوم تشرق الشمس . . تعبر السماء ترسم الواناً زاهية في الأفق . . ثم تتجه نحو الغروب ، وكانت نفس موسى تمتلأ خشوعاً للخالق العظيم . . لهذا كان يرى فرعون صغيراً وحقيراً . . كيف يدّعي الإنسان الضعيف انه إله من دون الله ؟!

    الناس الضعفاء في مصر يخافون سطوة الفرعون وكانوا يتظاهرون بعبادته .

    وهكذا تمرّ الاعوام . . عاش موسى عشر سنين في مدين .

    أصبح عمره أربعين سنة . . تضاعفت تجربته في الحياة لا أحد يعرف هل ذهب موسى خلال تلك السنين إلى مكّة ؟ ان شعيباً ( عليه السلام ) عندما استأجره ليرعى الغنم قال له : { عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } ومعنى هذا ان الحج معروف في ذلك الزمان ، وان شعيباً كان يحج بيت الله .

    عندما أصبح عمر موسى أربعين سنة كان قد وفى بوعده لشعيب وقد أتم الأجل الثاني أي إنه ظلَّ يرعى الغنم عشر سنين كاملة .

    وفكر موسى ان يعود إلى مصر . . كان يشعر ان له مهمّة ويجب عليه أن يقوم بها .

    وذات مساء شتائي ، وفيما كان الناس في مدين يجلسون حول مواقدهم للدفء قال موسى لشعيب .

    لقد تم الأجل الذي بيننا . . يجب أن أعود إلى مصر .

    سأدعو الله أن يحميك من شرور الفرعون . . ان الله سينصرك لأنك مع الحق . . عندما تكون مع الحق فان الحق سينصرك .

    وذات صباح مشرق كان موسى يسوق غنمه مغادراً أرض مدين متوجهاً نحو مصر .

    كل تلك السنين لم ينس موسى مصر . . لم ينس الناس المظلومين هناك .

    كان يفكر بانقاذهم من الظلم من الجهل . . لقد نسوا دين إبراهيم . . دين يعقوب . . دين يوسف نسوا أن الله وحده هو رب العالمين وانّ فرعون مجرّد بشر ضعيف .

    الإنسان عندما ينسى الله فانه سيخاف من كل شيء ، وعندما يؤمن بالله ولا يخاف من أحد إلاّ الله فانه سيكون إنساناً شجاعاً حرّاً يخاف منه الظالمون .

    نداء السماء :

    الصحراء مدّ البصر ، موسى بن عمران الذي بلغ الأربعين من عمره يغادر مدين عائداً إلى مصر .

    فرّ من مصر وحيداً خائفاً ، وعاش في أرض مدين عشر سنوات ، تزوّج وأصبحت له أسرة ، وأصبح له قطيعاً من الأغنام .

    وها هو الآن يسوق قطيع الماشية عائداً إلى أرض الوطن . .

    كان موسى يسير في الصحراء ومن بعيد كانت تلوح له جبال صغيرة .

    الرياح الشتائية تهبّ فتلفح الوجوه ، وموسى يهش على غنمه بعصاه ويسير ، كان يرتدي ثياباً منسوجة من الصوف . . فهو يحبّ بطبعه حياة التواضع والبساطة .

    لهذا كان يمقت الفرعون . . " منفتاح " يرتدي ثياباً كتانية رقيقة موشّاة بالذهب ! والجواهر الثمينة .

    موسى في منتصف الطريق في جزيرة سيناء على مقربة من جبل الطور .

    الرياح الشتائنة الباردة تعصف بشدّة وقد خيم الظلام تماماً .وقف موسى حائراً لقد ضاع عليه الطريق .

    كانت زوجته ترتجف من البرد ، كان موسى ينظر في كل اتجاه ليعرف الطريق الذي يسلكه .

    فجأة سطع نور من جهة جبل الطور . . رأى موسى ناراً تتوهج من بعيد لهذا قال لزوجته : انني أرى ناراً . . امكثوا حتى آتيكم منها بجذوة نتدفأ بها ، وربّما عثرت على الطريق .

    قال موسى ذلك واتجه صوب النار المتوهجة وسط الظلام .

    وشيئاً فشيئاً كان موسى يقترب من المكان ، لم يجد موسى قرب الشجرة أحداً .

    كانت هناك شجرة تتوهج ناراً لكنه لم ير أحداً يسأله عن الطريق !

    شيء عجيب ! شعر موسى أن هذا المكان مفعم بالصمت والهدوء لا أثر فيه للرياح والبرد ، حتى أنه كان يسمع وقع عصاه وهي تصطدم بالأرض . فجأة سمع صوتاً يناديه . .

    { اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى }!

    شعر موسى بالخوف . . خلع نعليه وكان يتساءل عن صاحب الصوت فسمعه يقول :

    يا موسى إني أنا الله رب العالمين !

    ملك الصوت قلب موسى فالقى نفسه ساجداً لله .

    كانت الكلمات تنفذ في قلبه نفوذ النور في مياه بحيرة صافية .

    ألق عصاك يا موسى !

    وامتثل موسى فالقى عصاه على الأرض ، وفي تلك اللحظة حدث شيء مذهل . . لقد تحولت فجأة إلى ثعبان يتلوّى ، وتراجع موسى خائفاً . . كان ثعباناً مخيفاً .

    وسمع موسى صوتاً يناديه من الجانب الأيمن في الوادي : يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين . . يا موسى لا تخف لأن الرسل لا يخافون . .

    وأضاء قلب موسى نور عجيب . . شعر بالطمأنينة والسلام . . انه رسول الله .

    اسلك يدك في جيبك سوف تخرج بيضاء .

    وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تتألق بلون ناصع .

    تحسس موسى يده فإذا هي صحيحة سالمة من كل سوء وهوى موسى ساجداً لله مرّة أخرى . . ان الله قادر على كل شيء لا حدود لقدرة الله . . ان هذه الآيات كافية لأن يؤمن الناس بقدرة الله وحده .

    حاول موسى أن يهدّىء من خوفه فسمع الصوت يقول له :

    اضمم إليك جناحك .

    فعل موسى ذلك ضم يديه إلى صدره شعر بقلبه يهدأ تماماً .

    قال الله لموسى وهو يحمّله الرسالة .

    اذهب إلى فرعون انه طغى . .

    ان على موسى أن يحارب الظلم وأن ينصح فرعون بالكف عن عدوانه وغروره وإن يسلم وجهه لله رب العالمين .

    قال موسى وهو يطلب من يساعده وينصره في مهمته :

    رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون . .

    تذكر موسى الحادث الذي وقع قبل عشر سنوات . . ان فرعون لن ينسى ذلك . . انه يحقد على موسى ويتحيّن الفرص لقتله .

    يا رب أن أخي هارون أفصح مني لساناً فاجعله ناصراً وشريكاً في رسالتي . . إذا ذهبت وحدي سوف يكذبوني . . أريد نصيراً لي يقف معي ويؤازؤني ويشهد بصدق رسالتي .

    قال الله سبحانه وتعالى وقد استجاب طلبه .

    { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } .

    { قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }.

    { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } .

    عاد الصمت مرّة أخرى يهمين على الوادي المقدس واختفت النار ورجع موسى إلى أهله كانوا ينتظرون . .

    رجع موسى وهو يحمل أعباء رسالة الله الكبرى . . لقد وجد موسى الطريق .

    لهذا راح يحث الخطى وهو يغرز عصاه في رمال الصحراء .

    المواجهة :


    اتجه موسى إلى جنوب العاصمة ممفيس حيث يعيش أبناء يعقوب .

    ازداد الظلم وتضاعف العذاب على بني إسرائيل . . وعاد موسى إليهم وهو يبشرهم برسالة الله . . بالخلاص من الظلم . .

    كانوا خائفين ، ولكنهم بدأوا يشعرون بالأمل .

    وقف هارون إلى جانب أخيه موسى ، وشعر موسى بالثقة أكثر إن معه من يؤازره وينصره .

    ان هارون فصيح اللسان ، وعندما يتحدث فإنه يتحدث باسم الحق باسم العدل . . لا يخاف أحداً إلاّ الله .

    من أجل هذا طلب موسى من الله أن يشركه في الرسالة ليعملا معاً على زعزعة الظلم والقضاء على الشر ونشر الخير والعدل .

    وقرر موسى وهارون الذهاب إلى قصر الفرعون خارج المدينة . .

    كان يمشيان على شاطئ النيل متجهين شمالاً ، كان موسى يتوكأ على عصاه ، وكانا يرتديان قميصين منسوجين من الصوف .

    ولاح من بعيد قصر الفرعون . . كان قصراً كبيراً جدرانه من الصخر المكسوة بالخشب المصقول بدقة ، أمّا ارضيته فقد فرشت بالرخام ، وأثاثه من المرمر والعاد والذهب .

    ودخل موسى وهارون القصر ، ودخلا البلاط حيث يتربع الفرعون على عرش من الآبنوس المطعم بالذهب والجواهر ، وكان فرعون يمسك بعصا قصيرة هي الأخرى من الآبنوس المزيّنة بالذهب والأحجار الكريمة .

    حيّا موسى الفرعون بأدب الهي ، وقابل الفرعون التحيّة بغروره المعروف . . لم ينظر إلى عيني موسى ليتأمل النور الذي يشعّ منهما ، لم ينظر إلى زهد موسى وبساطته . . لم ينظر إلى شخصيته القويّة وهو يقف بشجاعة أمامه . . نظر فقط إلى الثياب المنسوجة من الصوف ، وراح يقارن بينها وبين ما يرتديه هو من ثياب كتانية رقيقة منسوجة بخيوط الذهب وإلى يديه المليئتين بأساور ذهبية ، من أجل هذا راح ينظر إليه باستعلاء .

    لم يكن فرعون وحده كان معه وزيره هامان وشخصيات كبيرة في الدولة .

    وراح الفرعون يحدّق في موسى الذي فَرّ من مصر قبل عشر سنوات وها هو يعود أكثر صلابة !

    قال الفرعون :

    وأخيراً عدت يا موسى .

    نعم ولقد جئتك بخير الدنيا والآخرة .

    قال الفرعون :

    ماذا تقصد ؟

    قال موسى :

    إن الله قد أرسلني إليك لتعبده .

    الله ؟!

    الله ربّ العالمين . . ربّكم وربّ آبائكم الأولين . .

    ونظر الفرعون بدهشة إلى رجال دولته وقال :

    ألا تستمعون ؟!!


    قال موسى :

    رب السماوات والأرض ، وما بينهما إن كنتم موقنين .

    ونظر الفرعون إلى رجاله بغضب وصاح مستهزأ :

    إنّ رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون .

    انحنى هامان للفرعون وقال مخاطباً موسى :

    أنت تتحدّث بأشياء خطيرة . الشعب كلّه يعبد الفرعون ويسجد له . . وبنو إسرائيل يعبدونه أيضاً . . انه إله مصر .

    قال هارون بهدوء :


    انه ليس بإله .

    وقال موسى :

    ان الله وحده هو الربّ الذي ينبغي أن يُعبد . . هو الذي خلق الكون والوجود . . الله هو الذي خلق السحب وينزل المطر . . وهو الذي يخلق الشجر . .

    قال الفرعون وهو يحاول محاصرة موسى :

    لقد نسيت يا موسى أشياءً كثيرة . . نسيت اننا ربّيناك منذ كنت طفلاً رضيعاً .

    قال موسى :

    لقد كنت تذبح أطفال بني إسرائيل . . وتعذّب رجالهم وتقهر نساءهم . . وليست هذه بمنّة بعد أن عبّدت بني إسرائيل . .

    وماذا عن فعلتك التي فعلتها ثم هربت من مصر .

    لقد حصل ذلك خطأً لم أكن أنوي قتل الرجل . . وقد فررت لأنكم كنتم تخططون لقتلي . .

    ولقد اختارني الله رسولاً إليك . . فأرسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم .


    يتبع

    تعليق


    • #17
      قالت آسية :

      أنت امرأة قوية ويمكنك إرضاع الاثنين معاً . . سوف اقدّم لك مكافأة جيدة .

      تظاهرت يوكابد بأنها ستوافق من أجل المكافأة . . وهكذا عاد موسى لأمّه مرّة أخرى ، وتحقق وعد الله .

      وتضاعف إيمان أم موسى بأن الله سبحانه هو القادر على كل شيء وأنه لا يردّ قضاءه أحد .


      ممفيس :

      ممفيس [1] هي عاصمة الفراعنة في ذلك الزمان . . على شاطئ النيل وفي خارج هذه المدينة بنى الفرعون قصره الكبير في الشمال . .

      قصر الفرعون في الضفة اليسرى من النيل ، وفي غرب المدينة وفي منطقة صحراوية جافّة بنى الفراعنة قبورهم وهي الأهرامات التي ما تزال قائمة حتى اليوم في منطقة الجيزة .

      وأتم موسى فترة الرضاعة في أحضان أمه ، ثم انتقل بعدها ليعيش في قصر الفرعون في الشمال خارج المدينة .

      وكبر موسى أصبح فتى رشيداً ، كان يرتدي زيّاً يشبه ما يرتديه النبلاء من الأقباط ، وكان الجميع ينظرون إليه ويحسبونه ابناً للفرعون .

      ولكن موسى في حقيقته كان غير ذلك . . كان فتىً طيباً يحب الضعفاء ويعطف عليهم وكان يتألم في أعماقه من أجل الناس الفقراء والمقهورين ، ويرفض في قرارة نفسه تصرفات الفرعون .

      وكبر موسى ونما عقله أصبح شاباً مفتول العضلات قوّياً يهابه الجميع .

      غير أن موسى لم يغتر بقوّته أبداً . . كان يزداد تواضعاً وكان ينظر إلى إدّعاء فرعون بأنه إله الشعب افتراءً على الحقيقة لأن الإله لا يمكن أن يكون بشراً فكيف بفرعون ذلك الإنسان المغرور الطائش ؟!

      وخلال تلك الفترة الطويلة التي تمتد إلى ثمانية عشرة سنة عرف موسى أشياء كثيرة وعرف حقائق كثيرة ، واكتشف انه ليس ابناً للفرعون ، بل انه ليس قبطياً أنه ابن عمران من بني إسرائيل .

      وعرف موسى ان بني يعقوب جاءوا إلى مصر من فلسطين . . جاءوا بعد ان أصبح يوسف بن يعقوب زعيماً كبيراً وهو الذي انقذ مصر من الجوع قبل مئات السنين . .

      والآن أصبح بنو إسرائيل أو بنو يعقوب عبيداً للفرعون الذي يصب عليهم العذاب . . يذبح الأطفال ويستبعد الرجال ويفرض على الجميع عبادته وحده!

      وراح موسى يتردد على المدينة بين فترة وأخرى . . وأصبح يغيب عن القصر أياماً . . وكان ينفر من ثيابه المصنوعة من الكتّان الرقيق ليرتدي لباساً خشناً مصنوعاً من الصوف .

      موسى يفكر بمصير بني يعقوب . . لقد أصبحوا أمّة كبيرة ولكنها خائفة وذليلة . . أبناء يعقوب يخافون من الفرعون . . كانوا ينتظرون من يخلصهم . . ينتظرون فقط !

      صراع مع الظلم :

      لم يقف موسى مكتوف الايدي . . كان يحاول أن يفعل شيئاً من أجل المظلومين . . لهذا كان يتسلل من القصر . ويذهب إلى المدينة وكان يقف بوجه الظالمين .

      عندما يدخل المدينة كان يشاهد بعض القبط وبأيديهم السياط ، وسرعان ما ينهالون لسبب ولغير سبب على رجل مظلوم من بني إسرائيل . .

      لهذا كان يهب لنجدة المظلوم ويوجه ضرباته العنيقة للظالم الذي يفضل الفرار أمام قبضة موسى المدمّرة .

      وذات يوم خرج موسى من القصر . . القصر يقع في شمال مدينة ممفيس .

      دخل المدينة وكان الوقت ظهراً وقد عاد الناس إلى بيوتهم كانت المدينة شبه معطلة . .الشوارع والأزقة خالية من الماره تقريباً .

      ورأى موسى رجلين يتشاجران أحدهما كان قبطياً والآخر كان من بني إسرائيل .

      كان القبطي ينهال على ذلك الرجل بالسياط وكان الرجل الإسرائيلي يستغيث ويطلب النجدة . .

      وهبّ موسى لنجدة المظلوم . . كان موسى قويّاً قد آتاه الله بسطة في الجسم .

      اعترض موسى الرجل القبطي ودفعه ولكن القبطي كان يريد مواصلة العدوان ، اضطر موسى أن يسدد له ضربة عنيفة ، سقط بعدها المعتدي صريعاً . .

      شعر موسى بأنه ارتكب خطأ جسيماً لأنه ليس من الصحيح أن يفعل ذلك . .

      ان فرعون ساخط عليه بسبب أفكاره التوحيدية وكان يضع عليه الجواسيس ويراقب كل حركاته .

      ان مقتل الرجل القبطي سيكون ذريعة للفرعون في الانتقام من بني إسرائيل . . سوف يثير الفرعون أحقاد القبط ويحرّكهم ضد موسى وبني إسرائيل .

      لم يكن هناك أحد يعرف ماذا حصل ؟ . اختفى موسى عن الأنظار .

      وكانت الشرطة تبحث عن الفاعل .

      لم يرجع موسى إلى القصر . . كان يخشى بطش الفرعون . .

      لهذا أمضى ليلته في المدينة . . وحدث ما لم يكن في الحسبان .

      رأى موسى الرجل الإسرائيلي يتشاجر مع رجل قبطي آخر . . استغاث الرجل الإسرائيلي بموسى ..

      كان موسى منزعجاً مما حصل بالأمس ، ومع ذلك فقد هبّ لنجدة المظلوم . . تقدّم إليهما وهو يخاطب الإسرائيلي قائلاً :

      { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } . . انت تتشاجر كل يوم وهذا ليس صحيحاً .

      ظن الإسرائيلي ان موسى سوف يبطش به لهذا صرخ قائلاً :

      { يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ؟ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ }. .

      عندما سمع الناس ذلك اكتشفوا ان القاتل لم يكن سوى موسى وركض الجواسيس لاخبار الفرعون بذلك .

      المؤامرة :

      في القصر كان الفرعون يتآمر مع أعضاء حكومته . . كان يفكر في أن موسى هو الرجل الموعود . . انه لا يكفّ عن بث أفكاره الخطيرة . . وكان يعرف قبل أن يخبره الجواسيس ان موسى هو الذي قضى على الرجل القبطي . .

      لهذا قرر ان يقتل موسى مهما كان الثمن . .

      وكان هناك رجل قبطي طيب . . يحب موسى لأخلاقه الرفيعة وحبّه للخير والضعفاء ولشجاعته . .

      أسرع الرجل يبحث عن موسى . . دخل المدينة وراح يسأل عن موسى حتى عثر عليه قال له محذّراً :

      { يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ }.

      لم يكن هناك وقت للانتظار. . ان هذا الفرعون الطاغية لن يتورّع عن قتله . .

      من أجل هذا أسرع موسى في اتخاذ قرار الهجرة من مصر كلها في أسرع وقت .

      استقل موسى زورقاً ليعبر نهر النيل إلى الضفة اليمنى . . ومن هناك انطلق باتجاه الشرق متوجهاً نحو خليج السويس . .كان هدف موسى أرض مدين . .

      نظر موسى إلى السماء وقال بخشوع :

      { عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ }.

      كانت شرطة فرعون تبحث عنه في كل مكان ، ومضى موسى يجتاز الصحراء والمنعطفات الجبلية على البحر الأحمر ودلتا النيل .

      الطريق إلى مدين :

      الرمال في سيناء مد البصر ، وموسى وحيداً في تلك المنعطفات الجبلية على شواطئ البحر الأحمر .

      ثلاثون يوماً تمرّ وموسى يقطع الطرق المقفرة الموحشة في صحراء سيناء .

      كانت قدماه قد تورمتا وهو يطوي عشرات الأميال مشياً ، ولم يكن طعامه طوال الطريق سوى ما يعثر عليه من بقول الأرض البرّية .

      وكانت الشمس ترسل أشعة الأصيل عندما وصل موسى أرض مدين .

      كانت مدين لا تخضع لنفوذ الفراعنة ، وهي منطقة تقع في منتصف الطريق بين الحجاز ومصر على مقربة من سواحل خليج العقبة شرقاً .

      أطلّ موسى على الوادي الفسيح وجلس عند صخرة تظلّلها شجيرة شائكة .

      كان موسى متعباً جداً بعد رحلته الشاقّة ، وكانت الشمس تجنح باتجاه المغيب .

      راح موسى يراقب قطعان الماشية يسوقها رعاة اشدّاء إلى البئر .

      واصطبغ الأفق الغربي بألوان حمراء وبرتقالية متموجة ، فشعر موسى وهو يتأمل جلال الطبيعة بخشوع يتغلغل في قلبه .

      نسي آلامه ومتاعبه وكانت روحه تذوب مع كل ذرّة من ذرّات الكون الفسيح .

      كانت رحلته التي استغرقت شهراً قد صنعت منه انساناً آخر . . أن قلبه يتفتح للحقائق الكبرى .

      كان موسى يصغي إلى ثغاء الأغنام وهي تنحدر باتجاه البئر الوحيدة في الوادي .

      وتصاعدت أصوات الرعاة وهم يتدافعون للاستباق ، ورأى موسى منظراً جديداً للاستضعاف . . رأى القويّ هو الذي يحوز الماء أما الضعيف فعليه ان ينتظر . . أن يتحمل ألم الانتظار ومرارة الصبر .

      راح الرعاة الأشداء يملأون الأحواض لأغنامهم ، فيما ظهرت فتاتان تذودان قطيعهما . . وكانتا تنتظران في انكسار فراغ الرعاة من السقي .

      وهبّ موسى كعادته إلى نجدتهما . . نسي آلام قدميه المتورّمتين .

      تقدم موسى نحو الفتاتين وقال بأدب :

      ما خطبكما ؟

      قالت الفتاتان :

      { لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }.

      بالرغم من تعبه وآلامه . . بالرغم من جوعه الشديد فلقد بعثت الحمية في قلبه قوّة كبيرة . .

      أمسك بالدلو ورماه في أعماق البئر . . وقف الرعاة ينظرون إليه . . ينظرون إلى الرجل الغريب وإلى عضلاته المفتولة . .

      ملأ موسى الحوض وساقت الفتاتان قطيعهما الذي راح ينهل الماء حتى ارتوى . .

      فرحت الفتاتان وفي ذلك اليوم عادتاً إلى المنزل مبكّرتين .

      لم يكن أبوهما ذلك الشيخ الكبير سوى شعيب النبي ( عليه السلام ) ، عندما رأى ابنتيه تعودان على غير عادتهما في التأخر قال متعجباً :

      ماذا حصل ؟

      قالت ابنته :

      جاءنا شاب طيب غريب عن هذه الديار . . رحمنا فسقى لنا .

      وقالت الأخرى :

      يبدو عليه التعب والجوع يا أبي .

      قال الأب :

      استدعيه يا ابنتي لنعطيه أجرته .

      رحمة الله :

      كان موسى قد عاد إلى مكانه ، وشعر بالجوع يعتصر بطنه نظر إلى السماء وقال : {ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير }.

      كان موسى يتمنى تمرة واحدة تهّدئ من ألم الجوع . . الله سبحانه استجاب دعاءه . .

      جاءت ابنة شعيب تمشي في حياء ، وقفت قريباً منه وقالت بأدب :

      { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا }.

      نهض موسى ملبيّاً دعوة رجل كريم . .

      وعلى مائدة الطعام ذكر موسى اسم الله شاكراً نعمته واستجابة دعائه .

      وراح موسى يروي قصص الظلم في مصر وما يعانيه المستضعفون تحت حكم الفرعون .

      طمأن شعيب ضيفه وقال :

      { لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }. . ان هذه الأرض لا تخضع لحكم الفراعنة .

      القويّ الأمين :

      احبّ شعيب ضيفه . . ان موسى لا ينفك يذكر الله سبحانه في كل شيء ، وكان شعيب يحبّ الله . . من أجل هذا فهو يحب المؤمنين . .

      أحبّ شعيب موسى أكثر عندما عرف انه من نسل يعقوب من ذرّية إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) . .

      وأحبّ شعيب موسى لأمانته لقد عرف ذلك بعد أن دار حديث عائلي . . قالت ابنته :

      { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }.

      قال شعيب متسائلاً :

      لقد عرفنا قوّته فكيف عرفت أمانته .

      قالت :

      عندما ذهبت إليه أدعوه إلى المنزل . . كان مطرقاً ولم ينظر إليّ . . قال لي تأخرى عني ودلّيني على الطريق !

      عندما جلس موسى يتحدث إلى شعيب قال له في حضور ابنته :

      يا موسى { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ }.

      سكت موسى حياءً لأنه رجل فقير لا يملك شيئاً ، ولكن شعيباً ( عليه السلام ) قال له :

      شرط أن ترعى غنمنا ثمان سنين وإن شئت أن تجعلها عشراً فمن فضلك . . أنني لا أريد أن اشق عليك ستجدني رجلاً يعرف حقك .

      قال موسى بأدب :

      { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }.

      العودة إلى الوطن :

      تزوج موسى في أرض مدين ، واستقرّ به المقام ولكنه لم ينس مصر ولم ينس الناس المستضعفين المقهورين هناك غير انه انصرف إلى عمله في نشاط وإخلاص يرعى الغنم يذهب بها على المروج . . إلى التلال . . إلى الوديان ثم يعود بها في الغروب .

      لم يكن موسى ليزاحم الرعاة أبداً ، وكان يختار لماشيته أمكنة مليئة بالعشب . ثم ينصرف إلى تأملاته . . كان يفكر . .

      تعلم أشياء كثيرة . . عرف كيف يهش على الغنم ويسوقها إلى المراعي .

      وكان يراقبها ويحافظ عليها من الذئاب . . الأغنام لا تعرف ماذا عليها أن تفعل فهي تستجيب لعصا الراعي . وعندما تنظر إليه تشعر بالأمن ، فتنصرف إلى تناول العشب بسلام .

      ما أجمل الحياة في المراعي . . ان نفس موسى تمتلأ جلالاً لله سبحانه .

      في كل يوم تشرق الشمس . . تعبر السماء ترسم الواناً زاهية في الأفق . . ثم تتجه نحو الغروب ، وكانت نفس موسى تمتلأ خشوعاً للخالق العظيم . . لهذا كان يرى فرعون صغيراً وحقيراً . . كيف يدّعي الإنسان الضعيف انه إله من دون الله ؟!

      الناس الضعفاء في مصر يخافون سطوة الفرعون وكانوا يتظاهرون بعبادته .

      وهكذا تمرّ الاعوام . . عاش موسى عشر سنين في مدين .

      أصبح عمره أربعين سنة . . تضاعفت تجربته في الحياة لا أحد يعرف هل ذهب موسى خلال تلك السنين إلى مكّة ؟ ان شعيباً ( عليه السلام ) عندما استأجره ليرعى الغنم قال له : { عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } ومعنى هذا ان الحج معروف في ذلك الزمان ، وان شعيباً كان يحج بيت الله .

      عندما أصبح عمر موسى أربعين سنة كان قد وفى بوعده لشعيب وقد أتم الأجل الثاني أي إنه ظلَّ يرعى الغنم عشر سنين كاملة .

      وفكر موسى ان يعود إلى مصر . . كان يشعر ان له مهمّة ويجب عليه أن يقوم بها .

      وذات مساء شتائي ، وفيما كان الناس في مدين يجلسون حول مواقدهم للدفء قال موسى لشعيب .

      لقد تم الأجل الذي بيننا . . يجب أن أعود إلى مصر .

      سأدعو الله أن يحميك من شرور الفرعون . . ان الله سينصرك لأنك مع الحق . . عندما تكون مع الحق فان الحق سينصرك .

      وذات صباح مشرق كان موسى يسوق غنمه مغادراً أرض مدين متوجهاً نحو مصر .

      كل تلك السنين لم ينس موسى مصر . . لم ينس الناس المظلومين هناك .

      كان يفكر بانقاذهم من الظلم من الجهل . . لقد نسوا دين إبراهيم . . دين يعقوب . . دين يوسف نسوا أن الله وحده هو رب العالمين وانّ فرعون مجرّد بشر ضعيف .

      الإنسان عندما ينسى الله فانه سيخاف من كل شيء ، وعندما يؤمن بالله ولا يخاف من أحد إلاّ الله فانه سيكون إنساناً شجاعاً حرّاً يخاف منه الظالمون .

      نداء السماء :

      الصحراء مدّ البصر ، موسى بن عمران الذي بلغ الأربعين من عمره يغادر مدين عائداً إلى مصر .

      فرّ من مصر وحيداً خائفاً ، وعاش في أرض مدين عشر سنوات ، تزوّج وأصبحت له أسرة ، وأصبح له قطيعاً من الأغنام .

      وها هو الآن يسوق قطيع الماشية عائداً إلى أرض الوطن . .

      كان موسى يسير في الصحراء ومن بعيد كانت تلوح له جبال صغيرة .

      الرياح الشتائية تهبّ فتلفح الوجوه ، وموسى يهش على غنمه بعصاه ويسير ، كان يرتدي ثياباً منسوجة من الصوف . . فهو يحبّ بطبعه حياة التواضع والبساطة .

      لهذا كان يمقت الفرعون . . " منفتاح " يرتدي ثياباً كتانية رقيقة موشّاة بالذهب ! والجواهر الثمينة .

      موسى في منتصف الطريق في جزيرة سيناء على مقربة من جبل الطور .

      الرياح الشتائنة الباردة تعصف بشدّة وقد خيم الظلام تماماً .وقف موسى حائراً لقد ضاع عليه الطريق .

      كانت زوجته ترتجف من البرد ، كان موسى ينظر في كل اتجاه ليعرف الطريق الذي يسلكه .

      فجأة سطع نور من جهة جبل الطور . . رأى موسى ناراً تتوهج من بعيد لهذا قال لزوجته : انني أرى ناراً . . امكثوا حتى آتيكم منها بجذوة نتدفأ بها ، وربّما عثرت على الطريق .

      قال موسى ذلك واتجه صوب النار المتوهجة وسط الظلام .

      وشيئاً فشيئاً كان موسى يقترب من المكان ، لم يجد موسى قرب الشجرة أحداً .

      كانت هناك شجرة تتوهج ناراً لكنه لم ير أحداً يسأله عن الطريق !

      شيء عجيب ! شعر موسى أن هذا المكان مفعم بالصمت والهدوء لا أثر فيه للرياح والبرد ، حتى أنه كان يسمع وقع عصاه وهي تصطدم بالأرض . فجأة سمع صوتاً يناديه . .

      { اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى }!

      شعر موسى بالخوف . . خلع نعليه وكان يتساءل عن صاحب الصوت فسمعه يقول :

      يا موسى إني أنا الله رب العالمين !

      ملك الصوت قلب موسى فالقى نفسه ساجداً لله .

      كانت الكلمات تنفذ في قلبه نفوذ النور في مياه بحيرة صافية .

      ألق عصاك يا موسى !

      وامتثل موسى فالقى عصاه على الأرض ، وفي تلك اللحظة حدث شيء مذهل . . لقد تحولت فجأة إلى ثعبان يتلوّى ، وتراجع موسى خائفاً . . كان ثعباناً مخيفاً .

      وسمع موسى صوتاً يناديه من الجانب الأيمن في الوادي : يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين . . يا موسى لا تخف لأن الرسل لا يخافون . .

      وأضاء قلب موسى نور عجيب . . شعر بالطمأنينة والسلام . . انه رسول الله .

      اسلك يدك في جيبك سوف تخرج بيضاء .

      وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تتألق بلون ناصع .

      تحسس موسى يده فإذا هي صحيحة سالمة من كل سوء وهوى موسى ساجداً لله مرّة أخرى . . ان الله قادر على كل شيء لا حدود لقدرة الله . . ان هذه الآيات كافية لأن يؤمن الناس بقدرة الله وحده .

      حاول موسى أن يهدّىء من خوفه فسمع الصوت يقول له :

      اضمم إليك جناحك .

      فعل موسى ذلك ضم يديه إلى صدره شعر بقلبه يهدأ تماماً .

      قال الله لموسى وهو يحمّله الرسالة .

      اذهب إلى فرعون انه طغى . .

      ان على موسى أن يحارب الظلم وأن ينصح فرعون بالكف عن عدوانه وغروره وإن يسلم وجهه لله رب العالمين .

      قال موسى وهو يطلب من يساعده وينصره في مهمته :

      رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون . .

      تذكر موسى الحادث الذي وقع قبل عشر سنوات . . ان فرعون لن ينسى ذلك . . انه يحقد على موسى ويتحيّن الفرص لقتله .

      يا رب أن أخي هارون أفصح مني لساناً فاجعله ناصراً وشريكاً في رسالتي . . إذا ذهبت وحدي سوف يكذبوني . . أريد نصيراً لي يقف معي ويؤازؤني ويشهد بصدق رسالتي .

      قال الله سبحانه وتعالى وقد استجاب طلبه .

      { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } .

      { قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }.

      { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } .

      عاد الصمت مرّة أخرى يهمين على الوادي المقدس واختفت النار ورجع موسى إلى أهله كانوا ينتظرون . .

      رجع موسى وهو يحمل أعباء رسالة الله الكبرى . . لقد وجد موسى الطريق .

      لهذا راح يحث الخطى وهو يغرز عصاه في رمال الصحراء .

      المواجهة :


      اتجه موسى إلى جنوب العاصمة ممفيس حيث يعيش أبناء يعقوب .

      ازداد الظلم وتضاعف العذاب على بني إسرائيل . . وعاد موسى إليهم وهو يبشرهم برسالة الله . . بالخلاص من الظلم . .

      كانوا خائفين ، ولكنهم بدأوا يشعرون بالأمل .

      وقف هارون إلى جانب أخيه موسى ، وشعر موسى بالثقة أكثر إن معه من يؤازره وينصره .

      ان هارون فصيح اللسان ، وعندما يتحدث فإنه يتحدث باسم الحق باسم العدل . . لا يخاف أحداً إلاّ الله .

      من أجل هذا طلب موسى من الله أن يشركه في الرسالة ليعملا معاً على زعزعة الظلم والقضاء على الشر ونشر الخير والعدل .

      وقرر موسى وهارون الذهاب إلى قصر الفرعون خارج المدينة . .

      كان يمشيان على شاطئ النيل متجهين شمالاً ، كان موسى يتوكأ على عصاه ، وكانا يرتديان قميصين منسوجين من الصوف .

      ولاح من بعيد قصر الفرعون . . كان قصراً كبيراً جدرانه من الصخر المكسوة بالخشب المصقول بدقة ، أمّا ارضيته فقد فرشت بالرخام ، وأثاثه من المرمر والعاد والذهب .

      ودخل موسى وهارون القصر ، ودخلا البلاط حيث يتربع الفرعون على عرش من الآبنوس المطعم بالذهب والجواهر ، وكان فرعون يمسك بعصا قصيرة هي الأخرى من الآبنوس المزيّنة بالذهب والأحجار الكريمة .

      حيّا موسى الفرعون بأدب الهي ، وقابل الفرعون التحيّة بغروره المعروف . . لم ينظر إلى عيني موسى ليتأمل النور الذي يشعّ منهما ، لم ينظر إلى زهد موسى وبساطته . . لم ينظر إلى شخصيته القويّة وهو يقف بشجاعة أمامه . . نظر فقط إلى الثياب المنسوجة من الصوف ، وراح يقارن بينها وبين ما يرتديه هو من ثياب كتانية رقيقة منسوجة بخيوط الذهب وإلى يديه المليئتين بأساور ذهبية ، من أجل هذا راح ينظر إليه باستعلاء .

      لم يكن فرعون وحده كان معه وزيره هامان وشخصيات كبيرة في الدولة .

      وراح الفرعون يحدّق في موسى الذي فَرّ من مصر قبل عشر سنوات وها هو يعود أكثر صلابة !

      قال الفرعون :

      وأخيراً عدت يا موسى .

      نعم ولقد جئتك بخير الدنيا والآخرة .

      قال الفرعون :

      ماذا تقصد ؟

      قال موسى :

      إن الله قد أرسلني إليك لتعبده .

      الله ؟!

      الله ربّ العالمين . . ربّكم وربّ آبائكم الأولين . .

      ونظر الفرعون بدهشة إلى رجال دولته وقال :

      ألا تستمعون ؟!!


      قال موسى :

      رب السماوات والأرض ، وما بينهما إن كنتم موقنين .

      ونظر الفرعون إلى رجاله بغضب وصاح مستهزأ :

      إنّ رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون .

      انحنى هامان للفرعون وقال مخاطباً موسى :

      أنت تتحدّث بأشياء خطيرة . الشعب كلّه يعبد الفرعون ويسجد له . . وبنو إسرائيل يعبدونه أيضاً . . انه إله مصر .

      قال هارون بهدوء :


      انه ليس بإله .

      وقال موسى :

      ان الله وحده هو الربّ الذي ينبغي أن يُعبد . . هو الذي خلق الكون والوجود . . الله هو الذي خلق السحب وينزل المطر . . وهو الذي يخلق الشجر . .

      قال الفرعون وهو يحاول محاصرة موسى :

      لقد نسيت يا موسى أشياءً كثيرة . . نسيت اننا ربّيناك منذ كنت طفلاً رضيعاً .

      قال موسى :

      لقد كنت تذبح أطفال بني إسرائيل . . وتعذّب رجالهم وتقهر نساءهم . . وليست هذه بمنّة بعد أن عبّدت بني إسرائيل . .

      وماذا عن فعلتك التي فعلتها ثم هربت من مصر .

      لقد حصل ذلك خطأً لم أكن أنوي قتل الرجل . . وقد فررت لأنكم كنتم تخططون لقتلي . .

      ولقد اختارني الله رسولاً إليك . . فأرسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم .


      يتبع

      تعليق


      • #18
        صرخ الفرعون بغيط :

        لقد تجاوزت حدودك يا موسى . . أنت تتحدث في أشياء كبيرة لن يصدّقك بها عاقل . . ليس هناك من يصدّق بوجود إله واحد يمكنه أن يقوم بكل شيء . وهل هناك من يتخلّى عن سائر الآلهة . . ماذا تظنّ نفسك . . انظر إلى ثيابك الرثّة إنك لم ترتد شيئاً يستحق النظر . . اسمع يا موسى . . انك إذا انتخبت إلهاً غيري فسأقذفك في سجن مظلم .

        قال موسى :

        حتى لو جئتك بدليل على صدق رسالتي وكلماتي ؟

        قال الفرعون بغرور :

        دليل ؟! ما هو دليلك يا موسى هاته إن كنت صادقاً !

        ولم يفعل موسى شيئاً سوى أن ألقى عصاه أمام الفرعون وفجأة حدث شيء مدهش ذعر له الفرعون . . وأدهش الجميع . . انقلبت العصا إلى ثعبان مخيف . .

        راح يتلوّى فوق الرخام . . جمد الفرعون في مكانه . . وأصبح وجهه في صفرة الليمون . . وساد صمت رهيب سوى فحيح الثعبان المخيف . .

        ولأول مرّة شاهد الجميع الفرعون المغرور كاد يفرّ خائفاً . . ولكنه شاهد موسى يتقدم ليمسك بالثعبان ، وما أن مسّته يد موسى حتى عادت العصا إلى حالها الأول .

        وتحرّكت احقاد الفرعون راح يشعر بالخطر على عرشه . ان موسى يملك سلاحاً مخيفاً فماذا يفعل ؟!

        وهنا تظاهر الفرعون بان ما حصل لم يكن سوى سحراً .

        أدرك موسى ذلك فأدخل يده في جيبه وأخرجها توهجت اليد واضاءت المكان . . وكان ذلك آية عظيمة .

        لم يكن الفرعون غبياً وهو يشاهد ما حصل ، ولكنه كان مغروراً لا يفكر إلاّ بعرشه ومصالحه . . تقدم من موسى وقال :

        ماذا تريد يا موسى ؟!

        قال موسى بأدب الأنبياء :

        أن ترسل معي بني إسرائيل . . يكفي ما ذاقوه من العذاب والهوان والعبودية .

        فكر الفرعون بانه سوف يخسر الكثير من العمال الذين يعملون دون أجر كالعبيد . . وربّما يفكر موسى بتأليف جيش منهم يهدد سلطته وعرشه . . ومن الأفضل الاحتفاظ بهم كأسرى والاستفادة منهم في القيام بالأعمال الشاقة . .

        أراد الفرعون أن يثير مخاوف رجال دولته ويحرّضهم ضد موسى لهذا صرخ :

        ان موسى ساحر يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره !

        تبادل رجال الجولة النظرات الحائرة وتكلم هامان قائلاً :

        ان هناك الكثير من السحرة البارعين ، انهم يقومون بأعمال مذهلة . . انك تتآمر ضد القبط وتطردهم من أرض مصر . . سوف آتيك بسحر مثل سحرك فلنجعل بيننا موعداً لنا ولك .

        أجاب موسى بطمأنينة وإيمان :

        ليكن موعدنا يوم العيد في الضحى من أجل أن يشهد شعب مصر ذلك .

        هزيمة السحر :

        راح الفرعون يخطط لإلحاق الهزيمة بموسى ، فهناك من السحرة من يستطيع أن يفعل أشياءً عجيبة .

        وخلال تلك الفترة أشاع الفرعون بين أهل مصر أن يوم الزينة وهو يوم العيد الشعبي للمصريين في ذلك الزمان سيشهد مباراةً فريدة بين السحرة !

        أرسل الفرعون جنوده إلى أنحاء مصر وجمعوا له كبار السحرة في مصر كلّها .

        واجتمع الفرعون مع السحرة الذين جاءوا من أمكنة بعيدة وقريبة كان منظرهم بشعورهم الطويلة والحبال التي يحملونها والعصي التي بأيديهم مخيفاً . .


        شعر الفرعون ان هؤلاء سوف ينقذون عرشه من الخطر قال الفرعون :

        ان موسى يدّعي وجود إله غيري وقد تحدّاني بسحره . .

        فإذا استطعتم أن تهزموه فسوف أجعلكم من أصحاب النفوذ في الدولة . . ستكونوا حكاماً في مصر . .

        قال أحد السحرة وعيناه تبرقان .

        قال تكافئنا إن نحن غلبناه .

        نعم سوف أغرقكم بالذهب والجواهر . . غداً عندما تطلع الشمس سوف يجتمع الناس . . انه يوم الزينة والعيد . . أريد منكم أن تأتوا بسحر عجيب .

        قال كبير السحرة :

        اقسم بعزّتك أيها الفرعون الكبير باننا سنغلبه .

        وشعر الفرعون انه قد يمكنه أن يهزم موسى بالسحر .

        أشرقت الشمس وأضاءت فوق النيل ، وتألقت المياه وهي تنساب باتجاه الشمال .

        كان ذلك اليوم بهيجاً فهو يوم العيد . . يوم الزينة حيث يرتدي الناس أجمل ثيابهم ويخرجون للنزّهة .

        وكان ذلك اليوم مثيراً لأنه سيشهد مباراة بين السحرة لقد جمع الفرعون كبار السحرة في مصر ليقفوا في مواجهة موسى وهارون .

        البعض تصوّر أن انتصار السحرة سيكون انتصاراً للقبط على بني إسرائيل . . وكان الناس المقهورون من بني إسرائيل يتمنون انتصار موسى ليثأروا من الفرعون والظلم الذي نزل بهم . .

        أما موسى وهارون فكانا يفكران بانتصار الإيمان على الكفر . . انتصار المعجزة على السحر ، وانتصار الحق على الباطل .

        اجتمع آلاف الناس الذين جاءوا من العاصمة ومن غيرها من مدن مصر اجتمعوا ليشهدوا المباراة المثيرة .

        اصطف الجنود والحرّاس واخذوا أماكنهم ، وجاء فريق السحرة . .

        حيّا الجنود والحرس السحرة . . وانحنى الناس لهم اجلالاً كان الناس وفي ذلك الزمان يعتقدون بالسحر ، وكان للسحرة سلطة دينية على الشعب .

        وجاء موسى وأخوه هارون كانا يرتديان ثياباً صوفية ، وكان مع موسى عصاه العجيبة .

        وقفا في مقابل فريق السحرة الذي كانوا يحملون عصيّاً وحبالاً .

        ساد الصمت المكان وتبادل السحرة نظرات لها معنى . . سوف يهزمون موسى وأخاه وسيحصلون على الذهب والمجد والنفوذ الأكثر .

        وفي الأثناء قطع الصمت صوت البوق لقد وصل موكب الفرعون . .

        كان " منفتاح " يجلس على سرير الملك الذهبي يحمله الجنود ويحفّه الحرس .

        وألقى الجنود والناس والقادة والسحرة أنفسهم ساجدين للفرعون .

        سجد الجميع ما عدا اثنين فقط هما موسى وهارون . . انهما لن يسجدا لأحد إلاّ الله .

        وشعر الفرعون بالحق يملأ قلبه . . سوف ينتقم من موسى . . سيعلمه كيف يسجد للفرعون ملك مصر .

        عاد الصمت مرّة أُخرى وكان الجميع ينتظرون بدء المباراة بين موسى والسحرة !

        برقت عيون السحرة بالمكر قال كبير السحرة لموسى :

        يا موسى أما أن تلقي عصاك أو نلقي نحن !

        أجاب موسى :

        انني لست ساحراً . . انني احذركم مما تفعلون . . ان الله سيعاقبكم على ما تفترون .

        قال السحرة :

        والآن من يلقي أولاً ؟!

        قال موسى وهو يشدّ قبضته على عصاه :

        القوا أنتم أولاً .

        ألقى السحرة حبالاً وعصيّاً كثيرة وراحوا يتمتمون بكلمات غامضة ويأتون بحركات مخيفة .

        وساد المكان جوّ رهيب وخيل للجميع ان الساحة قد امتلأت بالافاعي والحيّات ! وابتسم الفرعون لما انجزه السحرة من عمل كبير . .

        شعر موسى بالخوف ليس من تلك الافاعي الخيالية . . بل من أن يؤمن الناس أكثر بالسحر والخزعبلات . .

        حيّا هامان السحرة وكان هذا بداية للجنود بأن يطلقوا صيمات الإجلال لسحرة الفرعون الكبير !

        الله سبحانه لم يترك رسوله وحيداً قذف في قلب عبده :

        لا تخف انك انت الأعلى . . والق ما في يمينك .

        نظر موسى إلى السماء الزرقاء الصافية ، وألقى عصاه . .

        وحدث أمر لم يكن ليخطر على بال أحد . . لقد تحوّلت العصا فجأة إلى ثعبان هائل . . تلوّى الثعبان وراح يبتلع الحبال والعصيّ وكل تلك الأفاعي الخيالية !!

        كان السحرة الذين أحضرهم الفرعون من كبار السحرة في مصر ، ولم يكن هناك من هو أحذق منهم في السحر والشعوذة ولهذا فهم أعرف من غيرهم بماهية السحر . .

        ان الحبال والعصيّ لم تتحول إلى أفاعٍ أو حيّات بل هكذا خيل للناس لأنهم يسحرون عيون البشر فقط .

        عندما رأى السحرة ما فعله موسى وكيف تحولت العصا إلى ثعبان حقيقي لا يتلوّى فقط بل أنه يبتلع العصيّ والحبال خشعوا لله ، وأدركوا أن موسى ليس كما ذكر لهم الفرعون . .

        لقد خدعهم ، إن موسى ليس ساحراً ، انه رسول من الله ربّ العالمين .

        لهذا سجد السحرة جميعاً لله . . سجدوا وهتفوا من كلّ قلوبهم :

        آمنا بالله رب العالمين . . ربّ موسى وهارون .

        كاد الفرعون منفتاح ينفجر من الحقد والغيظ . . ان سجود السحرة لإله غيره يعني هزيمته أمام موسى .

        يعني هزيمة السحر أمام ما قام به موسى من عمل خارق !

        ان عرشه في خطر لهذا صرخ بصوت مخيف :

        أتؤمنون بموسى قبل ان اسمح لكم . . انني اعرف خدعتكم ا ن موسى هو الساحر الأكبر الذي علمكم السحر . . سوف أنتقم منكم . . سوف أقتلكم أصلبكم على جذوع النخيل ، وأجعل منكم عبرة لغيركم .

        أصبح السحرة في لحظة واحدة مؤمنين بالله أعمق الإيمان فقالوا بصوت واحد :

        اننا لا نخاف وعيدك وتهديدك . . أنت الذي أجبرتنا على السحر والآن عندما رأينا بأعيننا معجزة موسى . . اكتشفنا ان الرب الحقيقي هو الله . . أما أنت فبشر مثلنا ولن نسجد لك بعد الآن .

        قال الفرعون بغيظ :

        سوف تعرفون من الأقوى . . سأقتلكم جميعاً .

        قالوا بشجاعة :

        لن نختار سوى الإيمان بالله الواحد الأحد . . رب السماوات والأرض . . إنّ الله سيغفر لنا خطيئتنا . . وانك لن تستطيع من عمل شيء إلاّ في هذه الدنيا الزائلة . . اما الآخرة فهي لنا . . للناس المؤمنين . .


        التفت أحدهم وخاطب الناس قائلاً :

        ان ما قام به موسى ليس سحراً انه آية من آيات الله . .

        أشار الفرعون إلى الحرّاس أن ينقضوا عليهم ، وهكذا سيق الرجال المؤمنون إلى ساحة الإعدام .

        بعض الناس الذين شاهدوا تلك المعجزة آمن بالله ولكنه كتم إيمانه . . وكان من بين الذين آمنوا برسالة موسى رجل من آل فرعون يقال له " حزقيل " كما آمنت زوجة الفرعون وتدعى " آسية " .

        وانفض الناس ذلك اليوم وعادوا إلى منازلهم وهم يتحدثون عما شاهدوه من عمل خارق . . وعرف شعب مصر وبنو إسرائيل ان موسى وهارون يتحديان الفرعون ويدعوان إلى عبادة الله الواحد . . وكانوا يتعجبون من شجاعتهما ومن عجز الفرعون عن فعل شيء تجاهما .

        كان مطلب موسى ان ينقذ بني إسرائيل من الذل والعبودية ويأخذهم إلى خارج مصر . . إلى مكان يستطيعون فيه أن يعبدوا الله بعيداً عن ظلم الفراعنة .

        وكان الفرعون منفتاح يرفض ذلك في كل مرّة لأنه لا يريد أن يخسر آلاف العبيد الذين يعملون من الصباح إلى المساء دون أجر .

        وفي تلك الفترة أصبح موسى زعيماً وقائداً لبني إسرائيل ، ورأى فيه المستضعفون الرجل الذي سينقذهم من الظلم والقهر والعبودية .

        عاش موسى مع قومه في جنوب العاصمة ممنفيس . . في الأحياء التي يسكنها الفقراء . . ومن هناك كان يقود المقاومة ضد الفرعون .

        لقد حصلت خلال تلك الفترة قصص كثيرة . . كثيرة ومثيرة ، وكان من بين تلك القصص قصة فريدة . . انها القصة التي تتحدث عن نهاية قارون . . قارون الذي بغى على موسى . . قارون الذي اغترّ بكنوزه وذهبه . . ما كانت قصته وكيف كانت نهايته ؟

        الصراع :

        كان لهزيمة السحر أمام معجزة الأنبياء أثرها الكبير في بث روح الإيمان ، فقد هزّت النتيجة مصر كلّها وأصبحت حديث الناس . .

        وراح الفرعون المغرور العنيد يخطط لإحباط محاولات موسى في نشر دين التوحيد الإلهي .

        أصبح لموسى مؤيدين داخل القصر من آل فرعون انفسهم حتى زوجته آسية أعلنت بشجاعة إيمانها .

        كان منفتاح انانياً لا يحب سوى نفسه لهذا لم يحترم زوجته ملكة مصر ولم يرحمها أيضاً .

        استدعى الفرعون زوجته وراح يهددها ولكنها لم تتراجع فأمر جلاوزته بتعذيبها اشدّ العذاب . . غير أن آسية التي ذاقت حلاوة الإيمان لم تتراجع ولم تنهزم ، نظرت إلى السماء وقالت :

        { رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ }.

        وظلّت آسية تقاوم العذاب والآلام إلى أن اغمضت عينيها بسلام والتحقت بملكوت السماء وعندما سمع موسى بالنبأ تأثر بشدّة . . لقد ذهبت آسية شهيدة الإيمان بالله .

        وراح الفرعون يصبّ العذاب على بني إسرائيل ويقتل المؤمنين .

        وكان المستضعفون من بني إسرائيل يبكون فيأتون إلى موسى ويقولون :

        أننا نتعذب منذ سنين طويلة من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا .

        وكان موسى يقول لهم مصبّراً .

        استعينوا بالله واصبروا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده وتأكدوا ان الجولة الأخيرة ستكون من نصيب المؤمنين .

        كان الفرعون يخطط لقتل موسى وكان يظن انه إذا قتل موسى فأن عرشه سيبقى في مأمن من الخطر .

        وكان هناك رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه لم يكن يعرف أحد بان ذلك الرجل القبطي الذي له نفوذ في الدولة مؤمن بموسى .

        كان يتظاهر بزيارة المعابد . . ولم يكن يتحدث ضد الفرعون . . ومع ذلك فقد كان يعمل على نصرة موسى ودين الله . . .

        عندما يرى مؤامرة تحاك ضد دين الله وضد النبي فانه يواجه ذلك باسلوب ذكي . .

        ذات يوم اجتمع الفرعون مع رجال دولته وكان الرجل المؤمن حاضراً طرح الفرعون فكرة قتل موسى . .

        بعض الرجال أيّدوا فكرته . . وبعض اعتصم بالصمت أمّا الرجل المؤمن فراح يحذّرهم من عواقب ذلك قال لهم :

        كيف تقتلون رجلاً لم يتركب جريمة سوى الإيمان بالله . .

        انه لم يدّع رسالته كاذباً لقد جاء إليكم بالادلّة والبراهين أنسيتم عصاه ؟ أنسيتم هزينة السحرة أمامه ؟! . أنسيتم كيف انقذكم من السيول ؟من الضفادع ، من الجراد ، وفي كل مرّة كنتم تتضرّعون إليه بأن ينقذكم لتؤمنوا برسالته وعندما يُرفع عنكم البلاء تعودون إلى عنادكم . .

        انني أخشى عليكم من انتقام الله . . أخشى أن يكون مصيركم كمصير قوم نوح وعاد وثمود وأقوام أخرى جاءوا بعدهم .

        انني أخشى عليكم من عذاب يوم البعث والمعاد . .

        لا أدري لماذا هذا الشك في دين الله . . لقد كنتم تشكّون برسالة يوسف وعندما توفي قلتم لن يبعث الله بعده رسولاً . . إنّكم لا تريدون الهداية ولهذا فلن يهدي الله قوماً يريدون الضلال !

        كانت كلمات حزقيل مؤثرة . . سكت البعض وراح البعض الآخر ينظر إلى الفرعون . .

        تظاهر الفرعون بالسخرية والتفت إلى وزيره هامان وقال :

        أريد أن تبني لي صرحاً عالياً . . أريد أن أنظر في السماء . . لعلّي أطلع على إله موسى . . مع انني أظنّه كاذباً في ادعائه .

        انسحب هامان من الاجتماع لتنفيذ رغبة الفرعون وهكذا انفض الاجتماع والحيرة تسود على وجوه رجال الدولة .

        فيما راح الفرعون يخطط لمؤامرة أخرى .

        قارون :

        كان قارون رجلاً من بني إسرائيل رزقه الله ثروة كبيرة ، وبدل أن يشكر الله ويساعد الفقراء راح يتبختر ويتكبّر .

        كان قارون ثرياً يملك الكنوز ، فغرّته أمواله من الذهب والفضة وراح يتكبّر على غيره . . ويظنّ ان الذهب والشراء هو مصدر القوّة .

        كان يتشبه بالفرعون في ما يلبس ويرتدي .

        الناس المؤمنون كانوا ينصحون قارون الاّ يتكبر ويغترّ بذهبه وفضته وكنوزه . . كانوا يقولون له : لا تنس يوم القيامة . . لا تنس عالم الآخرة . . اعمل لآخرتك .. انفق بعض أموالك على الفقراء واشكر الله على ما آتاك . .

        كانوا يقولون له : احسن إلى الناس كما احسن الله إليك . . ولا تنشر الفساد في الأرض .

        غير أن قارون كان يجيب متكبّراً :

        أنني جمعت ثروتي بيدي . . انني أعرف كيف أحصل على المال . . ان نبوغي العلمي هو وراء ثروتي . .

        بعض الناس فتنوا بقارون أصبحوا مؤيدين له ووقفوا ضد نبيهم موسى ( عليه السلام ) كانوا يطمعون بالحصول على بعض المال . .

        وذات يوم ارتدى قارون ثياباً مزركشة بالذهب ، وخرج يتبختر بها أمام الناس .

        بعض الفقراء قالوا : ما أسعده وأوفر حظه ؟ يا ليت لنا مثل ما اُوتي قارون انه لذو حظ عظيم .

        ولكن الناس المؤمنين قالوا لهم : ان ثواب الله خير لمن آمن وعمل الصالحات .

        وجاء موسى لينصح قارون ويعظه قال له : لا تبغ الفساد في الأرض . . لا تغترّ بأموالك وثروتك .

        ولكن قارون كان مغروراً . . وكان يحقد على موسى .

        ولهذا راح يتآمر على النبي ، وذات مرّة اتهمه بافتراءات باطلة . . وجمع بني إسرائيل وراح يشيع على موسى تلك الاتهامات .

        وغضب الله على قارون المغرور . . وتجسد ذلك على وجه موسى ( عليه السلام ) الذي دعا الله أن ينتقم من قارون .

        وحدث شيء رهيب . . ان الأرض تهتز تحت قصر قارون . . كان قارون ينظر إلى قصره وهو يهتز أصيب بالذعر وأراد أن يهرب ولكن الأرض قد ابتلعته هو الآخر . وفي لحظات غاب قارون وقصره وكنوزه وأصبح عبرة لغيره . .

        الذين تمنّوا أن يكون لهم مثل ما كان لقارون ندموا واكتشفوا ان العمل الصالح أفضل من كنوز الذهب ، لأن العمل الصالح ينفع الإنسان في الدنيا والآخرة ، أما الذهب . . امّا التكبر والغرور والكنوز ستعود على صاحبها بالوبال والخسران .

        الخلاص :

        راح الفرعون المغرور يخطط للقضاء على موسى وعندما رأى ان رجال دولته ورأى الأقباط يفكّرون في دعوة موسى وبرسالته ، وما فعله من معجزات عندما رأى الفرعون كل ذلك ، وضع خطّة ليضمن بها تأييد المصريين له .

        أمر بأن تضع له منصّة كبيرة على شاطئ النيل بحيث تنساب المياه تحتها ، وأذاع بانه سوف يلقي خطاباً هامّاً .

        وفي الموعد المقرر . . اصطف الجنود والحراس على جانبي الطريق الذي يؤدي إلى المنصة . .

        وضع فوق المنصّة العرش الذهبي ، ووقف الكهنة إلى جانبيه . . واحتشدت الجماهير أمام المنصة وراحت تنظر إلى العرش الذهبي بانبهار .


        وبعد ساعة وصل موكب الفرعون . . وكان هذه المرّة يقف فوق محفة يحملها جنود أشداء . . كان يرتدي ثياباً كتانية مزركشة بالذهب ومحلاّة بالجواهر والأحجار الكريمة . . على رأسه التاج المزدوج الذي يرمز إلى انه يحكم مصر العليا و السفلى .

        الموكب يمشي في بطء واستكبار ، دون ضجيج . . هكذا أراد الفرعون .

        ومن على المحفة انتقل الفرعون إلى المنصّة العالية وجلس على عرشه الذهبي . .

        وافتتنت الجماهير بمنظر الفرعون . .

        وبدأ الفرعون خطابه الهام قائلاً :

        انني إله مصر الأعلى . . لي ملك مصر . . الأنهار تجري من تحتي . .

        انني أقود الأرض والشعب إلى المجد . . لقد طردنا الأعداء وبنيت السدود في الشرق . . ليعيش الشعب في أمان .

        سوف اقضي على العدوّ في داخل مصر . . سأبيد شعب إسرائيل . . انهم شرذمة قليلون . . وهم يريدون إخراجكم من أرض مصر . . فدعوني اقتل موسى وليدع ربّه !

        عم الحماس نفوس الناس . . راحت الجماهير تحيّي الفرعون إله مصر الأكبر !

        وفي اليوم التالي تأهب جنود العاصمة لتنفيذ خطّة الفرعون في إبادة بني إسرائيل .

        وراح الجنود المسلحون بالرماح ينتزعون الأطفال الأبرياء من أحضان الأمهات ويلقون في النيل .

        التماسيح ذات الرؤوس المثلثة تلتهم الأطفال الأبرياء وكانت الأمهات يصرخن و يسنجدن بموسى . .

        امّا الرجال والشباب فكانوا يساقون إلى الأعمال الشاقة في بناء المدن الجديدة !

        وعندما اشتدّت المحنة . . وتطلع بنو إسرائيل إلى السماء يستمدّون منه النصر أوحى الله إلى رسوله موسى أن يقود بني إسرائيل للفرار من مصر ليلاً .

        وفي منتصف إحدى الليالي تأهب بنو إسرائيل للفرار من مصر وكان على موسى أن يقود شعباً كاملاً في اخطر عملية للإنقاذ الإنساني !

        كان موسى مؤمناً بان الله سينقذ الناس المؤمنين ، لهذا كان يقود امّته باتجاه الشرق .

        عبرت الجموع نهر النيل ثم بدأت رحلتها الخطيرة باتجاه خليج السويس .

        كان موسى ( عليه السلام ) يقود الجموع في ذات الطريق التي فرّ من خلالها إلى مدين عندما كان شاباً في الثلاثين من عمره .

        وفيما كانت الجموع تقطع المسافات باتجاه الشمال الشرقي ، استيقظت العاصمة " ممفيس " على دويّ المفاجأة !

        لقد فرّ بنو إسرائيل من مصر !!

        برق الغدر في عيني الفرعون الذي أصدر أوامره بالزحف العسكري ومطاردة بني إسرائيل .

        كانت خطة الفرعون أن يحاصر بني إسرائيل في الصحراء ويقتل موسى وهارون ليعود بالأسرى مرّة أخرى ليكونوا عبيداً في مملكته الكبرى .

        وهكذا انطلقت عشرات المركبات الفرعونية التي تجرّها الخيول في أخطر مطاردة لشعب آمن بالله ورسالته .

        اهتزّت الأرض تحت سنابك الخيول وأقدام الجنود وكان الفرعون منفتاح يقود مركبته بنفسه ويتقدم جيشه المؤلف من عشرات الآلاف من الجنود الأشداء .

        وانفلق البحر :

        من بعيد لاحت عشرات المركبات التي تجرّها الخيول وهي تنهب الأرض .

        صاح بنو إسرائيل يا لحظنا البائس . . سوف نموت في هذه الأرض . ليس هناك أمل في النجاة .

        بكى الأطفال ، وصاحت النساء . . وعمّ الخوف .

        المركبات الحربية تقترب .

        وصرخ أحدهم :

        إنّا لمدركون .

        ونظر موسى إلى السماء الصافية وقال :

        كلاّ ! إن معي ربي سيهديني .

        وفي تلك اللحظات المصيرية هبط جبريل ليبلغه أمر السماء :

        اضرب بعصاك البحر .

        وتقدّم موسى إلى البحر ووقف فوق صخرة غارقة في الماء ثم أهوى بعصاه على المياه الزرقاء .

        فجأة حدث أمر مدهش . . البحر يتحول إلى نصفين كل نصف كالجبل الشاهق وبينهما واد طويل ، ولأول مرّة أضاءت الشمس الرمال في تلك الأعماق السحيقة لقد كان ما حصل معجزة كبرى !

        كيف يمكن لإنسان أن يعمل ذلك ؟! انه قدرة الله المطلقة . . قدرة الله التي لا تعرف الحدود .


        وقفت المياه مثل سفوح الجبال ! واندفع موسى إلى الوادي الطويل الذي شطر البحر شطرين ومن ورائه بنو إسرائيل .

        وراح موسى وإلى جانبه أخوه هارون يشقان طريقهما بين سفوح المياه !

        وشعر بنو إسرائيل بالأمل والخلاص من الفرعون الظالم ، وأدركوا ان الله سينقذهم وسينجيهم كما وعدهم موسى .

        النهاية :

        وصل الفرعون منفتاح بجيوشه الساحل ورأى المعجزة العظيمة بعينيه . . ورأى الجنود أيضاً ذلك ولكن أحداً لم يراجع نفسه قليلاً ويفكر برسالة الله ولم يفكّر واحد منهم بالإيمان بموسى رسولاً من الله .

        برق الحقد في عيني الفرعون وهو يرى بني إسرائيل في منتصف الطريق العجيب !

        ألهب ظهر حصانه بالسوط ، واندفعت مركبته في الطريق وفعل الجنود أيضاً ذلك ، كانوا عشرات الآلاف من الجنود الأشدّاء الذين لا يعرفون غير عبادة الفرعون وتنفيذ إرادته .


        وصل بنو إسرائيل الساحل في الجانب الشرقي من خليج السويس ، ووقفوا ينظرون بقلق إلى جيش الفرعون وقد أصبح في منتصف الطريق .

        وفي تلك اللحظات حدثت المعجزة الأخرى عندما انهارت تلك السفوح المائية ، وكان الصوت الذي دوّى إثر ارتطام الجبال المائية رهيباً !

        وهاجمت الأمواج المندفعة من الجهة اليسرى واليمنى عشرات الآلاف من المعتدين الذين استكبروا في الأرض ولم يؤمنوا برسالة الله .

        ووجد الفرعون نفسه وسط الأمواج الغاضبة وشعر بذلّه وضعفه ، وانتهى غروره الفارغ فصاح :

        { آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }.

        وسمع الفرعون وهو يشرب المياه المالحة صوتاً يجيبه :

        { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } لقد كنت طوال تلك السنين تحارب الحق والعدل وتستعبد الناس ، وترتكب المذابح ، تكفر بآيات الله .

        وأدرك الفرعون أنه يعيش النهاية البائسة ، وسمع ذات الصوت يخاطبه :

        { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }.

        وامتلأت بطن الفرعون بالمياه المالحة وابتلعته الأمواج الغاضبة التي راحت تقذف به إلى الساحل بعد أن سحقته .

        غرق الفرعون الجبّار ، وغرق جميع جنوده الأشدّاء ، وسجد موسى وهارون لله .

        ولكن ماذا حصل بعد ذلك ما هو مصير جثة الفرعون ؟ لقد ظلّ السرّ خافياً تماماً طوال القرون المنصرمة .

        مرّت مئات السنين وبعدها ظهرت الحقيقة القرآنية تؤيدها الآثار التاريخية .

        المومياء :

        قذفت الأمواج الفرعون إلى الساحل جثة هامدة وانتهى بذلك فصل مرير من الظلم .

        وصنع المصريون في ذلك الوقت المومياء للفرعون منفتاح ليحمل إلى وادي الملوك في جنوب مصر وليدفن في مقبرة صخرية وهكذا ظل السرّ دفيناً طوال هذه القرون .

        وقبل مئة عام بالضبط ، أي في عام 1898 عثر أحد علماء الآثار وأثناء التنقيب في وادي الملوك على مومياء منفتاح بن رمسيس الثاني حيث نقلت إلى القاهرة .

        وفي 8 تموز 1907 حلّت الأربطة عن وجهه ورقبته .

        وجثة الفرعون حالياً موجودة إلى الآن في متحف القاهرة يشاهدها الزوار يومياً من وراء حاجز زجاجي .

        وفي حزيران سنة 1975 الحكومة المصرية بإجراء فحوصات جديدة للمومياء .

        وظهرت النتائج المذهلة تؤكد أن الفرعون مات غريقاً ، وانه تعرّض لرضوض عنيفة جدّاً قبل أن تبتلعه المياه .

        وستبقى هذه المومياء اعظم شاهد مادّي يؤكد الحقيقة القرآنية الخالدة في قوله تعالى مخاطباً الفرعون الجبّار وسط لجّة الأمواج والمياه :

        { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }[2].

        ولكن هل انتهت محنة سيدنا موسى وأخيه هارون ؟ كلاّ لقد غرق الفرعون الجبار ووصل بنو إسرائيل الشاطئ بسلام .

        ولكن محنة موسى ( عليه السلام ) لم تنته ، فقد بدأ فصل جديد من صراعه مع الباطل مع عناد بني إسرائيل ، مع جهلهم وظلمهم وانحرافهم ، ووقعت في شبه جزيرة سيناء حيث عاش بنو إسرائيل الكثير من القصص .

        فالى الكتاب التالي من هذه السلسلة لنتابع معاً قصة سيدنا موسى وأخيه هارون .

        في جزيرة سيناء

        عبر بنو إسرائيل البحر . . النساء والأطفال والشيوخ . . ملأت المعجزة قلوبهم بقدرة الله . .

        لم يروا في حياتهم معجزة كهذه . . كيف تقف المياه كالجبال شامخة ؟!

        كيف يتحول قاع البحر الغارق في الظلام إلى وادٍ طويل يتألق تحت ضوء الشمس ؟!

        لو كانت في قلب الفرعون " منفتاح " ذرّة من الحكمة ما اقتحم الوادي العجيب . . لقد اعماه الغرور ، لم يفكر في آيات الله ومعجزات رسوله موسى . . لم يفكر في مستقبل بلاده وشعبه . . خدع الناس بالمظاهر الزائفة . .

        عشرات الألوف من الجنود لا يعرفون سوى عبادة الفرعون وتنفيذ أوامره . .

        وقف سيدنا موسى وإلى جانبه شقيقه هارون وبنو إسرائيل . . وقفوا ينظرون إلى الفرعون وهو يمتطي مركبته الحربية ويلهب ظهر حصانه بالسوط اندفع الحصان الملكي واندفعت وراء مئات المركبات الحربية . .

        فجأة انهارت السفوح المائية ، ودوّى صوت رهيب صوت ارتطام الأمواج الهائلة .

        انفضت الأمواج من الجانبين لتسحق الفرعون الظالم ،وتسحق جنوده .

        وكانت عاقبة الفرعون منفتاح ان تتقاذفه الأمواج وتسحقه وتبتلعه إلى الأعماق المظلمة .

        لقد شهد بنو إسرائيل اعظم معجزة في التاريخ الإنساني ورأوا بأعينهم قدرة الله اللانهائية .

        ورأى المؤمنون في ذلك الصباح حصاناً أبيض كالغيمة الناصعة لا يكاد يلامس الأرض حتى يطير . . ورأى رجل من بني إسرائيل ان التراب الذي يمسّه حافر الحصان الأبيض يتحرك . . يموج . . أخرج منديله وأخذ قبضة من ذلك التراب وصرّها في المنديل كان يريد أن يتبرك بذلك التراب .

        سكن البحر بعد أن ابتلع الجيش الظالم ، هدأت الأمواج . . هدأت بعد أن كانت غاضبة هدأ البحر بعد أن ابتلع الظلم . .

        فرح بنو إسرائيل . . فرحوا بنجاتهم من الظلم والعدوان كانوا يفكرون بغد مشرق وحياة آمنة .

        وهكذا سار موسى وخلفه بنو إسرائيل إلى مكان في شبه جزيرة سيناء .


        هل انتهت محنة موسى ؟ . لقد نجح موسى ( عليه السلام ) في إنقاذ بني إسرائيل من الظلم والعدوان . . من العمل الشاق والعذاب . . من الذبح والسجن . .

        ولكنَّ بني إسرائيل عاشوا عشرات السنين في مصر تعوّدوا على الوثنية وتعلموا عبادة الأوثان والفراعنة . .

        من أجل هذا كان على سيدنا موسى أن يعلّمهم كيف يعبدون الله الواحد . . الله ربّ كل شيء . . لا معبود سواه ولا إله غيره . .

        الظامئون :

        سار بني إسرائيل وسط رمال الصحراء وأصبحوا قريباً من المنطقة الجبلية التي تقع على شاطئ البحر الأحمر بين خليج العقبة وخليج السويس .

        كانوا يبحثون عن نهر صغير عن نبع من الماء . . شعروا بالظمأ . . بكى الأطفال من العطش . .

        كان الحرّ شديداً . . الناس المؤمنون كانوا يؤمنون برسالة موسى ويثقون بالله . . ان الله لا ينسى عباده . . لهذا كانوا ينظرون إلى موسى .

        بعض الناس كانوا يخافون ان يموتوا من العطش . . الأرض هنا جرداء خالية من الماء .

        كان بنو إسرائيل اثنتي عشرة طائفة . . كل قبيلة كانت تسير لوحدها وكان الجميع يسيرون خلف موسى . . وكان موسى يتوكأ على عصاه ويسير واثقاً من رحمة الله .

        وفي منعطف جبلي وبينما كان الأطفال والنساء والشيوخ يئنون من العطش ، هبط الملاك من السماء فأوحى إلى موسى :

        اضرب بعصاك الحجر !

        وتقدم موسى ( عليه السلام ) إلى صخرة في سفح الجبل فأهوى عليها بعصاه .

        وحدثت المفاجأة انشقت الصخرة وتدفقت المياه باردة عذبة . .

        انفجرت الصخرة الكبيرة عن اثنتي عشرة عيناً اتجهت كل طائفة من بني إسرائيل إلى النبع الذي يخصّها . . وظهرت في السماء غيوم بيضاء حجبت أشعة الشمس اللاهبة .

        الروح الوثنية :

        وسار بنو إسرائيل إلى مكان فسيح ليقيموا فيه . في الطريق صادفوا أُناساً وثنيين ، كانوا يدورون حول تماثيل حجرية ويتمتمون بكلمات مبهمة ، وكانوا يقرءون بعض الطقوس الوثنية .


        قال بعض الرجال في بني إسرائيل لموسى ( عليه السلام ) :

        { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }!!

        شعر سيدنا موسى بالغضب من هؤلاء الذين يرون قدرة الله ثم يبحثون عن حجر يعبدونه من دون الله !

        قال لهم موسى ( عليه السلام ) وهو يحاول أن يعلمهم دين جدّه إبراهيم :

        { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }. ان هؤلاء الوثنين على باطل في ما يعملون . . كيف تريدون مني أن ارشدكم إلى إله غير الله الذي فضلكم على العالمين ؟!

        الناس من بني إسرائيل عاشوا في مصر عشرات السنين فتحوا عيونهم ورأوا القبط يعبدون الفرعون ويعبدون الحيوانات المفترسة ويعبدون التماثيل ، لهذه تأثروا بالوثنية ، ولكنهم ظلّوا يدّعون انهم على دين إبراهيم الخليل .

        لهذا قالوا لموسى ( عليه السلام ) :

        كيف نعبد إلهاً لا نراه .

        قال لهم :

        لقد رأيتم آياته ، لقد أنقذكم من فرعون وهامان ورأيتم الماء العذب البارد يتدفق من قلب الصخور الصمّاء .

        سكت الرجال من بني إسرائيل . ان ما يسمعونه حقيقة كبرى ، ولكن قلوبهم لم تطمئن بعد .

        المنُّ والسلوى :

        وانزل الله عليهم المنّ ، كان يشبه الثلج يهبط من الفضاء فوق الشجيرات الشائكة ، وفي الصباح كان بنو إسرائيل يرونه ناصعاً متألقاً فوق الاشواك ، فيجمعونه ، ويتناولونه وله طعم الحلوى الشهية .

        وامّا السلوى فهو نوع من الطيور التي تطير على ارتفاع شاهق ، ولكن الله أراد أن يكرم بني إسرائيل فكانت طيور السلوى تطير على مقربة وكانت تتساقط أمامهم وهكذا رزق الله بني إسرائيل الأمن والمياه والطعام ، كل ذلك من أجل أن يدركوا حلاوة الإيمان بالله سبحانه .

        الميقات :

        وفي كل مناسبة وغير مناسبة كان بنو إسرائيل يطلبون من موسى أن يروا ربّهم . .

        لقد اعتاد بنو إسرائيل على الوثنية . . على الإيمان بالاشياء المحسوسة فقط . .

        أراد موسى أن يقوّي الإيمان في قلوبهم فاختار من قومه سبعين على أن يلحقوا به في جبل الطور .

        قال موسى لأخيه هارون :

        أنت خليفتي على بني إسرائيل يا أخي فاتبع طريق الصلاح ولا تتبع طريق المفسدين .

        وكان الله سبحانه قد واعد رسوله موسى أن يمكث في الميقات شهراً كاملاً .

        جاء موسى للميقات وكلّمه الله سبحانه .

        وقال موسى بقلب خاشع .

        { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } . . " يا ربّ مكنّي من النظر إليك " قال الله سبحانه لرسوله :

        { لَن تَرَانِي } . . ان كل الكائنات لا تستطيع رؤيتي . . ولكن انظر إلى الجبل . . فإذا ثبت الجبل في مكانه فانك تستطيع رؤيتي .

        والتفت موسى إلى جبل شاهق . . مرّت لحظات الانتظار . . فجأة حدث شيء رهيب . . غمر نور شديد الجبل ، وانفجرت الصواعق المدمرة ، وكان دوي الرعود مخيفاً ، وتشظّى الجبل !!

        لقد دكّت القدرة الإلهية ذلك الجبل العظيم ، وكانت الصخور العملاقة ، تتساقط بعنف فتهتز الأرض من تحت الأقدام . .

        وهوى موسى فوق الأرض وقد فقد وعيه . . ومضى زمن ثم استيقط موسى ( عليه السلام ) من هول الصدمة الرهيبة ورأى الجبل وقد تهاوى . . ورأى موسى بعينه قدرة الله ، وأدرك ان الله لا يرى بالعين بل يرى بقلب الإنسان المؤمن .

        وطلب موسى ( عليه السلام ) من الله سبحانه شريعة تنظم حياة الناس وتسعدهم في الدنيا وفي الآخرة . .

        من أجل هذا وعد الله رسوله بكلماته المقدسة ، وامتد الميقات أكثر من شهر .

        فماذا حدث بعد أن ودع موسى قومه بني إسرائيل ؟

        الفتنة :


        قال الله لرسوله :

        لماذا جئت قبل قومك .

        أجاب موسى : انهم على أثري وقد أسرعت إليك لترضى .

        قال الله سبحانه : ان قومك قد فتنوا بالعجل ، وقد أضلّهم السامري .

        شاعت بين بني إسرائيل ان موسى ذهب للقاء الرب . . موسى ذهب ليبحث عن الربّ . . موسى ذهب ليبحث عن الربّ . . يفتش عن الإله !

        وكان هناك رجل من بني إسرائيل يدعى " السامري " كان ذلك الرجل قد رأى يوم العبور حصاناً سماوياً يلامس الأرض بحافر ، وكان التراب الذي يلامسه الحافر يتحرك . . لهذا أخذ قبضة من التراب وصرّها في المنديل . .

        عندما ذهب موسى للقاء الله في الجبل واستماع كلماته ، استغل السامري تلك الفرصة ليصنع عجلاً ذهبياً .

        راح يطوف على بني إسرائيل ويجمع منهم الحلي الذهبية والفضية وبعض الجواهر والأحجار الثمينة ، وبعض الحلي المصنوعة من خشب الأبنوس .

        قال السامري انه سيصنع لهم إلهاً يعبدونه كما تفعل سائر الأقوام .

        كان بنوا إسرائيل قد عاشوا مع الوثنيين وتأثروا بعقائدهم ، لهذا استجابوا لفكرة السامري .

        صنع السامري عجلاً ذهبياً ، ثم قذف في جوفه التراب الذي احتفظ به يوم العبور .

        فجأة صدر صوت من داخل العجل يشبه الخوار ، وضع السامري العجل فوق صخرة واجتمع بنو إسرائيل ينظرون إليه في خشوع ، وصاح السامري : هذا إلهكم وإله موسى .

        وعنما اكتشف هارون تلك المؤامرة جاء إليهم وحذّرهم ، قال لهم :

        يا قوم انما فتنتم به وان ربّكم الرحمن ، فاتبعوني وأطيعوا أمري يا قوم انما هو جماد لا يضر ولا ينفع . . انظروا انه لا يكلمكم ولا يحل لكم شيئاً من مشاكلكم .

        لم يسمع بنوا إسرائيل نصائح هارون وقالوا :

        سوف نستمر في عبادته إلى أن يعود موسى .

        عودة موسى ( عليه السلام ) :

        واتمّ الله ميقات رسوله موسى أربعين ليلة وآتاه الألواح .

        الله سبحانه كتب له في الألواح المواعظ وبيّن شريعته . .

        أوضح لهم طريق السعادة في الدنيا والآخرة .

        وعاد موسى ( عليه السلام ) يحمل الألواح المقدسة إلى قومه . . من أجل أن سيروا على شريعة الله سبحانه .

        الله سبحانه أخبره بفتنة السامري وعبادة العجل . . وشعر موسى بالغضب يتفجّر في قلبه .

        كيف يمكن للإنسان أن يعبد صنماً يصنعه بيده ويترك عبادة الله العظيم الكبير القويّ الذي وهب الناس الحياة والرزق وأرسل إليهم الأنبياء يخرجونهم من ظلام الجهل إلى نور الإيمان ؟!


        ورأى موسى من بعيد قومه يسجدون لعجل ذهبي ، ويتضرعون إليه . فتضاعف غضبه ، وألقى الألواح بقوّة ، واتجه إلى أخيه هارون ، وأمسك برأسه وجرّه من لحيته وصاح به في غضب :

        ماذا فعلت يا هارون ؟! لماذا تركتهم يفعلون هذه الأباطيل ؟! هل عصيت أمري يا هارون ؟

        قال هارون وهو يتألم من أجل أخيه .

        لقد نصحتهم . . قلت لهم انه فتنة لكم . . لقد كادوا يقتلونني . . حاولت أن أفعل شيئاً ولكني خفت أن تقول لي فرّقت بين بني إسرائيل ولم تنتظر رأيي وأمري .

        والتفت موسى إلى السامري :

        ما خطبك يا سامري ، ما هذا الذي صنعته لبني إسرائيل أتريد أن تعيدهم إلى عبادة الأصنام ؟

        قال السامري :

        لقد رأيت أثر الملاك على التراب وأخذت حفنة منه ثم وسوست لي نفسي أن اُلقيه في جوف العجل الذهبي .

        قال موسى بغضب :

        أهذا هو إلهك اذن ؟! انظر كيف سأحرقه أمامك .

        وجمع المؤمنون الحطب حول العجل الصنم واشعلوا النار ، فالتهمت العجل في لحظات .

        أراد سيدنا موسى أن يرى بنو إسرائيل ان الأوثان لا قيمة لها ، وأن الله سبحانه هو القادر وهو الإله الحق .

        انطفأت النار وتحول العجل الذهبي إلى رماد ، وقام موسى والمؤمنون بحمل الرماد ورميه في البحر .

        وشاهد ينو إسرائيل رماد العجل تعبث به الأمواج هنا وهناك وقال موسى لبني إسرائيل :

        انما إلهكم الله الذي لا إله إلاّ هو وسع كل شيء علماً .

        ثم قال للسامري :

        : اذهب فان لك في الحياة أن تقول لا مساس " .

        سوف تحيا بقية عمرك وحيداً . . لأنك ستعيش نادماً وأنّ لك موعداُ لن تخلفه .

        وندم الذين سجدوا من بني إسرائيل للعجل بعد أن أعلنوا ندمهم وأدركوا ان الله إذا لم يرحمهم ويغفر لهم فسيكونوا من الخاسرين .

        وغفر الله لهم .

        وأخذ موسى معه السبعين رجلاً من قومه إلى جبل الطور ليشهدوا نزول التوراة ، وهناك طلبوا من موسى ان يروا الله . وحذرهم موسى من العاقبة قال لهم ان الله لا يرى بالعين ولا تحيط به الأبصار ، ولكنّهم لم يستجيبوا لنصائحه فاهتزّت الأرلاض تحت أقدامهم ، وارتجفت أجسامهم .

        واندلعت الصواعق في السماء وانقضت عليهم فتساقطوا فوق الأرض موتى .

        قال موسى يستغفر لهم :

        { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } . . { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا }؟ . . { أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }.

        ومرّة أخرى غفر الله لهم وأعاد إليهم الحياة كل ذلك من أجل أن يطهّر قلوبهم من الوثنية .

        جبل الطور :

        عاد موسى ( عليه السلام ) يحمل شريعة السماء فهل فرح بنو إسرائيل بالشريعة التي تكفل لهم السعادة في عالم الدنيا وعالم الآخرة ؟ كلاّ .

        لقد رفض أكثرهم قبول شريعة السماء لأنها تريد أن تصنع منهم أناساً طيبين .

        أما هم فكانوا يريدون أن يبقوا أنانيين لا يحبّ الواحد منهم إلاّ نفسه .

        وطلب موسى من قومه الميثاق للعمل بشريعة الله وعدم تجاوزها ، فرفضوا ذلك ، ولم يعطوا نبيهم الميثاق .

        ونظر موسى إلى السماء حائراً لا يدري ماذا يفعل مع هؤلاء الناس المعاندين ؟

        وحدث شيء رهيب رأى الجميع جبل الطور العظيم يكاد تهوي قمته عليهم وسمعوا دوي الصخور وهي تتشقق في سطح الجبل .

        وخشعت نفوسهم فاستسلموا لله صاغرين ، وعاهدوا رسول الله في العمل بما ورد في التوراة .

        البصل !

        في كل مرّ ة كان بنو إسرائيل يطلبون من موسى شيئاً عجيباً فقد طلبوا ذات مرّة البصل !

        قالوا له :

        يا موسى : { لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } !

        لقد مللنا المن والسلوى اننا نشتهي أن نأكل البصل فادع لنا ربّك يخرج لنا البصل !

        لم يقولوا له ادع لنا ربّنا قالوا له : ادع لنا ربّك وكِأنّ الله سبحانه هو ربّ موسى فقط لا ربّهم أيضاً ، ومع ذلك كان موسى يداريهم وكان الله يغفر لهم .

        قال لهم موسى :

        { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ }؟!

        الأرض المقدسة :

        وأراد الله سبحانه أن يتم نعمته على بني إسرائيل فقال لهم موسى ( عليه السلام ) :

        يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم .

        عندما سمع بنو إسرائيل ذلك ، شعروا بالخوف من العمالقة الذين يسكنون تلك الأرض .

        أراد الله سبحانه أن يحرر بنو إسرائيل الأرض المقدسة لكي تنتشر عبادة التوحيد .

        ولكنَّ بني إسرائيل يحبّون حياة الراحة تعودّوا أن يتم كل شيء بمعجزة قالوا خائفين :

        يا موسى ان فيها قوماً جبّارين ونحن لن ندخلها حتى يخرجوا منها .

        اطرد منها العمالقة لكي ندخل تلك المدينة . . فإذا خرجوا منها فإننا سوف ندخلها .

        من بين تلك الألوف نهض رجلان فقط وقالا :

        انكم إذا حاصرتم المدينة ودخلتم بوابتها ، فإنكم سوف تنتصرون إذا كان في قلوبكم الإيمان بالله ، فتوكلوا عليه .

        ولكن بني إسرائيل سيطر عليهم الخوف فقالوا :

        يا موسى انّا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها . .

        ثم قالوا له :

        فاذهب أنت وربّك فقاتلا انها ههنا قاعدون !

        مرّة أخرى عاند بنو إسرائيل رسول الله قالوا له إذا أردت الحرب والقتال فاذهب أنت وربّك .

        وشعر موسى بالحزن فرفع رأسه إلى السماء وقال :

        يا ربّ إنّي لا أملك إلاّ نفسي وأخي ، فاحكم بيننا وبين القوم الفاسقين .

        وغضب الله على بني إسرائيل بسبب إيذائهم النبي ( عليه السلام ) ، وبسبب عنادهم وتمرّدهم .

        التيه :

        كتب الله على بني إسرائيل أن يتهيوا في جزيرة سيناء أربعين سنة ، فظلّوا يدورون في رمال الصحراء وكانوا يحلّون كل مدّة من الزمن في مكان من الجزيرة.

        البقرة :

        وفي تلك المدّة من الزمن وقعت بعض الحوادث منها ما حصل ذات يوم .

        وقعت جريمة قتل في الليل ، وقام القاتل بحمل القتيل وطرحه في الطريق التي يسلكها أحد الصالحين .

        القاتل كان خبيثاً فهو ابن عمه ، ومن أجل أن يدفع عنه الشبهات جاء إلى سيدنا موسى يطالب بدمه .

        ومرّت أيام ولم يُعرف القاتل ، وكادت أن تقع المشاجرات بين بني إسرائيل وانتشرت الشائعات وتبادل الجميع الاتهامات .

        وأخيراً جاءوا إلى موسى لحلّ تلك المشكلة المعقدة .

        وأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة .

        قال لهم موسى :

        { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً }.

        قالوا بدهشة :

        هل تسخر منا يا موسى ؟!

        قال سيدنا موسى :

        أنا لست جاهلاً حتى اسخر منكم . .

        ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة من أجل أن يحيى القتيل فيخبر عن القاتل .

        وكعادتهم في العناد لم ينفذوا أمر الله فوراً ، قالوا لموسى ( عليه السلام ) :

        ادع لنا ربك يوضح لنا صفاتها .

        الله سبحانه عندما رأى تشدّدهم شدد عليهم .

        قال لهم موسى :

        ان الله يقول انها بقرة ليست كبيرة في العمر وليست صغيرة . . متوسطة العمر . . فاذهبوا لتنفيذ أمر الله .

        ولم ينفذّ بنو إسرائيل أمر الله بل عادوا مرّة أخرى يقولون :

        { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا }؟!

        وشدّد الله عليهم .

        قال موسى : زاهية الصفرة . ان الله يقول: { إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ }.

        وذهبوا ثم عادوا يقولون لموسى ( عليه السلام ) .

        { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا }.

        قال موسى ( عليه السلام ) :

        الله يقول : انها بقرة لم تستخدم في حراثة الأرض وسقيها .

        وعندها قال بنو إسرائيل :

        الآن جئت بالحق .

        وذهبوا يبحثون عن تلك البقرة فوجدوها عند صبي يتيم ، فاشتروها منه بثمن كبير .

        وأمام جموع بني إسرائيل ذبحت البقرة ثم أخذ بعض أعضائها ليضرب بها جسد القتيل ، وشاهد الناس معجزة أخرى من معجزات سيدنا موسى .

        عادت الحياة للقتيل وأخبر باسم القاتل وكان ابن عم له ، قتله من أجل أن يستولي على ثروته ، ففضحه الله أمام الملأ .

        مرّة أخرى شاهد ينو إسرائيل قدرة الله ، وشاهدوا أيضاً بأعينهم صدق رسالة موسى وكرامته عند الله ، وشاهدوا أيضاً كيف أكرم الله الصبي اليتيم ، فقد جاءه رزق وفير بسبب ذلك .

        كان ذلك الصبي بارّاً بابيه ، جاء إلى أبيه ذات يوم في أمر مهم فرآه نائماً ، لم يوقظ أباه تركه نائماً .

        عندما استيقظ الأب وعرف ذلك أهداه تلك البقرة ، فأراد الله أن يكرمه على برّه بابيه فحدثت المعجزة ، وكانت بقرته هي الوحيدة التي أرادها الله لإحياء القتيل .

        الخضر :

        وفي تلك المدّة أيضاً وقعت حادثة أخرى عندما أمر الله موسى ( عليه السلام ) أن يذهب إلى ساحل البحر ليتعلم الحكمة من أحد عباد الله الصالحين .

        وتساءل موسى : أين يجد العبد الصالح لكي يتعلم منه الحكمة ؟

        أوحى الله إليه أنه سيعثر عليه في " مجمع البحرين " واصطحب موسى الفتى يوشع بن نون ، وكانت العلامة أن يفتقد سمكة أخذها معه زاداً في الطريق .

        وسار موسى وخلفه سار الفتى ، قال موسى لفتاه يوشع :

        أخبرني عندما تختفي السمكة . وراح موسى ( عليه السلام ) يسير إلى ان وصل " مجمع البحرين " .

        وألقى موسى عصاه ونام . . كان متعباً جدّاً . .

        ظهرت في السماء الغيوم ، وهطل المطر . .

        عندما غمرت مياه المطر المتاع عادت الحياة إلى السمكة واتخذت طريقها إلى البحر مع جداول الماء التي صنعها المطر .

        واستيقظ موسى من نومه ونادى يوشع بن نون لاستئناف المسير .

        وأنسى الشيطان يوشع بن نون قصة السمكة فلم يخبر موسى ( عليه السلام ) بما حصل . وسارا مسافة طويلة حتى شعرا بالتعب والجوع .

        قال موسى لفتاه :

        هات طعامنا . . لقد تعبنا من طول الطريق .

        وهنا تذكر يوشع ما حصل للسمكة فقال لموسى ( عليه السلام ) :

        أتذكر المكان الذي استرحنا فيه لقد عادت الحياة للسمكة واتخذت طريقها إلى البحر . . ولقد أنساني الشيطان أن أخبرك .

        قال موسى وقد أشرق وجهه :

        هذا ما كنا نطلبه هيّا بنا إلى الصخرة التي جلسنا عندها وعادا يحثان السير إلى نفس المكان الذي استراحا فيه .

        وهناك رأى موسى الرجل الصالح كان جالساً فوق صخرة يتأمل أمواج البحر .

        حيّا موسى الرجل بتحية طيّبة ، ابتسم الرجل الصالح وردّ التحية بأحسن منها وسأل :

        من تكون ؟

        أنا موسى بن عمران .

        قال الرجل الصالح :

        نبي بني إسرائيل ؟

        قال موسى متعجباً .

        نعم . . ولكن من أخبرك بذلك .

        أخبرني الذي أرسلك إليّ .

        وأدرك سيدنا موسى انه قد عثر على الرجل الذي يبحث عنه .

        قال موسى ( عليه السلام ) :

        أريد أن أصحبك لأتعلّم منك ما علمك الله سبحانه .

        قال الرجل الصالح :

        إنك لا تستطيع معي صبراً . . وهذا حقك لأنك لا تعلم الحكمة من وراء أعمالي .

        قال موسى :

        سوف أحاول الصبر . . وأعدك بان اطيعك إذا ما أمرتني بشيء .

        إذا أردت ترافقني في رحلتي فان لذلك شرطاً .

        قال موسى :

        ما هو ؟

        لا تسألني عن أي شيء أقوم به ، وسوف أحدّثك فيما بعد .

        وافق سيدنا موسى على ذلك فسارا معاً .

        ولكن من يكون ذلك الرجل الصالح . . يقولون انه الخضر ( عليه السلام ) وكان نبياً من الأنبياء .

        وأمّا أين حدث اللقاء ؟ يقولون انه كان في مجمع البحرين .

        البحر الأبيض والمحيط الأطلسي في مضيق جبل طارق .

        هل واصل يوشع بن نون مسيره مع سيدنا موسى ( عليه السلام ) أم عاد إلى بني إسرائيل في سيناء ؟ لا أحد يعرف .

        الله سبحانه قص علينا رحلة سيدنا موسى مع الخضر . . سيدنا موسى ( عليه السلام ) يحبّ العلم لهذا عندما أوحى إليه الله بوجود رجل عالم ، رجل صالح ، ذهب إليه ليتعلّم منه .

        سيدنا موسى والرجل الصالح يسيران على الشاطئ ، وصلا إلى ميناء ووجدا سفينة . .

        ركب سيدنا موسى والرجل الصالح مع المسافرين ، وراحت السفينة تشق طريقها في البحر .

        وقبل أن تصل السفينة أحد المرافئ ، قام الرجل الصالح بانتزاع لوح من السفينة ، رأى موسى ( عليه السلام ) ذلك فقال مستنكراً :

        أتخرق السفينة لتغرق أهلها . . ان هذا لعمل فظيع ؟!

        قال الرجل الصالح مذكّراً موسى بالاتفاق :

        ألم أقل لك انك لا تستطيع الصبر على ما أقوم به ؟!

        وتذكر موسى الاتفاق فقال :

        اعتذر لك . . لقد نسيت . . أرجو أن تسامحني .

        غادرا السفينة في المرفأ وراحا يواصلان سيرهما باتجاه إحدى القرى .

        كانا جائعين متعبين ، ولم يكن معهما من النقود ما يمكنها أن يشتريا شيئاً من الطعام .

        وصلا القرية ، وسألا أهلها طعاما يأكلانه ، ولكن أحداً لم يقدّم لهما شيئاً ! ولم يستقبلهما أحد .

        ورأى موسى والرجل الصالح مجموعة من الناس ينظرون إلى جدار يريد أن يسقط . .

        لم يكن بينهم من يمكنه أن يفعل شيئاً لذلك الجدار . . تقدّم الرجل الصالح إلى الجدار ، وقد خطرت في باله فكرةً .

        استطاع الرجل الصالح أن يعيد للجدار صلابته واستقامته . . بإسناد أساسه بدعائم قوّية .

        عندما انتهى عمله قال موسى للخضر :

        لقد كان عملك رائعاً . . ولكن لماذا لم تأخذ عليه أجرة ؟!

        أراد موسى أن يذكّر الرجل الصالح بأنه لو أخذ أجرة لاستطاعا أن يشتريا طعاماً بها .

        قال الخضر مذكّراً بالاتفاق :

        هذا فراق بيني وبينك . . لقد قلتُ لك أنك لا تستطيع معي صبراً . . سوف أخبرك بحكمة ما قمت به . . لقد خرقت السفينة . . لأن أصحابها مساكين . . وهناك ملك ظالم يأخذ بالقوّة السفن ويغتصبها من أصحابها . . لقد أردت أصنع فيها عيباً حتى لا يأخذها الملك منهم ويمكنهم بعد ذلك إصلاحها .

        اما هذا الجدار فهو لصبيين يتيمين في المدينة وتحت الجدار كنزهما فلا يأخذه منهما أحد .

        ان كل ما فعلته يا موسى لم يكن إلاّ تنفيذاً لمشيئة الله سبحانه .

        وودّع موسى الرجل الصالح وقد تعلّم شيئاً مهماً : ان وراء بعض الأعمال حكمة لا يعرف تفسيرها إلاّ الله سبحانه .

        فهناك أعمال قد تبدوا في الظاهر سيئة ، ولكن وراءها حكمة فعلى الإنسان أن يتعمق في ما يرى قبل أن يصدر حكمه عليها .

        التوراة :

        عاد موسى إلى قومه ، وظل يعظ قومه ويهديهم إلى النور والهداية ، وكان يعلمهم التوراة . .

        التوراة كان كتاب هداية ونور . . هكذا قال القرآن الكريم عنه ولكن اليهود بعد أن توفي سيدنا موسى حرّفوه .

        كانوا يمسحون مواعظه وأحكامه الإلهية ويضعون بدلها ما تهوى أنفسهم وما ينسجم مع تقاليدهم ومصالحهم الشخصية .

        ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يملأون التوراة بالأساطير والأكاذيب . فمثلاً نقرأ في التوراة :

        " عندما كان آدم وحواء في الجنة وقد أكلا من الشجرة سمعوا صوت الرب يتمشى بين الأشجار .

        اختبأ آدم وحواء بين الأشجار ، نادى الرب على آدم :

        أين أنت ؟

        قال آدم :

        سمعت صوتك ولأني عار فقد خفت واختبأت .

        قال الربّ :

        هل أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟

        ثم يقول الرب : وهذا الإنسان قد أصبح مثلنا عرف الخير والشر ، وربّما سيعثر على شجرة الحياة ويأكل منها وسيبقى مثلنا إلى الأبد .

        لهذا طرده الله !

        فالتوراة اليوم ليست هي التوراة كما نزلت على سيدنا موسى ( عليه السلام ) ان سيدنا موسى بريء من الأكاذيب التي سطرها اليهود .

        الله سبحانه أرسل بعد موسى أنبياء كثيرين إلى بني إسرائيل ولكنهم كانوا يقتلونهم أو يؤذونهم .

        وأصبح اليهود أُناساً قساة القلوب لهم عادات وتقاليد غير إنسانية ، وهم يقدسون كتاباً آخر هو التلمود . . التلمود يعلمهم أشياء سيئة يقول لهم :

        1. ان اليهود شعب الله المختار . أما غير اليهود فهم حيوانات .

        2. على اليهودي أن يسعى دائماً لاضعاف الأمم والشعوب ليصبح اليهود حكاماً على العالم .

        3. يجوز لليهودي أن يسرق من أموال غير اليهود .

        4. يجوز لليهودي أن يخدع غير اليهود وأن يأخذ منه الربا الفاحش وأن يضطره لبيع كل ما يملك لليهودي .

        وسوف نتحدث يا أعزاءنا عن بعض أنبياء الله الذي أرسلهم إلى بني إسرائيل لنعرف كم عانى الأنبياء من عذاب ومحن على أيدي اليهود .


        يتبع

        تعليق


        • #19
          حِجارَةُ الإنتِصار

          قصّة طالوت و جالوت




          توفي سيدنا موسى و توفي قبله سيدنا هارون ( عليه السلام ) ، و تركا وراءهما ميراث الرسالة الالهية .

          ترك لهم موسى ( عليه السلام ) التوراة و ترك لهم صحفاً مقدسة .

          وضع سيدنا موسى التوراة و الصحف في صندوق و سلّمه الى وصيّه يوشع بن نون ، الفتى الذي أخذه موسى ( عليه السلام ) معه في رحلته الى " مجمع البحرين " .

          مرّت أربعون سنة و بنو اسرائيل يدورون في صحراء سيناء ، و كانوا يخافون الحرب ، و يخافون الوثنيين العمالقة الذين يحكمون الأرض المقدسة .

          عندما أصبح يوشع بن نون نبياً كان قد مات الكثير من بني إسرائيل ، و جاء جيل جديد لا يخاف الحرب و لا يخاف من العمالقة .

          لهذا دعاهم يوشع بن نون لتحرير الأرض المقدسة فاستجابوا له .

          و قاد يوشع بن نون المؤمنين و حارب بهم الكفار و انتصر عليهم و دخل الأرض المقدّسة .

          و قامت دولة لبني اسرائيل ، و لم تستمر هذه الدولة طويلاً ، لأن بني اسرائيل بعد وفاة يوشع بن نون عادوا الى المعاصي ، و استخفوا بصندوق العهد .

          و عندما ضعف ايمانهم اصبحوا أمّة ضعيفة لهذا لم يقاوموا هجمات الأقباط و سقطت دولتهم ، و اصبحوا مستعبدين .

          حكم جالوت الأرض المقدسة ، و راح يقتل رجال بني اسرائيل و يستعبد نساءهم ، ثم شرّدهم من أرضهم ، و أخذ منهم صندوق العهد .

          و في تلك الفترة بعث الله اليهم نبياً هو " أرميا " ( عليه السلام ) فراح يعظهم ، و يذكرّهم بتعاليم التوراة .

          قال لهم : انكم ضعفتم لأن الأيمان في قلوبكم أصبح ضعيفاً . . انتم تحبون الذهب اكثر من ربّ العالمين ، تخافون من الوثنيين و لا تخافون من الله . .


          و ندم بنو اسرائيل و عادوا الى تعاليم الدين فعاد الأيمان الى قلوبهم .

          ذات يوم جاء بعض المؤمنين الى نبي الله أرميا ( عليه السلام ) و قالوا له :

          ـ لقد قهرنا جالوت ، و اذلّنا بظلمه . . فاسأل الله أن يبعث لنا قائداً و ملكاً لنقاتل تحت لوائه في سبيل الله .

          قال النبي ( عليه السلام ) :

          ـ إذا كتب الله عليكم القتال فهل تطيعوه حقاً ؟

          قالوا :

          ـ بالطبع سنقاتل . . و لماذا لا نقاتل في سليل الله و قد أُخرجنا من ديارنا ؟

          قال النبي أرميا ( عليه السلام ) سوف ادعو الله من أجلكم .

          و مضت مدّة من الزمن و كان بنوا اسرائيل ينتظرون أمر الله سبحانه .

          و ذات يوم جاء النبي أرميا ( عليه السلام ) و أعلن البشرى :

          ـ ان الله قد بعث لكم طالوت ملكاً .

          فمن هو طالوت و ما هي قصته مع بني اسرائيل ؟

          طالوت :

          كان طالوت شاباً فقيراً . . انه من ذرية بنيامين . . بنيامين شقيق يوسف . .

          كان طالوت يعمل في الحقل مع والده ، عندما انتبه الى إنّ حماريهما قد ذهبا بعيداً .

          راح طالوت يبحث عن الحمارين ، فأخذ شاطئ النهر ، كان يمشي و يبتعد عن قريته ، مقترباً من قرية أخرى . . في تلك القرية كان يعيش النبي أرميا ( عليه السلام ) .

          لهذا فكّر طالوت أن يذهب الى النبي ( عليه السلام ) و يسمع موعظته . .

          عندما كان النبي يبشر بني اسرائيل بان الله قد اختار لهم طالوت ملكاً رأوا من بعيد رجلاً طويل القامة قادماً نحوهم .

          الجميع عرفوه انه طالوت . . طالوت الرجل القوي .

          كان طالوت قوياً مفتول العضلات ، و لكنه لم يغترّ بقوته . . عيناه تتألقان بنور سماوي يعكس نورهما ما تموج في قلبه من روح الايمان و التواضع .

          نادى النبي مرحباً به :

          ـ مرحباً بك يا طالوت . . لقد بعثك الله الينا . . لتدفع عن المؤمنين الظلم .

          قال طالوت :

          ـ يا نبي الله لقد جئت أبحث عن حماري .

          قال النبي :

          لقد شاء الله أن تأتي الى هنا . . ان الله قد اختارك ملكاً على بني اسرائيل لتنقذهم من ظلم العدو .

          قال طالوت :

          ـ انني رجل فقير كما ترى . . الناس لا يسمعون للفقراء انهم يطيعون الاثرياء فقط .

          قال النبي :

          ـ ان القيادة و الملك لا علاقة لها بالمال . . و لقد آتاك الله قوّة في الجسم و سعة من العلم و لقد اختارك الله لهذه المهمّة .

          سكت طالوت ، ان النبي لا يتحدّث من نفسه ان الله قد أوحى اليه . . و لا بدّ من طاعة النبي .


          لهذا سكت طالوت . . رضي بالقيام بهذه المسؤولية .

          البعض فرحوا بذلك ، و لكن كثيراً من بني اسرائيل كانوا ينظرون الى طالوت بحقد .

          ان طالوت رجل فقير و ان الأثرياء هم وحدهم الذين يحكمون .

          قال الاثرياء :

          ـ كيف يكون ملكاً علينا ؟! اننا احق بالملك منه . .

          قال أرميا ( عليه السلام ) :

          ـ ان الله قد اختاره للملك لأنه اقوى منكم و أعلم .

          قالوا :

          ـ اذا كان الله قد اختاره ، فاننا نريد علامة على ذلك . . نريد آية :

          قال النبي ( عليه السلام ) :

          ـ ان آيته ان يأتيكم صندوق العهد الذي فيه ميراث موسى و هارون .

          قالوا :

          ـ كيف ؟!

          قال النبي :

          ـ اذهبوا الى الصحراء و سوف ترون ذلك بأعينكم .


          سكت بنو اسرائيل ، لم يبق امامهم إلاّ أن يسلّموا لارادة الله ، ولكن كيف سيأتي صندوق العهد ؟!

          هكذا راحوا يتساءلون .

          قال النبي ( عليه السلام ) :

          ـ سيأتيكم الصندوق تحمله الملائكة . . فهل تريدون آية أكبر من ذلك ؟!

          و خرج بنو اسرائيل الى الصحراء يترقبون المشهد المثير .

          و جاءت اللحظة المرتقبة و رأى بنو اسرائيل صندوق العهد و قد غمرته أنوار الملائكة .

          و هبط الصندوق المقدس برفق ، وشعر بنو اسرائيل بالسكينة و الايمان يملأ قلوبهم . . ها هو صندوق العهد رمز عزتهم يعود اليهم مرّة أُخرى .

          و هكذا أصبح طالوت ملكاً على بني اسرائيل و ساد النظام حياتهم .

          الامتحان :

          اعلن طالوت انه يستعد للجهاد في سبيل الله ، و أن على بني اسرائيل ، أن يتهيأوا للحرب ضد جالوت الظالم .


          مرّة أخرى تناسى بنو اسرائيل العهد الذي قطعوه على انفسهم لقد طلبوا من النبي أن يبعث الله لهم ملكاً ليقاتلون معه في سبيل الله سبحانه و استجاب لهم واختار لهم طالوت .

          عندما أعلن طالوت انه سيجاهد في سبيل الله ، تراجع بنو اسرائيل و خانوا العهد .

          القليلون فقط استجابوا لطالوت . . كانوا مؤمنين بالله مطيعين لنبيهم و ملكهم .

          أمّا الأكثر فقد كانت تميل الى حياة الذل و العبودية . و لكن طالوت و المؤمنين استطاعوا ان يؤلفوا جيشاً من بني اسرائيل .

          و أعلن طالوت انه سيزحف بالجيش في الصباح . عندما اشرقت الشمس كان الجنود يستعدون للتحرك ، و الايمان يملأ قلوبهم باستعادة أرضهم و بلادهم و قهر الكفار .

          في الطريق أعلن طالوت بياناً هاماً .

          ـ ايها الجنود سوف يصادفنا نهر . . ان الله سبحانه يريد امتحانكم . .

          سأل جندي :

          ـ و ما هو الامتحان ايها القائد ؟

          قال طالوت :

          ـ لا تشربوا من النهر ، ان من يشرب منه فليس مني ، و من لم يشرب منه فانه مني . . إلاّ من اغترف غرفة واحدة بيده .


          و استأنف الجيش طريقه الى أن وصل النهر .

          كثير من الجنود ركضو باتجاه النهر بعضهم اغترف منه غرفة واحدة و البعض الآخر القى نفسه في النهر و راح يشرب و يشرب قليلون جداً الذين وقفوا مع طالوت و لم يذوقوا الماء .

          و عبر الجيش النهر يقودهم طالوت .

          من بعيد رأى الجنود جيش جالوت . .

          كان جالوت راكباً فوق فيل كبير ، و وراءه مئات الجنود في صفوف منظمة .

          كان جيش جالوت كبيراً و مجهّزاً بأحسن الاسلحة .

          و كان جالوت مخيفاً ، كانه يرتدى درعاً حديدياً و على راسه خوذة ، كان كتلة من الحديد و البأس !

          الذين شربوا من النهر قالوا خائفين :

          لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده !

          أما الذين لم يشربوا من النهر فقالوا بثقة :


          ـ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله . . و الله مع الصابرين .

          و عرف الجميع ان الله قد امتحن ارادتهم بالنهر .

          ضعفاء الارادة شربوا منه فاصبحت معنوياتهم ضعيفة ، أما أقوياء الارادة فقد امتنعوا عن شرب الماء ، كانت ارادتهم قوية و ايمانهم قوياً ، فكانت معنوياتهم عالية .

          و تقابل الجيشان و كان جالوت يعتقد انه سوف يسحق جيش طالوت ، فماذا حصل ؟

          حجارة الانتصار :

          في قرية بيت لحم كان شيخ يعيش مع أولاده الأربعة .

          عندما أعلن طالوت الجهاد في سبيل الله ، ارسل الشيخ أولاده الكبار الثلاثة و قال لولده الصغير :

          أما أنت يا داود فستبقى معي .

          قال داود :

          ـ لماذا يا أبي أنني أُحب الجهاد في سبيل الله .

          قال الأب .

          ـ انك لم تتمرن بعد على الحرب . . و لكني سأكلفك ، بمهمة تحمل الطعام الى إخوتك و تأتيني بأخبار المعركة .


          فرح داود بذلك لأنه سيشهد المعركة ، لهذا انطلق وراء جيش طالوت و هو يشكر الله .

          درع موسى :

          أوحى الله الى طالوت ان الذي يقتل جالوت من يرتدي درع موسى ( عليه السلام ) فتستوي عليه .

          أعلن طالوت ذلك فجاء جنود كثيرون و ارتدوا درع موسى ( عليه السلام ) و لكن لم يوجد أحد ينطبق عليه الشرط . في الاثناء وصل الفتى داود .

          و رأى جيش الأيمان بقيادة طالوت يواجه جيش الكفر بقيادة جالوت .

          كان جالوت مغروراً بقوته لقد قتل الكثير من الابطال . .

          ها هو يطلب المبارزة و لكن أحداً لا يخرج اليه .

          سأل داود عن جالوت ، قال أحد الجنود :

          ـ انظر انه هناك .


          و راى داود رجلاً طويل القامة يرتدي درعاً من الحديد و خوذة من الحديد ، تغطي رأسه كله و وجه باستثناء عينيه .

          كان بيده رمح و سيف !

          قال داود :

          ـ لو يسمح لي طالوت بالاشتراك في المعركة فانني سأقتل جالوت الكافر .

          ضحك بعض الجنود :

          ـ كيف تقتله و أنت لا تملك سلاحاً . . انت الفتى الصغير تقتل جالوت الكبير ؟!

          قال داود :

          ـ انا لا أخاف أحداً إلاّ الله سبحانه . . انني مؤمن بالله .

          كان جالوت يسخر من طالوت و جنوده لأن أحداً لا يريد مبارزته .

          في تلك اللحظة تقدم داود الى طالوت و قال :

          ـ إنني مستعدّ لمواجهة جالوت :

          قال طالوت :

          ـ و لكنك ما تزال فتى صغيراً لم تشترك في حرب من قبل و لم تبارز أحداً .

          قال داود :

          ـ لقد قتلت ذئباً أراد أن يفتك بغنمي و لم يكن معي سلاح . . ثم انك لم تلبسني درع موسى ( عليه السلام ) .

          اعجب طالوت بشجاعة داود و ايمانه لهذا أخرج درع موسى من صندوق العهد و ألبسه داود .


          و دهش طالوت رأى الدرع يستوي عليه فعرف ان الله قد اختار داود الفتى المؤمن لمواجهة جالوت الكافر .

          تقدم داود الى ساحة المعركة بقلب مملوء ايماناً و شجاعة و ليس معه سوى مقلاع و حجارة .

          دهش جالوت لمنظر ذلك الفتى و هو يتقدم اليه دون سيف و لا رمح .

          قال جالوت :

          ـ انك و لا شك تريد أن تموت ايها الفتى . . ام انك تظن اننا نلعب مع الصبيان ؟!

          ـ من قال ذلك ؟ انني جئت لقتالك .

          ـ فأين سيفك اذن و رمحك و معدّاتك الحربية ؟

          قال داود :

          ـ ان سلاحي الايمان و اقاتلك باسم الله .

          قال داود ذلك ثم وضع حجراً في المقلاع و استعد للمواجهة .

          كان جالوت مغطى بالحديد و كان يتحرك فتهتز الأرض تحت الاقدام .

          و لكن داود لم يخف و ظل ثابتاً كالجبل ، و كان جالوت يتقدّم ، و كان داود يستعد لاطلاق الحجر . لم يكن هناك مكان مكشوف من جسم جالوت سوى قسم من جبينه و عينيه .


          الجنود كانوا يراقبون صراعاً مثيراً ، و كان المؤمنون يدعون الله أن ينصر داود . . ان ينصر الايمان على الكفر .

          و انطلق الحجر ، لم يرى أحد الحجر و هو يشق الهواء و لكن الجميع سمعوا صوتاً عجيباً ، و اصطدم الحجر برأس جالوت . . لقد أصاب الهدف بدقة .

          مرّت لحظات رهيبة توقف جالوت عن التقدّم ثم ترنّح ليسقط فوق الأرض .

          و أحدث ارتطام الحديد صوتاً رهيباً انخلعت له قلوب الكافرين .

          احدث سقوط جالوت هزيمة نفسية في جيشه و قد انتصر الفتى المؤمن على القائد العسكري . انها قوّة الايمان هي التي هزمت السلاح المتطور .

          و هكذا هزم جيش جالوت و انتصر طالوت و جنوده .

          و عاد السلام يرفرف باجنحته البيضاء فوق الأرض ، و عاد الايمان يملأ القلوب .

          و عندما شعر طالوت بوفاته أوصى بالملك الى داود ( عليه السلام ) .

          فالى الكتاب التالي لنتابع معاً ماذا حدث ؟

          بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

          { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }[1] .


          *)(*____________________ التوقيـــــــــــــــــــع ___________________*)(*


          نلتمسكم الدعاء
          خادمة زينبمشاهدة ملفه الشخصيإرسال رسالة خاصة إلى خادمة زينبالبحث عن المزيد من المشاركات المكتوبة بواسطة خادمة زينبأضف خادمة زينب إلى قائمة الأصدقاء
          يوم أمس, 11:56 PM #17
          خادمة زينب vbmenu_register("postmenu_14811", true); الزينبيين / الزينبيات



          تاريخ التسجيل: Jul 2007
          المشاركات: 99



          مملكة الايمان

          قصّة سيدنا داود و سليمان عليهما السلام




          توفي طالوت و أصبح داود ملكاً ، لم يغرّه الملك ، بل شكر الله سبحانه على ذلك .

          الله سبحانه انزل عليه الزبور كتاباً بعد التوراة ، علّمه أشياء كثيرة ، علمه لغة الطيور ، و منحه صوتاً جميلاً مؤثراً .

          اذا سمع الناس صوت داود دخل الايمان في قلوبهم . . صوته كان يشبه ساقية جميلة . . يشبه خرير الجداول ، و تغريد الطيور في الربيع .

          الله سبحانه أيضاً ألانَ له الحديد . . الحديد ذلك المعدن الصلب ، أصبح في يد داود ليناً ، كان داود يصنع من الحديد دروعاً للمجاهدين في سبيل الله .

          اهتم داود بتربية الخيل ، فالحصان كان سلاحاً قوّياً ، لأن الفرسان يقاتلون في سبيل الله و الحق .

          كان داود اذا رتّل الزبور ، استجابت له الطيور فراحت تسبح لله ، و استجابت الجبال ايضاً .

          وكان داود حاكماً عادلاً ، كان يحكم بين الناس بشريعة الله ، و كان المظلوم يأخذ حقه كاملاً ، لهذا عاش الناس في سعادة .

          كان داود يمضي ثلث الليل في عبادة الله . . كان يحبّ الله . . الله سبحانه كان يحبّه .

          كان يصوم يوماً و يفطر يوماً . . و كان يذكر الله دائماً .

          عندما يستيقظ صباحاً يسبّح الله فكانت الجبال تردد تسبيحه ، و عندما يقرأ الزبور كانت الطيور تشدو معه .

          داود أسّس دولة قوّية . . دولة للمؤمنين بالله و شريعته . . داود كان ملكاً و كان نبيّاً . . كان وقته منظماً . . حياته منظمة و أعماله منظمة ، يقسِّم وقته الى اربعة أقسام :


          قسم لانجاز حاجاته الشخصية .

          قسم للعبادة .

          قسم للفصل في المرافعات .

          قسم لتربية ابنائه .

          الامتحان :

          داود يعيش في قصره ، وقد وقف الحراس أمام الباب ، كان الحراس لا يسمحون لاحد في الدخول على داود في وقت عبادته .

          في ذلك الوقت كان داود جالساً في المحراب ، فجأة ظهر رجلان أمامه .

          خاف داود لأنهما دخلا عليه في غير الوقت المخصص .

          لهذا قال أحدهما :

          لاتخف . . اننا لا نريد بك سوءً . . جئنا لتفْصِلَ في قضيتنا ، سأل داود بعد أن اطمأن :

          وما هي ؟

          قال الرجل :

          ان هذا أخي عنده تسع و تسعون نعجة وعندي نعجة واحدة . . طمع بنعجتي فطلبها مني و مع ذلك فقد كانت حجته قوّية .

          تأثر داود بشدّة و قال بغضب .

          لقد ظلمك أخوك . . كيف يريد أن يأخذ نعجتك الوحيدة و عنده قطيع يتألف من تسع و تسعين نعجة ؟!

          استعجل داود في الحكم ، لم يسأل الطرف الآخر عن حجته ! كان عليه أن يسال الطرفين المتخاصمين !

          فجأة اختفى الخصمان ، و انتبه داود الى خطأه ، لقد كان ذلك امتحاناً الهياً له . ان عليه أن يسمع لكلا المتخاصمين .

          عرف داود ان الله اراد امتحانه ، فاستغفر الله لما بدر منه في عجلته باصدار الحكم .

          الحكم الجديد :

          رزق الله داود صبياً سمّاه سليمان ، كبر سليمان في ظلال ابيه .

          الأب علم ابنه الخلق الكريم و ربّاه على العبادة و حبّ الخير ، و الشكر لله .

          وكبر سليمان و أصبح فتىً ، كان ذكياً و كان مؤمناً .

          الله سبحانه أراد أن يظهر فضل سليمان ، و يعرّف الناس انه وصي ابيه داود .

          ذات ليلة . . كان الناس نيام ، الفلاحون ، و رعاة الأغنام الجميع كانوا نائمين .

          خرج قطيع الغنم من حضائره ، و اتجه الى مزرعة الكروم ، راحت الماشية تلتهم عناقيد العنب ، و تعبث في الزروع .

          في الصباح عندما استيقظ صاحب الكروم و انطلق الى بستانه و مزرعته رأى الاغنام ما تزال هناك و هي تملأ المكان بثغائها .

          شعر الرجل بالغضب و اتجه الى صاحب الغنم و اتهمه ، برعي ماشيته في مزرعته .

          وحدثت مشاجرة بين الرجلين .

          قال صاحب الغنم لنذهب الى النبي ، و نحتكم عنده ، في الطريق قال صاحب المزرعة :

          ان عليك أن تحفظ غنمك فلا تتركها ترعى كما تشاء .

          أجاب صاحب الغنم :

          وانت عليك أن تحفظ مزرعتك .

          قال صاحب المزرعة :

          انا احفظها في النهار فقط أما في الليل فلا يوجد من يرعى ماشيتة ليلاً .

          وفي تلك اللحظة و صلا الى قصر الملك داود ، كان النبي جالساً للقضاء بين الناس .

          عندما حان دور صاحب الكروم تقدّم الى داود ( عليه السلام ) و عرض عليه القضية .

          واستمع داود الى التفاصيل ، فاصدر حكم الشريعة في هذه القضية ، قال داود :

          ان على صاحب الغنم أن يسلّم أغنامه الى صاحب المزرعة لأنها الحقت أضراراً بالزروع .

          أراد الله سبحانه أن يظهر فضل سليمان بن داود و أن يعرّف الناس بانه وصي النبي ، فقذف في قلبه حكماً جديداً قال سليمان :

          هناك حكم أرفق يانبي الله !

          قال داود :

          ما هو يابني ؟

          قال سليمان :

          يُسلّم صاحب المزرعة الغنم عاماً كاملاً فيتتفع من صوفها و لبنها . و يأخذ ما يَلِدُ منها .

          و على صاحب الغنم أن يُسلّم المزرعة ليصلح ما أفسدت غنمه من زروعها .

          فرح داود بحكم سليمان و أدرك أن الله سبحانه إنّما يريد أن يظهر فضله للناس و يعرّفهم بانه الوصي و الخليفة بعده . لهذا انفذ داود حكم سليمان . و ظل هذا الحكم نافذاً منذ ذلك الزمن .

          دام حكم داود أربعين سنة حكم خلالها بما أنزل الله . و عمّ الخير و الأمن المناطق الخاضعة لحكمه .

          عندما شعر بوفاته أوصى الى ولده سليمان ، الله سبحانه اختار سليمان للخلافة لأنه كان مثل أبيه في سيرته و أخلاقه و اخلاصه و حبه للناس .

          سليمان الحكيم

          كان سليمان فتى مؤمناً عندما نهض بمسؤولية الحكم و إدارة شؤون البلاد .

          راح سليمان يعزّز من قدرات جيشه لا من أجل الاحتلال و السيطرة على بلاد الغير ، و لكن من أجل نشر كلمة الاسلام في الأرض .

          كان سليمان نبياً و كان حكيماً و ملكاً ، الله سبحانه عندما رأى سليمان يزداد تواضعاً و يزداد شكراً ضاعف ملكه ، و بارك في بلاده فعمّ الخير .


          الله سبحانه منحه أشياء لم يمنحها غيره لأنه كان يشكر الله .

          سخر له الرياح العاصفة ، كان يأمرها أن تهبّ فتهبّ و كان يأمرها أن تجري فتجري .

          الله سبحانه سخّر له أيضاً الشياطين ، و كانوا يعملون تحت أوامره ، كانوا يغوصون له في أعماق البحار و يستخرجون الكنوز ، يستخرجون اللؤلؤ و المرجان ، و كانوا يصنعون له التماثيل الجميلة و المحاريب .

          كان سليمان يفكر في بناء دولة قوّية . . دولة تحمي المؤمنين بالله ، فدعا اليه أن يفتح له أسرار العلوم .

          الله سبحانه علمه الكثير من أسرار العلم ، و علّمه لغة الطيور و الحيوانات .

          لهذا انتعشت الزراعة ، و بنيت السدود ، و أصبح تحت قيادته جيش كبير جنود من الأنس و من الجن .

          ومن أجل أن يعكس هيبة الايمان في قلوب الأعداء ، أمر سليمان بأن يصنعوا له عرشاً فريداً .

          وبدأ الجن و الانس ينفذون أمر سليمان ، فاحضروا خشب الابنوس و الذهب و العاج و آلاف الاحجار الكريمة .


          فصنعوا عرشاً مزيناً بالذهب و العاج و مرصعاً بالاحجار من الياقوت و الزمرد و غيرها .

          كما صنعوا تمثالين لأسدين مهيبين ، و في أعلى العرش نسرين ناشرين اجنحتهما .

          نملة سليمان :

          خلق الله الانسان ، و خلق الحيوان ، هو خالق كل شيء عندما ننظر حولنا نجد كثيراً من المخلوقات ، هناك مخلوقات صغيرة تعيش بقربنا . . مخلوقات لا نحس عندما تمرّ بقربنا و لا نكاد نراها إلاّ اذا دققنا النظر . .


          انها النمل . . النمل يعيش جماعات . . انها امّة تعيش و تعمل ، و تحارب ، و تدافع عن نفسها .

          حياتها منظمة ، مليئة بالعمل و السعي ، تجمع الطعام في الصيف و توفره للشتاء .

          ان لهذا المخلوق اللطيف قصة طريفة مع سليمان ( عليه السلام ) .

          ذات يوم ، كان سليمان يقود جنوده للجهاد في سبيل الله .

          كان طريق الجيش يمرّ بوادي يعيش فيه النمل ، كانت سنابك الخيل تهز الأرض ، كان النمل يعمل كعادته في الوادي . .كان البعض يجمع الطعام ، و كان البعض الآخر يعمل داخل البيوت .

          وكانت هناك نمله صغيرة تعمل . شعرت باهتزاز الأرض و عرفت ان جيش سليمان في طريقه الى الوادي . وقفت النملة و صاحت محذرة :

          يا أيّها النمل ان جيش سليمان في الطريق ! هيّا عودوا الى مساكنكم . . و إلاّ فسيسحقكم الجنود و هم لا يشعرون ، كانت النملة فوق الشجرة و تنظر الى الأفق ، و ظهر سليمان و جنوده .

          نظر سليمان الى النملة كانت ما تزال تطلق صيحات التحذير .

          الله سبحانه علم سليمان لغة النمل لهذا ابتسم للنملة .

          نزل سليمان من حصانه و سجد لله ثم رفع رأسه و نظر الى السماء و قال :


          { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } .

          أصدر سليمان أمره الى الجنود بعدم دخول الوادي و اتخاذ طريق آخر .

          كان النمل خائفاً لأن كثيراً من بيوته سوف يتحطم تحت خوافر الخيل و أقدام الجنود .

          و لكنّ النملة أخبرتهم بما حصل ففرحوا ، و دعوا الله أن ينصر سليمان و جنوده .

          و مضى جيش سليمان في طريقه مجاهداً في سبيل الله ، و عاد النمل يعمل في الوادي بسلام .

          انباء من سبأ :

          كان جيش سليمان يتألّف من الناس المؤمنين و اضافة الى الناس كان هناك الجن يعمل في خدمته و الطيور أيضاً . فالهدهد مثلاً كان يساعد الجيش في البحث عن الماء .


          و الهدهد يعرف بحاسته التي منحها الله له أن في هذا المكان ماء يجري تحت الأرض .

          لهذا يحطّ الهدهد على المكان و يأتي العمال فيحفرون و يستخرجون المياه .

          ذات يوم أمر سليمان بحشد جيشه ، و جاء المؤمنون من الناس و حضر الجن و الطيور .

          راح سليمان يتحدث عن ملكه الكبير و قال ان ذلك كله هو هبة من الله ، ان من يشكر الله فان الله سبحانه سيرزقه . . قال لهم :

          لقد علّمنا الله منطق الطير و أعطانا من كل شيء .

          في الأثناء انتبه سليمان الى أن الهدهد لم يحضر بعد . كل الطيور حضرت إلاّ الهدهد .

          تساءل النبي ( عليه السلام ) :

          مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ؟!

          نظرت الطيور الى بعضها البعض و قالت في نفسها : إن الهدهد قد ارتكب خطأ كبيراً .

          قال سليمان :

          لأعذّبنّه عذاباً شديداً أو لاذبحنّه ، إلاّ اذا جاءني بعذر مقبول و حجة و اضحة تبرّر غيابه .


          مضت أيام و ظهر الهدهد . . الطيور أخبرته بما حصل فخاف على نفسه من عقوبة الملك الحكيم .

          و لكن أين كان الهدهد حقاً ؟ سوف نعرف ذلك عندما يذهب الهدهد الى سليمان و يخبره .

          عرف الهدهد ان حياته في خطر و انه مهدد بالذبح اذا لم يقدّم عذراً مقبولاً الى النبي .

          طار الهدهد الى القصر و حطّ قرب الباب . . استأذن الحراس و دخل . .

          راح يمشي مطرقاً برأسه و جناحاه يخطان فوق البلاط المرمري كل ذلك علامة الندم و الاعتذار .

          سأل النبي :

          أين كنت أيها الهدهد ؟

          قال الهدهد و هو يرفع رأسه و يحدّثه بأنباء رحلته المثيرة قال :

          ذهبت الى مملكة سبأ . . و جئتك بانباء هامّة ، رايت بلاداً كبيرة و امّة عظيمة ، و رأيت ملكة تحكمهم رأيتها تجلس على عرش عظيم .

          كان سليمان يصغي باهتمام الى الاخبار المثيرة قال الهدهد :

          رأيت الملكة و اسمها بلقيس تسجد للشمس من دون الله كل الناس هناك كانوا يعبدون الشمس . . لقد خدعهم الشيطان فوسوس لهم بان الشمس هي مصدر الوجود !

          تألّم سليمان و قال :

          الاّ يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات و الأرض و يعلم ما تخفون و ما تعلنون . . الله لا إله إلاّ هو رب العرش العظيم ؟!

          و راح الهدهد يتحدّث عن مشاهداته في تلك البلاد ، نظر اليه سليمان و قال :

          سوف نعرف ما إذا كنت صادقاً أو كاذباً .

          قال سليمان ذلك و نهض ليكتب رسالة الى ملكة سبأ ، أما الهدهد فقد اطمأن على مصيره انه لن يعاقب على مافعل فاستأذن الملك سليمان ليرتاح من عناء رحلته على أن يعود غداً لحمل الرسالة .

          كل الطيور كانت تتحدث عن اكتشاف الهدهد ، لقد قام برحلة مثيرة لم يقم بها الجن و الأنس . . حتى سليمان لم يكن يعرف بوجود تلك المملكة و لا بوجود أمّة من البشر تعبد الشمس من دون الله !

          رحلة الى اليمن :

          في الصباح حضر الهدهد الى القصر و حمل الرسالة ، كانت الرسالة موضوعة في مظروف من الذهب و كانت مختومة .

          انطلق الهدهد مرّة أخرى يعبر المسافات الشاسعة الممتدة من فلسطين الى اليمن .

          عندما ننظر في الخارطة اليوم نتعجب من هذه الرحلة ! كيف قام الهدهد بها ؟ كيف قطع تلك الصحاري ، و عبر سلاسل الجبال الشاهقة ؟!

          راح الهدهد يقطع المسافات الشاسعة متحمّلاً متاعب الرحلة في سبيل إعلاء كلمة الله و نشر التوحيد .

          و وصل الهدهد مملكة سبأ في اليمن ، و اتجه مع طلوع الشمس الى قصر بلقيس ملكة اليمن القوّية .

          كانت بلقيس قد استيقظت من نومها ، اتجهت ببصرها نحو الشمس التي ظهرت من النافذة .

          سجدت للشمس تؤدي لها صلاتها كل صباح .

          في تلك اللحظة دخل الهدهد من النافذة ، و القى الرسالة على عرش الملكة .

          انتبهت بلقيس الى شيء يتألق فوق العرش ، أخذت المظروف الذهبي و فتحته دهشت عندما وقع بصرها على رسالة بخط جميل .

          كان الهدهد يراقب الملكة و هي تقرأ الرسالة ، نظرت الى الهدهد بدهشة كيف يمكن لطائر يقطع كل هذه المسافات في مهمة خطيرة ؟!

          أرسلت بلقيس وراء وزرائها و قادتها العسكريين ، هناك أمرٌ يتوقف على مصير البلاد !

          اجتمع الوزراء و رجال الدولة ، نهضت بلقيس من العرش ، و بيدها رسالة قالت باهتمام :

          { يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } .

          ساد صمت مهيب بهو القصر هناك ملك في فلسطين يهددهم ، يندد بعبادتهم للشمس من دون الله . . يدعوهم الى التسليم لله وحده و عبادة الله وحده .

          قالت بلقيس :

          ـ { قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ } .

          استشارت بلقيس في اتخاذ الموقف المناسب قالت لهم : انني لن استبدّ في رأيي أنه أمر يتوقف عليه مصير بلادنا . . و لذا علينا أن نفكر في الرّد المناسب .

          كان قادة الحيش متحمسين للحرب لذا قالوا بحماس :

          نحن أولو قوة و أولو بأس شديد و مع ذلك فإن لك القرار في اتخاذ الموقف . . ان جيشنا قوي و باستطاعتنا أن ندافع عن بلادنا .

          كانت الملكة بلقيس امرأة عاقلة . . تفكّر قبل أن تقرّر . لهذا قالت :

          ـ { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } علينا أن نعرف من يكون سليمان هل هو ملك كسائر الملوك الظلمة ؟ هل هو نبي حقاً ؟ هل يريد السيطرة على بلادنا ؟ أم يريد لنا الخير ؟

          قال أحد الوزراء :

          ـ و كيف لنا أن نعرف ذلك يا صاحبة الجلالة ؟

          قالت الملكة :

          ـ سوف أرسل له هدية ، ثم ننتظر آراء مبعوثينا . . سوف يشاهدون عن قرب المملكة و يتعرّفون على أهداف الملك سليمان .

          استحسن رجال الدولة فكرة الملكة و تقرر ارسال هديّة الى سليمان .


          كان الهدهد يراقب عن كثب اجتماع رجال الدولة و عرف قرار الملكة فطار الى فلسطين .

          راح الهدهد يطير و يطير و يقطع المسافات و كان يتوقف فقط للاستراحة قليلاً .

          و أخيراً و صل الهدهد و دخل فوراً على سليمان ليطلعه على آخر الانباء .

          قال الهدهد : ان وفداً من مملكة سبأ في طريقه الى هنا .

          كان سليمان يفكر كيف سيقنع الوفد بدين الله و ان عبادة الشمس لا فائدة من ورائها ؟

          أن أفضل طريق لذلك أن يظهر هيبة ملكه و ما منحه الله من السلطان ، فالناس يصلّون لله و الحيوانات المفترسة في خدمته و الطيور تطوف حوله ، و الجنّ يعملون ليل نهار في البناء و في الغوص في اعماق البحار .

          عرف سليمان أن الوفد قادم وهو يحمل هدايا ثمينة لإقناع سليمان بالسكوت .

          ان مملكة سبأ مستعدة لإقامة علاقات طيّبة ، و أن تقدّم لسليمان الحكيم الهدايا سنوياً ، و ربّما كانت بلقيس تختبر سليمان بالهدية .

          لو استلم سليمان الهدية و فرح بها فانه ملك كسائر الملوك ، و عندها يمكن لمملكة سبأ أن تتمرّد على طلبه في ترك عبادة الشمس .

          أما إذا رفض استلام الهدية فمعنى هذا أنه ليس ملكاً ربّما يكون نبياً حقاً و اذن فلا خوف من الانبياء لأنهم لا يظلمون أحداً .

          كانت هذه فكرة الملكة بلقيس عندما أرسلت الوفد .

          التهديد باعلان الحرب :

          وصل وفد سبأ كان مجموعة من الفرسان يحملون أثمن الهدايا لسليمان .

          نبي الله سليمان و من أجل أن يفهمهم أن ملكه الهي و انه أعظم من ملك سبأ نظم لهم استقبالاً مهيباً .

          كاد الوفد أن يصعق و هو يشاهد الأسود واقفة و يشاهد النمور ، و يشاهد الطيور تحلق على مقربة بانتظام ، و يشاهد الجنود المسلمين .

          كان سليمان جالساً فوق العرش ، و بالرغم من ابهة المُلك فقد كان متواضعاً تشع من عينيه المحبّة و الايمان .

          تقدّم رجال الوفد لتقديم الهدايا ، خجل الرجال من هداياهم لأنها بدت في مقابل ملك سليمان العريض اشياء تافهة جداً .

          و هنا حدث شيء لم يتوقعه أحد !

          رفض سليمان الهديّة ، لم تكن الهدية من أجل إقامة علاقات طيبة بين المملكتين ، كانت أشبه بالرشوة حتى يسكت سليمان عن طقوسهم الوثنية .

          قال سليمان بلهجة فيها غضب :

          ـ أتمدونني بمال ؟! فما آتاني الله خير مما آتاكم . . بل أنتم بهديتكم تفرحون .

          ثم خاطب سليمان رئيس الوفد :

          { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ }.

          كانت كلمات سليمان تهديداً بالحرب . . انه لا يريد من أهل سبأ ذهباً و لا فضة و لا أي شيء آخر سوى الايمان بالله الواحد .

          لأنه ليس ملكاً حتى يفكر بالذهب و المال انه نبي ، و النبي يريد للبشر الخير يريد للناس أن يؤمنوا بالله و يتركوا عبادة الاوثان .

          الله خلق الانسان و شرّفه ، فلماذا يعبد الانسان و الحجر و يسجد للصنم ؟! يسجد للشمس و القمر و هو أشرف و اكرم من مخلوقات الله . . الله يريد للانسان أن يحيا حرّاً لا يخاف شيئاً سواه .

          هكذا قال سليمان لرجال الوفد . . الذين وقفوا مدهوشين أمام عظمة سليمان و ملكه الكبير و تواضعه و سجوده لله !

          قرار الملكة بلقيس :

          عاد الوفد الى اليمن و راح يقص على الملكة انباء الرحلة الى أعظم مملكة في الأرض و أعظم ملك في العصر .

          فكرت ملكة سبأ بأن الحرب قادمة لا محالة اذا استمرت في موقفها .

          ان سليمان ليس ملكاً ربّما يكون نبياً قالت في نفسها :

          ـ لأذهب بنفسي الى هناك .

          بلقيس الملكة فكرت أن تشاهد ما يجري هناك عن قرب و ربّما أقامت مع المملكة في شمال الأرض روابط حسنة تحول دون وقوع الحرب بين المملكتين .

          من أجل هذا أعلنت عزمها على التوجه الى مملكة سليمان .

          كثير من رجال الدولة في سبأ حذّروا الملكة من اتخاذ هكذا قرار ، و لكن لا فائدة .

          كانت بلقيس ملكة شجاعة و امرأة عاقلة ، فكرت كثيراً في المسألة . . لم تجد أفضل من الذهاب بنفسها الى هناك .

          أسرعت الملكة في اتخاذ وسائل الرحلة و اصطحبت معها عدداً من الجنود و الوصائف و غادرت مملكتها .

          أمّا الملك الحكيم نبي الله سليمان فقد اجتمع مع رجال دولته كان همّ سليمان كيف يقنع ملكة سبأ بدين الله . . لهذا فكر في شيء يجعلها تعيد التفكير في عقيدتها الخاطئة .

          كانت الفكرة عجيبة مذهلة : أن يحضر عرشها من اليمن الى فلسطين قبل أن تأتي بلقيس نفسها !

          طاقة الانسان المؤمن :

          في اجتماع حاشد ضم المؤمنين و عفاريت الجن و آلاف الطيور و السباع سأل سليمان :

          ـ من الذي يمكنه أن يأتي بعرش مملكة سبأ ؟

          انها مهمة ليست سهلة تعجز الهداهد عن القيام بها .

          نهض عفريت من الجنّ و قال :


          ـ أنا يا سيدي . . أنا آتيك به قبل ان تقوم من مقامك . . نعم قبل أن تغادر مجلسك .

          أراد سليمان أن يظهر فضل الانسان المؤمن لهذا التفت الى رجل مؤمن اسمه " آصف بن برخيا " قال له :

          ـ ما رأيك يا آصف ؟

          قال آصف :

          ـ انا استطيع أحضاره . .

          ـ متى ؟

          قبل أن يرتد اليك طرفك . . لحظات و ترى العرش .

          و في لحظة تركزت فيها روح الايمان و الإرادة .

          الجميع يعرفون آصف بن برخيا يعرفون مدى ايمانه و اخلاصه و حبّه لله و للناس .

          الله يكرم عبده المؤمن . . و حدثت المفاجأة ، و رأى الجميع عرش مملكة سبأ أمامهم في بهو الاستقبال الكبير . .

          كان عرشاً مهيباً ، الخشب الأسود مطعم بالذهب و الفضة و الجواهر ، و في كل مكان منه يتألق العقيق اليماني و كانت أشعة الشمس التي تسقط من وراء زجاج السقف الملوّن تزيد في جماله .

          أمر سليمان باجراء تغييرات في عرش بلقيس ، كان يريد اختبارها ، و كان يريد أن يعرف كيف تتصرف أمام هذه المعجزة ؟!

          اللقاء :

          أصبحت الملكة بلقيس على مقربة ، سوف تصل الأرض المقدسة بعد ساعات ، هذا ما أعلنته طيور الاستطلاع .

          كان العمل في بهو الاستقبال قد انتهى فقد زُين القصر و اُضفيت عليه مظاهر العظمة ، و أحيط عرش الملكة بزينة مهيبة .

          كان عرش سليمان قريباً من عرش الملكة و دخلت بلقيس القصر الملكي ، كان روعة في الجمال و الضخامة .

          دخلت البهو و رأت سليمان على عرشه في مجلس مهيب ضم الأسود و الطيور و الجنود قال أحدهم للملكة و هو يشير الى عرشها :

          ـ أهكذا عرشك ؟

          عندما وقعت عيناها على العرش كادت تصرخ أنه عرشها و لكن كيف لها أن تعلن ذلك ؟! فكرت قبل أن تجيب قالت :

          ـ كأنه هو . . ان له شبهاً كبيراً بعرشي . . حتى يبدو أنه هو !!

          أدركت بلقيس أنها تقف أمام آية عظيمة تدلّ على نبوّة سليمان ، و لكنّها لم تقل شيئاً .

          امتلأ قلبها بالإيمان و التسليم لله ، رأت سليمان انه لا يشبه الملوك . . في خلقه . . في تواضعه في نظراته و حركاته . . في صلاته . .

          عندما يتحدث سليمان يشعر المرء ان في كلماته دفء و محبّة و سلام !

          الحوض الزجاجي :

          عندما انتهت مراسم الاستقبال قال المرافقون للملكة بلقيس ان عليها أن تتجه الى قصرها الذي بناه سليمان خصيصاً لاقامتها .

          اتجهت الملكة يحفها جنودها الى القصر وقف الحراس عند الأبواب ، و دخلت بلقيس الى البهو الكبير .

          كانت فتيات مؤمنات يصحبنها و لكنّ يسرن خلفها احتراماً .

          لم تكد تضع قدمها في البهو حتى رأت حوضاً واسعاً بين حجرتها و باب البهو كان يموج بالمياه كما تصوّرت .

          لهذا جمعت ثيابها حتى لا تبتل و وضعت قدمها في الحوض على مهل !

          وهنا ابتسمت فتاة و قالت :

          ـ انه صرح ممرّد من قوارير !

          رأت بلقيس آية آخرى على عظمة ملك سليمان الانعكاسات الضوئية و شفافية الزجاج توحي للمرء انه حوض يموج بالمياه .

          قالت :

          ـ ان الانسان لا يستطيع أن يصنع مثل هذا !!

          ـ أجابت الفتاة :

          ـ أجل انه من عمل الجن .

          تمتمت بلقيس :

          ـ حقاً انه من عمل الجن .

          كان قلبها يزداد إيماناً بالله . . منذ سنوات و هي تفكر بدينها أنها في قرارة نفسها لا تصدّق أن تكون الشمس الهاً !

          الاله الحق لا يغيب . . انه دائم الحضور ، و لكنها لا تستطيع أن تعلن ذلك ان أهل المملكة جميعاً يسجدون للشمس ، و لو قالت ان الشمس ليست ربّاً لما ظلّت ملكة لحظة واحدة .

          امّا الآن فقد رأت الحقيقة . . رأت بقلبها الله سبحانه . . رأت حبّه للناس . . رأت كيف سخّر الله كل شيء للانسان ، ليس من اللائق أن يسجد الانسان لأي شيء إلاّ لله . .

          ها هو الانسان المؤمن يحكم الوجود ! ها هو سليمان يأمر الرياح فتعصف بأمره ، الجنّ و الطيور ، و الحيوانات في خدمته . . و سليمان يسجد لله شاكراً متواضعاً .

          و أعلنت بلقيس بصوت خاشع و هي تنظر الى السماء :

          ـ ربّ إنّي ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين .

          و لأول مرّة سجدت الملكة بلقيس لله ، و سجد جميع جنودها . .

          و سجد سليمان لله شاكراً . . لقد وُفّق في ادخال الايمان الى القلوب الحائرة .

          النهاية :

          كان الجنّ يخشون سطوة سليمان انه الوحيد الذي جعلهم يعملون في خدمة مملكة الايمان .

          سنوات طويلة وهم يعملون يصنعون المحاريب و التماثيل و يغوصون في البحار . . يستخرجون اللؤلؤ و المرجان .

          كان يظنون انهم أقوى من الانسان ، و لكن عندما حدثت مسابقة العرش ، فاز الانسان المؤمن استطاع احضار العرش من اليمن الى فلسطين في لحظة واحدة .


          و مع ذلك فقد ظلّوا يشعرون انهم أفضل بكثير من مخلوقات الله ، انهم يعرفون أشياء كثيرة لا يعرفها غيرهم .

          الله سبحنه أراد أن يعلّمهم انهم لا يعرفون شيئاً إلاّ إذا الهمهم الله سبحانه .

          الأرضة :

          كان سليمان في قصر متكئاً على عصاه ، و كان الجنّ يعملون و يعملون ، عندما كانوا يرون سليمان فان مهابته تملأ نفوسهم فيعملون بخضوع تام .

          كان سليمان قد أتم صلاته لله و غادر محرابه ليراقب عمل الجن .

          اتكأ الى عصاه و راح ينظر . . و الجن كانوا يعملون ، و شاء الله سبحانه أن يقبض روح سليمان . . لترحل روحه الى السماء . . الى الله .

          و ظل جسد سليمان على حاله . . أياماً و أياماً . .

          الجنّ يدخلون يرون سليمان . . و ينطلقون الى أعمالهم المختلفة .

          لم يكتشف أحد الحقيقة . . الجميع ينظرون الى سليمان فيرونه واقفاً .

          و شاء الله أن يفهم عباده من الجن و الانس انهم لا يعلمون الغيب .

          كانت " الأرضة " تدبّ فوق البلاط المرمري . . لا يشعر بها أحد .

          الله سبحانه أراد أن يكشف الحقيقة على يد أضأل مخلوقاته .

          تقدمت الأرضة بدبيبها الى عصا سليمان . . شعرت انه خشب فراحت تقرض و تقرض و تقرض .

          سليمان ما يزال متكئاً على عصاه . . الأرضة منهمكة في عملها . . الجن ايضاً منهمكون في أعمالهم .

          و بعد أسابيع طويلة ، و كانت الأرضة قد فتت جزءً من العصا . حدثت مفاجأة كبرى .

          خرّ سليمان فوق الأرض سقط على البلاط المرمري و أدرك الجميع ان سليمان قد مات . . مات منذ مدّة طويلة .


          و أدرك الجنّ انهم لا يعلمون الغيب لقد ظلّوا يعملون مدّة طويلة لانهم لم يعرفوا موت سليمان . .

          لولا تلك الأرضة لظلّوا يعملون و يعملون .

          المؤمنون حزنوا لموته ، امّا الجنّ فقد فرحوا . . لقد تحرّروا من العمل في خدمة الانسان .

          و هكذا انتهت مملكة سليمان . . مملكة عجيبة . . حضارة مدهشة أسهم الانسان و الجن و الحيوان في تشييدها .

          فسلام على سليمان النبي . . الحكيم . . الشكور . . ملك مملكة الايمان .



          تعليق


          • #20
            عودة الروح

            قصّة سيدنا العزير ( عليه السلام )


            مات سليمان ( عليه السلام ) و جاء بعده انبياء ، و لكن اليهود كانوا يبتعدون عن دين الله يوماً بعد يوم .

            تضاعف حبّهم للذهب و المال ، و عادت الروح الوثنية الى نفوسهم من جديد ، حرّفوا تعاليم التوراة .

            من أجل هذا ضعفت روحهم القتالية ، و أصبحوا يخافون الموت ، و يحرصون على الحياة .

            و قبل حوالي ( 550 ) سنة قبل ميلاد سيدنا المسيح ( عليه السلام ) كان ملك ظالم يحكم بابل اسمه بخت نصر .

            أغار بخت نصر على بلاد اليهود ، و سقطت عاصمتهم " أورشليم " و راح يقتل و يقتل ، و يدّمر البلاد و يحرق الكتب المقدسة و في طليعتها التوراة ، كما خرّب الهيكل الذي يقدسه اليهود .

            و عندما عاد بخت نصر الى بابل سبى معه اليهود .

            ظلّ اليهود في بابل مئة عام تقريباً و في تلك الفترة ولد سيدنا العزير ( عليه السلام ) .

            اندلعت الحرب بين بابل و فارس ، و انتصر كورش ملك فارس في الحرب و دخل بابل فاتحاً .

            تعرّف كورش على العزير فاحبّه لأخلاقه و أدبه ، و ذات يوم تقدّم العزير إلى كورش و طلب منه أن يسمح لليهود بالعودة الى بلادهم و أن يسمح له بكتابة التوراة التي ضاعت نسخها .

            و هكذا عاد اليهود الى بلادهم ، فاحبّوا العزير كثيراً .

            انصرف العزير الى جمع التوراة من جديد و انفق في ذلك سنين طويلة .


            الى البستان :

            كانت لسيدنا عزير بساتين خارج القرية ، كان عزير يعمل بيديه مثل سائر الانبياء .

            هو يعمل في الأرض ، يحرث ، و يسقي الزرع و يجني الثمار كان يراقب الاشجار و يشذب الأغصان .

            و كان لعزير ( عليه السلام ) حمار يستخدمه في ذهابه الى البستان و عودته .

            كان يرعى حيوانه و يشفق عليه فلم يضربه بسوط أو عصا و كان يحبّ الناس و يعطف عليهم ينصحهم و يعِظَم و يعلمهم الشريعة و التوراة و اسلوب الحياة . .


            كان ذلك اليوم شديد الحرّ عندما ركب سيدنا عزير حماره و توجه الى البستان ، لم يكن البستان قريباً كان بعيداً و الطريق الذي يمتد اليه يمرّ بخرائب مدينة مندثرة و مقابر قديمة مبعثرة ، الهواء كان منعشاً في الصباح ، و كانت نسمات طيبة تهبّ من الحقول الخضراء .

            مضى الحمار يشق طريقه وسط المزارع الخضراء ، حتى وصل الطريق الترابي الذي يمرّ بخرائب المدينة المندثرة و المقابر القديمة .

            ارتفعت الشمس في السماء و راحت ترسل اشعتها اللاهبة و لاحت خرائب المدينة ، المنازل مهدمة ، و الحجارة مبعثرة هنا و هناك ، و في جانب آخر كانت المقبرة هي الأخرى خربة ، و بعض العظام كانت مبعثرة .

            نزل عزير عن حماره ، و جلس في ظل شجرة برّية . كان جائعاً و متعباً أخرج كسرة خبز و عنباً ، عصر عنقود العنب في آنية صغيرة ، و راح يغمس فيها كسرات الخبز الصغيرة . و تركها لتنقع قليلاً حتى يسهل تناولها .

            راح يجيل بصره في القبور و في خرائب المدينة و العظام البالية .

            لقد مرّت عشرات السنين و الرياح تهبّ و تعصف في هذه الخرائب و القبور ، و الشمس ترسل اشعتها اللاهبة في فصول الصيف و المطر و الثلوج في الشتاء يزيد في الخراب . .

            كيف تعود الحياة الى هؤلاء الذي ماتوا منذ مئات السنين ؟!


            قال عزير في نفسه و قد ملأت قدرة الله نفسه و قلبه :

            ـ { انّى يُحيى هذه اللهُ بعد موتها }؟!

            شعر عزير بالنعاس يُثقل جفنيه و أغمض عينيه قبل أن يتناول طعامه .

            الحمار أيضاً كان قد تناول قليلاً من العشب ، و اخلد الى النوم .

            و حدث شيء مدهش ، عزير لم يستيقظ ، حل المساء و عزير لا يستيقظ . . لقد مات . . و مات حماره أيضاً .

            و تمر الأيام :

            مرّت الأيام و الاسابيع ، لم يرجع عزير الى قريته ، خرج ابناؤه يبحثون عنه و لكن أحداً لم يعثر عليه ، ذهبوا الى البستان ، و لكن لا فائدة .

            و بمرور الأيام نسي الناس عزيراً و لم يعد يذكره أحد ، مرّت الشهور ، و الأعوام ، و عزير في مكانه في ظل الشجرة ميت ، و حماره ميت .

            أصبح الحمار هيكلاً من العظام ، تبعثرت العظام ، و أصبح بعضها مثل التراب .


            و لكن العجيب ان عصير العنب ما يزال كما هو لم يتأثر بمرور عشرات السنين .

            مات ابناء عزير و كبر أحفاده .

            مرّت على حادثة اختفاءه مئة عام .

            لم يبق من الذين يذكرون عزيراً سوى امرأة عجوز كان عمرها عندما اختفى عزير عشرين سنة ، اما الآن فعمرها مئة و عشرون عاماً .

            عودة الروح :

            و ذات يوم تجّمعت في السماء الغيوم ، و اشتعلت البروق و جلجلت الرعود . . و مطرت السماء .

            و في لحظة اختارها الله رحمة لعباده هبط الملاك جبريل عند الشجرة بين خرائب المدينة المندثرة ، و المقبرة القديمة .

            عادت الروح الى عزير . . استيقظ ، عادت أنفاسه تتردد من جديد بعد أن مات قبل مئة عام .

            استيقظ عزير من نومته . . المكان مغمور بالنور ، و صوت ملائكي يقول :

            ـ كم من الوقت نمت يا عزير ؟


            أجاب عزير و هو يفرك عينيه :

            ـ نمت يوماً أو جزءً من اليوم !

            قال الملاك :

            ـ بل مئة عام !!

            ـ مئة عام ؟!

            ـ نعم ، وشاء الله أن يعيد اليك الحياة . . ليجعل منك آية للذين ينكرون البعث و المعاد . . انظر يا عزير الى طعامك . . انه لم يفسد بالرغم من عشرات السنين التي مرّت !! ان بدنك يا عزير ظل على حاله لم يتغير . . لقد حفظه الله ثم قال الملاك العزير :

            ـ انظر الى حمارك .

            نظر عزير الى حماره فرآه قد استحال الى عظام بالية متناثرة بعضها اختلط مع التراب . .

            ـ انظر يا عزير كيف سيعيد الله سبحانه الحياة للحمار ؟!

            كان عزير يراقب مدهوشاً ما يجري . . العظام البالية تتجمع من جديد لتؤلف هيكلاً عظيماً للحمار . . ثم نبت اللحم و ظهرت العروق !!

            و نبت الجلد !! و عاد الشعر . . بدا الحمار ميتاً قبل لحظات . . عادت أنفاسه مرّة أخرى !!


            فجأة نهض الحمار ، و راح يطلق نهيقاً عالياً ، و انطلق يبحث عن العشب .

            و هتف عزير من اعماقه :

            ـ الله أكبر . . أعلم ان الله على كل شيء قدير !!

            كل شيء بأمر الله . الله قادر على كل شيء ، يحيي و يميت و استغرق عزير في صلاة خاشعة كان يبكي حبّاً لله و شوقاً اليه .

            و تناول عزير لقمات من طعامه ، و كان متأثراً بشدّة ، فطعامه ظل طازجاً كل هذه السنين ، لم يتغير طعمه أبداً . . ان عصير العنب الذي يتغير طعمه في عدّة ساعات من الحرّ الشديد ، ظل يقاوم تقلبات الزمن مدّة قرن كامل !!

            العودة :

            نهض عزير و اعتلى ظهر حماره ، عائداً الى قريته .

            ان الحمار و لا شك لا يدرك ما حدث أنه لم ينسَ الطريق المؤدية الى القرية . .

            من بعيد لاحت القرية ، و لكن عزيراً ظنّها قرية أخرى ! كل شيء تغير ، أشكال الناس ، ازياؤهم ، منازلهم .

            لم يكن هناك من منزل لعزير لكي يتوجه اليه !

            كان عزير قد تحول الى حكاية يرويها الآباء للابناء :

            " عزير الرجل الطيب النبي التقي ذهب الى بستانه في يوم قائظ ، و لكنه لم بعد . . لم يعثر عليه أحد . . كأن الارض قد بلعته !!

            عزير وحده يعرف التوراة . . لقد ضاعت التوراة ، و هو جمعها من جديد . . هو وحده عنده نسخة من التوراة الاصلية . . التوراة كما أنزلها الله على موسى "!

            وقف عزير في وسط القرية ليعلن قائلاً :

            ـ يا أهل قريتي ! أنا عزير . . أنا عزير الذي اختفى قبل مئة عام !

            اجتمع أهل القرية ليروا رجلاً عليه مسحة من الوقار و النور . . رجلاً في الخمسين من عمره .

            سخر البعض و ظنّوا أن هذا الرجل مجنون . . حتى لو عاد عزير فانه يعود شيئاً في مئة و خمسين من العمر ! أما هذا الرجل فهو ما يزال كهلاً في الخمسين !

            قال عزير :

            ـ دلّوني على ابنائي .

            قال أحدهم :

            ـ لقد مات ابناء عزير منذ سنوات طويلة .

            قال عزير :

            ـ و أحفادي ؟؟ دلّوني على أحفادي .

            قال رجل في السبعين من عمره :

            ـ يوجد رجل من أحفاد عزير في الستين من عمره .

            قال عزير :

            ـ خذوني اليه .

            عندما التقى الجدّ و الحفيد كانت الدهشة ترتسم على وجهيهما معاً !

            قال الحفيد :

            ـ كيف تكون جدّي و أنت تبدو أصغر مني كثيراً ؟!

            قال عزير :

            ـ انها معجزة الله ليرينا جميعاً أن الله الذي خلق الانسان قادر على بعثه اذا مات و استحال الى عظام .

            و جلس عزير في بيت حفيده و راح يروي قصّته المثيرة :


            حدّثهم عن ذهابه الى بستانه خارج القرية . . عن سلّتيه اللتين ملأهما عنباً . . عن توجهه الى خرائب المدينة القديمة . . كيف عصر له عنباً و كيف نام و كيف امتدت نومته الى مئة عام . . لقد مات و مات حماره و لكن الله بعثه ليجعله آية للجميع .

            في الأثناء جاءت امرأة عجوز تبلغ من العمر مئة و عشرين سنة ، و هي الشاهد الوحيد الذي يعرف عزيراً لقد كانت في العشرين من العمر يومذاك . جاءت تتوكأ على عصا وتقول :

            ـ من هذا الذي يذكر عزيراً و قد نسيه الناس ؟!

            سمعت عزيراً يتحدث تذكرت نبرات صوته و لكنها لم تر وجهه لقد فقدت بصرها منذ سنين بعيدة قالت :

            ـ لو كنت أبصر لعرفت حقيقة هذا الرجل .

            لقد كان العزير وجيهاً عند الله ، تضرع الى ربّه و دعا أن تبصر المرأة لتشهد له . .

            الله سبحانه أعاد بصرها . . فتحت عينيها لترى نفسها وجهاً لوجه أمام عزير !

            يا للدهشة . . انه عزير بدمه و لحمه . . عزير الذي اختفى قبل مئة عام !

            قال الحفيد :

            ـ لقد أخبرني أبي أن عزيراً يعرف مكان التوراة . . لقد وضعها في مكان لا يعرفه أحد .

            لقد بحثنا كثيراً و لكن لا فائدة . . لقد بحثنا عنها لأن كل النسخ الأخرى ضاعت في الحروب قال عزير :

            ـ سأدلكم على كتاب موسى . . انه هناك في جذع شجرة زيتون .

            انطلق الجميع الى المكان . . رأوا شجرة زيتون قديمة .

            كانت الاعشاب قد نبتت ، توجه عزير الى مكان بين الشجرة و الجدول القريب ، راح يحفر و يحفر الى أن عثر على صندوق خشبي .

            كان الصندوق قد تسوس كثيراً ، و لكن نسخة التوراة ما تزال صحيحة سالمة .

            و آمن الجميع بالمعجزة لقد عاد عزير حقاً . . بعد أن اختفى و أصبح حكاية . . بعد أن مات مئة عام ثم بعثه الله ليجعله آية لعباده على قدرة الله في بعث الموتى و حشرهم يوم القيامة .

            البعض آمن بالمعجزة ، لان قلبه . . عرف ان الموت حق و أن البعث حق . . و أن الله قادر على كل شيء و همس البعض :

            ـ عزير ابن الله !!

            البعض صدّق ذلك و بعض سكت راضياً . .

            و هتف عزير مندداً :

            انا عبد الله و رسوله . . لقد جعلني آية لكم . .

            و ضاع صوته مع بين اصوات اليهود و هم يشيعون : " ان عزيراً ابن الله " .

            قالوا ذلك لأنهم يريدون ان يعبدوا شيئاً يرونه باعينهم .

            و مات عزير ، رحل عن تلك الدينا . . امّا اليهود فقد صنعوا منه اسطورة الابن الالهي . .

            و عندما بعث الله سيدنا محمد ( صلى الله عليه و آله ) رسولاً جاءنا بالحقيقة الكبرى ان عزيراً مات مئة عام ثم بعثه الله .

            عزير نبي من انبياء الله و رسول من رسله جعله الله مثالاً لمعجزة البعث ، ليصدّق الناس بيوم المعاد و يؤمنوا بيوم القيامة .

            لم يحفظ اليهود الأمانة ، انحرفوا عن الطريق ، قست قلوبهم اصبحت مثل الصخور . . ابتعدوا عن روح الايمان . .

            و في سنة 161 قبل الميلاد هاجم الروماني " انطيوكيوس " حاكم سوريا بلادهم ، و أحرق نسخ التوراة . .

            و هكذا ضاعت التوراة الحقيقية . . التوراة التي جاء بها موسى ، و عانى عزير في جمعها مرّة أخرى و صيانتها من التحريف .

            سلام على عزير نبي الله و رسوله و معجزته .

            تعليق


            • #21
              معجزة الخلق

              " قصة آل عمران عليهم السلام "


              بلغ عمران من العمر عتياً اصبح شيخاً طاعناً في السنّ لم يرزقه الله طفلاً .

              و كانت " حنّة " امرأته عقيماً لا تلد ، و كانت تتمنى أن يرزقها الله ولداً .

              و أوحى الله سبحانه الى عمران : اني واهب لك ولداً مباركاً !

              فرح عمران و بشّر امرأته قائلاً :

              ـ أن الله استجاب دعاءنا و سيرزقنا صبيّاً مباركاً .

              و فرحت المرأة الصالحة عندما شعرت بالحمل في بطنها .

              و ذات صباح انطلقت حنّة الى المعبد و نذرته لله ، قالت :

              ـ ربّ اني نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبل مني انك انت السميع العليم .

              النذر :

              و كان زكريا النبي ( عليه السلام ) في المعبد فرح عندما سمع بذلك ، ان الله قادر على كل شيء يرزق من يشاء .

              دخل المحراب و راح يصلّي لله ، ثم انطلق الى دكانه في السوق .

              و مضت أيام و أسابيع و شهور ، توفي عمران قبل أن يرى وجه الطفل الذي رزقه الله ، و جاءت ساعة المخاض كانت حنّة تعتقد ان الله سيرزقها صبياً ذكراً مباركاً و لكنها فوجئت بان الوليد لم يكن سوى فتاة جميلة .


              و الآن كيف ستفي بنذرها لله ، كيف يمكن للفتاة أن تخدم في المعبد ؟!

              قالت و هي تنظر الى السماء :

              ـ ربّ اني وضعتها انثى . . و ليس الذكر كالانثى .

              الله سبحانه القى في روعها ان لهذه الفتاة شأن و انها ستلج المحراب و المعبد ، قالت حنّة بخشوع !

              ـ و اني سميتها مريم ، و اني اعيذها بك و ذرّيتها من الشيطان الرجيم .

              سمت المرأة الصالحة ابنتها " مريم " أي العابدة ، أو خادمة المعبد .

              كبرت مريم اصبحت بنتاً و آن لها أن تذهب الى المعبد لتخدم فيه .

              و حدثت المشكلة من الذي سيكفل مريم ؟ جميع الكهنة أرادوا كفالتها لأنها ابنة عمران الرجل الصالح و ابنة حنّة المرأة التقية .

              اتفق الكهنة على اجراء القرعة أيهم يكفل مريم ، و خرجت القرعة على زكريا ( عليه السلام ) .

              كان زكريا رجلاً تقياً ، و كان يحبّ مريم فقد توسم فيها الخير و البركة .


              زكريا زوج خالتها ، اصبح كافلاً لها مشرفاً على تربيتها . .

              البتول :

              في غرفة صغيرة في أعلى البيت المقدّس عاشت مريم منقطعة عن العالم . .

              لا أحد يستطيع الدخول اليها أو دخول غرفتها سوى زكريا .

              كبرت مريم في عزلتها ، مثل قطرة الندى طاهرة ، مثل شمس وراء الغيوم ، مثل قمر منير .

              نمت مريم مثل زهرة ندية . . مثل وردة بنفسج ، يملأ عطرها الفضاء دون أن يراها أحد .

              كانت مريم تمضي وقتها في المحراب تصلّي لله بخشوع و في كل يوم كانت الحقائق تسطع في روحها ، و الملائكة تطوف حولها تبشرها بان الله قد اصطفاها و طهرها من الرجس ، انها لؤلؤة في صدفة ، لا يعلم سرّها إلاّ الله سبحانه .


              رَطَبٌ في الشتاء !

              في يوم شتائي قارس البرد ارتقى زكريا السلّم الطويل ، ليذهب الى غرفة مريم ، يحمل اليها طعاماً ، كسرة خبز و قليلاً من اللبن .

              سمع زكريا صوتاً مثل خرير الجداول لم يكن سوى مريم تناجي ربّها الذي اجتباها فطهرها .

              دخل زكريا الغرفة بهدوء ، فرأى شيئاً عجيباً . . رأى إناءً مليئاً بالرطب ، كانت نكهة الرطّب تملأ فضاء الغرفة .

              تعجب زكريا و قال :

              ـ من أين لك هذا ؟!

              قالت مريم و وجهها الملائكي يشرق بخشوع :

              ـ هو من عند الله ان الله يرزق بغير حساب .

              امتلأت نفس زكريا بالايمان و قال في نفسه :

              ـ فاكهة الصيف يرزقها الله المؤمن في قلب الشتاء !!

              و تمرّ الايام و يأتي فصل الصيف ، و زكريا يتفقد مريم البتول فرآها تسجد لله في محرابها و رأى إناءً مليئاً بالبرتقال امتلأت نفسه احتراماً لهذه الفتاة التي بلغت منزلة جليلة عند الله .

              الله سبحانه أكرم مريم ، يرزقها بغير حساب ، تجد رزقها في غرفتها ، لأنها انقطعت اليه ، حتى لو ماتت من الجوع فأنها لن تغادر غرفتها وفاءً لنذر امّها المرأة الصالحة .


              هنالك دعا زكريا ربّه :

              رأى زكريا كرامة مريم عند الله و كيف يرزقها الله فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف ، ان الله قادر على كل شيء يرزق من يشاء بغير حساب .

              و وقف زكريا الرجل الصالح العجوز يصلّي لله بخشوع قال :

              ـ ربّ هب لي من لدنك ذرّية طيبة .

              فجأة غمر نور سماوي المحراب ، و سمع زكريا الملاك يناديه :

              ـ ان الله يبشرك بيحيى . . لم يجعل له من قبل سميا .

              و تحققت أمنية زكريا ، كان يتمنى ولداً مثل مريم في طهره و صدقه و ايمانه . و لكنه قال :

              كيف يكون لي ولد وأمرأتي عقيم ، وقد أصبحت شيخاً طاعناً في السنّ .

              قال الملاك :

              ـ كذلك قال ربّ هو علي هيّن .

              قال زكريا :

              ـ و كيف اعرف ان الله قد رزقني يحيى ؟

              قال الملاك :

              ـ ان علامة ذلك أن تفقد قدرتك على الكلام ثلاث ليال .

              كان المساء قد حلّ و غمر كل شيء بالظلام ، و شعر زكريا بان لسانه مثل الخشبة ، لا يستطيع القدرة على النطق أبداً ، و سجد زكريا لله الحنّان ، المنّان .

              الله سبحنه رزق زكريا ولداً طاهراً سيكون له شأن ، و خرج زكريا من المعبد أراد أن يعظ الناس ، أن يقول لهم لا تنسوا الله . . اسجدوا لله . . اذكروا الله دائماً . .

              لكن لسانه لم يعد مِلكاً له . . راح زكريا يشير لهم باتجاه السماء ، ان هناك يا بني اسرائيل من يراقبكم . . سبحوا الله يا قومي و اذكروه .

              ثلاث ليالٍ تمرّ و زكريا ما يزال عاجزاً عن الكلام ، و في اليوم الرابع قال لزوجته الصالحة اليصابات :

              ـ لقد بشرني الله بولد اسمه يحيى .

              قالت المرأة الصالحة :

              ـ يحيى ياله من اسم عجيب !! ثم كيف لي أن ألد و أنا عقيم !

              قال زكريا :

              ـ ان الله قادر على كل شيء . .

              الله سبحانه بيده قوانين الخلق . . في قبضته السماء و الأرض و هو خلق أبانا آدم من تراب .

              المعجزة :

              اصبح اليهود في ذلك الزمان قساة لا يؤمنون إلاّ بما يشاهدون ، لجأ بعضهم الى السحر ، و أصبح بعضهم يشتغل في صياغة الذهب ، و لكنهم جميعاً كانوا يحبّون المال أكثر من كل شيء .

              كانوا يبتعدون عن تعاليم موسى يوماً بعد آخر .

              من أجل هذا أراد الله سبحانه أن يوقظهم من غفلتهم ، وهب الله زكريا ولداً ، حملت زوجته العقيم و انجبت صبياً ، وجهه يضيء بالايمان و المحبّة .

              و انجبت حنّة بنتاً هي مريم .

              الله سبحانه كان قد وعد عمران بميلاد صبي له شأن ، و لكنّه توفي و لم ير ابنته مريم .

              الله سبحانه طهّر مريم ليجعل منها آية للناس ، و سيجعل منها آية أخرى .


              البشارة :

              كانت مريم في خلوتها تتعبد ، وجهها يتألق نوراً و كان قلبها الطاهر يسافر بين النجوم ، يطوف في السماوات .

              مثل قطرة ندى في الصباح ، كانت الفتاة الطاهرة تتألق .

              قلبها يضيء ، و روحها شفافة ، تكاد تحلّق بعيداً في عوالم مفعمة بالنور .

              مريم منقطعة عن العالم ليس بينها و بين الدنيا سوى نافذة صغيرة تطلّ على الافق الازرق الذي يلامس التلال الخضراء .

              فجأة امتلأت غرفتها بالنور ، و في قلب هالة النور رأت شاباً .

              ذعرت مريم خافت قالت :

              ـ إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً .

              قال الشاب :

              لا تخافي يا مريم " انما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً " .

              قالت مريم و هي تطرق حياءً :

              ـ كيف يكون لي طفل و لم اتزوّج بعد ؟!

              كانت مريم معجزة و ها هي تصبح أمّا لمعجزة كبرى سوف تنجب و هي ما تزال عذراء !

              قال الملاك :

              ـ كذلك يا مريم قال ربّك : هو عليّ هيّن ، و لنجعله آية للناس و رحمة منّا ، و كان أمراً مقضياً .

              و تقدم الملاك من مريم لينفخ في قميصها ، و شعرت مريم ان روحاً عظيمة نفّاذة تنفذ في اعماقها .

              و غاب الملاك ، و أدركت مريم انّها مقبلة على أيام عصيبة ، انها تتحمّل مسؤولية كبرى .

              انها تحمل في أحشائها روح الله و كلمته ، و لكنها كانت تشعر بالقلق من يصدّق حملها المبارك ، و كيف يصدّق الناس أن طفلاً يولد دون أب ؟!

              كان الحمل المبارك ينمو في أحشاء مريم الطاهرة ، و ذات صباح مشرق ، انطلقت مريم الى التلال القريبة ، كانت حائرة خائفة قلقة ، و لكنّ ايمانها بالله يقوّي عزيمتها و إرادتها .

              مريم متعبة جلست عند جذع نخلة ، و شعرت بالآم شديدة ، آلام الولادة . . هتفت مريم :

              ـ يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً منسياً !

              كانت مريم تفكر من يصدّق انها تنجب طفلاً دون أب !!

              و سمعت مريم الجنين يخاطبها :

              ـ لا تحزني يا أمي . . الله هيّأ لك جدول ماء فاشربي منه ، و هزّي جذع النخلة سوف تنثر عليك رطباً فكلي و اشربي و قرّي عينا .

              شعرت مريم بالهدوء يترقرق في قلبها مثل مياه الجدول ، و لكنها قالت بقلق :

              ـ والناس يا بني . . ماذا أقول للناس يا روح الله ؟

              قولي لهم نذرت لله صوماً فلن اكلّم اليوم انساناً .

              و ولد عيسى المعجزة . . ولد طفل بلا اب ليكون آية للناس على قدرة الله . . ليكون رحمة للناس . .

              الطفل الطاهر يبتسم لأمه وضعته أمه في احضانها ، ثم حملته عائدة الى قومها !

              و انحدرت مريم من التلال الى المعبد ، و شاهد الناس منظراً عجيباً ! ان مريم تحمل طفلاً ! مريم ابنة عمران تحمل طفلاً !! مريم بنت حنّة لم تتزوج بعد و لكنها تحمل طفلاً !

              ـ ماذا ؟ !! كيف ؟ أين هي ؟!

              ـ تلك مريم انها تتجه الى غرفتها في المعبد .

              و انتشر الخبر المثير في كل مكان ، و اصبح حديثاً للجميع .

              الجميع كانوا يتعجبون ، و الناس المؤمنون كانوا ساكتين ، أما البعض فكان يثرثر بكلمات سيئة . .

              و سمع زكريا ما يثرثر به الناس ، و سمع الكهنة بعض الشائعات من أجل هذا انطلق زكريا و مع كهنة المعبد الى مريم . .

              قال أني عبد الله !

              كانت مريم تصلّي في المحراب ، و عيسى في مهده مثل كوكب مضيء . . مثل برعم يتفتح للربيع .

              و دخل زكريا الغرفة و دخلها رجال المعبد :

              قال احدهم و مخاطباً مريم بقسوة :

              ـ لقد جئت شيئاً فريّا .

              و قال آخر :

              ـ يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوءٍ و ما كانت أمّك بغيّاً .

              وقفت مريم تنظر الى قومها و قد تألق وجهها بنور سماوي لم تقل شيئاً أشارت الى الطفل .

              تعجب الرجال قالوا :

              ـ كيف نكلم من كان في المهد صبياً ؟!

              كيف نكلم طفلاً ، و هل يستطيع طفل في المهد أن يتحدّث ؟!

              و في هذه اللحظة و فيما كان الرجال يحدّقون في الطفل متسائلين ، حدثت المعجزة !

              إن الطفل يتكلم يكشف عن حقيقة كبرى :

              ـ اني عبد الله ! آتاني الكتاب و جعلني نبياً . . إنّ الله ربّي و ربكم فاعبدوه . .

              لقد جعلني الله مباركاً . . و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيّاً . .

              أوصاني ببرّ والدتي و لم يجعلني جبّاراً شقياً .

              و السلام عليّ يوم ولدت و يوم أموت و يوم ابعث حيّاً .

              و امام هذا المشهد المثير . . سجد زكريا لله مصدّقاً بعيسى بن مريم ، روح الله و كلمته القاها الى مريم !

              بعض الرجال خشعوا و امتلأت قلوبهم بالايمان ، و بعض ظلّ ينظر بقسوة غير مصدّق بالمعجزة .

              البيت الكريم :

              وعد الله زكريا أن يرزقه ولداً ، و حدثت المعجزة ولد يحيى و كانت أمه " اليصابات " عقيماً و لكن الله الذي خلق عيسى دون أب ، قادر على أن يرزق المرأة العقيم طفلاً ففرح .

              ولد يحيى و كان طفلاً طاهراً مؤمناً يحبّ الله ، و الله يحبّه كانت أُسرة زكريا أُسرة كريمة ، أب صالحٌ و أمٌ مؤمنة و طفل يبرّ والديه ، و يحبّ الخير للناس .

              و في ذلك المجتمع ولد عيسى و كانت ولادته معجزة و كان آية للناس على قدرة الله .

              و ولد يحيى بمعجزة كانت أمه عقيماً ، قرزقها الله ولداً صالحاً ليكون آية للناس و رحمة .

              كانا آيتين و دليلين على قدرة الله و رحمته ، فماذا حصل لهما عند أصبحا شابيّن ؟

              تعليق


              • #22
                و حناناً من لدنّا

                قصّة سيدنا يحيى عليه السلام

                ولد سيدنا عيسى بن مريم . . ولد الطفل المعجزة ، كلمة الله و رحمته !

                الذين يعرفون طهر مريم ، و شهدوا الطفل و هو يتكلم و يبشر برحمة الله صدّقوا و آمنوا .

                في ذلك الزمان كان المجتمع اليهودي غارقاً في الفساد ، في الكذب ، في المادّيات .

                لم تبق من كلمات التوراة إلاّ القليل . . اليهود كانوا يحرّفون كلام الله . . يفعلون ذلك من أجل مصالحهم و اطماعهم .

                أصبح اليهود مجتمعاً مادّياً لا يؤمن بشيء إلاّ ما كان مادّياً .

                الفقراء يزدادون فقراً ، و الاثرياء يزدادون ثراءً ، و لم يكن هناك شيء مقدس سوى الذهب !


                إلى مصر :

                حدثت بلبلة في البلاد . . الطفل الذي تكلم في المهد هو طفل عجيب !

                حضر مسؤول من الحكومة للاستفسار عن الطفل العجيب !

                عن الطفل الذي تكلم في المهد و بشر الناس بالنبوّة و الخلاص !

                إنّ العاصمة روما تشعر بالقلق و تودّ معرفة ما يجري في مقاطعاتها !

                حتى زكريا لم ينجُ من كيد اليهود ، كانوا يتآمرون عليه و يحيكون الدسائس ، و يحرّضون الحاكم الروماني على قتله .

                اليهود يضمرون الحقد للناس يحبّون أنفسهم فقط ، و كلّما جاءهم نبي يَعِظهم و يرشدهم الى طريق الصلاح كانوا يتآمرون عليه و يخططون لقتله .

                منذ " السبي البابلي " ، عندما احتلّ بخت نصر فلسطين و أخذهم أسرى الى بابل ، و هم يحقدون .

                منذ ذلك الزمان و هم يخططون للسيطرة على العالم .

                ألّفوا كتاباً سموه " التلمود " و قالوا انه اكثر قدسية من التوراة . . حتى التوراة لم تسلم من مكرهم فراحوا يحرّفون كلام الله و شريعة موسى رسول الله .

                من أجل هذا ولد عيسى من دون أب ، ليكون معجزة و يرشد بني اسرائيل الى الطريق الصحيح . و لكن اليهود كانوا يكذبون الانبياء ، لأن الانبياء يريدون الخير لكل الناس .

                خافت مريم على طفلها ، خافت مكر اليهود ، و عندما جاء المسؤول الروماني للتحقيق ، فكرت بالهروب الى مصر .


                و ذات ليلة حملت مريم روح الله و كلمته و غادرت وطنها الى مصر . و هناك عاشت سنوات طويلة .

                يا يحيى خذ الكتاب :

                كان يحيى طفلاً عجيباً ، عندما ينظر المرء اليه يجد نور الايمان في وجهه ، و يرى هيبة الانبياء تشعُّ من عينيه .

                جاء اليه الاطفال قالوا له تعال نلعب فقال لهم بأدب :

                ـ ليس للعب خُلقتُ .

                منذ أن كان طفلاً أدرك اشياء كثيرة ، لماذا فرّت السيدة مريم مع طفلها المعجزة ؟! ، لماذا يغرق اليهود في الجهل و الانحراف و الفساد ؟!

                لماذا تسلّط الرومان الكفّار على قومه ؟!

                كل ذلك حصل لأن بني اسرائيل ابتعدوا عن الدين الحق .

                لأنهم كفروا بالانبياء ، لأنهم اصبحوا أنانيين .

                كبُر يحيى و أصبح شابّاً مهيباً ، كان يهتف علانية :

                ـ من له ثوبان فليعط من ليس له .


                و من له طعام فليعط الجائع .

                لا تظلموا أحداً ! و لا تفتروا على أحد !

                ان طريق الله واضح مستقيم ، لا تجعلوه معوجّاً .

                هيرودس :

                في ذلك الزمان كان يحكم الشام حاكم روماني اسمه " هيرودس " كان وثنياً شرّيراً .

                و كان لأخ هيرودس زوجة جميلة ، هيرودس أخذها بالقوّة لتكون له زوجة !

                لم يعترض أحد ، سيدنا يحيى وحده الذي قال للغاصب :

                ـ لا يجوز لك ان تفعل ذلك .

                لم يسكت يحيى كان يندد بهيرودس و بالشرور التي يرتكبها .

                أصدر هيرودس أمراً بالقاء القبض على النبي و جاء الشرطة لاعتقاله .

                عندما القوه في السجن لم يخف . . لم يتوسل كان شجاعاً ، في السجن كان يصيح :

                ـ سيأتي من بعدي من هو أقوى مني . . ستعمّ الرحمة و تزهر الزنابق ، و تبصر العيون ضوء النهار ، وتنفتح الآذان الصمّ .


                الاحتفال :

                أقام هيرودس احتفالاً كبيراً . . ترقص فيه النساء و يشرب فيه الرجال الخمر . . الناس الفقراء خارج القصر يئنّون من الجوع ، و يتألمون من الظلم و يرتجفون من البرد .

                الناس الفقراء عراة لا يملكون شيئاً يسترون به اجسامهم و هيرودس الحاكم يرتدي الحرير ، و يجلس على عرش مطعم بالذهب و الفضة و الأحجار الثمينة .

                و كان صوت يحيى يتردد داخل جدران السجن :

                ـ لا يحلّ لك أن تتزوج امرأة لها بعل . . لا يحل لك يا هيرودس أيّها الظالم . . أيّها الغاصب !

                صالة الاحتفال مزدحمة بالفتيات . . بالرجال و بدأت الموسيقى تصدح .

                كان هيرودس جالساً على العرش ، و زوجته الجديدة جالسة الى جانبه ، عيناها تبرقان بالتآمر و الشرّ .

                هيرودس يكرع كؤوس الخمرة المعتّقة .

                و دخلت فتاة جميلة جدّاً ، ترفل بثياب حريرية ملوّنة .

                هبّ هيرودس واقفاً و خاطب زوجته الجديدة :

                ـ ابنتك جميلة جميلة جدّاً .

                قالت المرأة بمكر :


                ـ سالومي سترقص من أجلك .

                هتف الحاكم منتشياً .

                ـ من أجلي ؟!

                ـ نعم من أجلك .

                اقتربت سالومي و قالت بدلال :

                ـ سارقص لك .

                هتف الحاكم :

                أعطيك نصف مملكتي .

                ـ بل أريد ما أشاء .

                أمنحك ما تشائين .

                و راحت سالومي ترقص بقدمين عاريتين !

                كان هيرودس مفتوناً يكرع كؤوس الخمر !

                قالت المرأة اليهودية :

                ـ سأزفّها لك .

                و جُنّ هيرودس :

                و اقتربت سالومي أكثر قالت :

                ـ أريد ما أشاء .

                صاح هيرودس مفتوناً .

                ـ اطلبي ! اعطيك نصف مملكتي .

                قالت سالومي و هي تتلوي كالافعى :


                ـ أريد رأس يحيى . . يحيى بن زكريا !

                ـ كلاّ . . كلاّ . . اطلبي ما تشائين . . أعطيك عرشي .

                قالت الأم بخبث :

                ـ و لكن يحيى لن يسمح لك بالزواج من سالومي .

                ـ يحيى يمنعني !

                ـ نعم يحيى .

                قالت سالومي :

                ـ أريد تقدم لي راس يحيى في طبق من الفضة .

                صفّق هيرودس ، و عيناه تبرقان بالشرّ ، توقفت الأنغام .

                صاح هيرودس :

                ـ اليّ بالسجين !! احضروا يحيى .

                فرّت الفتيات من الصالة .

                تحولت صالة الاحتفال الى محكمة مخيفة .

                و أحضر الشرطة يحيى . . كان مكبلاً بالسلاسل . . وجهه يضيء بنور سماوي .

                مثل غيمة بيضاء كان يتالق .

                صاح هيرودس :

                لقد تزوجت هذه المرأة . . انني حاكم هذه الأرض !

                قال يحيى بغضب :

                ـ لا يحلّ لك .

                صاح هيرودس :

                ـ وسوف اتزوج ابنتها . . سوف اتزوّج سالومي .

                هتف يحيى :

                ـ لا يحلّ لك . . لا يحلّ للرجل أن يتزوّج أمرأة ذات بعل . . لا يحلّ للرجل أن يتزوّج ربيبته .

                صاح هيرودس بحقد :

                ـ سأقطع رأسك . . حتى يخرس صوتك .

                هتف يحيى بصوت هزّ جدران القصر :

                ـ لا يحلّ لك ! لا يحلّ لك .

                صاح هيرودس :

                ـ ايها الجلاّد اقطع راسه فوراً .

                و هوى سيف غادر لقطع رأس النبي ، و حدث شيء مدهش ، رأس يحيى يتدحرج فوق البلاط المرمري و صوت يصيح :

                لا يحلّ لك ! لا يحلّ لك . . لا ي . . ح . . ل .

                شعر هيرودس بالخوف فأمر رجاله باطفاء المشاعل واللحاق به .

                استشهد يحيى و لكن كلماته ظلّت تدوّي داخل القصر و في المدينة .

                لقد بشر يحيى بانبياء سيأتون بعده ، و كان يحيى أول من صدّق نبوّة عيسى و بشّر بقدومه .

                قال سبحانه في القرآن الكريم :

                { وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا }

                قال سيدنا محمد صلى الله عليه و آله عنه : " ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلاّ ذا ذنب إلاّ يحيى بن زكريا ".

                و قال عنه أيضاً : " ما من أحد من ولد آدم إلاّ و قد اخطأ أو همّ بخطيئة إلاّ يحيى بن زكريا " .

                صدق رسول الله .

                عندما سمع سيدنا المسيح بالنبأ حزن كثيراً و قال : " لم يقم في مواليد النساء من هو أعظم منه " .


                عودة المسيح :

                مات هيرودس و لكن الشرور ظلّت مستمرة و اليهود غارقون في ضلالهم .

                و قرر عيسى بن مريم أن يعود ألى فلسطين ، و سكن مع والدته قرية في جبال " الجليل " تدعى " الناصرة " . و هناك جاءه الملاك و أمره بتبليغ رسالة الله .


                ماذا جرى لسيدنا عيسى ؟

                تعليق


                • #23
                  روح الله

                  قصة سيدنا المسيح ( عليه السلام )




                  كان جالساً في المعبد . . في البيت المقدس ، عمره ثلاثون سنة . . طويل القامة ، نحيفاً . . حاف القدمين ، يرتدي قميصاً من الصوف ، يفكّر في مصير أمّته وشعبه .

                  غادر المعبد ، متجهاً نحو التلال . . كان الرعاة يسوقون أغنامهم عائدين ، فقد جنحت الشمس للمغيب ، وفكّر المسيح في بني إسرائيل وتساءل :

                  كيف لي أن أسوق خراف بني إسرائيل الضالة إلى ينابيع النور ؟

                  كيف لي أن أردّ الضائعين إلى الطريق .

                  غابت الشمس ، وعاد الرعاة إلى منازلهم ، والأغنام إلى حظائرها ، والطيور إلى أوكارها ، والأطفال إلى أحضان أمهاتهم . .

                  أمّا المسيح فلا يعود . . لماذا ؟ لأنه ليس له بيت !

                  كان ينام في البريّة ، أمّا إذا نزل المطر أو الثلج فأنه يأوي إلى المغارات في الجبال ، وعندما يجوع فأنه يقتطف بعض ما تنبته الأرض من النباتات البرّية . .

                  هكذا كان يعيش المسيح حرّاً زاهداً لا يخاف أحداً إلاّ الله ، عاش عزيزاً لأنه لا يطمع بشيء في هذه الدنيا .

                  حلّ المساء وحان وقتُ النوم ، توسّد عيسى حجراً ونام .

                  كان ينظر إلى السماء الواسعة المرصّعة بالنجوم . .

                  فجأة ظهر الملاك . . نوره يملأ المكان . .

                  ان الله يأمرك بإبلاغ الرسالة !

                  ونهض المسيح بأمر الله . . ان روح القدس تؤيده والله معه وهو ناصره .

                  الإعلان السماوي :

                  وكان السوق مكتظاً بالناس ، ووقف عيسى ليعلن نبأ السماء .

                  هتف المسيح بشجاعة .

                  { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }[1].

                  في ذلك الوقت كان " فونتيوس فلاتوس " حاكماً على فلسطين وكانت الحكومة القيصرية ، تفرض على حكام الولايات الاستجابة إلى مطالب الناس في الأقاليم المحتلة إذا لم تمس أمن الإمبراطورية الكبرى .

                  كان الحاكم يراقب عن كثب ما يجري في مقاطعته ، وذات يوم وصلته تقارير عما يجري في البلاد ، إنّ شاباً يدعى عيسى ، يقول أنه رسول من الله ، وهو يدعو الناس إلى العودة إلى فطرة الله والابتعاد عما يلوّث النفس .

                  كان الكهنة اليهود أول من انزعج لدعوة المسيح . . لماذا ؟ لأن المسيح يدعو الناس إلى مواساة الفقراء وإطعام الجياع . . لأن المسيح يقول ان الكهنة حرّفوا التوراة .

                  لأن الكهنة يخدعون الفقراء . . ينهبون أموالهم باسم النذور !

                  في ذلك الزمان كان بعض اليهود ينكرون يوم القيامة ، والحياة بعد الموت ، ولا يؤمنون بالحساب والعقاب والثواب ، لم يكونوا يعلنون ذلك ، كانوا يتظاهرون بالدين ويضمرون الانحراف . . يتظاهرون بالإيمان ويُضمرون الكفر .

                  الصراع :

                  بدأ الكهنة حربهم ضد المسيح . . راحوا يطلقون الشائعات يتهمونه بالكفر !

                  كانوا يصيحون بحقد لو كان نبياً فأين معجزاته . . لقد كان لموسى معجزات كثيرة ، فما الذي جاء به عيسى ؟

                  وكان يقولون عن مريم أشياء سيئة !

                  كانوا يتهمونها ، وهي الطاهرة البيضاء !

                  ووقف عيسى في البرّية يدعو بني إسرائيل إلى الروح . . إلى أن يتخلصوا من أسر المادّة . .

                  قال أحدهم :

                  الروح هي الدماء التي تجري في عروقنا .

                  قال عيسى بن مريم :

                  الروح كلمة الله .

                  لا نفهم ما تقول .

                  انحنى المسيح وتناول قبضة من الطين وقال :

                  ما هذه ؟

                  قبضة طين !

                  هل فيها روح ؟

                  كلاّ .

                  فإذا صنعت منها كهيئة الطير . . وإذا نفخت فيها وأصبحت طيراً بإذن الله !

                  قالوا بدهشة :

                  ماذا تعني ؟!

                  اعني انني قادر على انفخ فيها فتصير طيراً بإذن الله . . ذلك أن الله هو واهب الحياة . . وأن الله على كل شيء قدير .

                  وفي تلك اللحظات كان عيسى ( عليه السلام ) يصنع في قبضة الطين شكلاً يشبه الطير . .

                  اكتمل الشكل ، ونفخ في ذلك الشكل الطيني .

                  فجأة تحولت قبضة الطين إلى حمامة بيضاء ، صفقت بجناحيها ، ثم طارت في الفضاء الأزرق .

                  وامتلأ المسيح خشوعاً لله القادر الخالق البارئ المصوّر .

                  الحوّاريون :

                  هل آمن بنو إسرائيل بعيسى ؟ . . هل خشعوا لله ؟ كلاّ ، كان الكهنةُ يزدادون حقداً ، وراحوا يشيعون بين الناس البُسَطاء : إن عيسى شابٌ كافر .

                  راحوا يتآمرون لقتله ، شعر عيسى أن الكفر يبرق في عيونهم من أجل هذا هتف !

                  مَن أنصاري إلى الله ؟


                  فنهض اثنا عشر رجلاً وهتفوا :

                  نحن أنصار الله . . آمنا بالله واشهد بانّا مسلمون . .

                  ثم اتهجوا بأبصارهم نحو السماء وقالوا :

                  ربّنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ، فاكتبنا من الشاهدين .

                  عازر :

                  كان سيدنا المسيح يحب صديقاً له اسمه عازر ، وكان عازر شابّاً مؤمناً .

                  ذات يوم ذهب عيسى إلى منزل عازر سأل عنه ، خرجت أمّه تبكي قالت :

                  لقد مات . . ودفن قبل ثلاثة أيام .

                  قال المسيح :

                  أتحبين أن تريه ؟

                  قالت الأم المؤمنة :

                  نعم يا روح الله !

                  قال عيسى :

                  غداً سآتي لأحييه بأذن الله .

                  وفي الصباح الباكر ، جاء عيسى وقال للأم :

                  انطلقي معي إلى قبره .

                  وقف المسيح عيسى بن مريم أمام القبر واتجه ببصره إلى السماء وراح يتضرع إلى الله واهب الحياة ، ثم هتف بإيمان ملتهب :

                  انهض من نومتك يا عازر !

                  فجأة انزاح التراب ، وانشق القبر، وخرج عازر من قلب التراب !!

                  عانقت الأم ابنها ودموع الفرح تموج في عينيها .

                  قال المسيح :

                  أتحب أن تبقى مع أمّك ؟

                  قال عازر :

                  نعم يا كلمة الله .

                  قال المسيح :

                  ان الله قد كتب عمراً جديداً ، سوف تتزوج ويرزقك الله أولاداً صالحين .

                  المائدة السماوية :

                  أوحى الله إلى الحواريين ، أن آمنوا بي وبرسولي ، قالوا : آمنّا واشهد باننا مسلمون .


                  التف الحواريون حول الرسول عيسى بن مريم يصدقونه ، ويدافعون عنه ، كانوا مثل جيش صغير ، ولكنّه قوي .

                  وكان المسيح وجيهاً في الدنيا والآخرة ، بلغ من إيمانه انه كلّما سأل الله سبحانه شيئاً استجاب له .

                  ولم يكن عيسى ليسأل إلاّ من أجل يؤمن الناس بالله ويعودوا إلى فطرتهم الأولى .

                  كان مثل راع طيّب ، حريص على خرافه أن تشذّ فتخطفها الذئاب ، وكان الفقراء من بني إسرائيل ، مثل خراف ضالّة ، وكان الكهنة المنافقون مثل الذئاب ، يختطفون الفقراء ، ويقتلون في نفوسهم الإيمان برسالة المسيح ( عليه السلام ) .

                  ذات يوم مضى المسيح ومعه الحواريون . . مضى إلى التلال القريبة كان يريد نشر الإيمان بين أهالي القرى .

                  جلس قرب نبع من الماء وجلس معه الحواريون ، راح المسيح يغسل أقدامهم ، تعجبوا من عمله ، قالوا له :

                  لم تفعل ذلك يا رسول الله ؟!

                  قال المسيح ونفسه تفيض بالتواضع :

                  أريدكم أن تفعلوا مع الناس كما أفعل . . ان تخدموهم كما أخدمكم .

                  كان الحواريون جائعين ، وكان المسيح عندما يجوع يقتطف بعض النباتات البرّية ويسدّ بها جوعه .

                  الحوّاريون لا يستطيعون ذلك ، لقد كان المسيح زاهداً ، علّم نفسه كيف يكون سيّداً لمعدته !

                  تهامس الحواريون فيما بينهم ، ان المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير ، ثم نفخ فيه فكانت طيراً ، والمسيح الذي نادى على عازر في قبره فنهض ، يستطيع أن يسأل الله طعاماً نأكله .

                  من أجل هذا قالوا :

                  يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء ؟!

                  تأثر عيسى بشدّة ، هل يشك هؤلاء بقدرة الله ؟ قال لهم مخدراً :

                  اتقوا الله إن كنتم مؤمنين !

                  قالوا :

                  نريد أن نأكل منها ، ونعلم أن قد صدقْتنا ، ونكون عليها من الشاهدين .

                  من أجل أن تطمئن قلوبنا ، ولسوف نشهد بهذه المعجزة أمام الناس جميعاً ، فتكون دليلاً آخر على صدق رسالتك . . ونريد أيضاً أن نتبرك بمائدة سماوية كريمة .

                  سكت سيدنا عيسى ( عليه السلام ) ، وكان وجهه المضيء حزيناً ، وقد شعّ من عينيه نور سماوي .

                  سجد المسيح لله رب السماوات ، ثم رفع رأسه إلى الفضاء الأزرق وهتف من أعماق نفسه الطاهرة :

                  { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }[2].

                  وتألق نور سماوي غمر المكان وسمع عيسى ( عليه السلام ) والحواريون كلاماً مهيباً ينفذ في القلوب إنّ صوت الله يقول لهم :

                  { قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ }[3] .

                  وهبطت مائدة سماوية فيها رزق كريم ، وكانت حافلة بالخبز واللحم ، وملأت رائحة الطعام الفضاء ، وجاء الجياع ، وجاء الفقراء الذي لا يجدون شيئاً يأكلونه . . جاءوا إلى عيسى بن مريم ليطعمهم . ووجدوا المائدة الكريمة ، فأكلوا وشبعوا . . وأكل الناس في ذلك اليوم أهنأ وأطيب طعام .

                  على ساحل البحر :

                  ومضى السيد المسيح يتفقد الناس الفقراء ، ورآه الصياديون فهتفوا :


                  جاء المعلم !

                  كانوا حزينين ، لقد ألقوا شباكهم في البحر دون أن يحصلوا على شيء .

                  بعضهم كان جالساً على الشاطئ وبعضهم في قوارب الصيد ينظرون إليه بأسى ، وبعض كانوا يلفوّن الأشرعة وقد سيطر اليأس على الجميع .

                  ركب عيسى قارباً وأشار إلى الصيادين باستئناف رحلة الصيد .

                  ارتفعت الأشرعةُ من جديد ، وكانت القوارب تجري خَلف قارب المسيح ( عليه السلام ) .

                  توقفت القوارب في نقطة من البحر الأزرق ، وأشار المسيح ( عليه السلام ) أن القوا شباك الصيد في المياه . وكانت المفاجأة أن كل الشِباك عادت وهي مليئة بالسمك ثم ألقيت مرة أخرى وأخرى حتى امتلأت القوارب بالأسماك .

                  وعاد الصيّاديون يصدحون بأناشيد الفرح ويشكرون الله على ما رزقهم .

                  الشفاء :

                  ذات مرّة دعا أحد الحواريين سيدنا المسيح إلى منزله ولبّى المسيح الدعوة فمضى معه .

                  في الطريق رأى المسيح شابّاً يسير والناس يسخرون منه !!

                  كان الشاب أبكم . .لا يسمع شيئاً لهذا فهو لا يستطيع أن يتكلم . . لأنه لم يسمع كلاماً أبداً . . ولكنه كان ينظر بحيرة إلى الناس وهم يضحكون منه .

                  وضع المسيحُ كفّيه بلطف ومسح على رأسه وأذنيه . . وحدثت المعجزة أن الشاب ولأول مرّة بدأ يسمع ؟!

                  وتحولت سخريات الناس إلى دهشة ، وبعضهم آمن بالمسيح وأصبح من أتباعه .

                  ومضى المسيح في طريقه إلى منزل صديقه .

                  في الصباح سمع المسيح أصوات طَرْق على الباب ، وكانت الحجارة تنهال بشدّة .

                  وخرج المسيح ليرى ما يجري ، رأى رجلاً أبرص والناس يقذفونه بالحجارة لكي يجبروه على مغادرة القرية !

                  كانوا يرمونه من بعيد ، ويتقززون من رؤيته .


                  وضع المسيح يده المباركة ومسح على وجهه مثلما يذوب الملح في الماء اختفت آثار المرض وعادت الفرحة إلى وجه الفتى .

                  أمّا الناس فقد راحوا يتدافعون نحو السيد المسيح للتبرّك به .

                  المؤامرة :

                  هكذا عاش المسيح من أجل الفقراء . . من أجل البؤساء والمساكين . كان يُرشدُ الناس إلى النور ويبشرّهم بالرسول الأكرم يسمّيه المعزّي فيقول لهم .

                  " وأمّا المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلته لكم "[4].

                  وكان يقرأ لهم ما ورد في التوراة مما قاله الله سبحانه لموسى ( عليه السلام ) :

                  " أقيم لهم نبياً من وسط إخوانهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به "[5].

                  من أجل هذا ، حقد كهنة اليهود ، وراحوا يحرّضون على قتل المسيح .


                  راحوا يشيعون عليه أنه ساحر ، وانه مرتدّ عن شريعة موسى ( عليه السلام ) .

                  وذات يوم اندفعوا نحو المعبد ، وكان المسيح مع حوّاريه ، كانوا يريدون قتله .

                  وتدخلت الشرطة ، وكان الحكم " فيلاتوس " استهدف من وراء اعتقاله حمايته من شرور اليهود والتحقيق في أفكاره ودعوته .

                  وسيق المسيح مخفوراً إلى القصر ، واندفع الغوغاء وراءه ، خرج فيلاتوس ليتحدث معهم حول سبب نقمتهم ، فجاءت الصيحات من كل مكان :

                  هو كافر!

                  ملحد!

                  خائن!

                  أغلق الحرسُ بوابة القصر ، وراح فيلاتوس يتأمل في وجه المسيح . . الصفاء والسلام يشعان من عينيه ، تساءل في نفسه :

                  إن شاباً كهذا لا بدّ وانه يحمل أفكاراً صافية !

                  قال فيلاتوس :

                  هناك من يقول انك تدعو الناس وتحرّكهم ضد الحكومة .

                  قال المسيح بثقة :

                  انني أدعو إلى عودة الروح . . إلى أن يحسن الإنسان إلى أخيه الإنسان . . إلى أن يعبد الله الواحد الأحد .

                  كان فيلاتوس قد قرأ عن مذاهب بعض فلاسفة اليونان فلم يجد في أفكار عيسى خطراً على روما .

                  من أجل هذا فتُحت بوّابة القصر وأُفرج عن المسيح .

                  أمّا اليهود فقد راحوا يُشِيعُون ان الحاكم قد تأثر بأفكار المسيح ، وأنه يريد خيانة القيصر .

                  كانوا خبثاء لم يكتفوا ببث الشائعات بل راحوا يسجّلون الطوامير ويبعثون بالرسائل إلى روما لعزله عن الحكم .

                  وهكذا حدثت فوضى في البلاد ، وخاف الحاكم من أن تنقلب الأمور ضدّه ، فسمح لليهود أن يفعلوا بالمسيح ما يشاءون .

                  كان اليهود في ذروة حقدهم ، وكان الكهنة مثل الذئاب يبحثون عن المسيح ، ليمزّقوه بأسنانهم ، لا لذنب إلاّ لإنسانيته!! إلاّ لأنه جاء بالشريعة الحقيقية ، كما أنزلها الله على سيدنا موسى ( عليه السلام ) !

                  كان كهنة اليهود في اجتماع صاخب ، يبحثون في كيفية القاء القبض على عيسى ين مريم ( عليه السلام ) .

                  وانتشر الجواسيس في كل مكان للبحث عنه ، وكان اختفاء المسيح قد اُثار لهم قلقاً ، لأنّ في بقائه خطراً على مصالحهم .

                  رَصدَ الكهنةُ جوائزَ مغرية لمن يعثر عليه أو يقدّم لهم معلومات تساعد في القبض عليه!

                  آلام المسيح :

                  لقد تعذّب المسيح كثيراً ، تعذب هو وأمه .

                  اليهود عذّبوا مريم منذ ميلاد عيسى ( عليه السلام ) وبدل أن تخشع قلوبهم للمعجزة فأنهم اتهموا مريم ، وقالوا ان والد عيسى رجل اسمه يوسف النجار .

                  وعندما كبر عيسى وحمل أعباء الرسالة راحوا يطاردونه في كل مكان ،وهاهم الآن يحرّضون الحكومة على قتله ، ويتّهمون الحاكم بخيانة القيصر!

                  نجح اليهود في الحصول على الضوء الأخضر في قتله ، وهاهم يبحثون عنه في كل مكان ، وقد وضع الحاكم الروماني مفرزة من الجنود تتولى القبض عليه وصلبه .

                  ولكن أين ياتُرى كان المسيح ( عليه السلام ) ؟


                  كان المسيح يتنقل بخفاء من مكان إلى آخر ، وكان يمضي كل ليلة في مكان ومعه بعض أتباعه . وذات ليلة ، اختبأ عيسى ( عليه السلام ) في بستان مع بعض الحوّاريين ونهض المسيح _ بعد أن تناولوا طعامهم _ ليلقّن أتباعه درساً في التواضع ، فغسل أيديهم ، قائلاً :

                  لقد فعلت ذلك حتى أكون لكم قدوة ، فتواضعوا للناس !

                  وفي تلك الليلة قال المسيح وقد شعر الغدر .

                  أخبركم ان الراعي سيذهب ، وستبقى الغنم وحدها وسيكفر بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرّات .

                  وتبادل الحوّاريون النظرات ، وكانت عينا يهوذا الاسخريوطي تبرقان بالغدر .

                  كانت تلك الليلة شتائية قارسة البرد ، عندما نام الجميع تسلّل يهوذا خارجاً .

                  كان يفكر في الذهب . . في الجائزة التي سيحصل عليها ، لهذا اتجه إلى المعبد حيث كهنة اليهود يترقّبون الأخبار .

                  وهمس يهوذا في أذن الكاهن الأكبر ، وتسلّم حفنة من النقود الذهبية .

                  وصاح الديك ثلاث مرّات ، وأصدر الكهنة أوامرهم إلى مفرزة الجنودِ الرومان بمرافقة يهوذا الاسخريوطي ، كان يهوذا متلثماً حتى لا يعرفه أحد .


                  كان يسير والجنود يسيرون وراءه ، واستيقظ الناس وحدثت الفوضى ، واقتحم عشرات الجنود البستان .

                  فرّ الحوّاريون في جميع الاتجاهات .

                  وأراد الله أن ينتقم من الغادر فألقى شبه السيد المسيح على وجه يهوذا .

                  اما المسيح فقد رفعه الله إلى السماء بعيداً عنهم وخلّصه من مؤامرات اليهود القذرة .

                  الصليب :

                  لم يعثر الجنود الرومان على المسيح . . ولم يكونوا ليعرفوه من قبل لأنهم لم يروه سابقاً ، وفي غمرة الفوضى وقعت أعينهم على يهوذا ورأوا أن العلامات تنطبق عليه تماماً فألقي القبض عليه وسيق مخفوراً .

                  أراد اليهود التخلّص من المسيح بأسرع وقت .

                  فأُخِذَ فوراً إلى تلّ الجلجلة .

                  وهناك صُلب الشبيه ، ليسدلُ الستار على قصّة المسيح ( عليه السلام ) .

                  ولكن هل انتهت قصته حقاً ؟

                  كلاّ ، انتشرت شائعات كثيرة عن ظهوره . . ولعلّ الفقراء الذين كانوا يحبونه هم وراء مثل هذه الشائعات .

                  ومع ذلك فقد خاف اليهود لأنهم لم يتيقّنوا من قتل المسيح ، لهذا راحوا يشيعون بأنهم قتلوا عيسى بن مريم وأنهم صلبوه .

                  أما الحقيقة ، فان الله سبحانه يقول في القرآن الكريم : { ..وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }[6].

                  وسيعود المسيح ذات يوم .. متى ؟

                  في اليوم الموعود . . يوم يظهر الإمام الثاني عشر من ائمة أهل البيت : الإمام محمد المهدي ( عليه السلام ) الذي بَشّر بظهوره سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) .

                  سيشهد المسيح بصدق المهدي ، وسينصر الحق على الباطل ، ويسودُ الأرضَ الربيعُ والسلام .

                  تعليق


                  • #24
                    إنهم فتية آمنوا

                    قصة أصحاب الكهف و الرقيم




                    في عام 106 بعد ميلاد السيد المسيح ( عليه السلام ) اجتاحت الجيوش الرومانية بلاد الاردن ، حيث تنهظ مملكة الانباط .

                    وكان الإمبراطور الروماني " تراجان " وثنياً متعصباً ، فراح يطارد المؤمنين خاصّة اتباع السيد المسيح ( عليه السلام ) .

                    وقد كانت سوريا وفلسطين والأردن قبل هذه الحملة العسكرية تتمتع بنوع من الحكم الذاتي ، وكانت العاصمة " روما " تكتفي من تلك البلدان بدفع الضرائب .

                    ويعود سبب ذلك إلى ضآلة القوّات الرومانية فيها .

                    وهكذا جاءت الحملة العسكرية ليستكمل الرومان احتلالهم العسكري لتلك الأقاليم ، وإخضاعها لحكم روما المباشر .


                    وفي سنة 112 ميلادية اصدر الإمبراطور تراجان مرسوماً يقضي ، بان كل عيسوي يرفض عبادة الآلهة سوف يحاكم كخائن للدولة ، وانّه سيعرض نفسه للموت .

                    فيلادلفيا :

                    في ذلك الزمان كانت عمّان [1] تدعى " فيلادلفيا " وكانت مدينة جميلة ، ولكن التماثيل التي كانت تزيّن المدينة ، لم تكن للزينة فقط ، بل كانت تعبد كآلهة من دون الله سبحانه .

                    فهناك تمثال لأثينا إلهة الحرب ، حيث تمسك بحربة في يدها اليمنى وتحتمي بترس في يدها اليسرى ، وهناك أيضاً تمثال " تايكي " أو إلهة الخط وحارسة المدينة ! وهو الآن في متحف الآثار في عمّان !

                    وإلى الشرق والجنوب الشرقي من عمّان كانت تنهض " فيلادلفيا " ، وقد وصلت آنذاك أوج تمدّنها المادّي ، أمّا المؤمنين فقد كانوا يعيشون خائفين خاصّة بعد أن احتلت القوّات الرومانية في عهد " تراجان " البلاد ، وفرضت عليها حكماً مباشراً .

                    أصدر تراجان في سنة 112 ميلاديةمرسومه باعتبار جميع النصارى خونة للدولة ! وكان المسيحي يخيّر بين عبادة الآلهة أو الموت !

                    الفتية السبعة :

                    كثيرون هم الذين خافوا ، وتظاهروا بعبادة آلهة الرومان ، وبدأت لجان الدولة بالتحقيق والتفتيش في عقائد أهل البلاد ، فعاش الناس في خوف وقلق ، وفي تلك المدينة عاش فتية سبعة ، ذكر التاريخ أسماءهم كما يلي :

                    1. ماكس منيانوس .

                    2. امليخوس .

                    3. موتيانوس .

                    4. دانيوس .

                    5. يانيوس .

                    6. اكساكدثونيانوس .

                    7. انتونيوس .

                    عاش أولئك الفتية المؤمنون في حيرة ، ماذا يفعلون ؟ ماذا سيكون موقفهم؟

                    لم يكن أمامهم سوى طريقين : الموت أو الكفر .

                    وفي تلك اللحظات المصيرية اتخذوا قراراً مصيرياً هو الفرار من المدينة ، ولكن كيف ؟


                    في فجر ذلك اليوم وفيما كانت لجان التفتيش تطارد المؤمنين رأى الحرّاس سبعة رجال ومعهم كلب يغادرون المدينة .

                    سأل الحرّاس :

                    إلى أين ؟

                    أجاب أحدهم :

                    اننا نقوم برحلة للصيد .

                    قال الحارس :

                    حسناً ولكن يجب أن تعودوا للاشتراك في الاحتفال الرسمي .

                    إلى الكهف :

                    اتجه الفتيان السبعة ومعهم كلبهم شرقاً إلى كهف على بعد (8) كيلومترات ، بالقرب من قرية تدعى " الرقيم " .

                    وصل الفتية المنطقة الجبلية وراحوا يتسلقون المرتفعات في طريقهم إلى كهف كانوا قد انتخبوه من قبل .

                    يقع الكهف في السفح الجنوبي من الجبل ، كان كهفاً فريداً في موقعه ، فهو معتدل الجوّ بسبب وجود فتحتين في جانبيه الأيمن والأيسر ، أما بابه فهو يقابل القطب الجنوبي ، وللأرض في داخل الكهف فجوة تبلغ مساحتها (5/7) متراً ، وفي المكان الذي قرر الفتية الاستفادة منه في اختبائهم .

                    كانت فكرة الفتية هي اعتزال الناس والاختباء في هذا المكان ، وانتظار رحمة الله .

                    لم يكن هناك من أمل في الانتصار على الرومان الوثنيين .

                    كما أنهم يرفضون بشدّة عبادة تلك الآلهة هو افتراء على أكبر حقيقة في الوجود .

                    كان الناس في ذلك الزمان لا يعتقدون بيوم القيامة ، كانوا يتصوّرون ، إنّ روح الإنسان عندما يموت تنتقل إلى إنسان آخر أو تحلّ في حيوان .

                    النوم الطويل :

                    وصل الفتية إلى الكهف متعبين ، وكانوا قلقين ، من أن يطاردهم الجنود الرومان ويكتشفوا مخبأهم .

                    كانوا متعبين لأنهم لم يناموا في الليلة السابقة ، لهذا شعروا بالنعاس يداعب أجفانهم فناموا ، وهم يحلمون بغدٍ أفضل .


                    الله سبحانه ومن أجل أن يجسّد قدرته في بعث الموتى ، ومن أجل أن يعرف الناس قدرته ، وأنه هو وحده مصدر العلم والقدرة ، ألقى عليهم نوماً ثقيلاً ، وضرب على آذانهم .

                    كم من الوقت ظلّوا نائمين ؟ لقد استمر نومهم أياماً طويلة وكانت الشمس تشرق وتغيب وهم نائمون .

                    كانت مفارز الجنود تبحث عنهم في كلّ مكان ، ولكن دون جدوى .

                    أصبحوا حديث أهل البلاد ، لقد اختفى الفتية السبعة في رحلة للصيد ولم يعثر عليهم أحد .

                    وهكذا تمرّ الأعوام تلو الأعوام ، ولا أحد يعرف ما يجري في ذلك الكهف .

                    الكلب باسط ذراعيه في باب الكهف ،وقد استسلم لنوم ثقيل طويل .

                    كان الهواء معتدلاً في داخل الكهف ، لأن بابه كان يواجه القطب الجنوبي ، كما أن وجود فتحتين على جانبيه قد مكّن لنور الشمس من إلقاء أشعة الصباح داخل الكهف وكذلك عند الغروب .

                    كانوا نائمين لا يعلمون بما يجري لقد مرّت عشرات السنين وهم نائمون .

                    لو قدّر لراع أن يعثر على الكهف أو على مسافر أن يأوي إليه عند هطول المطر ، فأنه سوف يهرب وهو يرى منظراً مخيفاً ، لماذا ؟

                    لأنه سيرى رجالاً مفتوحي الأعين ويبحلقون في الفراغ ويرى كلباً من كلاب الصيد هو الآخر جامد كالتمثال .

                    كانوا غارقين في نوم عميق بلا أحلام .

                    ولكن ماذا يجري خارج الكهف ؟ ماذا يجري للمدن والقرى في البلاد ؟

                    موت تراجان :

                    مات الإمبراطور " تراجان "[2] ، وجاء بعده أباطرة آخرون ومات أيضاً الإمبراطور دقيانوس الذي حكم من سنة 285 إلى 305 ميلادية.

                    وخلال تلك الفترة سقطت " تدمر " سنة 110 ميلاديةثم استعادت هيبتها لتسقط نهائياً سنة 272 حيث قضى الرومان على " زنوبيا " وذلك بعد حروب مدمرّة .

                    الملك الصالح :

                    وفي سنة ( 408 ) ميلادية اعتلى الإمبراطور " ثيودوسيوس " عرش روما ، وهو الإمبراطور الذي اعتنق الدين المسيحي لتصبح إمبراطورية روما مسيحية .

                    وفي سنة 412 ميلادية شاء الله أن تتجلّى الحقيقة ، وأن تظهر قدرته للناس رحمة منه .

                    كان قد مرّ على هروب الفتية السبعة ثلاثة قرون .

                    فماذا حصل داخل الكهف يا ترى ؟

                    نبح الكلب " كوتميرون " ، واستيقظ الفتية من أطول نوم في التاريخ .

                    تساءل أحدهم قائلاً وكان يظن ناموا عدّة ساعات فقط :

                    كم نمتم من الوقت ؟

                    كانوا ما يزالون يشعرون بالنعاس ورأوا أن الشمس قد جنحت إلى الغروب وكانت أشعتها الذهبية تغمر جانباً صغيراً على جدار الكهف .

                    لهذا ظن بعضهم انهم ناموا يوماً كاملاً : كانوا يظنون انهم أمضوا الليل كله نياماً دون أن يشعروا بغروب الشمس ، ثم شروقها ، وها هي تغرب الآن . لذلك قالوا :

                    نمنا يوماً أو بعض يوم .

                    بعضهم قالوا :

                    ربكم أعلم بما لبثتم . .

                    الله وحده الذي يعلم كم استمر نومكم ، الله وحده الذي يعلم يما هو محجوب عن النفس ، الإنسان عندما ينام ، ينقطع عن العالم . . عن الدنيا . .

                    لو افترضنا ان إنساناً نام في أول الخريف ثم استيقظ ورأى الثلوج ورأى الأشجار بلا أوراق لا كتشف أنه نام أكثر من ثلاثة أشهر ، لماذا ؟ لأنه مضى فصل الخريف وهو الآن في الشتاء .

                    الفتية السبعة استيقظوا ورأوا الشمس مائلة إلى الغروب ، لم يعرفوا ما إذا ناموا عدّة ساعات فقط أم ناموا أكثر . . لأنهم لا يعرفون ما إذا كانت الشمس قد غابت ثم أشرقت في اليوم التالي وهاهي تغيب مرّة أخرى أم لا!

                    كانوا مؤمنين حقاً لهذا قالوا : الله وحده الذي يعلم كم نمنا ، كانوا يظنون فقط أنهم ناموا يوماً أو بعض يوم !

                    المهمة الخطرة :

                    في صباح اليوم التالي ، شعروا بالجوع ، قال أحدهم وأخرج نقوداً ذهبية :


                    ليذهب أحدنا بهذه النقود ويشتري لنا طعاماً طيّباً . . وليكن على حذر تام ، حتى لا يكتشف أحد هوّيته . . إنّنا إذا وقعنا في قبضتهم فسيكون مصيرنا الموت .

                    قال آخر :

                    حقاً لقد وضعوا حكم الرجم بالحجارة ، لمن يدان برفض الآلهة !

                    وقال آخر :

                    وقد يجبروننا على السجود للآلهة . .

                    وقال آخر :

                    يا له من مصير بائس إذن .

                    في السوق :

                    تبرع أحد الفتية بالانطلاق إلى المدينة وشراء الطعام من السوق . .

                    غادر الكهف وانحدر من الجبل ، وكان يفكّر كيف يدخل المدينة وكيف سيجيب إذا سأله أحد ، وماذا يقول للحرّاس والجنود الرومان ؟!

                    لم يلتفت إلى التغيرات التي أحدثتها الأمطار والسيول والرياح مدّة ثلاثة قرون . .

                    كان خائفاً قلقاً ، لأنه لم يذهب في رحلة للصيد أو النزهة ، عندما فرّ مع رفاقة إلى الكهف .

                    وها هو الآن يعود لشراء الطعام . ما يزال يشعر بالخوف .

                    انه يتصوّر ان الأمور كما هي عليه بالأمس . . وصل المدينة وبدأ يتطلع إلى أسوارها ومبانيها ، كان يمشي حائراً يتعجّب . تصوّر أنه وصل مدينة أخرى!

                    لم يعترضه أحد عندما دخل المدينة ، ولم يجد أثراً لتماثيل الآلهة ، رأى نفسه غريباً في المدينة !

                    الناس هنا يرتدون أزياء جديدة ، ولم يشاهد جنوداً يقمعون الناس أو يحاسبونهم على عقيدتهم !

                    الناس هنا يعيشون بسلام ، يعملون ويزرعون ، ولا يبدو عليهم الخوف أو القلق .

                    ومضى الفتى إلى السوق . . سأل أحدهم فدلاّه وتعجّب الفتى من طريقة الكلام تغيرّت لهجة الناس كثيراً إنهم يتحدّثون بلهجة جديدة !!

                    أمر عجيب ؟!!

                    تساءل الفتى في نفسه :

                    هل أخطأت الطريق ووصلت مدينة أخرى ؟!

                    الحقيقة الكبرى :

                    انتبه إلى نفسه ، وفكر باداء مهمته وهي شراء الطعام والعودة إلى المخبأ في الجبل .

                    لهذا تظاهر بانه يتصرّف بطريقة عادية ، وكأنه أحد سكان المدينة . .

                    الناس حسبوه رجلاً غريباً ، جاء من قرية بعيدة وسط الجبال .

                    بحث الفتى عن رجل طيّب ، كان يبيع الطعام ، لكنه لم يجده ووجد باعة كثيرين تلوح على وجوههم الطيبة .

                    اختار الفتى بعض الأطعمة المعروضة ، ونقد البائع الثمن ، وهنا حدث ما كان متوقعاً!

                    عندما تسلم البائع النقود ، تأمل فيها مدهوشاً ! انها نقود تعود إلى زمن الإمبراطور تراجان وقد مضى على سكّها ثلاثة قرون .

                    نظر البائع إلى الفتى بدهشة ، وفكّر أنه قد يكون عثر على كنز ، لهذا قال له :

                    هل عثرت على كنز ؟!

                    ماذا تعني ؟

                    ماذا أعني هذه النقود الذهبية إنها تعود إلى ما قبل عشرات السنين .

                    إنّها نقودي ، وجئت أشتري طعاماً لي .

                    قال البائع وهو يريه العملة المتداولة :

                    انظر ! اننا نتعامل بهذه النقود !

                    نظر الفتى إلى المسكوكة ، انه لم يرها من قبل قال في نفسه :

                    يا إلهي ماذا حصل ؟!

                    قال البائع :

                    إذا اشركتني بالكنز ، فلن أخبر أحداً .

                    أي كنز ؟! انني لا أملك سوى هذه النقود !

                    إذن سأخبر الشرطة !

                    وارتفع صوت البائع وهو يتعلق بثياب الفتى .

                    وتحلّق الناس حولهما قال الفتى وهو يتلفت :

                    أرجوك اتركني سوف يقتلوني إذا أمسكوا بي . . إن جنود " تراجان " لا يرحمون أحداً .

                    تراجان ؟!


                    قال الناس متعجبين ، ضحك رجل وقال :

                    لقد مات تراجان قبل مئات السنين . . هل أنت مجنون يا فتى ؟!

                    سأل الفتى :

                    ومن يحكم الآن ؟

                    تيوديوس . . إنه إمبراطور طيب وقد اعتنق دين المسيح قبل عامين أو ثلاثة .

                    تساءل الفتى :

                    تعني انهم لم يعودوا يقتلون العيسويين ؟!

                    ماذا تقول ؟! لقد آمن الناس بدين الله ، لقد مضى زمن الظلم والعذاب .

                    قال شيخ وهو يفرك جبينه :

                    يا إلهي عندما كنت طفلاً كانت جدّتي عن فتية خافوا على دينهم من الإمبراطور فهربوا ولم يعثر عليهم أحد ؟!

                    اصيب الفتى بما يشبه الدوار . . وكاد يسقط على الأرض من هول ما يسمع . . هل يعقل أنهم ناموا كل هذه السنين ، وهل يمكن أن ينام الإنسان ثلاثة قرون ؟!

                    انه لا يذكر شيئاً تصوّر أنه نام بالأمس واستيقظ اليوم .

                    راح الفتى يفرك عينيه تصوّر نفسه في حلم . .

                    ولكن لا . . لا ان ما يراه حقيقة . . ولكنها حقيقة كبرى !

                    النهاية :

                    وصلت الأنباء المثيرة إلى حاكم المدينة ، كان رجلاً مؤمناً فأمر بإحضاره ، واكتشف الحاكم انه أمام حقيقة كبرى ، وأن الله سبحانه أراد أن يريهم آية تدلّ على قدرته في بعث الموتى ، وحقّانية البعث والمعاد يوم يقوم الناس لربّ العالمين .

                    طلب الحاكم من الفتى أن يرشدهم إلى الكهف ، وهكذا سار الفتى وخلفه الحاكم المؤمن وجنوده .

                    كان الفتية في الكهف خائفين ويعيشون حالة من القلق ، لقد تأخر أخوهم . .

                    قال : أحدهم :

                    ربّما أُلقي القبض عليه !

                    وقال آخر :

                    ربّما تأخر في دخول المدينة . . انتم تعرفون شدّة الحراس .

                    وفي تلك اللحظات المثيرة ، غادر أحدهم الكهف وراح يتسلق الجبل إلى القمة ، ومن هناك راح يراقب الطريق المؤدية إلى المدينة ، فرأى بعينيه ما كان يخشاه !

                    هاهم الجنود الرومان قادمون من بعيد . .

                    أسرع في العودة لاخبار رفاقه قال لهم :

                    لقد رأيت جنوداً قادمين نحونا ، لقد القي القبض عليه ودلّهم علينا .

                    قال :

                    لا أظنّ ذلك ، لننتظر . . ربما يقصد الجنود مكان آخر .

                    مرّت اللحظات مثيرة سريعة ، فجأة دخل الفتى الكهف ، وأخبرهم بالحقيقة الكبرى . . انهم لم يناموا يوماً أو بعض يوم ، لقد امتدّ نومهم إلى ثلاثة قرون ، وان الله قد جعلهم آية على قدرته ، وانه يحيي الموتى ، ويعيد الأرواح إلى أجسادها مرّة أخرى !!

                    في ذلك الزمان كان هناك من يقول : ان الروح عندما تخرج من الجسد لا تعود إليه ، ولكنها تحلّ في جسد آخر .

                    اما المؤمنون فكانوا يعتقدون بأنّ الله قادر على كل شيء ، وهو الذي خلق الإنسان ، وهو الذي يتوفى روحه ثم يعيدها إليه يوم القيامة .

                    كان الفتى قد طلب من الحاكم أن يذهب بمفرده لأنهم يخافون من الظلم وهم لا يعرفون ما حصل لهم .

                    عندما اكتشف الفتية هذه الحقيقة بكوا خشية لله ، وشوقاً إليه وتضرعوا إليه أن يقبض أرواحهم ، ذلك أنهم ينتمون إلى زمن مضى . . إلى ما قبل ثلاثة قرون .

                    واستجاب الله دعاءهم فألقى عليهم النعاس وحلّقت أرواحهم بعيداً إلى عالم مفعم بالخير والسلام .

                    كان الحاكم ينتظر ولكن دون جدوى ، لهذا قرر الذهاب بنفسه إلى الكهف ، وعندما دخل ، ومعه رجاله رأى منظراً عجيباً !

                    كانوا سبعة فتيان ومعهم كلبهم وقد ماتوا منذ لحظات . . ما تزال أجسادهم دافئة .

                    وسجد الحاكم لله سبحانه وسجد معه المؤمنون . .

                    في ذلك الزمان كان الناس يتجادلون حول الروح بعضهم يقول انها تعود إلى الجسد مرّة أخرى يوم القيامة ، وبعضهم يقول انه تحلّ في جسد آخر .

                    ولكن عندما رأوا بأعينهم أصحاب الكهف ، وكيف عادت لهم الروح أيقنوا بقدرة الله .

                    ولكن المشركون كانوا في شك لهذا قالوا :

                    أبنوا عليهم بنياناً . . ربّهم أعلم بهم !

                    ولكن المؤمنين قالوا :

                    لنتّخذنّ عليهم مسجداً . . ونتبرّك بهذا المكان الذي أظهر الله فيه قدرته .

                    وانتصر المؤمنون وبنوا في ذلك المكان مسجداً يعبد فيه الله وحده .

                    وازدادوا تسعاً :

                    واليوم عندما يزور المرء عمّان عاصمة الأردن ، يمكنه التوجه إلى الجنوب الشرقي منها وعلى مسافة ثمانية كيلومترات بين قريتي " الرقيم " و " أبو علندا " ، حيث يوجد كهف أصحاب الكهف .

                    سيرى عدّة قبور على هيئة النواويس البيزنطية والتي تبلغ سبعة نواويس إضافة إلى ناووس صغير لعلّه مدفن كلب أصحاب الكهف .

                    ويعود الفضل في هذا الاكتشاف إلى عالم الآثار " رفيق وفا الدجاني " الذي نشر نتائج تنقيباته سنة 1964 ميلادية ، وأثبت إنّه الكهف الذي ورد ذكره في القرآن الكريم ، وليس الكهف الذي يدّعي المؤرخون الأوربيون وجوده في مدينة أفسوس في تركيا .

                    ولكن ما حيّر المفسرين هو كم لبث أصحاب الكهف في رقودهم 300 أم 309 سنة ؟

                    يقول القرآن الكريم : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا }[3].

                    الجواب هو أن مدّة نومهم تساوي 300 سنة شمسية ، وهي تعادل 309 سنة قمرية والآن لنحاول حساب ذلك :

                    السنة الشمسية = 365 يوماً

                    السنة القمرية = 354 يوماً

                    × 365 = 109500 يوماً

                    309 × 354 = 109386 يوماً

                    وبما أن السنة القمرية = 354 يوماً و 8 ساعات و48 دقيقة .

                    إذن 8 ساعات و48 دقيقة = 528

                    اليوم = 24 ساعة = 1440 دقيقة


                    وبما أن السنة الثانية والخامسة والعاشرة سنين كبيسة .

                    إذن 309 – 300 = 9 = 10 لأن السنة التاسعة قريبة من العاشرة .

                    وبناء على ذلك يحصل لدينا أربعة أيام أخرى .

                    109386 + 110 + 4 = 109500 يوماً وهو نفس عدد أيام ال 300 سنة شمسية .

                    وأخيراً فان 300 سنة شمسية تعادل 309 سنة قمرية .

                    المصادر :

                    1. تفسير الميزان ، المجلد : 13 تفسير سورة الكهف .

                    2. عمّان عاصمة الأردن / منشورات امانة العاصمة الأردنية .

                    3. قصص القرآن / صدر الدين البلاغي .

                    4. المنجد في اللغة والأعلام .

                    5. التكامل في الإسلام / أحمد أمين .

                    تعليق


                    • #25
                      هُجوم الأبابيل

                      قصة أصحاب الفيل


                      في عام 535 الميلادي أعلن ابرهة الحبشي حاكم اليمن استقلاله عن امبراطورية الحبشة .

                      و راح أبرهة الحبشي يتصرّف كامبراطور يفكّر في توسيع رقعة بلاده باحتلال أراضي الغير .

                      و في تلك الفترة كان الصراع بين امبراطورية فارس و امبراطورية الروم على أشدّه .

                      و كان الرومان يشجعون أبرهة و يعزّزون العلاقات معه ، أما الفرس ، فكانوا يدعمون النصارى المعارضين لحكم ابرهة و يدعمون أيضاً اليهود في اليمن .

                      و قد كان لليهود دورّ في سقوط اليمن بأيدي الاحباش ، ذلك إنهم كانوا يحرّضون ذو نؤاس على اضطهاد نصارى نجران مما دفع بالحبشة الى ارسال قوّات لاحتلال اليمن .

                      " القليس " :

                      فكّر أبرهة الحبشي بانه قد يستطيع التوغل في الحجاز و السيطرة على الطريق البرّي للتجارة و بالتالي الاتصال بامبراطورية الروم .

                      الرومان كانوا يشجّعون على ذلك ، لانه يمكن تعزيز نفوذهم في مناطق متاخمة لامبراطورية الفرس .


                      لهذا كانوا يرسلون المبشّرين لنشر النصراينة ، و فكّر ابرهة الحبشي ببناء أكبر كنيسة في المنطقة ، و كان الهدف من ذلك اجتذاب انظار العرب و صرفهم عن الحج الى الكعبة و تنصيرهم .

                      انتهى البناء من الكنيسة الكبرى ، و دعا العرب الى زيارتها ، و لكنّ قوافل العرب ظلّت تتجه الى الكعبة المقدّسة .

                      و أعلن ابرهة الحبشي إنّه سيدّمر الكعبة ، و هكذا عبأ قوّاته يتقدّمها فيل إفريقي مدّرب .

                      غادر أبرهة صنعاء على رأس جيش جرّار باتجاه مكّة .

                      و قد حاولت بعض القبائل العربية في اليمن و اطرافها عرقلة تقدّم الاحباش ، و لكنها منُيت بالهزيمة ، و هكذا كان الجيش الحبشي يتقدم باتجاه مكّة لاحتلالها و تدمير الكعبة .

                      كان الجيش الحبشي يستولي على كل ما يصادفه ، و عندما وصل قريباً من مكّة ، وجد في أحد الأودية إبلاً لعبد المطلب بن هاشم فصادرها .


                      وصلت انباء الحملة العسكرية الى مكة ، فغادرها السكّان الى قمم الجبال ، لم يبق في المدينة سوى عبد المطلب جدّ سيدنا محمد ( صلى الله عليه و آله ) .

                      للبيت ربّ يحميه :

                      كان سيد مكة قد نصح السكان بإخلاء المدينة حتى لا يتعرّضون الى عدوان الجنود الاحباش .

                      كان عبد المطلب رجلاً مهاباً ، و هو الذي حفر بئر زمزم و ذلك سنة 540 ميلادية ، و منذ ذلك الوقت و الناس يعظّمونه و يؤيّدون زعامته .

                      توجه عبد المطلب الى الكعبة يتضرّع الى الله لحماية بيته العتيق ، ثم هتف بصوت مؤثر :

                      ـ لا همّ إنّ المرءُ يمنع رِحْله فأمنع رحالك !

                      إنّ كل انسان يدافع عن بيته إذا ما تعرّض للعدوان ، يا ربّ فأحم بيتك من عدوان الاحباش .

                      وصلت قوّات الأحباش مشارف مكّة ، فعسكرت هناك استعداداً لاحتلالها .

                      سأل ابرهة عن زعيم مكّة فأخبروه ان زعيمها شيخ يدعى عبد المطلب من نسل ابراهيم الخليل .

                      طلب ابرهة مقابلته ، و انطلق رجل حميري ، و جاء الى عبد المطلب ، قال له :

                      ـ إنّ الملك يقول إنّه لم يأت للحرب ، و أنما جاء لهدم الكعبة فقط ، فاذا لم يقاوموا الجيش فلن يتعرّض الجنود لأهل مكة .

                      أجاب عبد المطلب :

                      ـ إننا أيضاً لا نريد الحرب ، و لسنا قادرين على مقاومة جيش الحبشة . . .

                      و أشار عبد المطلب الى الكعبة و قال :

                      ـ هذا بيت الله الحرام ، و بيت خليله ابراهيم ، و أن الله هو وحده يستطيع أن يحمي بيته . . اننا لا نملك جيشاً للدفاع .

                      قال المبعوث :


                      ـ اذا لم تكن لديكم نوايا للحرب ، فان الملك يودّ مقابلتك و انطلق عبد المطلب الى خارج مكة لمقابلة ابرهة الحبشي .

                      كان ابرهة جالساً على سرير المُلك و قد فُرش له سجاد ثمين .

                      عندما رأى ابرهةُ عبد المطلب دخلتَ الهيبةُ في قلبه و نهض له باحترام و استقبله بحفاوة ، و اجلسه معه على السرير ، و راح يحادثه مؤكداً أنه لم يأت إلاّ لهدف واحد هو هدم الكعبة .

                      التفت ابرهة الى المترجم و قال :

                      ـ اسأله هل لديه حاجة ؟!

                      قال عبد المطلب :

                      ـ ان الجيش قد صادر مئتي بعير لي ، و أنا اطالب باعادتها . عندما سمع ابرهة الترجمة نظر الى عبد المطلب نظرة فيها استصغار و قال :

                      ـ عندما رأيتك هبتك ، و لكن عندما تحدثت زهدت فيك . . أتطلب مني إعادة إبلك ، و تترك بيتاً تقدّسه أنت و آباؤك ؟!

                      نظر عبد المطلب الى ابرهة و أجاب :

                      ـ انا ربّ الأبل . . أمّا البيت فله ربّ يحميه .

                      قال ابرهة ساخراً ؟

                      ـ لا أظن ذلك .

                      قال عبد المطلب بايمان راسخ :

                      ـ سوف نرى .

                      شعر ابرهة بالانزعاج فنهض منهياً المقابلة ، و نهض عبد المطلب عائداً الى الكعبة ، فأمسك بحلقة الباب المقدس و هزّها بقوة و قال باكياً :

                      ـ يا الهي ان كل إنسانٍ يدفع العدوان عن بيته ، فادفع يا ربّ العدوان عن بيتك .

                      الهجوم :

                      في الساعات الأولى من الصباح بدأ جيش الأحباش بالتقدم نحو الكعبة ، و كان الفيل الأبيض يتصدّر الزحف في مهمة تدمير الكعبة .

                      كان ابرهة يراقب تقدّم قوّاته التلال سوف يحيل الكعبة التي يقدّسها العرب الى أنقاض .

                      كانت الفكرة أن يبدأ الفيل بزعزعة البناء وبدء الضربة الأولى ثم ينهال عليها الجنود بالمعاول و الحراب .

                      كان أهل مكّة يراقبون من فوق الجبال المشرفة ما يجري في الوادي .

                      كانوا يتطلعون بأسى الى بيت بناه ابراهيم الخليل .

                      و كان عبد المطلب أكثر الناس حزناً و فجيعة .

                      تجّار مكة كانوا أيضاً يشعرون بالحزن ، و لكن خوفاً على مصالحهم الشخصية ، لأن مكّة قد اصبحت منذ زمن بعيد مركزاً تجارياً هامّاً .

                      و كان عبد الله بن عبد المطلب في رحلة الى الشام ، و قد ترك زوجته آمنة في بيت عبد المطلب ، إنّها الآن مع أهالي مكة و هي تفكر في جنينها المبارك .

                      تمرّد الفيل :

                      أصبح الفيل الأبيض قريباً من الكعبة ، فجأة وقع شيء عجيب ، إنّ الفيل لا يطيع قائده ، توقف !

                      إنه يحاول التراجع و الانسحاب ، القائد يلهب ظهره بالسياط و لكن دون جدوى .

                      ابرهة القائد العام يراقب حائراً ما يجري ، أطلق صيحة غاضبة ، و قائد الفيل يفعل المستحيل لكي يتقدم بالفيل صوب الكعبة ، و لكن الفيل لا يتقدّم خطوة واحدة !

                      و حدث شيء آمر أعجب برك الفيل ، و أصبحت مهمة القائد مستحيلة جداً ، لقد تمرّد الفيل و لم يعد يمكن السيطرة عليه .

                      لو كانت لأبرهة ذرّة من الايمان لفكّر لماذا يفعل الفيل ذلك رغم السياط اللاهبة ؟!

                      و لكنّ أبرهة مغرور و لا يفكّر إلاّ بأطماعه التوسعية و السيطرة .


                      القصف الجهنّمي :

                      فجأة ظهر في الأفق سوادٌ يشبه الغيوم لم يكن غيوماً ، كانت أسراب من الطيور . . طيور الابابيل تحمل حجارة من سجيل .

                      حجارة تشبه الجمر في شدّة اشتعالها .

                      حلقت الطيور فوق الجيش الحبشي ، و بدأت قصفها الجهنّمي !

                      كانت هجمات الطيور على شكل اسراب متتابعة كل سِرْب يلقي حمولته و يمضي ليأتي سرب آخر و يقصف .

                      حدثت فوضى بين الجنود ، و كانت القذائف تصيب أهدافها بدقّة ، و كان المعتدون يتساقطون كالذباب .

                      كان عبد المطلب يراقب ما يجري و قد غمرته حالة من الخشوع و كانت عيناه تشعّان إيماناً . . إنها قدرة الله .

                      ألهب ابرهة ظهر حصانه بالسياط و كانت الأبابيل تلاحقه بقذائفها الحارقة .

                      وصل ابرهة عاصمته صنعاء ، و لكنه سقط من فوق حصانه عند بوابتها ، و كانت عيناه جاحظتين ، تعكسان احساسه بالرعب .

                      العصف المأكول :

                      جاء عبد المطلب الى الكعبة و راح يتأمّل المنطقة المحيطة بالكعبة و قد تحوّلت الى ساحة لمعركة رهيبة تكتظ بالاجساد المحترقة .

                      ميلاد الشمس :

                      ما كاد عبد المطلب يبشر أهل مكّة بنجاة الكعبة من التدمير و انتقام الله من المعتدين ، حتى بشر بميلاد صبي مبارك ، لقد انجبت آمنة صبياً .

                      تهلّل وجه عبد المطلب بالفرح ، لقد حمى الله بيته ، و أنجبت آمنة صبياً مباركاً .

                      احتضن عبد المطلب حفيده و قال :

                      ـ سمّيته محمداً .

                      تعجّب الناس و تساءلوا :

                      ـ لماذا سميته هذا الاسم !

                      قال عبد المطلب :

                      ـ ليكون محموداً في السماوات و الأرض .

                      عام الفيل :

                      عاد أهل مكّة الى منازلهم فرحين ، و اتجه عبد المطلب الى الكعبة ليطهرها من رجس المعتدين .

                      و انتشرت الانباء بين القبائل العربية ، و زادت قداسة الكعبة لدى العرب .

                      و سمّى الناس ذلك العام عام الفيل ، و هو العام الذي ولد فيه سيدنا محمد ( صلى الله عليه و آله ) .

                      و بعد حوالي 40 سنة و عندما أصبح عمر سيدنا محمد ( صلى الله عليه و آله ) أربعين سنة ، و هبط جبريل يبشره بالرسالة ، كانت سورة الفيل من أوائل السور التي ذكّرت أهل مكّة بعام الفيل :

                      بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

                      { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }[1] .

                      الحنيفية :

                      كان عبد المطلب يدين بالحنيفية و هي دين جدّه ابراهيم الخليل .

                      و عندما انقذ الله سبحانه الكعبة ، من عدوان الأحباش ، عرف الناس قدر عبد المطلب و وجاهته عند الله سبحانه .

                      عبد المطلب لم يتوسل الى الاصنام ، لم يتوسل الى هبل و اللات و العزى ، لقد تضرّع الى الله سبحانه فقط .

                      الله سبحانه استجاب دعاءه و انزل عذابه على المعتدين .


                      التجارة :

                      أصبحت مكّة مركزاً تجارياً هاماً ، و كانت قوافل قريش تنطلق في رحلات تجارية الى الشام في الصيف ، و الى اليمن في فصل الشتاء .

                      و كان تجار قريش يسيرون آمنين من غارات القبائل ، و كل ذلك يعود الى الكعبة التي يقدّسها العرب جميعاً .


                      و عندما بعث سيدنا محمد ( صلى الله عليه و آله ) ذكر الله سبحانه فضله في انقاذ الكعبة من العدوان و الدمار ، كما ذكر فضله في رحلات قريش الآمنة قال تعالى :

                      بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

                      { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[2] .

                      و اليوم أصبحت الكعبة شعاراً للتوحيد ، و رمزاً لاتحاد المسلمين كلّ المسلمين .

                      و عندما نتوجه في صلاتنا اليومية الى الله سبحانه علينا أن نتذكر الكعبة ، بيت الله الحرام . . البيت الذي بناه إبراهيم و إسماعيل .


                      علينا أن نعرف انّه رمز قوّتنا ، و رمز عزّتنا .

                      الكعبة لؤلؤة الاسلام .

                      الكعبة قلب العالم الاسلامي و قبلة المسلمين في كل مكان

                      .


                      انتظرو قصص مع المعصومين

                      تعليق


                      • #26
                        بارك الله فبك اخي الكريم

                        تعليق


                        • #27
                          بسم الله الرجمن الرحيم


                          والآن قصص مع المعصومين

                          سيّدنا محمد( صلى الله عليه وآله )

                          تأليف

                          سيد مهدي آيت اللّهي

                          ترجمة

                          كمال السيّد



                          قريش :

                          في ارض الحجاز عاشت قبيلة قريش ، أبرز القبائل العربية ، " قصيّ بن كلاب " هو الجدّ الرابع لسيدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، وله ولاية البيت العتيق .

                          وقبيلة قريش بيوت متعددة أبرزنا بنو هاشم ، وهاشم رجل شريف سخيّ يتمتّع باحترام أهل مكّة .

                          كان يصنع للحجاج طعاماً على سبيل الضيافة ، و قد سُمِّيَ هاشماً ، لأنّه هشم الثريد لقومه بمكة ، بعد ما أصابهم القحط . و إليه تعود تجارة قريش في الشتاء والصيف ، ومن أجل هذا دعاه الناس "سيّداً " وما يزال الذين ينتسبون إلى هاشم يُدعون بالسادة .

                          بعد هاشم جاء ابنه المطلب ، وأعقبه عبد المطلب لزعامة قريش .

                          كان عبد المطلب رجلاً مهاباً ، يحترمه الناس ، وفي زمانه هجم أبرهة الحبشي على مكة لتحطيم الكعبة ، ولكن الله ردّ كيده إلى نحره ، وارتفع شأن عبد المطّلب بين القبائل.

                          كان لعبد المطلب أولاد كثيرون ، ولكن عبد الله كان أفضل أولاده وأعزّهم لديه ، كان في الرابعة والعشرين من عمره عندما اقترن بـ " آمنة بنت وهب " ، وكان ثمرة هذا الزواج المبارك أن وُلِدَ سيِّدُنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) بعد شهرين من عام الفيل .

                          توفي أبوه وهو في بطن أمه ، ثم ماتت أمه وهو ما يزال صبياً فتكفّله جدُّه " عبد المطلّب " ، وهكذا نشأ يتيماً.

                          عاش محمد في مكة ، في كنف جده العظيم ، وعانى الكثير من مرارة اليُتْم .

                          ولمّا أصبح شابّاً عرف أهل مكة فضلَه وأمانته ، واشتهر بلقب الصادق الأمين ، فكانوا يُودِعون أموالهم لديه .



                          كان يحبّ الفقراء والمساكين . . . يدافع عنهم ، ويتناول الطعام معهم ، يصغي لهمومهم ، ويسعى في حلّ مشاكلهم .

                          وعندما أسّس شبابُ مكّة حلفَ " الفضول " للدّفاع عن المظلومين والانتصاف من الظالمين ، سارع " محمد " فانضمّ إليه ، لأنه ينسجم مع أهدافه وأخلاقه .

                          اشترك في إحدى قوافل " خديجة " التجارية بطلب من عمّه " أبي طالب " وتزعّم قيادة القافلة .

                          وعندما لمسَتْ خديجةُ – عن قربٍ _ أمانته وصدقه وحسن سيرته عرضتْ عليه الزواج فوافق على ذلك ، وكانت خديجة امرأة فاضلة ثريّة .

                          وكانت ثمرة زواجهما بنتاً هي " فاطمة " ( عليها السلام ) سيدة النساء ، ومنها كان نسلُ الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) .

                          الحجر الأسود :

                          مضت عشرة أعوام على حياة " محمد مع خديجة ، و صادف أن اجتاحت السيولُ مكة ، ولحقتْ بالكعبة أضرارٌ كبيرة .

                          عزمتْ قريش على إعادة بناء البيت الحرام ، فاقتسمتْ طوائفُ قريش العمل ، وعندما اكتمل البناء ، وأرادوا وضْع " الحجر الأسود" في مكانه اختلفوا فيمن يقوم بذلك العمل ، وأرادت كلُّ طائفة منهم أن تنهض بهذا الشرف ، وكاد الأمر أن يصل إلى القتال والحرب ، فتدخّل سيدُنا محمد بتلك الفكرة التي تفتّق عنها ذهنُه الصافي ، حيث نزع رداءه و وضع " الحجر الأسود فيه ، فأخذت كلُّ طائفة طرفاً من الرداء ، وحملت الحجر الأسود ، فأعاده النبي إلى مكانه .

                          الوحي :

                          عندما بلغ سيدُنا محمدٌ الأربعين من عمره هبط عليه جبريلُ وبشَّره برسالة السماء.

                          كان يتعبّد كعادته في غار حرّاء . . يتفكّر في خلْق السماوات والأرض وخلْق الناس .

                          وفي تلك اللحظة هبط عليه جبريلُ وناداه بكلمات الله :

                          إقرأ . . . إقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلَق الإنسانَ من علَق ، إقرأ وربك الأكرم ، الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم .

                          وهبط رسول الله من الجبل يحمل رسالة السماء إلى العالمين .(1)

                          كانت دعوة الرسول في بدايتها سرّية ، وكان الذين يؤمنون به يخفون إيمانهم وإسلامهم .

                          وخديجة كانت أوّلَ من آمن به وصدّقه ثم علي ( عليه السلام ) .

                          مرّت ثلاثةُ أعوام انتشر فيها الإسلام بين فقراء مكّة ، وجاء أمرُ الله بإعلان الدعوة إلى الناس كافّة .

                          ليس من السهل إعلان التوحيد في مدينة تغصّ بالأصنام و الأوثان وبين قبائل تقدّس الحجارة وتعبدها على مرّ السنين والأعوام .

                          وصدَع رسولُ الله بالأمر ، وهتف في مكّة : لا الله إلا الله وأنا رسول الله .

                          وبعد هذا الإعلان العام بدأت المصاعب ، وبدأ مشركو قريش حرْبهم للدين الجديد .

                          في البدء فكّروا أن يرْشوا " محمداً " بالأموال وبالزعامة والجاه ، وعندما أخفقوا في ذلك راحوا يصبّون العذاب على ضعفاء المسلمين . صادروا أموالهم ، ونهبوا منازلهم ، وسخروا منهم ، ولكن كل ذلك لم يمنع من انتشار دعوة الله .

                          واصَل المشركون عُدوانهم على المسلمين وفكّروا في إخراج الرسول و مَن ناصره من مكّة ، فحاصروهم في " شِعْبِ أبي طالب " حتى مات بعضُهم من الجوع .

                          ولم يكتفِ المشركون بذلك ، بل كانوا يراقبون " الوادي " مراقبةً دقيقة لمنْعهم من البيع والشراء وتهيئة الطعام ، وكان الذين يتعاطفون معهم يخافون أن يحملوا إليهم حتى الماء ، وكانوا ينتظرون حلول الظلام لكي يتسلّلوا خُفية ويُوصِلوا إليهم شيئاً من الطعام والشراب .

                          وفشِل الحصارُ ، وأخفق المشركون في القضاء على الدين الإسلامي .

                          وقف المشركون عاجزين أمام صلابة المسلمين وإيمانهم ، فتآمروا على قتْل الرسول ، والقضاء عليه .



                          الهجرة :

                          هبط الوحي على رسول الله وأخبره بتآمر المشركين وخطّتهم ، فعرض النبيُّ على ابن عمه " علي " ( عليه السلام ) المبيت في فراشه ، فيما انسلّ رسول الله في الظلام مهاجراً من مكّة إلى " يثرب ".



                          اجتمع المتآمرون وحاصروا منزل النبي ينتظرون الفرصة المناسبة لاقتحام الدار وقتل الرسول ، وشعروا بالدهشة وهم يرَون " علياً " في فراشه ، وغادروا المنزل لاقتفاء أثر النبي ، وراحوا يبحثون عن المهاجر في الطرق والمفازات ولكن دون جدوى ، فعادوا إلى مكة خائبين .

                          بعد تسعة أيام قضاها الرسول في الطريق وصل مكاناً قرب " المدينة " يدعى "قُبا" فتوقّف فيه وبنى هناك أول مسجد في الإسلام .

                          بدأ المسلمون في بناء المسجد بحماس ، وكان الرسول يعمل معهم ، وما أسرع أن اكتمل البناء ، وصلّى الرسول فيه أول صلاة للجمعة ، ومكث فيهم مدّة يعلّمهم الكتاب والحكمة .

                          كان الرسول ينتظر قدومّ ابن عمه علي الذي خلّفه في مكة لأداء الأمانات إلى أهلها ، حتى جاء علي ومعه نساء من بني هاشم .

                          دخل الرسول " يثرب " ، وأصبح اسمها مدينة الرسول أو المدينة المنوَّرة .

                          كان علي قد أمضى ثلاثة أيام في مكة ، وأدّى الأمانات إلى أصحابها ، ثم التحق بالنبي في قُبا .

                          استقبل أهل المدينة الرسولَ ومن معه من المهاجرين استقبالاً كبيراً ، وعمّت الفرحة ، وكان كلُّ واحد من المسلمين يدعو الرسول للحلول في داره واستضافته ، و كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : دعوا الناقة فإنّها مأمورة .

                          ومضت الناقة في طريقها حتى إذا وصلت أمام دار " أبي أيوب الأنصاري " وقفتْ وبركتْ ، فحلّ النبي في دار الصحابي " أبي أيوب " .

                          وكان أوّل شيء فعله نبينا ( صلى الله عليه وآله ) هو تأسيسه المسجد ليكون قاعدة كبرى لنشر رسالة الإسلام .

                          وعندما حلّ النبي في المدينة انتهت العداوة والبغضاء والحروب بين الأوس والخزرج ، والتي امتدت اكثر من مئة وعشرين سنة ، وكان اليهود يزيدون أوارها ، وحلّ مكانَها الإخاءُ والوئام .

                          ولكي يُذيب الرسولُ الحواجز بين " المهاجرين " القادمين من مكّة وبين "الأنصار" من سكان المدينة ، فقد آخى بينهم ، وأصبح لكلِّ مهاجر أخٌ من الأنصار ، ولكلّ أنصاري أخٌ من المهاجرين ، كما شجع النبيُ المهاجرين على العمل والسعي لكي لا يبقوا عبئاً على إخوانهم من الأنصار .

                          كان اليهود ينظرون بحقد إلى الإخاء الذي ساد بين المهاجرين والأنصار ، وبين الأنصار أنفسهم ، وكانوا يحاولون – دائماً – ضرب هذا الإتحاد وبثّ روحَ التفرقة بينهم ، وكان سيدُنا محمّدٌ ( صلى الله عليه وآله ) يخمد نار الفتنة كلما حاول اليهود إشعالها .

                          تغيير القبلة :

                          عندما كان رسول الله في مكة كان يتّجه في عبادته وصلاته إلى المسجد الأقصى في مدينة القدس مدّة ثلاثة عشرة سنة ، وعندما هاجر إلى المدينة استمر على هذا سبعة عشر شهراً ، وكان اليهود – أيضاً – يتّجهون في صلاتهم إلى المسجد الأقصى ، ويسخرون من المسلمين ويقولون لهم : لو لم نكن على الحق لما اتبعتم قبلتنا .

                          وذات يوم هبط الوحي يأمر رسول الله أن يتّجه المسلمون في صلاتهم إلى الكعبة المسجد الحرام .

                          وقد ساء هذا الخبر اليهود وقالوا ما حوّلهم عن قبلتهم ؟ غافلين عن أن هذا امتحان واختبار للمسلمين .



                          حروب النبي :

                          معركة بدر



                          تحالف رسولُ الله مع القبائل القريبة لحماية المدينة من الغارات والغدر ، ولما كانت قريش قد صادرت أموال المسلمين في مكة فقد فكر النبي في استعادتها منهم ، فتعرض إلى قوافلهم التجارية ، وقد كان رسولُ الله يهدف من وراء ذلك زعزعة هيبة قريش بين القبائل إضافة إلى استعادة ما نهبوه من أموال المسلمين في مكّة .

                          وهكذا حدث أول صدام مسلّح بين المسلمين والمشركين قُرْب آبار بدر ، فسُمَّيَتْ بذلك معركة بدر ، حيث انتصر المسلمون انتصاراً ساحقاً وارتفع شأنهم في الجزيرة العربية.

                          معركة اُحد :

                          شعرتْ قريش بالغضب بسبب هزيمتها في بدر أمام المسلمين ، وراح " أبو سفيان" يعدّ العدّة للثأر ، حتى أنه منع النساء من البكاء على قتلاهم في بدر لكي يبقي على نار الحقد متأجِّجة في النفوس .

                          وكان اليهود الذين أقلقهم انتصار المسلمين ، يُحرِّضون قريشاً على الثأر ، فقد أرسلوا " كعب بن الأشرف " إلى مكة ليُردِّدَ أشعاراً تحرِّض المشركين على الثأر و الإنتقام.

                          وعقدت قريش اجتماعاً في " دار الندوة " للتداول في ذلك ، واستقرّ رأيهم على غزو المدينة للثأر ، ورصدوا أموالاً طائلة لجيشهم بلغت أكثر من خمسين ألف دينار ، ولم ينسوا أن يطلبوا النجدة من حلفائهم من القبائل المحيطة بمكة .

                          التحرك : بلغت قوّات المشركين ثلاثة آلاف مقاتل . . . كانت تطوي الصحراء في طريقها إلى المدينة المنوَّرة .

                          كان العباس بن عبد المطلب مؤمناً برسول الله ، ولكنه كان يُخفي إيمانه ، فكتب رسالة إلى النبي يُخبره فيها بتحرّك جيش المشركين .

                          تولى أبو سفيان قيادة الحملة ، فيما كان " خالد بن الوليد " قائداً للفرسان .

                          عقد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) اجتماعاً طارئاً في مسجد المدينة للتشاور مع المسلمين حول مواجهة الخطر القادم ، وبعد مداولات طويلة استقرّ الرأي على تجهيز جيشٍ كبير ومغادرة المدينة .

                          وفي صباح يوم السبت السابع من شهر شوّال من العام الثالث الهجري تحرك جيش المسلمين باتجاه جبل أُحد .

                          أمر رسول الله " عبدَ الله بن جُبَير " وخمسين من الرماة بالمرابطة فوق سُفوح "أُحد" وحماية مؤخَّرة الجيش الإسلامي ، وحذَّرهم من مغادرة أماكنهم ، سواء انتصر المسلمون أو هُزموا .

                          وهكذا التقى الجيشان . . جيش التوحيد وجيش الشرك ، وخاض المسلمون قتالاً ضارياُ ، ولاح النصر في جبهتهم ودبّت الهزيمة في جيش المشركين .

                          كان الرماة يراقبون سير المعارك ، وعندما شاهدوا إخوانهم يطاردون فلول المشركين غادروا أماكنهم لجمع الغنائم ، متناسين أوامر الرسول بعدم مغادرة مواقعهم في كل الظروف . وهنا تغير سير المعركة ، فقد انتهز خالد بن الوليد الفرصة واندفع مع قوّاته في حركة التفاف سريعة مهاجماً مؤخرة الجيش الإسلامي .

                          دبّت الفوضى في جيش النبي ، وراح بعضهم يقتل بعضاً ، فيما فرّ الكثير منهم في الصحراء ، ولكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثبت في مكانه يقاتل ، وحوله جمعٌ من المسلمين ، في طليعتهم " علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ".

                          قدّم المسلمون في هذه المعركة سبعين شهيداً ومع هذا فقد جمع النبي – وقد انسحب إلى الجبل – قوّاته ، وبدأ حملة مطاردة لجيش المشركين الذين أسرعوا في العودة إلى مكّة ، فعاد رسول الله إلى المدينة ، وقد تعلّم المسلمون درساً في الطاعة لن ينسوه .

                          معركة الأحزاب :

                          تمكن اليهود الذين أُخرجوا من المدينة بسبب غدرهم وعُدوانهم من تشجيع قريش وتحريض القبائل على محمّد ورسالته ، و وعدوهم بمساعدات ضخمة .

                          وهكذا تشكّلت جبهة عريضة ضد الإسلام جمعت تحت رايتها كثيراً من القبائل والمنافقين واليهود .



                          وفي شوّال من العام الخامس للهجرة زحفتْ جيوشُ الأحزاب بقيادة " أبي سفيان" ، وقد بلغت عشرة آلاف مقاتل .

                          وصلت الأنباء مدينة الرسول حمَلها فرسان من خزاعة ، فأعلن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حالة الاستنفار ، وتبادل المسلمون الرأي في الدفاع عن دينهم ومدينتهم ، وحظي اقتراح " سلمان " بإجماع المسلمين ، وبوشر بحفر خندق كبير لحماية المدينة من العدوان .

                          ثلاثة آلاف مسلم كانوا يعملون ليلَ نهار منهكمين في حفر خندق بلغ طوله اثني عشر ألف متر ، بعمق خمسة أمتار ، وبعرض ستة أمتار تقريباً ، وقد جهز الخندق بمنافذ للعبور و وُضعت خلف الخندق متاريس ومواضع للرماة .

                          فوجئت الجيوش الزاحفة بخطّ لا يمكن اقتحامه ، فعسكر المشركون للحصار .

                          أراد أبو سفيان حسْمَ الموقف ، وإنهاء حالة الانتظار ، فبعث " حيَّ بن أخطب " زعيمَ يهود " بني النضير " ليتحدث مع " كعب بن أسد " زعيم يهود " بني قريظة " في مهاجمة المسلمين من داخل المدينة ، وفتْح الطريق أمام جيوش الأحزاب .

                          كان رسولُ الله يُدرك طبيعة الغدْر في اليهود ، فرصد خمسمئة مسلّح للقيام بدوريات في المدينة ومراقبة تحركات " بني قريظة " وهكذا أمّن الرسولُ المدينةَ من الداخل ، أمّا في الجانب الآخر من الخندق فقد بقيتْ قوّاتُ المشركين عاجزةً عن القيام بأي عمل مسلّح ما عدا مناوشات بالنبال .

                          كانت الأوضاع تزداد تأزُّماً حيث تمكّن خمسة من أبطال المشركين بقيادة " عمرو بن عبد ودّ " من اقتحام الخندق وتحدّي المسلمين .

                          راح " ابن عبد ود " يسخر من المسلمين ، فنهض له عليُّ بن أبي طالب وخاض معه معركة ضارية سقط " عمرو بن عبد ود " على أثرها صريعاً ، وفرّ رفاقه ، فسقط أحدهم في الخندق أثناء العبور ، فنزل إليه عليُّ وقتَله ، فيما لاذَ الباقون بالفرار .

                          وكان لضربة عليٍّ وموقفه الباسل الأثرَ الكبير في تصاعد الروح المعنوية لدى المسلمين ، وبثّ روح الذعر في قلوب المشركين . . . حتى أنّ رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين سبعين سنة .

                          حاول " خالد بن الوليد " تدارك الخسارة وتدنّي معنويات الأحزاب ، فقام بعمليات استعراضية حاول فيها اقتحام الخندق ، فتصدى له المسلمون وأجبروهم على الفرار.

                          وأثناء الحصار أسلم " نعيم بن مسعود " وكان رجلاً معروفاً بالذكاء ، فطلب منه الرسول أن يكتم إسلامه ويحاول تخذيل المشركين وبثّ الفرقة بينهم وبين اليهود ، فنجح في مهمّته ، كما تسلل شخص من المسلمين هو " حذيفة " أثناء الظلام في صفوف المشركين ، وتمكن من حضور اخطر اجتماعاتهم ، فراح يشنّ عليهم حرباً نفسيّة أشعرتهم بالهلع .

                          وهبّت عواصف عاتية ، وكان الهواء شديد البرودة ، فسيطرت روح اليأس ، وساد الاختلاف بين الجنود بعد حصار بلا طائل .

                          قرّر أبو سفيان الاستفادة من الظلام ، والانسحاب على عجَل ، قبل أن تحدث تطوّرات غير محمودة العواقب .

                          وأشرقت الشمس وخرج المسلمون إلى مواقعهم ، وكم كانت فرحتهم كبيرة وهم ينظرون إلى الجانب الآخر من الخندق ولا أثر للمعتدين .

                          وعندما اطمأنّ الرسول إلى انسحاب المشركين ، أصدر أمره إلى المسلمين بترك مواقعهم والعودة إلى ديارهم .

                          بني قريظة :


                          لم يلتزم يهود بني قريظة بعهودهم بعدما أرادوا الغدر ، فقرّر النبي تأديبهم ، فحاصر حصونهم وقِلاعهم مدّة خمسة وعشرين يوماً ، اضطرّوا بعدها للاستسلام .

                          عندما شعر اليهود أن طريقهم الوحيد للنجاة هو الاستسلام ، طلبوا من المسلمين مغادرة المدينة ، ولكن النبي رفض ذلك ، وأصّر على الاستسلام دون قيد أو شرط .

                          لقد كان اليهود وراء كل الدسائس والمؤامرات ، ولم ينس المسلمون غدر " بني قينقاع " و " بني النضير " .

                          وأخيراً طلب اليهود النزول على حكم " سعد بن معاذ " فقد يتعاطف معهم ، ولكن سعداً حكم فيهم بما أنزل الله ، وانتهت لذلك مؤامرات اليهود في المدينة .

                          صلح الحديبية :

                          عزّزت الانتصارات المتلاحقة من موقع المسلمين في الجزيرة العربية وزادت هيبتهم بين القبائل ، وشعرت قريش بالفزع .

                          وفي شهر ذي القعدة من العام السابع الهجري عزم الرسول ( صلى الله عليه وآله ) على حج بيت الله الحرام ومعه ألف وأربعمئة من المسلمين ، فقصد مكّة حيث أحرم في مكان يدعى " ذو الحليفة ".

                          وكان لهذه الخطوة مكاسبها السياسية إضافة إلى فوائدها الروحية والمعنوية ، فقد أظهرت المسلمين كأمّة جديدة تتمتع بكيان خاص بين القبائل في جزيرة العرب .

                          وعندما وصلت الأنباء مكة أقسم أهلها بالأصنام أن يمنعوا دخول محمد وأصحابه إلى مدينتهم ، بينما تحرّك خالد بن الوليد في مقدّمة مئتي فارس لاعتراض النبي وأصحابه .

                          كان النبي يتفادى الاصطدام بقريش ، ولذا سلك طريقاً آخر إلى أن وصل "الحديبية " .

                          وقد بعث النبي مندوباً إلى مكّة يخبرهم بعزم النبي على زيارة بيت الله وأنه لم يأت للقتال والحرب .

                          واستُقبل مبعوث النبي ببرود ، وعُومل معاملة قاسية ، وكانت تصرفاتهم تحمل كل معاني العداء والكراهية للنبي والمسلمين .

                          وقف النبي تحت " الشجرة " وتحلّق حوله المسلمون مجددِّين معه البيعة ، وقد بان العزم في عيونهم ، والتصميم في قلوبهم .

                          وعندما علمتْ قريش بذلك شعرتْ بالخوف وأرسلت " سهيل بن عمرو " للتفاوض مع الرسول وإبرام الصلح مع المسلمين .

                          وبعد مداولات بين الطرفين تمّ الصلح ، ووقّع الفريقان على بنوده الخمسة ، وفيها أن يعود المسلمون إلى المدينة على أن يحجّوا العام القادم دون سلاح ، وهم أحرار في أداء مراسم الحج حسْب طريقتهم .

                          وكان من نتائج هذا الصلح ، انتشار الإسلام في الجزيرة ، ثمّ تُوِّج- في النهاية – بفتح مكّة ، وبالرغم من ذلك فإن بعض المسلمين اعترضوا على الصلح وعدّوه ضعفاً دون أن يلتفتوا إلى فوائده العديدة .

                          لقد تضمّن الصلح بنداً يفيد بأن يعيد المسلمون كلَّ من يُسلم من قريش إلى مكّة .

                          معركة خيبر :

                          في مطلع ربيع الأول من العام السابع الهجري توجّه سيّدُنا محمد إلى " خيبر " ومعه ألف وستمائة مقاتل من المسلمين ، وأحاط الرسول تحركه بسرّية كاملة لمفاجئة اليهود ومنْع الإمدادات العسكرية التي قد تصلهم من قبائل " غطفان " .

                          فوصل منطقة تدعى "رجيع " تفصل بين "خيبر " و " غطفان " .



                          وتحت جنح الظلام حاصر المسلمون حصون " خيبر " واتخذوا مواقعهم بين أشجار النخيل ، وفي الصباح بدأت المعارك ، وكانت الحصون تسقط ، الواحد تلو الآخر .

                          واستعصى على المسلمين فتْح آخر حصنين ، وكان اليهود قد اجتمعوا فيهما للمقاومة ورشْق المسلمين بالسهام .

                          بعث رسول الله " أبا بكر " على رأس قوّة من المسلمين ، وما أسرع أن عاد مهزوماً ، فأرسل رسول الله " عمر " فعاد هو الآخر ، وكان اليهود يسخرون من المسلمين .

                          فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسولَه ويحبُه الله ورسولٌه كرّار غير فرار فلا يرجع حتى يفتح الله عليه . . .

                          وبات المسلمون ليلتهم وهم يتساءلون عن هذا الشخص ، وكلُّ يحلم بذلك .

                          في الصباح دعا سيدنا محمدٌ ( صلى الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) وسلّم الراية إليه ، ودعا له بالنصر .

                          هزّ عليٌ الراية بحماس ، وانطلق مع قوّاته باتجاه أعداء الإسلام .

                          كان اليهود قد غرّتهم بعض الانتصارات السابقة ، فبدأوا يجترئون ، وعندما وصل " علي " وجد بعض قواتهم خارج الحصن ، فشنّ المسلمون هجوماً صاعقاً ، وقتل عليُّ كُلاً من " مرحب " و " الحارث " ، وكانا من أبطال اليهود ، فدبّ الذعر في صفوفهم ، وانسحبوا إلى داخل الحصن ، وأحكموا إغلاق الأبواب .

                          طارد المسلمون فلول اليهود ، حتى إذا وصلوا باب الحصن وقفوا عاجزين ، وهنا مدّ علي ( عليه السلام ) يده إلى باب الحصن وهزّه بقوّة ثم انتزعه وجعله جسراً تعبر عليه قواته ، وقد دهش اليهود من قوّة علي وشجاعته وأعلنوا استسلامهم .

                          المسلمون – أيضاُ – تعجبوا من قوّة علي ، وتساءلوا كيف تمكن علي من ذلك ، وحاول سبعة من المسلمين تحريك الباب فلم يستطيعوا ، فقال علي ( عليه السلام ) : لم أفعل ذلك بقوّة جسمانية ولكني فعلته بقوّة ربّانية .

                          طلب اليهود من رسول الله الصلحَ والبقاء في ديارهم ، شرط أن يقدّموا نصف محصولهم من كل عام إلى المسلمين ، فوافق رسول الله على ذلك وصفَح عنهم .

                          فدك :

                          وصلت أنباء الانتصار الساحق للمسلمين إلى يهود " فدك " ، فأوفد أهلها مبعوثاً للتفاوض مع النبي حول " السلام " مقابل التنازل عن نصف أراضيهم ، وقد وافق الرسول على طلبهم ووهب " فدكاً " إلى " فاطمة ( عليها السلام ) " وكان يعلم أن ابنته سوف تهب وارداتها إلى الفقراء والمحرومين .

                          انطلق رسول الله إلى آخر القواعد اليهودية في الجزيرة في منطقة " وادي القرى " وما أسرع أن سقطت بأيدي المسلمين ، وقد صفح عنهم رسول الله وترك لهم أرضهم مقابل تقديم نصف ريعها إلى المسلمين ولقد أنعشت هذه الاتفاقيات وضْع المسلمين الاقتصادي كما عزّزت قدرتهم العسكرية لمواجهة الأعداء في خارج الجزيرة العربية .

                          معركة مؤتة :

                          بعث رسول الله سفيراً إلى ملِك " بُصرى " لدعوته إلى الإسلام ، ولما وصل إلى أرض " مؤتة " اعترضه حاكم تلك الديار وألقى القبض عليه و أمر بقتله .

                          وعلى أثر ذلك جهّز النبي جيشاً يتألّف من ثلاثة آلاف مقاتل ، وعيّن جعفر بن أبي طالب قائداً ، فإن استشهد فزيد بن حارثة ، فإن استشهد فعبد الله بن رواحة .

                          وانطلقت القوّات الإسلامية نحو مؤتة ، وعندما وصلت الأنباء إلى الروم ، فحشدوا قوّاتهم البالغة مئتي ألف جندي نصفهم من الروم والنصف الآخر من القبائل العربية الموالية لهم .

                          وفي مؤتة اشتعلت حرب غير متكافئة ، فحشود الروم تبلغ مئتي ألف أما الجيش الإسلامي فلم يتعدّ الثلاثة آلاف فقط .

                          ولكن الإيمان العميق للمسلمين لا يراعي للكثرة وزنا ، فقد اندفع " جعفر " إلى المعركة وقاتل بحماس حتى استشهد ، وأستشهد بعده " زيد " ثم " عبد الله " وفي خضمّ المعارك الطاحنة انتخب المسلمون " خالد بن الوليد " الذي فكر بالانسحاب و إنقاذ البقية الباقية من الإبادة ، وفي المساء وضع خطة للانسحاب ، وقاد المسلمين باتجاه المدينة المنوّرة.



                          فتح مكّة :

                          وصلت أخبار المعركة إلى مكة و استبشر المشركون وظنوا أنها نهاية مجد الإسلام ، فانتهزوا الفرصة وخرقوا " صلح الحديبية " ، وذلك بإغارتهم على قبيلة خزاعة حليفة المسلمين ، واستنجدت القبيلة المنكوبة بحلفائها وأرسلت لذلك وفداً إلى المدينة المنورة .

                          أدرك " أبو سفيان " أن المسلمين لن يتركوا " قريشاً " دون جواب ، فأسرع إلى المدينة لتجديد بنود " الصلح " ، وحاول تقديم اعتذار قريش عن هذه الإساءة .

                          وقد قوبل أبو سفيان ببرود تام حتى من قبل ابنته " أم حبيبة " وكانت زوجة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) .

                          أمر رسول الله المسلمين بالاستعداد للحرب فاجتمع عشرة آلاف مقاتل ، وأحاط النبي تحركاته بسرّية كاملة وبثّ دوريات تطوف حول المدينة لمنع تسرّب الأخبار .

                          أراد أحد المسلمين اسمه حاطب – ولكي يكسب ودّ فريش – أن يخبر أهل مكّة بذلك ، فبعث رسالة بيد امرأة ، وهبط الوحي يخبر رسول الله بهذه الخيانة ، فبعث النبي "علياً " فأوقفها ، وصادر الرسالة .



                          وفي العاشر من شهر رمضان المبارك تحرك الجيش بقيادة الرسول ، وبعد أسبوع عسكرت قوات الإسلام قرب مكّة .

                          فوجئت قريش بهذا الجيش الكبير ، وكان الرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحاول تفادي الحرب بأي ثمن ، وحاول بثّ الخوف في نفوس المشركين ، فأمر المسلمين بإيقاد النار ليلاً ، فارتفعت ألسنة النيران وأضاءت رمال الصحراء .

                          كان أبو سفيان يراقب هذا المنظر المهيب فأدرك أن مكة لن تصمد بوجه المسلمين ، فجاء إلى العباس بن عبد المطلب عم النبي يطلب السلام .

                          وبعد مفاوضات بين النبي و أبي سفيان ، استسلم أبو سفيان وأعلن إسلامه .

                          العفو العام :

                          دخل الجيش الإسلامي مكة فاتحاً ، وكان بعض المسلمين يفكّر الانتقام والثأر من الذين عذّبوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق .

                          لكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أعلن العفْو العام حتى عن أولئك الذين آذوه وشرّدوه ، وتهاوت الأصنام و الأوثان .

                          اعتلى بلال الكعبة ، وارتفع هتاف التوحيد :

                          الله أكبر ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .

                          معركة حنين :

                          احدث سقوط مكة بأيدي المسلمين دويّاً في الجزيرة العربية ، وأصبح المسلمون القوة الضاربة .

                          أرادت قبيلتا هوازن وثقيف مفاجأة المسلمين والانقضاض عليهم ، وحشدوا للحرب اثني عشر ألف محارب بقيادة " مالك بن عوف " ، واحتلّوا مرتفعات " حنين " حيث الوادي الّذي سيعبر منه المسلمون .

                          تقدمت قوّات الإسلام إلى مواقع " هوازن " و" ثقيف " ، وعندما دخلت الكتائب الإسلامية بطن الوادي في ظلمة الفجر تعرضت لوابل من السهام والنبال ، فساد الارتباك طلائع الجيش ، و كانت بقيادة خالد بن الوليد ، وجرف المنسحبون في طريقهم الكتائب الأخرى ، وسادت الفوضى صفوفهم ، و غادر المشركون مواقعهم لمطاردة المسلمين ، وأنزلوا بهم خسائر فادحة .

                          وفي ذلك المواقف العصيب ثبت رسول الله ومعه جمع من المؤمنين في طليعتهم عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وتجلّت قدرة الرسول القيادية ، وراح يهتف : أنا رسول الله . . . هلمّوا إليّ .

                          و أمر النبيٌّ عمَّه العباس أن ينادي بالمسلمين ، وكان صوته جهورياً ، فنادى بأعلى صوته : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب بيعة الشجرة ! وكان النبي ومعه المؤمنون الصادقون يقاتلون بضراوة .

                          وهكذا بدأ المسلمون يضيقون من هول الصدمة وراحوا يتجمّعون حول قائدهم العظيم الذي حوّل هزيمتهم إلى نصر ساحق .

                          اجتمع حول النبي مئة مقاتل وهم يصيحون : لبيك لبيك ، واندفع علي إلى حامل راية المشركين فقتله ، وسقطت راية الشرك ، فساد الذعر حشودهم وتحطمت روحهم المعنوية وحميّتهم الجاهلية .

                          وعندما شاهد النبي أن الكفّة قد مالت لصالح المسلمين أصدر أمره بشنّ الهجوم المعاكس و نادى : الآن قد حمي الوطيس ، شدّوا عليهم ، واندفع المسلمون نحو أعدائهم ومزّقوا صفوفهم وألحقوا بهم هزيمة ساحقة ، وارتفعت في الأفق راية " لا إله إلا الله " .

                          معركة تبوك :

                          و في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة تناهت إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أخبار عن حشود عسكرية يقوم بها الروم على الحدود الشمالية ، و أنهم يبيّتون خطّة لاجتياح مناطق الشمال .



                          قام الرسول ، وخلافاً لما عهد في تحركاته السابقة ، بالإعلان عن التعبئة العامّة .

                          ولم يبخل المسلمون بتقديم كافّة أنواع الدعم ، حتى النساء جادتْ بأقراطهن وحليّهن الذهبية .

                          موقف المنافقين :

                          قام المنافقون والذين في قلوبهم مرض بحرب نفسية لتثبيط العزائم وبثّ روح الفشل في نفوس المؤمنين ، وراحوا يبثّون الدعايات المغرضة .

                          وجاء بعض المنافقين إلى رسول الله وهو يستعدّ للحرب فقالوا : إنّا قد بنينا مسجداً ، وإنّا نحب أن تأتينا فتصلّي لنا فيه ، وأدرك الرسول أن في مسجد " ضرار " أهدافاً خبيثة ، وأنهم يريدون التنصّل عن الجهاد في سبيل الله ، وهبط الوحي يفضح تلك الأهداف الدنيئة .

                          وكان المنافقون يجتمعون في بيت اليهودي " سويلم " ويبثّون سمومهم ، فبعث إليهم الرسول جمعاً من المؤمنين ، فأشعلوا النار ، وفرّ المنافقون .

                          إلى تبوك :

                          غادر الجيش الإسلامي – وكان قوامه ثلاثون ألف مقاتل – المدينة متَّجها نحو تبوك في مسيرة تبلغ أكثر من ستمئة كيلومتر ، في صحراء ملتهبة ، وفي فصل الصيف الحارق .

                          كان الرسول قد استخلف على المدينة " علي بن أبي طالب " ( عليه السلام ) لإحباط مؤامرات المنافقين ، وقال بعد أن سمع دعايات المنافقين : كذبوا ولكني خلّفتك لما تركت ورائي ، أفلا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي .

                          قطع الجيش الإسلامي الصحراء نحو تبوك ، ووصلت الأنباء إلى الروم الذين فضّلوا الانسحاب وعدم المغامرة في حرب مع المسلمين .

                          عسكر الجيش الإسلامي مدّة عشرين يوماً ، أثبتوا خلالها عزمهم الأكيد على مواجهة دولة الروم الكبرى دون أي إحساس بالخوف أو التهيّب ، يحدوهم في ذلك إيمانهم العميق بالله ورسوله .

                          وهكذا أصدر الرسول أمره بالعودة إلى المدينة .

                          المؤامرة :

                          عندما عاد سيدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك فكّرت زمرة من المنافقين في الاستفادة من الظلام و دفع مركب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في الوادي ، ففضحهم الله وردّ كيدهم إلى نحورهم ، وأراد بعض المسلمين قتلهم ، ولكن النبي منعهم.

                          عاد رسول الله إلى المدينة وأصدر أمره بحرّق مسجد " ضرار " وبثّ اليأس في نفوس المنافقين ، وقد تاب بعضهم فقبل رسول الله توبته .

                          استخدم الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في "تبوك " لأول مرة أسلوب الحرب الشاملة ، إذ عبّأ كل قادر على حمل السلاح ، ولم يتخلّف سوى ثلاثة أشخاص .

                          كما أدّت هذه الغزوة إلى ارتفاع معنويات المسلمين ، وهم يرون بأعينهم كيف تراجع الروم عن مواجهتهم .

                          البراءة من المشركين :

                          في العاشر من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة ، وكان المشركون ما يزالون يحجّون إلى بيت الله ، نزلت سورة التوبة ، التي تضمنّت آياتها إعلان الجهاد على الشّرْك : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } .

                          وانطلق علي ( عليه السلام ) بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى مكّة ليقرأ كلمات الله في إعلان نهاية الوثنية ، وينادي في الحجاج جميعاً : " أيها الناس لا يدخل الجنّة كافر ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدّته " .

                          المباهلة :

                          بعث سيدنا محمّد برسائل إلى ملوك الأرض يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وكان من بين تلك الرسائل رسالة إلى أسقف نجران ، وكان الأسقف يترقّب ظهور نبي جديد حسب ما ورد في بشارة الإنجيل ، فأرسل وفداً إلى المدينة للتحقيق في ذلك ، وحاورهم رسول الله بالتي هي أحسن وبيّن لهم حقائق الإسلام، وكان المسيحيون يتساءلون عن طبيعة السيد المسيح ؛ هل هو " ابن الله " أم " ابن مريم " ؟

                          فأجابهم سيدنا محمّد بالقرآن : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلَت من قَبله الرسُلُ وأمّه صديقة كانا يأكلان الطعام }[2] . و { إن مَثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون }[3] .

                          ولكن وفد نجران ، الذي كان يتألف من ستين شخصاً ، رفَض الإيمان بهذه الحقائق والإذعان لها ، وهنا دعاهم الرسول إلى المباهلة لكي يلعن الله الكاذب . قال الله تعالى :{ فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندْعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين }[4] .

                          وتحدد موعد المباهلة ، ولكن أهل نجران تراجعوا في اللحظة الأخيرة وهم ينظرون إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد خرج يحمل الحسين ( عليه السلام ) ويمسك بيده الحسن ( عليه السلام ) وخلفه فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) و زوجها علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وخافوا أن تحلّ بهم لعنة الله .

                          حجّة الوداع :

                          غمرت الفرحة قلوب المسلمين بعد إعلان النبي ( صلى الله عليه وآله ) عزمه على حج بيت الله الحرام ، وانتشر الخبر في جميع الأرجاء .

                          وفي الخامس والعشرين من ذي القعدة تحرك موكب الرسول تحيط به الألوف ، وخلّف على المدينة أبا دجانة الأنصاري .

                          وعندما وصل سيدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ذا الحليفة ، ارتدى ثوب الإحرام ، وهتف : لبيك . . لبيك لا شريك لك لبيك . . إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك .

                          وبعد عشرة أيام وصل الرسول مكة وطاف بالبيت العتيق سبعة أشواط ، ثم صلّى خلْف مقام إبراهيم وسعى بين الصفا والمروة .

                          ووقف فوق جبل الصفا حتى إذا اطلّ على الكعبة هتف منادياً :

                          لا الله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده .

                          غدير خم :

                          وفي يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة وعندما وصل الرسول " غدير خمّ " في طريق عودته من الحج هبط عليه الوحي : { يا أيها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك} .



                          وتوقف الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأمر المسلمين أن يتوقّفوا . توقّفتْ ألوف المسلمين وهي تنتظر نبأً هامّاً في تلك الصحراء الحارقة .

                          خطب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بأعلى صوته : الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا . . . .

                          وراح الرسول يعظهم بمواعظ الأنبياء والرسل . . . ثم قال وهو يمسك بيد علي ويرفعها عالياً :

                          من كنت مولاه فهذا علي مولاه . . اللهم وال من والاه وعاد من عاداه .

                          وقال في خطابه أيضا : ألا وأنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب اله وعترتي أهل بيتي .

                          وبعد أن أتّم الرسول خطابه ، هبط الوحي مرّة أخرى . و تلا عليه كلمات الله : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }[5] .

                          الوفاة :

                          عاد الرسول إلى المدينة بعد حجة الوداع ، فألـمّت به الحمى ولزم فراشه .

                          وفي تلك الفترة ادعى بعض المشعوذين النبوة كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي وغيرهما ، وخدعوا بألاعيبهم السذج والبسطاء ، ولكن الله أبطل كيدهم وعاد الناس إلى ظِلال الإسلام .

                          وذات ليلة استبدّ الأرق برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخرج في قلب الظلام وقال لعلي ( عليه السلام ) : إني قد أُمرت أن استغفر لأهل البقيع فانطلق معي .

                          وفي البقيع قال النبي : " إني قد أُوتيت خزائن الدنيا والخلد فيها وخُيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي ، فاخترت لقاء ربي و الجنة " .

                          وكان المرض يشتدّ على سيدنا محمّد يوماً بعد آخر ، وفي يوم الإثنين الثامن والعشرين من شهر صفر من السنة الحادية عشرة من الهجرة عرجتْ روح الرسول إلى الملأ الأعلى . . . تاركاً آلاف العيون الباكية والقلوب الحزينة .

                          فالسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يُبعث حياً .

                          الهوية :

                          الاسم : محمّد .

                          اسم الأب : عبد الله .

                          اسم الأم : آمنة .

                          محل الولادة : مكّة .

                          تاريخ الولادة : شهران بعد عام الفيل .

                          تاريخ الوفاة : 28 / صفر / 11 هجرية .

                          محل الوفاة : المدينة المنورة .

                          من كلماته المضيئة :

                          المؤمن دعب لعب ، والمنافق قطب غضب .

                          حسن العهد من الإيمان .

                          أفضلكم إيماناً أحسنكم أخلاقاً .

                          حسْن الخلق يثبت المودّة .

                          نظر الولد إلى والديه حبّاً لهما عبادة .

                          الحياء من الإيمان .


                          الهوامش :

                          [1] يدعى اليوم بجبل النور ، وهو على بعد ستة كيلومترات عن مكة في الطريق إلى منى .

                          [2] المائدة : 75 .

                          [3] آل عمران : 59 .

                          [4] آل عمران : 61 .

                          [5] المائدة : 3 .

                          تعليق


                          • #28
                            الإمام علي ( عليه السلام )



                            الميلاد :


                            في يوم الجمعة 13 رجب وقبل 23 عاماً من الهجرة الشريفة ولد في أسرة أبي طالب صبيٌ أضاء مكة والدنيا بأسرها .

                            كان العباس بن عبد المطلب عم النبي جالساً مع رجل اسمه " قعنب " عندما جاءت فاطمة بنت أسد " أم علي " تطوف حول الكعبة وتدعو الله .

                            كانت تتجه ببصرها نحو السماء وتتضرع إلى الله بخشوع وتقول : ربي إنّي مؤمنة بك ، وبما جاء من عندك من رسلٍ وكتب ، وإني مصدّقة بكلام جدي إبراهيم الخليل ، وأنه بنى البيت العتيق ، فبحق الذي بنى هذا البيت ، وبحق المولود الذي في بطني لماّ يسّرت عليّ ولادتي .

                            وهنا حدث أمر عجيب ، لقد استجاب الله سبحانه ، فانشقّ جدار الكعبة لتدخل فاطمة بنت أسد ثم انغلق وراءها .

                            كان الحادث مدهشاً جعل الذين رأوه في حيرة من أمرهم ، فقد أسرع العباس إلى منزله وأحضر بعض النسوة لمساعدتها ولكن ظلّ الجميع يدورون حول بيت الله عاجزين عن الدخول .



                            ظلّ أهل مكّة في حيرة ودهشة وكانوا ينتظرون فاطمة .

                            مرّت أربعة أيام ، خرجت بعدها فاطمة وهي تحمل وليدها العظيم .

                            وتساءل الناس عن إسم هذا الوليد فقالت فاطمة أن اسمه عليُّ ، ولقد سمعت أنا في داخل بيت الله نداءً من وراء الغيب يقول : سمّيه علياً .

                            وتربّى علي في بيت محمّد ( صلى الله عليه وآله ) منذ أن كان رضيعاً .

                            يقول في إحدى خطبه في نهج البلاغة :

                            " وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه . . . وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ".

                            أيام الصبا :

                            وعندما اصبح صبياً كان لا يفارق مربيه العظيم ، وكان يتبعه كالظل .

                            يقول علي متذكراً تلك الأيام :

                            " لقد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر أمّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحرّاء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة ".

                            وعندما بعث الله محمّداً رسولاً إلى العالمين وأمره أن يُنذر عشيرته ، أمر رسولُ الله علياً أن يصنع طعاماً لأربعين رجلاً و أن يدعو له عشيرته وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب .

                            يقول علي :

                            " ثم تكلَّم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : " يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومَه بأفضل مما قد جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة . وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ’ فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت وإني لأحدثهم سناً : أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه " .

                            عندها قال سيدنا محمّد : " هذا أخي و وصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا" .

                            أيام الشباب :

                            مضت أيام الصبا وأصبح علي شاباً قوي البُنية ، وهو ما يزال ملازماً لسيدنا محمد يدور حوله كما تدور الفراشات حول الشموع .



                            كان علي قوياً و كانت قوّته في خدمة دين الله ورسوله .

                            و عندما نقرأ تاريخ الإسلام نشاهد علياً ( عليه السلام ) حاضراً في كل المعارك والغزوات وهو يقاتل في الصفوف الأولى ببسالة .

                            ففي معركة " حنين " وعندما فرّ المسلمون عن رسول الله في بداية المعركة ثبت علي وظل يقاتل وراية الإسلام تخفق فوق رأسه حتى انتصر جيش الإسلام على الشرك .

                            و في معركة خيبر قاد علي هجوماً عنيفاً بعدما سخر اليهود من تراجع المسلمين ، وفتَح حصون خيبر ، بل أنه اقتلع بيده أحد أبوابها ، وعندما شاهد اليهود بطولته المدهشة فرّوا مذعورين ثم استسلموا بعد ذلك .

                            الفدائي الأول :

                            كل إنسان يدافع عن نفسه ، لأنه يحب الحياة ولا يريد الموت . والقليل جداً من الناس من يضحي في حياته من اجل الآخرين .



                            وعندما نقرأ قصة سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهجرته نقف معجبين ونحن نرى علياً وهو في ريعان شبابه ينام في فراش النبي لينجو النبي من الموت والقتل .

                            والقصة تبدأ عندما اجتمع المشركون في " دار الندوة " وقرروا قتل سيدنا محمد ، وكانت الخطّة أن ينتخبوا من كل قبيلة شاباً فيقتحموا منزل رسول الله ويقتلوه .

                            وهبط الوحي من السماء يخبر سيدنا محمد بمؤامرة " قريش " . وهنا بادر علي ونام في فراش النبي ليوهم المشركين أنه ما يزال نائماً .

                            ونجا رسول الله بتضحية علي ، وفوجئ المتآمرون بعلي يهبّ من فراش رسول الله ، فغادروا المنزل وهم يجرّون أذيال الخيبة والخسران .

                            في طريق الله :

                            الإسلام دين السلام والحياة ، وهو يرفض القتل وإراقة الدماء بغير حق .

                            إن كل المعارك والحروب التي حدثت في زمن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كانت حروباً دفاعية أي أنها وقعت دفاعاً عن النفس ، وكان سيدنا محمد يسعى لتجنب القتال ما أمكن ، ولكن عندما يكون الإسلام في خطر فإن المسلمين كانوا يقاتلون ببسالة من اجل إعلاء كلمة الله . وتاريخ الإسلام حافل بالأمجاد ، وعندما نقرأ عن تلك الحروب نشاهد سيف علي – وهو أول سيف في الإسلام – لامعاً كبرق السماء .

                            كان علي مع الحق ، والحق مع علي ، كما قال سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله).

                            أخلاق علي ( عليه السلام ) :

                            كانت مدينة الكوفة عاصمة الدولة الإسلامية في عهد علي ( عليه السلام ) ، وقد أضحت منذ ذلك التاريخ مركزاً من مراكز العلم والثقافة الإسلامية .

                            وذات يوم التقى شخصان خارج الكوفة كان أولهما أمير المؤمنين والآخر نصرانياً ، لم يكن يعرف هوّية علي ( عليه السلام ) ، فتجاذبا أطراف الحديث وهما في الطريق حتى وصلا مفترق طريقين أحدهما يؤدي إلى الكوفة و الآخر إلى إحدى القرى القريبة ، فسلك النصراني طريق القرية حيث منزله هناك . وكان على الإمام علي ( عليه السلام ) أن يسلك طريق الكوفة ، ولكنه سلك الطريق إلى القرية ، فتعجب النصراني وقال :

                            أ لست تريد العودة إلى الكوفة ؟

                            فقال الإمام : نعم ولكني أحببت أن اُشيِّعك قليلاً وفاءً لصحبة الطريق ، إن لرفقة الطريق حقوقاً وأنا احب أن أؤدي حقك .

                            تأثر الرجل وقال في نفسه : يا له من دين عظيم يعلِّم الإنسانَ الخُلق الكريم .

                            واندفع الرجل النصراني يعلن إسلامه و انتماءه إلى أمّة الإسلام . وكم كانت دهشته كبيرة عندما اكتشف أن رفيقه في الطريق لم يكن سوى أمير المؤمنين بنفسه – حاكم الدولة الإسلامية الواسعة .

                            ثباته ( عليه السلام ) :

                            يستطيع المرء أن يضبط نفسه ويحدد موقفه الطبيعي في الظروف العادية ، ولكن عندما تجتاحه عاصفة من الغضب والعدوان فأنه في تلك اللحظات الحرجة يفقد توازنه ويصعب عليه السيطرة على نفسه .

                            غير أن علياً ( عليه السلام ) كان ثابتاً في كل الظروف والأحوال ، ولم تكن مواقفه متأثرة بحالته النفسية . انه يتصرف دائماً في ضوء ما يرتضيه الله .



                            سلوكه في البيت ، مواقفه في الحرب ، تعامله مع الناس . . . كان خاضعاً للإسلام ، لقد ربى نفسه على ذلك ، فأصبح مثالاً للمسلم المؤمن بربّه .

                            في معركة الخندق ، وعندما أراد المشركون غزو المدينة ، حفر المسلمون بأمر النبي خندقاً لحماية المدينة من العدوان ، وكانت الأوضاع في غاية الخطورة ، خاصة عندما تمكن بعض فرسان المشركين ، وفي طليعتهم " عمْر بن عبد ود " من اقتحام الخندق وتحدّي المسلمين .

                            ولم يكن " عمْر بن عبد ود " شخصاً عادياً بل كان بطلاً شجاعاً أحجم كثير من المسلمين عن مواجهته ، وهنا نهض علي بطل الإسلام لمنازلته وتقدم إليه بشجاعة وكان الرسول ينظر إليه ويقول : " برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه " .

                            حاول " عمرو " أن يتفادى القتال مع علي ، فقال :

                            - ارجع فأنا لا أحب أن أقتلك .

                            فأجابه علي بإيمان عظيم :

                            - ولكني أحب أن أقتلك .

                            وهنا غضب " عمرو بن عبد ود " و سدّد ضربة قوية إلى علي تفاداها علي ، وردّ على ضربته بضربة قاضية سقط فيها " ابن ودّ " صريعاً على الأرض .

                            وكان لهذا المشهد المثير أثره في بث الذعر في نفوس رفاقه من المشركين الذين لاذوا بالفرار.

                            وعندما اعتلى علي صدر خصمه بصق " ابن ودّ " في وجه علي ، وشعر علي بالغضب ولكنه توقف فلم يقدم على قتله إلى أن سكن غضبه حتى لا يكون قتله انتقاماً ، بل خالصاً لوجه الله وفي سبيل الإسلام .

                            لقد كان علي في حروبه ومعاركه مثلاً أعلى للفروسية ، وتركت مواقفه آثارها في تاريخ العرب و الإسلام . وعاد علي يحمل بشارة النصر إلى الرسول الذي استقبله بحفاوة وقال : " قتْل علي لعمرو يعدل عبادة الثقلين " أي أن تلك الضربة القاضية كانت تساوي عبادة الإنس والجن .

                            فقد كان المشركون يراقبون المعركة ، وعندما شاهدوا بطلهم يسقط على الأرض وعلياً يهتف : الله اكبر ، تحطمت روحهم المعنوية وسيطر اليأس على قلوبهم ، فأنهوا حصارهم للمدينة وانسحبوا مذعورين تحت جنح الظلام .

                            في صفين :

                            لا قيمة للشجاعة والبطولة إذا لم يكن إلى جانبها رحمة ومروءة ، ولكي يكون الإنسان بطلاً شجاعاً عليه أن يحافظ على إنسانيته .

                            وهكذا كان علي ( عليه السلام ) .

                            لم يكن ليقتل مجروحاً أو ظامئاً ولا يطارد مهزوماُ ، وكانت أخلاقه في الحروب غاية في الإنسانية ، فلم يكن يستخدم الجوع أو الظمأ سلاحاً في المعارك بالرغم من أن أعداءه كانوا لا يتورعون عن ذلك أبداً ، وكانوا يستخدمون أحطّ الوسائل من أجل الانتصار .

                            وفي حرب صفين سيطر جيش معاوية على نهر الفرات وأعلنوا حصارهم وحرمان جنود علي من الماء .

                            وذكّرهم الإمام بأن الإسلام والإنسانية والفروسية تأبى مثل هذه المواقف ، ولكن معاوية لم يكن يفكر في شيء سوى مصلحته وأهدافه الدنيئة . عندها هتف الإمام بجنوده : " روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء ، فالموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين " .

                            واندفعت قوّات الإمام صوب الفرات ، وسرعان ما سيطرت على الشواطئ ، فأعلن الجنود أنهم سوف يحرمون جيش معاوية من الماء ،ولكن علياً ( عليه السلام ) اصدر أمره بإخلاء الشاطئ وعدم استخدام الماء كسلاح لأنه يتنافى مع الخلق الإسلامي .

                            عندما كان الإمام حاكم المسلمين :

                            إمام الفقراء :

                            بالرغم من كل الآلام والمصائب التي عاناها الإمام فقد كان يباشر بنفسه شؤون الناس ، ولم يكن يعادي أحداً عداوة شخصية ، حتى الذين كانوا يعادون الإمام ويضمرون له الكراهية والحقد كانوا يأخذون نصيبهم وحقهم من بيت المال ، حتى أصحابه والمقرّبين إليه كانوا يأخذون حقوقهم دون أي امتياز عن الآخرين .



                            ذات يوم جاءته امرأة اسمها " سودة " شاكية بعض جباة الأموال والضرائب ، كان الإمام يصلّي ولكنه شعر بظل امرأة فأسرع في صلاته ثم التفت إليها وقال بعطف :

                            -ألكِ حاجة ؟

                            قالت سودة باكية : أشكوك ظلم عاملك على الخراج .

                            فتأثر الإمام بشدّة وبكى ثم رفع طرفه إلى السماء وقال : " اللهم إنك تعلم أني لم آمرهم بظلم عبادك ، ثم تناول قطعة من الجلد وكتب عليه أمره بإقالة ذلك العامل من منصبه ، وسلّمه إلى " سودة " التي انطلقت إلى موطنها سعيدة راضية " .

                            وذات يوم وصلته أخبار من البصرة تفيد بأن الوالي " عثمان بن حنيف " قد دُعي إلى وليمة أقامها أحد الأثرياء فلبّى دعوته ، فبعث الإمام إليه برسالة يعاتبه فيها ويحذّره مما وراء تلك الدعوات والولائم وأن هؤلاء الأثرياء ليس هدفهم إطعام الطعام بل أنها نوع من الرشاوي والبحث عن النفوذ والسلطة في المدينة من خلال الولاة .

                            وقد جاء في الرسالة مختلف المواعظ والحكم التي تدفع إلى التفكير والتأمل :

                            " أما بعد يابن حنيف ؛ فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتُنقل إليك الجفان ، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ ، وغنيّهم مدعوّ. . .

                            ألا وان لكل مأموم إماما يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألا وان إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه " .

                            وقد سئل أحد أصحابه وهو " عدي بن حاتم الطائي " عن سياسة أمير المؤمنين فقال : رأيت القوي عنده ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه ورأيت عنده الضعيف قوياً حتى يأخذ الحق له .

                            ويقول عن نفسه : وكيف أكون إماماً للناس ولا أشاركهم آلامهم وفقرهم ؟ !

                            وهو لا يقيم للسلطة والنفوذ وكرسي الحكم وزناً .

                            يسأل ابنَ عباس ذات يوم وكان يخصف نعله :

                            - ما قيمة هذه النعل ؟

                            فقال ابن عباس بعد أن ألقى نظرة فاحصة :

                            - إنها رخيصة بل لا قيمة لها .

                            عندها قال الإمام : إنّ قيمتها عندي لأفضل من السلطة والحكم إلاّ أن اُقيم حقاً أو اُبطل باطلاً .

                            إلغاء الامتيازات :


                            عندما تصدى الإمام إلى الخلافة أعلن منذ اليوم الأول سياسته القائمة على العدل والمساواة بين الناس ، لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى ، ولا بين السادة والعبيد . وقد لامه البعض واقترح عليه العودة إلى السياسة القديمة التي كان يتبعها الخلفاء .

                            فقال الإمام مستنكراً : أتأمروني أن أطلب النصر بالجور ؟!

                            ثم قال : لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله .

                            جاءه أخوه عقيل ذات يوم ، فرحَّب به الإمام ، ولما حان وقت العشاء لم يجد عقيل على المائدة غير الخبز والملح فتعجب ، وقال : ليس إلاّ ما أرى .



                            فردّ الإمام : أو ليس هذا من نعمة الله وله الحمد كثيراً .

                            وطلب عقيل منه مبلغاً من المال لسداد دينه فقال الإمام : اصبر عني يخرج عطائي.

                            فانزعج عقيل وقال : بيت المال في يدك وأنت تسوّقني إلى عطائك .

                            فقال الإمام : ما أنا إلا بمنزلة رجل من المسلمين .

                            كان عقيل يلحّ على الإمام أن يعطيه من بيت المال ، فقال الإمام : إن شئت أخذتَ سيفك وأخذت سيفي وخرجنا معاً إلى الحيرة فأنّ بها تجاراً مياسير ، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله .

                            فقال عقيل مستنكراً : أو سارقاً جئتُ ؟ !

                            عندها أجابه الإمام : تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً .

                            هكذا عاش الإمام فترة حكمه كلها وهو يأكل أكل الفقراء ويعيش حياة البسطاء.

                            ولما قالوا له إن معاوية ينفق الأموال ويوزع الرشاوى لكي يحرز النصر ، فلما ذا لا تصنع مثله ؟ قال الإمام مستنكراً :

                            - أتأمروني أن اطلب النصر بالجور ؟ !



                            واستغاثت به امرأة طردها زوجها في يوم قائظ شديد الحر ، فأسرع يردّها إلى زوجها ويصلح بينهما .

                            وبعد أن طرق الباب خرج شاب لا يعرف الإمام . وعندما عاتبه الإمام على فعله صرخ بوجه الإمام غاضباً وراح يتوعد امرأته بالعذاب لأنها جاءت بهذا الرجل .

                            وفي الأثناء مرّ بعض الناس و كانوا يعرفون الإمام ( عليه السلام ) فسلّموا عليه قائلين : السلام عليك يا أمير المؤمنين .

                            واندهش الشاب وسقط على يد الإمام يقبل يده و يعتذر ، وعاهده إلاّ يعود إلى مثلها ؛ فوعظهما الإمام ونصحهما لتكون حياتهما طيبة هانئة .

                            غدير خم :

                            في العام العاشر من الهجرة حجّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) حجة الوداع ، وكان في تلك المدّة يفكر في مسألة الخلافة وهو يشعر بدنو أجله ورحيله عن الدنيا فكان يحاول تمهيد الأمور إلى خليفته ووصيه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .

                            وطالما سمع الصحابةُ رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقول :



                            " علي مع الحق و الحق مع علي " ، " أنا مدينة العلم و علي بابها " .

                            وكان جابر بن عبد الله الأنصاري يقول : ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببغضهم علياً.

                            فقد سمع الصحابةُ سيدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) يقول : " أيّها الناس أوصيكم بحب أخي و ابن عمي علي بن أبي طالب فإنّه لا يحبه إلاّ مؤمن و لا يبغضه إلاّ منافق ".

                            وفي 18 من ذي الحجة عندما عاد سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) من حجة الوداع ومعه أكثر من مئة ألف من المسلمين ، هبط جبريل يحمل أمر السماء .

                            فتوقف الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في منطقة يقال لها " غدير خم " .

                            وأمر المسلمين بالتوقف ، وفي تلك الصحراء الحارقة خطب الرسول بالمسلمين قائلاً : " أيّها الناس يوشك أن أُدعى فأجيب وإني مسؤول وإنّكم مسؤولون : فماذا انتم قائلون " ؟ !

                            قالوا نشهد أنك قد بلّغت ، وجاهدت ونصحت فجزاك الله خيراً .

                            فقال : " أليس تشهدون أن لا إله ألاّ الله ، وأن محمداً عبده ورسوله وأن جنته حق ، وأن ناره حق ، وأن الموت حق وأن البعث بعد الموت حق ، وأن الساعة لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور " ؟ !

                            قالوا نشهد بذلك .

                            قال : " اللهم اشهد " .

                            ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : " أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وإني مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ".

                            كان عشرات الألوف من المسلمين ينظرون إلى سيدنا محمد وهو يرفع يد وصيّه وخليفته عالياً .

                            واندفع الصحابة والمسلمون يسلّمون على علي ( عليه السلام ) ويهنئونه قائلين ، السلام عليك يا وليّ المؤمنين .

                            الخلافة :

                            توفي سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) وفُجع المسلمون برحيله ، وفي تلك الأثناء اجتمع بعض الصحابة بعيداً عن أعين المسلمين و اغتصبوا الخلافة ، ووجد الإمام علي ( عليه السلام ) نفسه وحيداً ، ففضّل السكوت حفاظاً على الدين ومصلحة المسلمين .

                            وعندما وصلت الخلافة إلى عثمان تسلّل الأمويون إلى الحكم فعمّ الفساد في أنحاء الدولة الإسلامية ؛ وراحوا يتململون من ظلم وقهر الحكام الأمويين .

                            وعندما وجد المسلمون أن عثمان يساند ولاته وينفي بعض الصحابة كأبي ذر ويجلد البعض الآخر مثل عمار بن ياسر ، أعلنوا الثورة وجاءوا إلى المدينة المنورة يطلبون من عثمان التنازل عن الخلافة .

                            حاول الإمام علي ( عليه السلام ) إصلاح الأمور وقدم نصائحه للخليفة للعودة إلى عدالة الإسلام وعدم الإصغاء إلى المنافقين من أمثال " مروان بن الحكم " .

                            ولكن لا فائدة .

                            وتصاعد غضب المسلمين وحاصروا قصر الخلافة .

                            كانت حياة عثمان في خطر ، فبادر الإمام إلى إرسال ولديه " الحسن والحسين " إلى القصر ، ووقفا أمام الباب لحماية الخليفة من هجوم الثائرين .

                            كان عثمان مُصراً على سياسته ، وكان الثوّار في ذروة الغضب ، وانفجر الموقف عندما تَسوّر بعض الثوّار القصر ، ودخلوا على عثمان وقتلوه .

                            واندفعت الجماهير إلى منزل علي ( عليه السلام ) يطلبون منه تسلّم مسؤولية الخلافة ، وقد رفض الإمام بشدةٍ ذلك في بداية الأمر ولكنه وافق بعد إصرار الناس ، فتصدّى إلى الحكم وإدارة البلاد وتنفيذ عدالة الإسلام .

                            وهكذا انتبه المسلمون بعد ( 25 ) سنة ، فأعادوا الحق إلى صاحبه .

                            حكومة علي ( عليه السلام ) :

                            أعلن الإمام ( عليه السلام ) منذ اليوم الأول سياسته في الحكم ، وأعلن منهجه القائم على المساواة والعدل ، وأنّه سيعيد الحقوق إلى نصابها ، وينتصف للمظلوم من الظالم .



                            لقد تعوّد الناس طوال المدّة السابقة على الظلم وعلى الامتيازات وتجمعت الثروات الهائلة عند البعض من الصحابة والأمويين ، بينما المسلمون يعيشون حياةً صعبة محرومين من لقمة العيش الكريم .

                            خاف بعض الأثرياء على مصالحهم وامتيازاتهم من عدل علي ( عليه السلام ) فاختلقوا الأسباب للوقوف في وجه الحكم الجديد ، فاشتعلت الحروب الداخلية ، فكانت معركة " الجمل " في البصرة أول معركة ، ثم تلتها حرب " صفين " وبعدها معركة "النهروان " .

                            استشهاد الإمام :

                            بعد هزيمة الخوارج في معركة النهروان اجتمع ثلاثة منهم ؛ وهم " ابن ملجم " و " الحجّاج بن عبد الله " و " عمر بن بكر التميمي " وتشاوروا في قتل معاوية وعمرو بن العاص و" علي بن أبي طالب " ، وتعهد ابن ملجم باغتيال علي ( عليه السلام ) .



                            وفي يوم 19 من شهر رمضان المبارك سنة 40 هجرية . نفّذ ابن ملجم جريمته .

                            كان الإمام يصلّي بالمؤمنين صلاة الفجر في مسجد الكوفة ، و تسلّل " ابن ملجم" خفية ، ثم اقترب من الإمام وكان ساجداً ، وعندما رفع الإمام ( عليه السلام ) رأسه هوى المجرم بسيفه المسموم على رأسه ، وتدفّقت الدماء الطاهرة لتصبغ المحراب بلونها القاني ، و هتف الإمام : " فُزتُ و ربِّ الكعبة ".

                            وسمع الناس نداءً في السماء : تهدّمت و الله أركان الهدى ، قتل اتقى الأتقياء . . . قتله أشقى الأشقياء .

                            حاول المجرم الفرار من الكوفة فأُلقي القبض عليه .

                            فقال له الإمام :

                            - ألم أُحسن إليك ؟



                            فأجاب ابن ملجم :

                            - نعم .

                            وأراد الناس الإنتقام من المجرم ولكن الإمام منعهم ، وأوصى ابنه الحسن ( عليه السلام ) أن يحسن إليه مادام حيا .

                            ولما استُشهد الإمام نفّذ الإمام الحسن حُكم الشريعة بالمجرم ، وذلك في يوم 21 رمضان .

                            وهكذا رحل الإمام عن الدنيا وكان عمره بعمر سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله) أي 63 سنة ، وحُمل جثمانه إلى خارج الكوفة و دُفن سِرّاً تحت جُنح الظلام .

                            من كلماته المضيئة :

                            1. لا تطلب الحياة لتأكل ، بل اطلب الأكل لتحيا .

                            2. أعم الأشياء نفعاً موت الأشرار .

                            3. لا تسبَّن إبليس في العلانية وأنت صديقه في السرّ.

                            4. عقل الكاتب في قلمه .

                            5. الصديق نسيب الروح ، و الأخ نسيب الجسم .

                            6. لا تقل ما لا تحُبُّ أن يقال لك .

                            7. عدم الأدب سبب كل شرّ .

                            8. تعلموا العلم صغاراً ، تسودوا به كباراً .

                            9. إختر أن تكون مغلوباً وأنت منصف ، ولا تختر أن تكون غالباً وأنت ظالم .

                            هوية الإمام ( عليه السلام ) :

                            الاسم : علي .

                            اللقب : امير المؤمنين .

                            الكنية : أبو الحسن .

                            تاريخ الولادة : 23 ق . هـ .

                            تاريخ خلافته : عام 35 هجري .

                            مدة الخلافة : 5 سنوات .

                            العمر : 63 سنة .

                            تاريخ شهادته : 40 هـ

                            تعليق


                            • #29
                              فاطمة الزهراء ( عليها السلام )


                              مقدمة :

                              كانت الأمم والشعوب تنظر إلى المرأة كحيوان أو جزء من الثروة التي يملكها الرجل .

                              فالعرب في الجاهلية كانوا ينظرون للمرأة كرمز للعار وكان بعضهم يدفنون بناتهم أحياءً .

                              وعندما أشرق نور الإسلام منح المرأة حقّها و حدّد حقوقها كأمّ و زوجة وفتاة ، وكلنا سمع الحديثَ الشريف " الجنّة تحت أقدام الأمّهات " " رضا الله من رضا الوالدين " و المرأة أحد الوالدين .

                              لقد حدّد الإسلام إنسانية المرأة ، وشرّع نظاماً يحمي كرامة المرأة ويحافظ على عفّتها . فالحجاب ليس سجناً للمرأة بل وسام و فخار .

                              إننا نشاهد اللآلئ محفوظة بين الأصداف ، والفاكهة داخل قشور ؛ والفتاة المسلمة شرع الله سبحانه لها ما يحميها و يصونها وهو الحجاب الذي لا يحافظ عليها فحسب بل يزيدها وقاراً وجمالاً .

                              أما الغرب فينظر إلى المرأة كمادّة للإعلان والتجارة والربح المادّي على حساب الأخلاق وكرامة المرأة كإنسان .

                              وقد أدّت هذه النظرة إلى سقوط المرأة و تجرّدها عن عاطفتها ومشاعرها الإنسانية النبيلة .

                              وها نحن نرى اليوم تفكّك الأسرة في المجتمعات الغربية .

                              فالمرأة في دنيا الغرب تحوّلت إلى مجرّد دمية لا قيمة لها سواءً في السينما و الإعلانات التجارية أو سباق ملكات الجمال .

                              تعالوا يا أعزّاني لنتعرَّف على مثال المرأة في الإسلام مجسّداً في حياة فاطمة الزهراء (عليها السلام ) .

                              فاطمة الزهراء بنت محمّد ( صلى الله عليه وآله ) .

                              فاطمة الزهراء زوجة علي ( عليه السلام ) .

                              فاطمة الزهراء أم الحسن والحسين وزينب ( عليهم السلام ) .

                              الميلاد :

                              وُلدت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بعد بعثة والدها العظيم ( صلى الله عليه وآله ) بخمسة أعوام ، وبعد حادثة الإسراء والمعراج بثلاث سنين ، وقد بشّر جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بولادتها وكان تاريخ ولادتها يوم الجمعة العشرين من شهر جمادى الآخرة في مدينة مكّة .

                              في بيت الوحي :

                              نشأت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في أحضان الوحي والنبوة ، في بيت مفعم بكلمات الله وآيات القرآن المجيد .

                              سألتْ عائشةُ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذات يوم عن سبب حبّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لفاطمة هذا الحبَّ العظيم .

                              فلقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينهض إذا دخلت عليه فاطمة وكان يقبِّل رأسها ويدها .



                              فأجاب سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) : " يا عائشة لو علمتِ ما أعلم لأحببتيها كما أحبّ . فاطمةُ بضعة منّي فمن أغضبها فقد أغضبني ، ومن سرّها فقد سرّني " .

                              وقد سمع المسلمون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " يقول إنّما سُمِّيتْ فاطمةُ فاطمةَ لأن الله عزّ وجل فَطَمَ من أحبّها من النار " .

                              كانت فاطمة الزهراء تشبه سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) في خَلْقه وأخلاقه .

                              تقول أم سلمة زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فاطمة أشبه الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

                              وكانت عائشة تقول : إنّها أشبه الناس برسول الله بحديثها ومنطقها .وكانت فاطمة لا تحب أحداً قدر حبّها لأبيها .

                              كانت ترعى أباها وعمرها ست سنين ، عندما توفيت أمها خديجة الكبرى ، فكانت تسعى لملء الفراغ الذي نشأ عن رحيل والدتها .

                              وفي تلك السنّ الصغيرة شاركت أباها محنته وهو يواجه أذى المشركين في مكّة .

                              كانت تضمّد جراحه ، وتغسل عن ما يُلقيه سفهاء قريش .

                              وكانت تحدّثه بما يُسلّي خاطره ويدخل الفرحة في قلبه ؛ ولهذا سمّاها سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله ) أمَّ أبيها ، لفرط حنانها وعطفها على أبيها ( صلى الله عليه وآله ) .

                              زواج فاطمة ( عليها السلام ) :

                              بلغت فاطمةُ سنَّ الرشد ، وآن لها أن تنتقل إلى بيت الزوجية ، فخطبها كثير من الصحابة في طليعتهم أبو بكر وعمر ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يردّ الخاطبين قائلاً : إنني أنتظر في أمرها الوحي .

                              وجاء جبريل يخبره بأن الله فد زوّجها من علي .

                              وهكذا تقدم علي ، والحياء يغمر وجهه ، إلى خطبة فاطمة ( عليها السلام ) .

                              فدخل رسول لله ( صلى الله عليه وآله ) على فاطمة ليرى رأيها وقال لها :

                              " يا فاطمة إن علي بن أبي طالب من قد عرفْتِ قرابته وفضْله وإسلامه ، وإني قد سألتُ ربّي أن يزوِّجكِ خيْرَ خلْقه وأحبَّهم إليه ، وقد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين " ؟

                              سكتت فاطمة وأطرقت برأسها إلى الأرض حياء ، فهتف رسول الله : " الله أكبر ! سكوتها رضاها " .

                              مراسم العقد و الزواج :

                              جاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخذ بيد علي ( عليه السلام ) وقال :

                              " قم بسم الله وقل على بركة الله ، ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله ، توكلّت على الله " ، ثمّ قاد علياً ( عليه السلام ) وأجلسه عند فاطمة ( عليها السلام ) وقال : " اللهم إنّهما أحبّ خلقك إليّ فأحبّهما وبارِكْ في ذُرّيتهما واجعل عليها منك حافظاً وإنّي أعيذهما وذرِّيتهما من الشيطان الرجيم " .

                              ثم فبّلهما مُهنّئاً وقال : " يا علي نِعم الزوجة زوجتك " ، وقال لفاطمة : " يا فاطمة نِعم البعل بعلكِ " .

                              ووسط زغاريد النسوة من المهاجرين والأنصار وبني هاشم وُلدت أطهر وأمثل أسرة في التاريخ ، لتكون نواة لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

                              وقد تمّت مراسم العقد والزواج ببساطة تعكس سماحة الإسلام ، فقد كان علي لا يملك من دنياه شيئاً غير سيفه ودرعه ، فأراد أن يبيع سيفه ، فمنعه رسول الله لأن الإسلام في حاجة إلى سيف علي ، ولكنه وافق على بيع الدرع ، فباعه علي ( عليه السلام ) ودفع ثمنه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) .

                              أمر رسول الله أن يشتروا بثمنه طيباً وأثاثاً بسيطاً يسدّ حاجة الأسرة الجديدة .

                              كان المنزل هو الآخر بسيطاً جداً يتألّف من حجرة واحدة إلى جانب مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) .



                              الله وحده الذي يعلم مدى الحب الذي كان يربط بين القلبين الطاهرين ، قلب علي ( عليه السلام ) وقلب فاطمة ، كان حبهما لله وفي سبيل الله .

                              كانت فاطمة تقدّر في نفسها جهاد علي ودفاعه عن رسالة الإسلام . . . رسالة أبيها العظيم .

                              كان زوجها يقاتل في الخطوط الأولى يحمل راية الإسلام في كل المعارك والحروب التي خاضها المسلمون ولا يكاد يفارق أباها رسول الله .

                              فكانت تسعى إلى خدمة زوجها والتخفيف من معاناته و همومه ، وكانت نِعم الزوجة المطيعة .

                              كانت تنهض بأعباء المنزل فإذا جاء زوجها وجَد في ظلالها الراحة والطمأنينة والسلام .

                              كانت فاطمة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، نمَتْ في نور الوحي وترعرعت في فضاء القرآن .

                              الأسرة المثال :

                              الحياة الزوجيةُ اندماج لحياتين لتصبح حياةً مشتركة . . . حياة واحدة .

                              حياة الأسرة تنهض على التعاون والمحبّة والاحترام .

                              كانت حياة علي وفاطمة (عليهما السلام ) مثالاً للحياة الزوجية الكريمة .

                              كان علي يساعد فاطمة في أعمال المنزل وكانت فاطمة تسعى إلى إرضائه وإدخال الفرحة في قلبه .

                              كان حديثهما في منتهى الأدب والاحترام .

                              إذا نادى علي فاطمة قال : يا بنت رسول الله ، وإذا خاطبتْه قالت : يا أمير المؤمنين . وكانا مثال الأبوين العطوفين على أبنائهما .

                              الثمار :

                              في العام الثالث من الهجرة أنجبت فاطمة ( عليها السلام ) أول أولادها فسمّاه سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) " الحسن " ، وبمولده غمرت الفرحة قلب رسول الله ، وهو يؤذن في أذنه اليمنى ويقيم في أذنه اليسرى ويغمره بآيات القرآن .



                              وبعد عام وُلد الحسين ( عليه السلام ) .

                              أراد الله أن تكون ذرّية رسوله محمد ( صلى الله عليه وآله ) من فاطمة ( عليها السلام ) .

                              واحتضن الرسولُ سبطيه يحوطهما برعايته ، وكان يقول عنهما : " هما ريحانتاي من الدنيا " .

                              كان يحملهما معه إذا خرج أو يُجلسهما في أحضانه الدافئة .

                              دخل رسول الله ذات يوم منزل فاطمة وكان الحسن يبكي جوعاً وفاطمة نائمة ، فأخذ إناءً وملأه حليباً وسقاه بنفسه .



                              ومرّ ذات يوم آخر أمام بيت فاطمة فسمع بكاء الحسين ، فقال متأثراً : " ألا تدرون أن بكاءه يؤذيني " .

                              ومرّ عام جاءت بعده " زينب " إلى الدنيا ، وبعدها " أم كلثوم " .

                              ولعلّ رسول الله تذكّر ابنتيه زينب وأم كلثوم عندما سمّاهما بهذين الاسمين .

                              وهكذا أراد الله أن تكون ذرية الرسول في ابنته الوحيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) . . ذرّية بعضها من بعض والله سميع عليم .

                              منزل فاطمة :

                              بالرغم من حياتها القصيرة فقد كانت حافلة بالخير والبركات ، وكانت قدوة وأسوة للنساء ، فكانت الفتاة المثال والزوجة المثال ، والمرأة المثال ، ولهذا أصبحت سيدة نساء العالمين .

                              كانت مريم بنت عمران سيدة النساء في عصرها ، وكانت آسية امرأة فرعون سيدة نساء زمانها ، وكذلك كانت خديجة بنت خويلد .

                              أمّا فاطمة الزهراء فقد توّجها الإسلام سيدةً للنساء على مرّ العصور .

                              كانت قدوة في كل شيء . . يوم كانت فتاة تسهر على راحة أبيها وتشاركه آلامه ، ويوم كانت زوجة ترعى زوجها وتوفّر له سكناً يطمئن إليه ويلوذ به عندما تعصف به الأيام ، ويوم كانت أمَّا تربّي صغارها على حبّ الخير والفضيلة والخلق الكريم ، فكان الحسن والحسين وزينب ( عليهم السلام ) أمثلة سامية في دنيا الأخلاق والإنسانية.

                              رحيل الأب :

                              عاد رسول الله من حجة الوداع ولزم فراش المرض وغُشي عليه من شدّة الحمّى ، وهرعت إليه الزهراء تحاول دفع الموت عنه وهي تذرف الدموع ، وكانت تتمنى أن تموت هي بدلاً عنه .



                              فتح الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عينيه وراح يتأمّل ابنته الوحيدة ، فطلب منها أن تقرأ له شيئاً من القرآن ، فراحت الزهراء تتلو القرآن بصوتٍ خاشع وكان الأب العظيم يصغي بخشوع إلى كلمات الله وهي تطوف في فضاء البيت .

                              أراد أن يقضي آخر لحظات عمره المبارك وهو يصغي إلى صوت ابنته التي رعتْه صغيرة و وقفتْ إلى جانبه كبيرة .

                              والتحق الرسول بالرفيق الأعلى وعرجت روحه الطاهرة إلى السماء .

                              كان رحيل الرسول صدمة كبيرة لابنته البتول ولم يتحمل قلبها تلك المصيبة ، فراحت تبكي ليل نهار .

                              ثم وجهت لها السياسة والأطماع ضربة أخرى بعد أن اغتصبوا منها " فدكاً " وتجاهلوا حق زوجها في الخلافة .



                              حاولت الزهراء الدفاع عن حقّها وكان لها في ذلك مواقف غاية في الشجاعة .

                              كان الإمام يدرك أن استمرار الزهراء في معارضة الخليفة سيجرّ البلاد إلى فتنة ، فتضيع كل جهود الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أدراج الرياح ويعود الناس إلى الجاهلية مرّة أخرى .

                              طلب الإمام من زوجته العظيمة الاعتصام بالصمت والصبر ، حفاظاً على رسالة الإسلام .

                              وهكذا سكتت الزهراء لكنها بقيت غاضبة وتذكّر المسلمين أن غضبها يعني غضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وغضب الرسول يعني غضبَ الله سبحانه .

                              سكتت الزهراء إلى أن رحلت عن الدنيا ولكنها طلبت في وصيّتها أن تُدفن سرّاً .

                              الرحيل عن الدنيا :

                              كانت فاطمة كشمعة تتوهج وتحترق وتذبل ثم يخبو نورها شيئاً فشيئا .

                              لم تستطع البقاء بعد رحيل أبيها وتنكّر الزمان لها .

                              كانت أحزانها تتجدّد كلما ارتفع الأذان يهتف : أشهد أن محمداً رسول الله .

                              كانت تريد اللقاء بأبيها وكان شوقها يستعر يوماً بعد آخر .

                              وهزل جسمها ولم يعد يتحمل شوق روحها إلى الرحيل .

                              وهكذا ودّعت الدنيا :

                              ودّعت الحسن بسنواته السبع

                              والحسين بأعوامه الستة

                              وزينب بسنواتها الخمس

                              وأم كلثوم وردة في ربيعها الثالث .

                              وكان أصعب ما في الوداع أن تودّع زوجها وشريك أبيها في الجهاد وشريك حياتها .

                              أغمضت الزهراء عينيها بعد أن أوصت زوجها بأطفالها الصغار ، كما أوصته أن تدفن سرّاً .

                              وما يزال قبر الزهراء مجهولاً ، فترتسم علامة استفهام كبرى في التاريخ .

                              ما تزال الزهراء تستفهم التاريخ ، ما تزال تطلب حقها ؛ وما يزال المسلمون يتساءلون عن بقاء القبر مجهولاً .

                              جلس الإمام المفجوع عند قبرها ، وكان الظلام يغمر الدنيا فقال يؤبنّها :

                              " السلام عليك يا رسول الله . . عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك ، قلَّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري ورقّ عنها تجلّدي . . . وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها ، فأحفها السؤال وأستخبرها الحال . . والسلام عليكما سلام مودِّع ".

                              الهوية :

                              الاسم : فاطمة الزهراء .

                              اسم الأب : محمد ( صلى الله عليه وآله ) .

                              اسم الأم : خديجة .

                              تاريخ الولادة : يوم الجمعة 20 جمادى الآخرة العام الخامس من البعثة .

                              محل الولادة : مكّة المكرمة .

                              تاريخ الوفاة : 11 هـ .

                              محل الوفاة : المدينة المنوّرة .

                              محل الدفن : مجهول .

                              تعليق


                              • #30
                                الإمام الحسن بن علي ( عليه السلام )


                                ولادته و نشأته :

                                في الخامس عشر من شهر رمضان ، ربيع القرآن ، ولد الإمام الحسن ( عليه السلام ) .

                                في بيت طيني صغير فتح عينيه ، وتربّى في أحضان جدّه محمّد ( صلى الله عليه وآله) وأبيه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأمّه فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .

                                كان سيدنا محمّد يحب حفيده الحسن ويقول : إنه ابني ، ويقول : إنه ريحانتي من الدنيا .

                                و طالما رآه المسلمون يحمل الحسنَ ( عليه السلام ) على عاتقه ويقول : إن ابني هذا سيد ولعل الله يُصلح به بين فئتين من المسلمين . ثم يدعو الله قائلاً : اللهم إني أحبّه فأحبّه وأحبّ من يحبّه .

                                وكان سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) يردد دائماً : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة .

                                وذات يوم كان رسول الله يصلّي في المسجد ، فجاءه الحسن وهو ساجد فصعد على ظهره ثم رقبته ، وكان الرسول يقوم برفق حتى ينزل الحسن ، فلما فرغ من صلاته قال بعض المسلمين : يا رسول الله إنك تصنع بهذا الصبي شيئاً لا تصنعه بأحد ، فقال (صلى الله عليه وآله ) : إن هذا ريحانتي وإن ابني هذا سيّد وعسى أن يصلح الله به بين فئتين من المسلمين .

                                أدبه :

                                كان الحسن مع أخيه الحسين في طريقهما إلى المسجد ، فشاهدا شيخاً يتوضأ لكنه لا يحسن الوضوء .

                                فكّر الحسن ( عليه السلام ) كيف يصلح وضوء الشيخ دون أن يسيء الأدب ، فتقدما إلى الشيخ وتظاهرا بالنزاع ، وكل منهما يقول : أنت لا تحسن الوضوء ، ثم قالا للشيخ : كن حكَماً بيننا ، ثم راحا يتوضأن .

                                كان الشيخ يراقب وضوءهما ، وأدرك هدفهما ، فقال مبتسماً :

                                كلاكما تحسنان الوضوء .

                                وأشار إلى نفسه وقال : ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لا يُحسن الوضوء ، وقد تعلّم منكما .

                                وشاهد أحد الصحابة رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله ) يحمل على عاتقه الحسن والحسين . فقال الصحابي : نِعْمَ الجمل جملكما .

                                فقال سيدنا محمد : ونِعْمَ الراكبان هما .

                                تقواه :

                                كان الإمام الحسن ( عليه السلام ) أعبد أهل زمانه .حجّ بيت الله ماشياً خمسة وعشرين حجة .

                                كان إذا قام للوضوء والصلاة ، اصفرّ لونه وأخذته رجفة من خشية الله ، وكان يقول : حقّ على كل من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله .

                                فإذا وصل باب المسجد رفع رأسه إلى السماء ، وقال بخشوع : إلهي ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء ، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك ، يا كريم .

                                حلمه :

                                كان الإمام الحسن ذات يوم في الطريق ، فصادفه رجل من أهل الشام وكان يكره أهل البيت ، فراح يسبّ ويشتم الحسن ( عليه السلام ) ، وظل الحسن ساكتاً لا يجيبه إلى أن انتهى . عندها ابتسم الحسن ( عليه السلام ) وقال بعد أن سلّم عليه : أيها الشيخ أظنّك غريباً . . . إن سألتنا أعطيناك ، و لو استرشدتنا أرشدناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك ، وإن كنت عرياناً كسوناك ، وإن كنت محتاجاً أغنيناك ، وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك .



                                فوجئ الرجل الشامي بجواب الحسن ، وأدرك – على الفور – أن معاوية كان يخدع الناس و يشيع فيهم عن علي وأولاده ما ليس بحق .

                                تأثّر الرجل وبكى ثم قال : أشهد أنك خليفة الله في أرضه ، وإن الله أعلم حيث يجعل رسالته ، لقد كنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ و الآن أنت أحبّ خلق الله إليّ .

                                ومضى الرجل مع الإمام إلى منزله ضيفاً إلى أن ارتحل .

                                سخاؤه وكرمه :

                                1. سأل رجل الحسن بن علي ( عليه السلام ) فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار .

                                2. وجاء أحد الأعراب فقال ( عليه السلام ) : أعطوه ما في الخزانة ، فوُجد فيها عشرون ألف دينار .

                                3. كان الإمام الحسن يطوف حول الكعبة فسمع رجلاً يدعو الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم ، فانصرف الحسن ( عليه السلام ) إلى منزله ، وبعث إليه بعشرة آلاف درهم .

                                4. وجاءه رجل فقال له : اشتريت عبداً ففرّ مني ، فأعطاه الإمام ثمَن العبد .

                                الخلافة :

                                التحق سيدنا علي ( عليه السلام ) بالرفيق الأعلى ليلة 21 من شهر رمضان المبارك إثر اغتياله على يد الخارجي " ابن ملجم " فخلفه ابنه الإمام الحسن ( عليه السلام) في الخلافة ، وبايعه المسلمون ؛ فنهض بقيادة الأمة ومسؤولية الخلافة ، وله من العمر 27 سنة .

                                وفي صباح اليوم الأول صعد المنبر وألقى خطاباً تاريخياً معلِناً استمرار سياسة أبيه في العدل والمساواة والتصدي لمؤامرات المنحرفين عن الإسلام :

                                " لقد قُبِض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ولم يُدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فيقيه بنفسه وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله ) يوجِّهَهُ برَايَته ، فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، ولا يرجع حتى يفتح الله عليه . . و لقد توفي في الليلة التي عُرج فيها بعيسى بن مريم ، والتي قُبض فيها يوشع بن نون " وصي موسى ( عليه السلام ) " وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضُلت عن عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله " .

                                ثم خنقته العبرة فبكى ، وبكى الناس ، ثم قال :

                                أنا ابن البشير . . أنا ابن النذير . . أنا ابن الداعي إلى الله بأذنه . . أنا ابن السراج المنير . . أنا مِن أهل بيت أذهَب اللهُ عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . . أنا من أهل بيت فرَض الله مودّتهم في كتابه فقال تعالى :

                                { قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى و من يقترف حسنة نزد له فيها حسناً}[1] فالحسنة مودّتنا أهل البيت .

                                نهض عبد الله بن عباس ، وقال : معاشر الناس ! هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه .

                                فاستجاب له الناس ، وقالوا : " ما أحبّه إلينا وأوجب حقه علينا " وبادروا إلى البيعة له بالخلافة .

                                مؤامرات معاوية :

                                استمر معاوية في مؤامراته ضدّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) كما كان في عهد سيدنا علي ( عليه السلام ) ، فكانت حرب صفين ، ثم معركة النهروان بسبب تمرّده على الخلافة ومحاولته لاغتصابها من أصحابها الشرعيين .

                                لقد انتخب الناسُ الحسن ( عليه السلام ) خليفةً لرسول الله وأميراً للمؤمنين ، ولكن معاوية رفض البيعة للإمام ، وبدل أن يطيع راح يبث الجواسيس إلى الكوفة والبصرة ، ويبعث الرشاوى لبعض الناس .

                                لم يتساهل الحسن في مواجهة مؤامرات معاوية بل أمر بإعدام الجواسيس ثم بعث برسالة إلى معاوية يحذره فيها من الاستمرار في انحرافه :

                                - أما بعد فإنك دسست إلي الرجال ، كأنك تحبّ اللقاء ، لاشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله .

                                الاستعداد للحرب :

                                وجَّه معاوية جيوشه لبثّ الذعر في قلوب المسلمين والإغارة عليهم ونهب ممتلكاتهم ، وكان على الإمام الحسن أن يتصدّى للعدوان ويستعدّ للقتال ، فخطب بالناس قائلاً :



                                أما بعد ؛ فإن الله كتب الجهاد على خلقه ، وسمّاه كرها ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلاّ بالصبر على ما تكرهون . . . أُخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم في النخيلة .

                                وللأسف كان الخوف مسيطراً على الناس ، وكانت استجابتهم للقتال بطيئة .

                                وهنا نهض عدي بن حاتم الطائي وكان من أصحاب الإمام ( عليه السلام ) فنادى بالناس مستنكراً تخاذلهم :

                                " أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام ! ! ! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم ؟ ! أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فإذا جدّ الجدّ راوغوا كالثعالب ؟ أما تخافون مقت الله ؟ ".

                                ثم ركب فرسه وانطلق إلى معسكر النخيلة .



                                وقام بعض أنصار الإمام وقادته بتشجيع الناس على الاستعداد لمواجهة معاوية ، فتألف جيش بلغ عدده اثني عشر ألفاً ، فأُسندت القيادة إلى " عبيد الله بن العباس " وكان معاوية قد قتل ولديه الصغيرين في إحدى الغارات .

                                كان في جيش الإمام الحسن ( عليه السلام ) الكثير من أهل الدنيا والأطماع ، فسَهُل على معاوية أن يشتريهم بالأموال ، فراحوا يتسلّلون إلى معسكر معاوية في الظلام .

                                بل أن معاوية استطاع أن يرشي قائد الجيش " عبيد الله بن العباس " بمليون درهم ، فانحاز إلى معاوية ، تاركاً الإمام والخليفة وحيداً .

                                وتوالت الخيانات ، وتجرأ أحدهم فأراد اغتيال الإمام الحسن ، وقد جرح ( عليه السلام ) في ساقه .

                                أدرك الإمام الحسن ( عليه السلام ) أن من الصعب مواجهة معاوية بجيش ضعيف يبيع جنوده أنفسهم بثمن زهيد .

                                وفي المقابل كان معاوية يعرض الصلح والسلام على الإمام مقابل التنازل عن الخلافة ، وكان الإمام ( عليه السلام ) يعرف أن الاستمرار في مواجهة معاوية سوف يعرِّض أصحابه وأنصاره – وفيهم خيرة صحابة رسول الله - إلى الإبادة والموت ، وسوف يحتل جيش الشام الكوفة وينتهك الأعراض ويقتل الأبرياء ، لذا آثر الإمام ( عليه السلام ) الصلح على سفك الدماء مقابل بعض الشروط .

                                الصلح :

                                كان الخوارج يخططون لاغتيال الحسن ، وكان معاوية يشجعهم من بعيد على ذلك لكي يضطر الإمام إلى قبول الصلح والتنازل عن الخلافة .



                                كان سيدنا الحسن لا يفكر إلاّ بمصلحة الإسلام و المسلمين ، وأخيراً وافق على الصلح حقناً للدماء ، وكتب شروط الصلح وعرَضها على معاوية :

                                1. أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) .

                                2. أن لا يلاحق شيعة آل البيت ( عليهم السلام ) .

                                3. أن لا يسبّ أو يشتم علياً ( عليه السلام ) .

                                4. ليس لمعاوية الحق في نصب أحد للخلافة .

                                5. أن لا يدعو الحسن معاوية أميراً للمؤمنين .

                                6. على معاوية أن يعيد الخلافة إلى الحسن فان توفي الحسن فإلى الحسين .

                                معاوية يخرق الشروط :

                                كان سيدنا الحسن يدرك أن معاوية لن يلتزم بالشروط ، فأراد الإمام أن تعرف الأمة ألاعيب معاوية و عدم احترامه للدين والعهد .



                                تمّ الصلح ودخل معاوية الكوفة ، فصعد المنبر وخطب بالناس قائلاً : إني ما قاتلتكم لتصوموا أو تصلّوا ولكن لأتأمّر عليكم . . ألا وإن كل شرط شرطته للحسن فهو تحت قدمي .

                                عيّن معاوية " زياد بن أبيه " حاكماً على الكوفة ، فراح يطارد شيعة أهل البيت ، ويصادر بيوتهم وأموالهم ، ويعذبهم ويسجنهم .

                                وكان سيدنا الحسن ( عليه السلام ) يساعد المظلومين والمقهورين ويستنكر أعمال معاوية وظلمه وعدم التزامه بالشروط .

                                كان معاوية يخطط للقضاء على الإمام الحسن ( عليه السلام ) وتنصيب ابنه "يزيد" للخلافة ، ففكر باستخدام السمّ لاغتيال سبط رسول الله .

                                وقع اختيار معاوية على " جُعدة بنت الأشعث " زوجة الإمام ، وكان أبوها منافقاً ، فأغراها بالمال وبتزويجها من ابنه يزيد .

                                وسوس الشيطان لجعدة ، وأخذت السم الذي أرسله معاوية فوضعته في " إفطار" الإمام الحسن ، وكان صائماً .



                                تناول سيدنا الحسن طعام الإفطار ، فشعر بألم شديد يقطع أمعاءه ، ونظر إلى زوجته وقال : " يا عدوة الله ، قتلتيني قتلك الله ، لقد غرّك معاوية وسخر منك . يخزيك الله ويخزيه " .

                                سخر معاوية من " جعدة " وطردها من قصره وقال لها : إننا نحب حياة يزيد ، وهكذا خسرت تلك المرأة الدنيا و الآخرة وفازت بلقب : " مسمّمة الأزواج " .

                                وفي الثامن والعشرين من شهر صفر من عام 50 للهجرة ، عرجت روح الإمام إلى الرفيق الأعلى . . تشكو إلى الله ظلم بني أمية .

                                حُمل جثمانه إلى مقبرة البقيع ، حيث مرقده الآن .

                                فالسلام عليه يوم وُلد ، ويوم استشهد ، ويوم يُبعث حيا .

                                هوية الإمام :

                                الاسم : الحسن .

                                اللقب : المجتبى .

                                الكنية : أبو محمد .

                                اسم الأب : علي ( عليه السلام ) .

                                اسم الأم : فاطمة ( عليها السلام ) .

                                اسم الجد : محمد ( صلى الله عليه وآله ) .

                                تاريخ الولادة : 15 رمضان عام 3هجري .

                                العمر : 47 سنة .

                                تاريخ شهادته : 28 صفر عام 5هجري .


                                من كلمات المضيئة :


                                1. اللؤم أن لا تشكر النعمة .

                                2. ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم .

                                3. العار أهون من النار .

                                4. القريب من قرّبته المودّة وإن بعد نسبه ، والبعيد من باعدته المودّة وإن قرب نسبه .

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, اليوم, 03:25 AM
                                ردود 0
                                2 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, اليوم, 03:23 AM
                                ردود 0
                                3 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                أنشئ بواسطة مروان1400, 03-04-2018, 09:07 PM
                                ردود 13
                                2,150 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة مروان1400
                                بواسطة مروان1400
                                 
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, 30-06-2024, 10:47 PM
                                ردود 0
                                79 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                أنشئ بواسطة وهج الإيمان, 14-07-2023, 11:53 AM
                                استجابة 1
                                111 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وهج الإيمان
                                بواسطة وهج الإيمان
                                 
                                يعمل...
                                X