المشاركة الأصلية بواسطة احمد العابد
أن صيغة الحكومة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مستندة إلى الاختيار ونظام الشورى التي ابتدعها الشيخين ، وتبعه من تبعه(يعني عمر بعد ابوبكر و عثمان بعد عمر ، ولكنّه غفل(يعني معاوية) ـ أو بالأصحِّ تغافل ـ عن صدر الكلمة التي تعرب عن أن الاستدلال بالشورى من باب الجدل ، خضوعاً لقوله تعالى : {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1) فإن الإمام علياً (عليه السلام) بدأ كلمته ـ مخاطباً معاوية بن أبي سفيان ـ بقوله : أمَّا بعد ، فإنَّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردَّ ... إلى قوله : وإن طلحة والزبير بايعاني ثمَّ نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردِّهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق ، ظهر أمر الله وهم كارهون .. فادخل فيما دخل فيه المسلمون(2) . فقد ابتدأ أميرالمؤمنين (عليه السلام) بخلافة الشيخين ، وذلك يعرب على أنه في مقام إسكات معاوية الذي خرج على إمام زمانه ، وقد أتمَّ (عليه السلام) كلمته بقوله : فإن اجتمعوا على رجل .. احتجاجاً بمعتقد معاوية ، بمعنى : ألزموهم ما ألزموا به أنفسهم .
وهذه هي الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) :
" أما والله لقد تقمَّصها(3) ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السيّل ، ولا يرقى إليّ الطَّير(4) ، فسدلت(5) دونها ثوباً ،
____________
1- سورة النحل ، الآية : 125 .
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3/75 ، و14/36 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 59/128 ، المناقب ، الخوارزمي : 202 .
3- الضمير عائد على الخلافة ، فهنا شبَّه الإمام علي (عليه السلام) خلافة أبي بكر كالذي لبس قميصاً ليس قميصه .
4- تمثيل لسمو قدره (عليه السلام) ، وقربه من مهبط الوحي ، وأن ما يصل إلى غيره من فيض الفضل فإنما يتدفَّق من حوضه ، ثمَّ ينحدر عن مقامه العالي ، فيصيب منه من شاء الله .
5- كناية عن غضّ نظره عن الخلافة ، وسدل الثوب : أرخاه . الصفحة 693
وطويت عنها كشحاً(1) ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء(2) ، أو أصبر على طخية عمياء(3) ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً(4) ، حتى مضى الأوَّل لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، ثم
تمثّل بقول الأعشى :
شتّان ما يومي على كورها ويوم حيّان أخي جابر
فيا عجباً ! بينا هو يستقيلها في حياته(5) إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها(6) ، فصّيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسُّها .. إلى أن يقول (عليه السلام) :فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فيالله وللشورى ! متى اعترض الرّيب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفُّوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه(7) ، ومال الآخر لصهره(8) ، مع هن وهن(9) ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ..(10) .
____________
1- مال عن الخلافة ، وهو مثل لمن جاع ، فمن جاع طوى كشحه ، ومن شبع فقد ملأه .
2- الجذّاء : المقطوعة ، ومراده (عليه السلام) هنا قلّة الناصر والمعين .
3- الطخية : الظلمة ، ونسبة العمى إليها مجاز عقليٌّ ، وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها .
4- وهذا تأكيد منه (عليه السلام) بأنّ الخلافة حق ثابت له .
5- إشارة لقول أبي بكر : أقيلوني فلست بخيركم .
6- وهي إشارة منه (عليه السلام) إلى تقسيم الخلافة بين أبي بكر وعمر .
7- يشير (عليه السلام) إلى سعد بن أبي وقاص الذي صغى إلى ضغنه وهو عبد الرحمن بن عوف .
8- يشير (عليه السلام) إلى عبد الرحمن بن عوف الذي مال إلى صهره وهو عثمان بن عفان .
9- إشارة منه (عليه السلام) إلى أغراض أخر يكره ذكرها .
10- يشير (عليه السلام) إلى عثمان وكان ثالثاً بعد انضمام كل من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه ، ونافجاً حضنيه : رافعاً لهما ، والحضن : ما بين الابط والكشح ، يقال للمتكبِّر : جاء نافجاً حضنيه ، والنثيل : الروث ، والمعتلف : موضع العلف ، أي أراد (عليه السلام) بقوله : لاهمَّ له إلاَّ ما ذكره . الصفحة 694
إلى أن ختمها بقوله (عليه السلام) : أما والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتُم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز(1) .
تعليق