الرد على من قال ان الاية لا تشمل نساء الرسول 

في قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)
يقول الزمخشري غفر الله له :
{ أَهْلَ البيت } نصب على النداء . أو على المدح . وفي هذا دليل بيّن على أنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته .
فإما أن يكون المحذوف أداة النداء ، فيكون تقدير الكلام : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس يا أهل البيت ويطهركم تطهيرا .
وإما أن يكون المحذوف ، عاملا للاختصاص على المدح ، فيكون تقدير الكلام : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أخص بذلك أهل البيت .
وإلى نفس المعنى أشار أبو حيان ، رحمه الله ، بقوله :
وانتصب أهل على النداء ، أو على المدح ، أو على الاختصاص ، وهو قليل في المخاطب ، ومنه :
بل الله نرجو الفضل .......
بفتح آخر الاسم الكريم "الله" .
وأكثر ما يكون في المتكلم ، كـــ :
نحن بنات طارق ******* نمشي على النمارق
بكسر "بنات" على الاختصاص ، لأن جمع المؤنث السالم ، ينصب بالكسرة ، كما علم ، والله أعلم .
وكذا ذكر القرطبي ، رحمه الله ، أن النصب في الآية على المدح ، والله أعلم .
هذا من جهة التوجيه النحوي للآية ، وأما الكلام في معنى الآية وتوجيهه ، فنبدأه بكلام أبي حيان ، رحمه الله ، إذ يقول :
ولما كان أهل البيت يشملهن وآباءهن ، غلب المذكر على المؤنث في الخطاب في : { عنكم } ، { ويطهركم } .
وفي هذا رد على من ادعى بأن الآية ليست في حق أمهات المؤمنين ، لأن الضمير في "عنكم" و "يطهركم" ، لم يأت بصيغة المؤنث فلم يقل : "عنكن" و "يطهركن" . اهـــ
فبيوت النبي صلى الله عليه وسلم لا تخلو من ذكور ، فبالإضافة إلى شخصه الكريم ، عليه الصلاة والسلام ، كان لبعض أزواجه صبيان ذكور ، كــ "أم سلمة" ، رضي الله عنها ، فضلا عن شمول أهل البيت ، كما قال أبو حيان ، للزوجات وآبائهن ، فغلب التذكير على التأنيث في "عنكم" و "يطهركم" ، والله أعلم .
وإلى هذا المعنى أشار القرطبي ، رحمه الله ، بقوله :
وقالت فرقة منهم الكلبي : هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة وفي هذا أحاديث عن النبي عليه السلام واحتجوا بقوله تعالى : { ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم } بالميم ولو كان للنساء خاصة لكان ( عنكن ويطهركن ) إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل كما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك أي امرأتك ونساؤك فيقول : هم بخير قال الله تعالى : { أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت{ والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم وإنما قال : { ويطهركم } لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليا وحسنا وحسينا كان فيهم وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن يدل عليها سياق الكلام والله أعلم . اهـــ
فلما نزل المؤنث ، وهو "الزوجة" ، منزلة المذكر "أهل" ، لفظا ، أخبر عنه بلفظ المذكر ، كما في قوله تعالى : (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) ، لما أريد بالنسوة : لفظ "جمع" المذكر ، فآل المعنى إلى : وقال جمع من النساء ، ويجوز في غير القرآن التأنيث بنية لفظ "جماعة" المؤنث ، فيكون المعنى : وقالت جماعة من النساء ، والله أعلم .
ويحكي أبو حيان ، رحمه الله ، الخلاف ، فيقول :
وقول عكرمة ، ومقاتل ، وابن السائب : أن أهل البيت في هذه الآية مختص بزوجاته عليه السلام ليس بجيد ، إذ لو كان كما قالوا ، لكان التركيب : عنكن ويطهركن ، وإن كان هذا القول مروياً عن ابن عباس ، فلعله لا يصح عنه . وقال أبو سعيد الخدري : هو خاص برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين . وروي نحوه عن أنس وعائشة وأم سلمة . وقال الضحاك : هم أهله وأزواجه . وقال زيد بن أرقم ، والثعلبي : بنو هاشم الذين يحرمون الصدقة آل عباس ، وآل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر . اهـــ
ووقفة مع ما نسب إلى ابن عباس ، رضي الله عنه ، في تفسير هذه الآية ، وقد علق عليه أبو حيان ، رحمه الله ، بقوله : وإن كان هذا القول مروياً عن ابن عباس ، فلعله لا يصح عنه .
إذ من المعروف عند علماء الحديث ، أنه ليس كل ما روي عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، يقبل مباشرة ، دون بحث أو تحقيق ، لأنه قد وردت عنه روايات كثيرة جدا في التفسير من طرق متفاوتة في الصحة والضعف ، فقبل أن تقبل القول لابد من التفتيش عن سنده ، لا سيما إن كانت الرواية عن مكثر ، كابن عباس ، رضي الله عنهما ، وإلى هذا أشار الشيخ مناع القطان ، رحمه الله ، في "مباحث في علوم القرآن" بقوله :
وقد ورد عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في التفسير ما لا يحصى كثرة ، وجمع ما نقل عنه في تفسير مختصر ممزوج يسمى "تفسير ابن عباس" ، وفيه روايات وطرق مختلفة ، ولكن أحسن الطرق عنه طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه ، واعتمد على هذه البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه ، ومن جيد الطرق : طريق قيس بن مسلم الكوفي عن عطاء بن السائب .
وفي التفاسير الطوال التي أسندوها إلى ابن عباس مجاهيل : وأوهى طرقه طريق الكلبي عن أبي صالح ، والكلبي هو أبو النصر محمد بن السائب المتوفى سنة 146 هــــ ، فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير سنة 186 هــــ ، فهي "سلسلة الكذب" ، وكذلك طريق مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي ، إلا أن الكلبي يفضل عليه لما في مقاتل من المذاهب الرديئة .
وطريق الضحاك بن مزاحم الكوفي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، منقطعة ، فإنه لم يلق ابن عباس ، وإن رجح الشيخ العلامة السيد أحمد شاكر ، رحمه الله ، سماعه من ابن عباس ، فإن انضم إلى ذلك رواية "بشر بن عمارة" فضعيفة لضعف بشر ، وإن كان من رواية جويبر عن الضحاك فأشد ضعفا ، لأن جويبرا شديد الضعف متروك .
وطريق العوفي عن ابن عباس أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا ، والعوفي ضعيف ليس بواه ، وربما حسن له الترمذي .
بتصرف من "مباحث في علوم القرآن" ، ص350 .
وبهذا يستطيع القارئ أن ينقب عن الطرق ويعرف منها الجيد المقبول من الضعيف أو المتروك ، فليس كل ما روي عن ابن عباس بالصحيح الثابت ، كما تقدم .
ويواصل أبو حيان ، رحمه الله ، مرجحا :
ويظهر أنهم زوجاته وأهله ، فلا تخرج الزوجات عن أهل البيت ، بل يظهر أنهن أحق بهذا الاسم لملازمتهن بيته ، عليه الصلاة والسلام . وقال ابن عطية : والذي يظهر أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك ألبتة ، فأهل البيت : زوجاته وبنته وبنوها وزوجها . وقال الزمخشري : وفي هذا دليل على أن نساء النبي من أهل بيته .
وأما الطبري ، رحمه الله ، فيقول :
اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله (أَهْلَ الْبَيْتِ) فقال بعضهم : عُني به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم .
ثم ذكر 16 رواية ، تؤيد هذا القول ، وفي المقابل ذكر رواية واحدة فقط ، ترجح أن المقصود هو زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهج الطبري ، رحمه الله ، في تفسيره وتاريخه معروف ، فهو إمام جماعة ، بفتح الجيم والميم مع تشديد الثانية ، كما نص هو على ذلك ، جمع كما كبيرا من الروايات ، وأبرز أسانيدها ، دون الحكم عليها ، بل ترك ذلك للأئمة النقاد ، فلا يمكن لغير متخصص مثلي ، دراسة هذه الأسانيد دراسة علمية متأنية ، وإنما نقلت ما اطلعت عليه ، فمعظم الروايات ذكر فيها أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، وزوجه فاطمة ، رضي الله عنها ، وولداه الحسن والحسين ، سيدا شباب الجنة ، رضي الله عنهما ، على أن فيها رواية قالت فيها أم سلمة رضي الله عنها : يا رسول الله أدخلني معهم . قال : "إِنَّكِ مِنْ أَهْلِي" ، وحكى القرطبي ، رحمه الله ، قولا عن القشيري يؤيد هذه الرواية فقال :
وقال القشيري : [ وقالت أم سلمة أدخلت رأسي في الكساء وقلت : أنا منهم يا رسول الله ؟ قال : ( نعم ) ] .
وهناك روايات حكاها الطبري ، رحمه الله ، عن شيخه ابن حميد ، وهو متهم ، بل إن الرواية المؤيدة لكون أهل البيت هم زوجاته ، رضوان الله عليهن ، جاءت من طريق ابن حميد ، وهذا لا يعني نفي كون زوجاته هن أهل البيت المذكورون في الآية ، لأن سياق الآية ، كما تقدم ، يدل على أنهن المعنيات بالخطاب .
وقد ذكر القرطبي ، رحمه الله ، رواية واحدة تؤيد أن المقصود بـــ "أهل البيت" هم : علي وفاطمة والحسن والحسين ، رضوان الله عليهم ، من حديث أم سلمة رضي الله عنها .
وأما ابن كثير ، رحمه الله ، فقد رجح دخول أمهات المؤمنين ، رضوان الله عليهن ، في هذه الآية ابتداء ، وإن لم يضعف القول بأن المقصود بهم علي وفاطمة والحسن والحسين ، رضوان الله عليهم ، إذ يقول :
وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } : وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا ، إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح . اهـــ
فإذا نزلت آية في واقعة بعينها ، فإن دخول هذه الواقعة في الآية قطعي ، لا يمكن إخراجه بتخصيص أو ما شابهه ، إذ كيف يخرج منها وهي في الأصل ما نزلت إلا فيه ، خلاف بقية الأفراد التي يشملها عموم الآية ، فيمكن إخراجها بتخصيص ونحوه ، والله أعلم .
ثم ذكر رواية الطبري ، رحمه الله ، عن عكرمة ، رحمه الله ، التي رجح فيها اختصاص أمهات المؤمنين ، رضوان الله عليهن ، بهذه الآية ، وسبق أنها من طريق ابن حميد المتهم ، ولكنه ذكر لها طريقا آخر عن ابن أبي حاتم قال :
حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا زيد بن الْحُبَاب، حدثنا حسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس : .................... الحديث .
ثم اتبعها بقوله :
وقال عكرمة : من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
ويواصل ابن كثير ، رحمه الله ، فيقول :
فإن كان المراد أنهن كُنّ سبب النزول دون غيرهن فصحيح ، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ، ففي هذا نظر ، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك . اهـــ
ثم ذكر ، رحمه الله ، 6 روايات ، تؤيد القول بأن المقصود بآل البيت : علي وفاطمة وولداهما الحسن والحسين ، رضي الله عنهم ، وأتبعها بحديث مسلم الشهير ، الذي تكلف البعض تكلفا ممقوتا في الاستدلال به على مذهبه في عصمة أئمة آل البيت ، ونص حديث مسلم ، رحمه الله ، كما ذكره ابن كثير ، رحمه الله ، في تفسيره :
وقال مسلم في صحيحه : حدثني زُهَير بن حرب، وشُجاع بن مَخْلَد جميعا ، عن ابن عُلَيَّة -قال زهير : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثني أبو حَيَّان ، حدثني يزيد بن حَيَّان قال : انطلقت أنا وحُصَين بن سَبْرَةَ وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيتَ يا زيدُ خيرًا كثيرًا [رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعتَ حديثه ، وغزوتَ معه ، وصليتَ خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا] ، حَدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : يا بن أخي ، والله لقد كَبرَت سِنِّي ، وقدم عهدي ، ونسيتُ بعض الذي كنتُ أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حَدّثتكُم فاقبلوا ، وما لا فلا تُكَلّفونيه . ثم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خُمًّا - بين مكة والمدينة - فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وَذَكّر ، ثم قال : "أما بعد ، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، وأولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" . فَحَثّ على كتاب الله وَرَغَّب فيه ، ثم قال : "وأهل بيتي ، أذَكِّركم الله في أهل بيتي ، أذكِّركم الله في أهل بيتي" ثلاثا . فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصّدَقة بعده . قال : ومَنْ هم؟ قال هم آل علي ، وآل عَقِيل، وآل جعفر، وآل عباس . قال : كل هؤلاء حُرِمَ الصدقة ؟ قال : نعم .
ثم رواه عن محمد بن بَكَّار بن الريَّان ، عن حسان بن إبراهيم ، عن سعيد بن مسروق ، عن يزيد بن حَيَّان ، عن زيد بن أرقم ، فذكر الحديث بنحو ما تقدم ، وفيه : فقلنا له : مَنْ أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال : لا وايم الله ، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها . أهل بيته أصله وعَصبَته الذين حُرموا الصدقة بعده .
هكذا وقع في هذه الرواية ، والأولى أولى ، والكلام لابن كثير رحمه الله ، والأخذ بها أحرى . وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه ، إنما المراد بهم آله الذين حُرموا الصدقة ، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط ، بل هم مع آله ، وهذا الاحتمال أرجح ، جمعا بينها وبين الرواية التي قبلها ، وجمعا أيضا بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن صحت ، فإن في بعض أسانيدها نظرًا ، والله أعلم .
ثم الذي لا يشك فيه من تَدَبَّر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ، فإن سياق الكلام معهن ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } أي : اعملن بما ينزل الله على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة . اهـــ
والحديث لا نص فيه على الوصية المزعومة ، لأن فيه حثا على حفظ حقوق آل البيت ، رضوان الله عليهم ، وحفظ حقوقهم لا يستلزم القول بإمامتهم ، بل وعصمتهم وعلمهم الغيب و .......... الخ من العقائد الغالية التي تقترب كثيرا من غلو النصارى في المسيح صلى الله عليه وسلم ، ولو كان الأمر وصية من الرسول صلى الله عليه وسلم لأعلنها صراحة ، ليفصل في هذه المسألة الجليلة التي يعتبرها القوم من أصول الدين ، فكيف يلقى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ، دون الفصل في هذه المسألة الجليلة التي قد يؤدي عدم الفصل فيها إلى إحداث الشقاق بين المسلمين ، أما كان يستطيع إعلان هذه الوصية المزعومة ليحسم المسألة ؟! ، أم أنه كتمها ولم يبلغها لأحد إلا لعلي ، رضي الله عنه ، فاختصه بالبلاغ دون من سواه ؟!! ، ولا أفسد من هذا القول ولوازمه ، إذ أن فيه اتهاما للنبي صلى الله عليه وسلم بكتم رسالة ربه ، أو اختصاص بعض أصحابه ، رضوان الله عليهم ، بجزء منها دون بقيتهم ، مع أنهم سواسية في البلاغ في أدق مسائل الفروع ، كمسائل الطهارة ، فكيف بهذه المسألة الجليلة ، أليس من الأولى أن يعلمها الكل كما علموا بقية مسائل الدين ، أم أن هذا الدين كسروي ، لا يختص بأسراره إلا الملك وآل بيته ؟!!
وبطبيعة الحال سوف ينتقل المخالف من هذا المحور إلى محور آخر ، يطعن فيه في عدالة الصحابة ، رضوان الله عليهم ، جميعا ، ليقول لك في افتراء وتحكم بالغين : لقد أبلغها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ، ولكنهم جميعا !!!! ، كتموها ، حقدا على آل بيته ، وهذا يعني باختصار : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فشل في المهمة التي أعده الله ، عز وجل ، لها ، بل وابتلاه بأصحاب خونة كانوا عبئا على دعوته ، وكأن الله ، عز وجل ، أرسل رسوله برسالة الحق الخاتمة ثم عارضها بأولئك الخونة الذين حاربوا دعوته وظلموا آل بيته ، والتاريخ حكم بيننا وبينهم ، إذ كيف يعلى الله ، عز وجل ، دينه ، بمثل هؤلاء ، وكيف تفتح الأمصار ويدخل الناس في دين الله أفواجا ويدفع من أبى الدخول فيه الجزية عن يد وهو صاغر ، كيف يحدث كل هذا على أيدي أناس ارتد معظمهم عن دين الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تقل اليهود والنصارى هذا القول في حق أتباع موسى وعيسى ، عليهما الصلاة والسلام ، كما أشار إلى ذلك الطحاوي ، رحمه الله ، في عقيدته الشهيرة .
وعدد الصحابة ، رضوان الله عليهم ، عند وفاته صلى الله عليه وسلم ، يفوق عدد التواتر بكثير ، وهو عدد لا يجوز على أهله الكتمان ، كما تقرر في علم الأصول ، ولكن للقوم أصولا أخرى ما أنزل الله بها من سلطان إذ أجازوا كتمان أهل التواتر لما يحتاج إلى نقله ، وهذا أمر لا يتصور في حق الكفار فضلا عن المسلمين ، بل أعلى طبقات المسلمين بإجماع من يعتد بإجماعه ، فإن سألتهم : ما الدليل على صحة هذه القاعدة الباطلة ، أجابوك : الدليل أنه حصل !!! ، وهو ما يسمى بــ "الاستدلال بصورة الخلاف" ، فكأن مدع يدعي على شخص ما أنه كاذب ، فإن قلت له ما الدليل ؟ ، قال : الدليل أنه قد كذب ، فاستدل على الشيء بنفسه ، فوقع فيما يسمى "الدور" ، إذ بنى الشيء على نفسه ، فالدليل على أن الماء ماء أنه ماء !!!! ، وليست هذه أول عجائب القوم .
وقد أشار الشيخ الشنقيطي ، رحمه الله ، لهذه المسألة في "المذكرة" ، ص121 .
والحديث ، كما تقدم ، لا حجة لهم فيه على مذهبهم الباطل في الأئمة وإنما هي شبهة استغلوها لترويج مذهبهم على عوام المسلمين ، فمسلم ، رحمه الله ، أورد لهذا الحديث أربعة طرق في "باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه" ، صحيح مسلم بشرح النووي (15/248_259) ، طبعة مؤسسة قرطبة ، أولها الطريق الذي فيه ذكر من حرم عليهم الصدقة من : آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، ثم أتبعها بطريقين لنفس المروية ، ثم ذكر الرواية التي فيها نفي أن تكون المرأة من آل بيت الرجل ، وهي الرواية التي ذكرها ابن كثير ثانيا ، ورجح الأولى عليها ، والرواية الأولى لم تقصر آل البيت على علي وفاطمة وذريتهما ، رضي الله عنهم ، وإنما أدخلت : آل عقيل ، وآل جعفر وآل عباس ، فما بال القوم يقصرونها على آل علي فقط ، إن لازم استدلالهم بهذا الحديث أن يعترفوا بخلافة بني العباس ، لأنهم ، بنص هذا الحديث الذي استدلوا به ، من آل البيت ، وطاعة آل البيت واجبة ، فهل يعترف بها القوم أم يصبون لعناتهم على خلفاء بني العباس كالمنصور والرشيد رحمهما الله .
وأما الرواية الثانية التي فيها نفي أن تكون المرأة من آل بيت الرجل ، ففيها يقول النووي رحمه الله :
وأما قوله (نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة) ، قال : وفي الرواية الأخرى (فقلنا : من أهل بيته نساؤه ؟ ، قال : لا) فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض ، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم ، أنه قال : (نساؤه لسن من أهل بيته) ، فتتأول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم ، وأمر باحترامهم ، وإكرامهم ، وسماهم : ثقلا ، ووعظ في حقوقهم ، وذكر . فنساؤه داخلات في هذا كله ، ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة ، وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله : (نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة) فاتفقت الروايتان . اهـــ ، صحيح مسلم بشرح النووي (15/258) .
فهن أهل بيته من جهة السكنى والإنفاق ، وهو المعنى المراد في الآية ، كما تقدم ، لا من جهة تحريم الصدقة ، والله أعلم .
وعن هذا الحديث يقول الدكتور الحسين شواط :
أما قوله صلى الله عليه وسلم : "إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على الكتاب ورغب فيه ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" ، فقد ذكر شيخ الإسلام ، رحمه الله ، أن الزيادة الأخيرة تكلم فيها الإمام أحمد وغير واحد من أهل العلم ، وأن اللفظ الصحيح بدون هذه الزيادة رواه مسلم عن جابر ، وإنما ذكر مسلم الحديث الأول بهذه الزيادة لأن من منهجه أن يذكر الألفاظ المتفاوتة للأحاديث .
ويواصل شيخ الإسلام ، رحمه الله ، في منهاج السنة ، فيقول : "وعلى فرض ثبوت هذه الزيادة فإن المقصود التذكير بإعطائهم حقوقهم ، والامتناع عن ظلمهم وعدم المغالاة فيهم ، إذ ليس في لفظ الحديث ما يدل على وجوب اتباعهم أو التمسك بهم إنما هو من باب الوصية بهم خيرا" . اهـــ ، بتصرف يسير من "حجية السنة وتاريخها" ، ص309 .
ولكنه التحكم في النصوص ، وتوسيع دائرة الاستدلال أو تضييقها تبعا لهوى المستدل ، فالوصية بآل البيت رضوان الله عليهم خيرا تعني إمامتهم وعصمتهم ، ولا يدري القارئ ، لم يوصي النبي صلى الله عليه وسلم بهم خيرا مع أنهم هم الأئمة من بعده ؟ ، إن مفهوم هذه الوصية أن غيرهم سيولى عليهم فليتق الله فيهم وليحفظ رحمهم الشريف إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
فالخلاصة أن أمهات المؤمنين ، رضوان الله عليهن ، لا يخرجن عن هذا الخطاب بأي حال من الأحوال ، بل هن الداخلات فيه ابتداء ، بقرينة السياق ، فالآيات التي تسبق هذه الآية ، والآيات التي تليها ، كلها تشير إليهن ، وليس فيها تعرض لآل البيت ، رضوان الله عليهم ، ابتداء ، كما زعم المخالف ، ولفظ "الأهل" في القرآن الكريم ، تدخل فيه أول ما تدخل "الزوجة" ، كما في قوله تعالى :
(قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)
يقول أبو حيان رحمه الله :
وخطاب الملائكة إياها بقولهم : أهل البيت ، دليل على اندراج الزوجة في أهل البيت ، وقد دل على ذلك أيضاً في سورة الأحزاب خلافاً للشيعة إذ لا يعدون الزوجة من أهل بيت زوجها ، والبيت يراد به بيت السكنى .
ويقول الزمخشري غفر الله له :
وأهل البيت : نصب على النداء أو على الاختصاص لأن { أَهْلَ البيت } مدح لهم ، إذ المراد : أهل بيت خليل الرحمن .
وهي إن دلت على المقصود ، إلا أن فيها مدخلا للمخالف ، إذ له أن يقول : كلام الزمخشري يدل على آل بيت الخليل صلى الله عليه وسلم ، فلم يتعرض لذكر الزوجة مباشرة ، كما تعرض له أبو حيان ، رحمه الله ، وهو اعتراض واه ، لأن الكلام كان موجها في تلك اللحظة لساكني بيت الخليل صلى الله عليه وسلم ، وهم الزوج والزوجة ، فهي داخلة في الخطاب ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ }
يقول الطبري ، رحمه الله ، حول هذه الآية :
وقوله (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ) ، يقول : عدل إلى أهله ورجع . اهـــ
وعدول الرجل إلى زوجته إن جاءه ضيوف هو الأصل في مثل هذه الأحوال إذ هي التي تتولى إعداد طعام الضيوف في العادة ، ولم يكن في البيت سواهما ، كما تقدم ، والله أعلم .
ومن السنة المطهرة :
قوله صلى الله عليه وسلم : (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءًا ، فإنه أنشط في العَوْد) ، رواه مسلم .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (لو أن أحدهم قال حين يواقع أهله : بسم الله ، اللهم جنبني الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد ، لم يضره الشيطان)
وقوله عليه الصلاة والسلام : (إذا أتى أحدكم أهله فليلق على عجزه وعجزها شيئا ، ولا يتجردا تجرد العيرين) ، وهو حديث متكلم فيه لضعف صدقة بن عبد الله ، أحد رواته .
فالأهل هنا : الزوجة ، لأن الإتيان المقصود في هذه الأحاديث لا يتصور إلا في حق الحلائل من الزوجات أو الإماء ، والأصل في الإتيان أن يكون للزوجة ، والله أعلم .
تعليق