بسم الله الرحمن الرحيم
الإخوة و الأخوات الكرام جميعاً
أشكركم كثيراً على التفاعل مع الموضوع، و أرجو أن أكون عند حسن ظنّ من أحسن بي ظناً. و أرجو منكم ألا تبخلوا علينا بالمشاركات البناءة، فأنا لا ادعي أبداً استغنائي عن المساعدة و النقد، بل الموضوع كله جارٍ في إطار البحث عن الحق و بيانه.
كما أود أن ألفت نظركم أن البحث مخصص لموضوع: وحدة الوجود و الموجود فقط و ليس لنقاش جميع مباني مدرسة العرفان و أفكارها، فنحن لن نتعرّض هنا لمسألة الفناء و معرفة الله أو غيرها من الأصول الفكرية لهذه المدرسة، بل ذلك موكول إلى بحث آخر إن شاء الله.
*****
في هذه المشاركة أودّ أن أتحدّث عن ثلاثة نقاط:
1- لا بد من فهم الموضوع قبل التنازع عليه:
يقول الشيخ المظفّر رحمة الله عليه في كتاب المنطق:
" كثيراً ما تقع المنازعات في المسائل العلميّة وغيرها حتّى السياسيّة لأجل الإجمال (أي الإبهام) في مفاهيم الألفاظ التي يستعملونها، فيضطرب حبل التفاهم، لعدم اتفاق المتنازعين على حدود معنى اللفظ، فيذهب كلّ فرد منهم إلى ما يختلج في خاطره من المعنى. وقد لا تكون لأحدهم صورة واضحة للمعنى مرسومة بالضبط في لوحة ذهنه، فيقنع ـ لتساهله أو لقصور مداركه ـ بالصورة المطموسة المضطربة ويبني عليها..." (منطق المظفر ج1 ص 90).
وموضوع وحدة الوجود والموجود هو من الموضوعات التي طرحت في الأوساط العلميّة الدينية، وحصل حولها النزاع لاشتباه مفهومها مع مفاهيم أخرى لا يمكن القبول بها، ولحاجتها إلى إعمال الدقّة في تصوّرها والتصديق بها، كما يعترف بذلك أصحابها أنفسهم.
وليس ذلك عيباً في الفكرة، فهي تنتمي إلى حقل من حقول المعرفة بعيد عن منال الحسّ وعن الأفكار العاميّة المألوفة، ألا وهو حقل علم الكلام الذي يبحث في الله تعالى وصفاته وأفعاله، فكثير من مفردات هذا الحقل كالقضاء والقدر والجبر والتفويض والأمر بين الأمرين والبداء والرجعة والولاية التكوينية والشفاعة أو علم الإمام عليه السلام بالغيب هي كذلك من حيث الدقّة والصعوبة والبعد عن المألوف، والاشتباه بينها وبين مفاهيم أخرى ذات لوازم باطلة كالشرك والجبر والتفويض وأمثال ذلك، وكثيراً ما تُصدر بعض الفرق الإسلاميّة حكم الخروج عن الإسلام على شيعة أهل البيت عليهم السلام لعدم وضوح مفهوم ما تلتزم به هذه الفرقة المحقّة من بعض هذه المفردات كالشفاعة أو الولاية التكوينية أو علم الإمام عليه السلام.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ القائلين بوحدة الوجود والموجود لديهم رؤية خاصّة حول مفهوم المستضعف قد نتعرّض لها لاحقاً، إلا أنّ الشاهد المهمّ فيها هو أنّ هذه النظرة تمنعهم عن تكفير من لم يصل إلى حقيقة أيّة فكرة بسبب موانع خارجة عن اختياره سواء كانت في ذاته ومستوى تفكيره، أو ناشئة عن عوامل اجتماعيّة وثقافيّة تشوّه صورة الحقّ، فهم بالتالي لا يحكمون بالكفر والشرك على من لم يفهم تفاصيل بعض المعتقدات مع عدم وضوحها لديه، وعدم التفاته إلى اللوازم الباطلة لها بسبب تلك الظروف والعوامل.
*****
2- معارف الدين الإسلامي ليست في رتبة واحدة:
ولا عجب من ذلك، فمعارف الدين الإسلاميّ الحنيف ليست على مستوى واحد من الدقّة والصعوبة، ومستوى ما يدركه منها كلّ متديّن يختلف عمّا يدركه المتديّن الآخر بهذا الدين نفسه، مع اتفاقهما على أصل الموضوع والعنوان، وما ذلك إلا لاختلاف عقول الناس في القدرة على الالتفات إلى مختلف اللوازم الصحيحة أو الباطلة للموضوع.. هذا أولاً، ولتأثّر عمليّة الإدراك هذه بمستوى صفاء النفس وتركيزها وسنخ الأعمال والأفكار التي تشتغل بها ثانياً؛
قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ ( الأنفال 29)
وقال:
يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ (الحديد 28)
وقال:
ويل يومئذ للمكذّبين، الذين يكذّبون بيوم الدين، وما يكذّب به إلا كلّ معتد أثيم، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين، كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (المطففين من 10 إلى 15)
فمن الواضح في هذه الآيات ما للعمل والتقوى وترك الاعتداء والآثام من أثر على صفاء القلب، وإشراق نور البصيرة والفرقان بين الحقّ والباطل فيه، وما لارتكاب بعض الأعمال والتلبّس ببعض الحالات النفسيّة من أثر في تكدّر هذا الصفاء، وخبوّ هذا النور، وتكدّس الرين على القلب، الأمر الذي يؤدّي إلى التكذيب بآيات الله ونعتها بالأساطير، فقد رفض الله ذلك القول وردع عنه بـ (كلا) وأعاد السبب في التكذيب إلى ما ران على القلوب مما كانوا يكسبون من الاعتداء والإثم.
وجاء في البحار نقلاٌ عن الكافي عن أحمد بن إدريس، عن عمران بن موسى، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: جرى حديث عند الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام عن التقيّة فَقَالَ: لَوْ عَلِمَ أبُوذَرٍّ مَا في قَلْبِ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ، وَ لَقَدْ آخَى رَسُولُ اللهِ بَيْنَهُمَا، فَمَا ظَنُّكُمْ بِسَائِرِ الخلْقِ؟! إنَّ عِلْمَ العُلَمَاءِ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لا يحْتَمِلُهُ إلاّ نَبِيّ مُرْسَلٌ أوْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أوْ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ. فَقَالَ: وَ إنَّمَا صَارَ سَلْمَانُ مِنَ العُلَمَاءِ لأنَّه امْرُؤٌ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ، فَلِذَلِكَ نَسَبْتُهُ إلى العُلَمَاءِ. (اصول الكافي ج 1، ص 401. و قد أورد عين هذا المتن بتفاوت فَلِذَلِكَ نَسَبَهُ إلَيْنَا في بصائر الدرجات ص 8.)
يقول المجلسيّ رضوان الله عليه في بيانه في ذيل هذه الرواية: مَا في قَلْبِ سَلْمَانَ أي مِن مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ اللهِ وَ مَعْرِفَةِ النَّبِيّ و الأئِمَّةِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيهِمْ. فَلَوكَانَ أظْهَرَ سَلْمَانُ لَهُ شَيْئَاً مِن ذَلِكَ لَكَانَ لَا يحْتَمِلُهُ وَ يحْمِلُهُ عَلَى الكِذْبِ، وَ يَنْسِبُهُ إلى الارْتِدَادِ، أوِ العُلُومِ الغَرِيبَةِ وَ الآثَارِ العَجِيبَةِ التي لَو أظْهَرَهَا لَهُ لَحَمَلَهَا عَلَى السِّحْرِ فَقَتَلَهُ؛ وَ كَانَ يُفْشِيهِ وَ يُظْهِرُهُ لِلنَّاسِ فَيَصِيرُ سَبَبَاً لِقَتْلِ سَلْمَانَ عَلَى الوَجْهَيْنِ ... إلى آخره.
ومن هنا ومع اعترافنا بالجهل والعجز عن إدراك حقائق معارف القرآن وأسرار أهل البيت عليهم السلام، نسعى مع جميع القرّاء الأحباء وبقلب واحد وبيد واحدة وعقل واحد، إلى محاولة فهم هذه المعارف بتأنّ وهدوء وبعيداً عن الضوضاء، سائلين الله تعالى أن يوفّقنا ويفتح قلوبنا على الحقّ:
وَ الَّذينَ جاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنينَ (العنكبوت 69)
*****
3- البیان الأول لوحدة الوجود و الموجود: التوحيد الذاتي
وفي سبيل ذلك سنحاول أن نبيّن مفهوم وحدة الوجود من خلال ألسنة القائلين بها أنفسهم مع طرح الأمثلة التي تقرّبها إلى الأذهان، و بعد ذلك سوف نطرحها بشكل فنّي مع الأدلة إن شاء الله. لقد طُرح على سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني حفظه الله السؤال التالي حول وحدة الوجود :
ما هي وحدة الوجود؟ ولو سمحتم بينوا لي الفكرة بكلمات بسيطة...
فكانت الإجابة:
فكانت الإجابة:
هو العالم
معنى وحدة الوجود هو أنّ الله هو الأصل والمبدأ في العالم، أي ليس هناك موجود وجد من قِبَل نفسه، هذه أبسط عبارة يمكن بيانها. ثمّ إذا لم يستطع إنسان ما تقبّل هذه الفكرة فعليه أن يزيد من مطالعاته ويرفع من مستوى معلوماته.
و حيث أن وحدة الوجود قد طرحت على ألسنة العرفاء ببيانات مختلفة تصب في معنى واحد، فقد قرّرنا أن نذكرها بالتدريج لنسمح للإخوة بالتأمل فيها. و حيث أن وحدة الوجود بالنسبة لهم لها دور كبير في فهم حقيقة التوحيد فقد رأيت أن ابدأ بطرحها من هذه الجهة.
و من أوضح البيانات التي يمكن لنا أن نفهم من خلالها فكرة التوحيد الذاتي (يعني وحدة الوجود و الموجود) ما أورده المرحوم العلاّمة الطهراني قدس سره لبيان هذه الفكرة من خلال مثال قرآني، وذلك ضمن تفسيره للآيات التي تنسب فعل قبض الأرواح إلى الله تعالى تارة، وإلى ملك الموت أخرى، وإلى ملائكة آخرين ثالثة. ونحن ننقل هذا البيان هنا، مع التذكير بأننا لسنا في مقام الاستدلال على فكرة وحدة الوجود و الموجود، فذلك سيأتي لاحقاً إن شاء الله، ولكن بهدف تقريبها وبيان مفهومها كما يراها هو، غاضّين النظر عن التفصيل والمناقشة في تفسير هذه الآيات، والأوجه الأخرى المحتملة فيها، كما نهدف من نقل البيان على تفصيله إلى التدبّر سويّاً في حقائق هذه الآيات والمواعظ الإلهيّة، عسى الله أن يرحمنا في تلك الساعة التي نعيش في غفلة عنها. يقول قدس سره:
" قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ. (الآية 11، من السورة 32: السّجدة.) ينسب الله جلّ و عزّ في هذه الآية المباركة قبض أرواح الناس إلى عزرائيل ملك الموت. كما ينسب ذلك الى نفسه مباشرة في الآية الشريفة التي جرى البحث في شأنها مفصّلاً في المجلس السابق: اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا (الآية 42 من السورة 39: الزمر).
كما أنّه ينسب قبض الروح في آية أخرى لا الى ملك خاص معيّن، بل الى الملائكة:
وَ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حتّى إذَا جَاءَ أحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (الآية 61 من السورة 6: الأنعام)
و يقوم في آية رابعة بنسبة السلام و التحيّة الى الملائكة الذين يقومون بقبض أرواح الطيّبين و المخلَصين:
الَّذيِنَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. (الآية 32 من السورة 16: النحل)
و يذكر في آية أخرى في نفس السورة أنّ الظالمين و الجائرين يعمدون إلى المسالمة مع الملائكة حين يأتون لقبض أرواحهم، كما يعمدون الى إنكار أعمالهم و قبائحهم التي ارتكبوها، و لكن بلا جدوى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أنفُسِهِمْ فَألْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بلى إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الآية 28 من السورة 16: النحل.) و بعد أن يُجيبهم الملائكة بهذا الخطاب، يخاطبونهم من جديد قائلين: فَادْخُلُوا أبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. (الآية 29، من السورة 16: النحل)
و كما يُلاحظ في هذه الآيات، فانّ قبض الروح قد نُسب في بعض هذه الآيات الى الله سبحانه، و في بعض إلى ملك الموت، كما نسب في البعض الآخر الى الملائكة الذين يقبضون بطريقة معينة أرواح الطيّبين و المخلصين، و يقبضون بطريقة أخرى أرواح الظالمين و الجائرين.
فما الذي يفيده الجمع بين هذه الآيات؟ إنْ كان الله يقوم بنفسه بقبض الروح فما الذي يفعله عزرائيل و سائر الملائكة؟ و إن كان ذلك من فعل عزرائيل لوحده فما هو عمل باقي الملائكة؟ و ما معنى نسبة هذا الفعل الى الذات المقدّسة للربّ جلّ و عزّ؟ و اذا كان ذلك من فعل الملائكة، فما هو عمل ملك الموت؟ و ما الذي تعنيه نسبة قبض الروح الى الله هنا أيضاً؟
تلك مسألة ينبغي إلقاء الضوء عليها، و ذلك لأنّه علاوة على عدم وجود تناقض في القرآن الكريم، فإنّ هذه الآيات تبيّن أصلاً مهمّاً من أصول التوحيد المتقنة.
و لإيضاح هذا المعنى نقول: إنّ الدين الإسلامي المقدّس قائم على أساس التوحيد، التوحيد في الذات، التوحيد في الصفات، و التوحيد في الأفعال؛ فالتوحيد في الذات يعني أن ليس هناك في جميع عوالم الوجود إلا وجوداً مستقلاً واحداً قائماً بالذات، و ذلك الوجود يعود للذات المقدّسة لمفيض الوجود و واهبه جلّ و علا، أمّا باقي الموجودات فليس وجودها إلاّ وجود ظلّي و تبعي و معلول و ناقص و ممكن.
أمّا التوحيد في الصفات فانّه يعني أنْ ليس هناك في جميع عوالم الوجود الاّ علم مطلق واحد و حياة مطلقة واحدة و قدرة مطلقة واحدة؛ و كذلك الأمر في سائر الصفات، و إنّ هذه الصفات مختصّة بالذات المقدّسة للحيّ القديم العالم القدير، كما أنّ الصفات التي تشاهد في باقي الموجودات من العلم و القدرة و الحياة هي جميعها من إشعاع علم و قدرة و حياة واجب الوجود، و ليست مستقلّة بنفسها، بل إنّ نسبتها إلى الصفات الإلهيّة كنسبة الظلّ الى الشاخص، و في حكم الإشعاع المضيء من مصدر النور و القدرة و العلم و الحياة.
و كذلك الأمر في التوحيد في الأفعال الذي يعني أن ليس هناك في جميع عوالم الوجود إلاّ فعل واحد مستقل قائم بالذات، و أنّ جميع الأفعال التي تصدر من الموجودات الممكنة هي جميعاً إشعاع ذلك الفعل المستقلّ بالذات، القائم بوجود واجب الوجود. كما أنّ تلك الأفعال في نفس الوقت الذي تمتلك النسبة إلى الممكنات، فإنّها تمتلك أيضاً النسبة الى الخالق جلّ و عز. أي أنّ الفعل الذي يصدر من الموجودات هو ظهور و طلوع من فعل الربّ عزّ و جل، فذلك العمل متعلّق حقيقة بالله سبحانه، فهو يظهر و يطلع في ذلك الموجود بأمر الله و إذنه، وعلى هذا الأساس فانّ الظهور يجد النسبة أيضاً الى ذلك الموجود.
و لذلك فانّ الفعل الذي يقع من موجود معيّن، و الذي ينسب الى ذلك الموجود، هو في حقيقة الأمر و واقعه منسوب الى الله سبحانه، غاية الأمر أنّ هاتين النسبتين ليستا في عرض بعضهما، بل هما في طول بعضهما. و ذلك لأنّ أيّا من الله تعالى و ذلك الموجود لم ينجز ذلك الفعل بصورة مستقلّة، كما أنّهما لم يشتركا في فعله سويّاً، بل إنّ ذلك الفعل قد صدر و ظهر أوّلاً و بالذات من مصدر الفعل و الوجود، و هو الذات المقدّسة للَه تعالى، ثمّ ظهر و نشأ في هذا المورد ثانياً و بالعرض. "
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ. (الآية 11، من السورة 32: السّجدة.) ينسب الله جلّ و عزّ في هذه الآية المباركة قبض أرواح الناس إلى عزرائيل ملك الموت. كما ينسب ذلك الى نفسه مباشرة في الآية الشريفة التي جرى البحث في شأنها مفصّلاً في المجلس السابق: اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا (الآية 42 من السورة 39: الزمر).
كما أنّه ينسب قبض الروح في آية أخرى لا الى ملك خاص معيّن، بل الى الملائكة:
وَ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حتّى إذَا جَاءَ أحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (الآية 61 من السورة 6: الأنعام)
و يقوم في آية رابعة بنسبة السلام و التحيّة الى الملائكة الذين يقومون بقبض أرواح الطيّبين و المخلَصين:
الَّذيِنَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. (الآية 32 من السورة 16: النحل)
و يذكر في آية أخرى في نفس السورة أنّ الظالمين و الجائرين يعمدون إلى المسالمة مع الملائكة حين يأتون لقبض أرواحهم، كما يعمدون الى إنكار أعمالهم و قبائحهم التي ارتكبوها، و لكن بلا جدوى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أنفُسِهِمْ فَألْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بلى إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الآية 28 من السورة 16: النحل.) و بعد أن يُجيبهم الملائكة بهذا الخطاب، يخاطبونهم من جديد قائلين: فَادْخُلُوا أبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. (الآية 29، من السورة 16: النحل)
و كما يُلاحظ في هذه الآيات، فانّ قبض الروح قد نُسب في بعض هذه الآيات الى الله سبحانه، و في بعض إلى ملك الموت، كما نسب في البعض الآخر الى الملائكة الذين يقبضون بطريقة معينة أرواح الطيّبين و المخلصين، و يقبضون بطريقة أخرى أرواح الظالمين و الجائرين.
فما الذي يفيده الجمع بين هذه الآيات؟ إنْ كان الله يقوم بنفسه بقبض الروح فما الذي يفعله عزرائيل و سائر الملائكة؟ و إن كان ذلك من فعل عزرائيل لوحده فما هو عمل باقي الملائكة؟ و ما معنى نسبة هذا الفعل الى الذات المقدّسة للربّ جلّ و عزّ؟ و اذا كان ذلك من فعل الملائكة، فما هو عمل ملك الموت؟ و ما الذي تعنيه نسبة قبض الروح الى الله هنا أيضاً؟
تلك مسألة ينبغي إلقاء الضوء عليها، و ذلك لأنّه علاوة على عدم وجود تناقض في القرآن الكريم، فإنّ هذه الآيات تبيّن أصلاً مهمّاً من أصول التوحيد المتقنة.
و لإيضاح هذا المعنى نقول: إنّ الدين الإسلامي المقدّس قائم على أساس التوحيد، التوحيد في الذات، التوحيد في الصفات، و التوحيد في الأفعال؛ فالتوحيد في الذات يعني أن ليس هناك في جميع عوالم الوجود إلا وجوداً مستقلاً واحداً قائماً بالذات، و ذلك الوجود يعود للذات المقدّسة لمفيض الوجود و واهبه جلّ و علا، أمّا باقي الموجودات فليس وجودها إلاّ وجود ظلّي و تبعي و معلول و ناقص و ممكن.
أمّا التوحيد في الصفات فانّه يعني أنْ ليس هناك في جميع عوالم الوجود الاّ علم مطلق واحد و حياة مطلقة واحدة و قدرة مطلقة واحدة؛ و كذلك الأمر في سائر الصفات، و إنّ هذه الصفات مختصّة بالذات المقدّسة للحيّ القديم العالم القدير، كما أنّ الصفات التي تشاهد في باقي الموجودات من العلم و القدرة و الحياة هي جميعها من إشعاع علم و قدرة و حياة واجب الوجود، و ليست مستقلّة بنفسها، بل إنّ نسبتها إلى الصفات الإلهيّة كنسبة الظلّ الى الشاخص، و في حكم الإشعاع المضيء من مصدر النور و القدرة و العلم و الحياة.
و كذلك الأمر في التوحيد في الأفعال الذي يعني أن ليس هناك في جميع عوالم الوجود إلاّ فعل واحد مستقل قائم بالذات، و أنّ جميع الأفعال التي تصدر من الموجودات الممكنة هي جميعاً إشعاع ذلك الفعل المستقلّ بالذات، القائم بوجود واجب الوجود. كما أنّ تلك الأفعال في نفس الوقت الذي تمتلك النسبة إلى الممكنات، فإنّها تمتلك أيضاً النسبة الى الخالق جلّ و عز. أي أنّ الفعل الذي يصدر من الموجودات هو ظهور و طلوع من فعل الربّ عزّ و جل، فذلك العمل متعلّق حقيقة بالله سبحانه، فهو يظهر و يطلع في ذلك الموجود بأمر الله و إذنه، وعلى هذا الأساس فانّ الظهور يجد النسبة أيضاً الى ذلك الموجود.
و لذلك فانّ الفعل الذي يقع من موجود معيّن، و الذي ينسب الى ذلك الموجود، هو في حقيقة الأمر و واقعه منسوب الى الله سبحانه، غاية الأمر أنّ هاتين النسبتين ليستا في عرض بعضهما، بل هما في طول بعضهما. و ذلك لأنّ أيّا من الله تعالى و ذلك الموجود لم ينجز ذلك الفعل بصورة مستقلّة، كما أنّهما لم يشتركا في فعله سويّاً، بل إنّ ذلك الفعل قد صدر و ظهر أوّلاً و بالذات من مصدر الفعل و الوجود، و هو الذات المقدّسة للَه تعالى، ثمّ ظهر و نشأ في هذا المورد ثانياً و بالعرض. "
ولمزيد من البيان ننقل كلام سماحة المرحوم العلامة الطهراني نفسه في كتاب الروح المجرّد (ص 368) حين يشرح معنى وحدة الوجود قائلاً:
"الوحدة تعني استقلال ذات الحقّ تعالى شأنه في الوجود، فليس هناك مع وجود هذا الاستقلال و العِزّة، قدرةُ على الاستقلال لأيّ موجود آخر؛ بل سيكون وجوده وجوداً ظلّيّاً و تبعيّاً كظلّ الشاخص الذي يتبعه.
كما أنّ وجود جميع الموجودات من الحقّ تعالى، فهي جميعاً آية و ممثّل له، لذا فإنّها بأجمعها ظهوراته و تجلّيات ذاته القدسيّة. لكن الظاهر ليس منفصلاً عن المظهِر، و المتجلّي لا يمكن أن ينفكّ عن المتجلّى فيه، و إلاّ لما كان ظهوراً و تجلّياً، بل لصار ذلك وجوداً منفصلاً و هذا وجود منفصل. و سيزول عنوان المخلوق و الربط و الرابطة في هذه الحال، فتصبح جميع الكائنات مولوداً للّه، في حين أنّه {لَمْ يَلِدْ} تعالى شأنه."
كما أنّ وجود جميع الموجودات من الحقّ تعالى، فهي جميعاً آية و ممثّل له، لذا فإنّها بأجمعها ظهوراته و تجلّيات ذاته القدسيّة. لكن الظاهر ليس منفصلاً عن المظهِر، و المتجلّي لا يمكن أن ينفكّ عن المتجلّى فيه، و إلاّ لما كان ظهوراً و تجلّياً، بل لصار ذلك وجوداً منفصلاً و هذا وجود منفصل. و سيزول عنوان المخلوق و الربط و الرابطة في هذه الحال، فتصبح جميع الكائنات مولوداً للّه، في حين أنّه {لَمْ يَلِدْ} تعالى شأنه."
و هنا ألفت نظر الإخوة إلى نقطتين اساسييتين لمن اراد أن يفهم مقصود العرفاء من وحدة الوجود و الموجود:
1- العرفاء لا يقولون: الله هو كلّ الأشياء. كلاّ .. بل يقولون: لا شيء من الأشياء له وجود مستقلّ غير الله. فما هو الفرق بين العبارتين؟
2- العرفاء يقولون أنّ الأشياء التي نراها حولنا هي واقعية و ليست وهماً، و لكن وجودها ظلي و تبعي و مرآتي و ليس وجوداً مستقلاً. فما هو معنى الوجود الاعتباري و الظلي؟
فمن فهم هاتين النقطتين فقد فهم أهم مفاتيح هذا البحث، و من لم يفهم فلا بأس إذ سيأتي مزيد توضيح في المشاركات القادمة.
نكتفي بهذا المقدار ونتابع بيان مفهوم وحدة الوجود في مشاركة لاحقة من خلال بيانات وأمثلة أخرى إن شاء الله. و هنا أدعو الإخوة للسؤال عن ما يجدونه غامضاً حتى الآن لكي نبينه في المشاركات القادمة إذا كان ذلك في وسعنا، فنحن نعترف أن بضاعتنا قليلة في هذا الميدان. و الحمد لله رب العالمين.
تعليق