مبغض علي رديء الولادة:
عن زيد بن يثيع قال:
سمعت أبا بكر الصديق يقول: رأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال ـ وقد خيَّم خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي، وفاطمة، والحسن، والحسين «عليهم السلام» ـ: أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، وحرب لمن حاربهم، وولي لمن والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد، طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقي الجد، رديء الولادة .
فقال رجل: يا زيد، أنت سمعت من أبي بكر هذا؟!
قال: إي ورب الكعبة([9]).
ونقول:
1 ـ إن الروايات المصرحة بأن مبغض علي«عليه السلام» رديء الولادة أو ابن زنا كثيرة، رواها أهل السنة والشيعة على حد سواء.. وهذا الخبر واحد منها. وكذلك الخبر الآتي.
2 ـ إن زيد بن يثيع يقسم على أنه قد سمع ذلك من أبي بكر بعد أن سأله سائل: إن كان قد سمع ذلك منه حقيقة.. حيث يبدو أن السائل لم يتعقل صدور هذا الأمر من أبي بكر، الذي نازع علياً «عليه السلام» في الخلافة، وجرت الأمور على النحو المعروف. وحصل ما حصل..
3 ـ إنه «صلى الله عليه وآله» قد جعل رداءة الولادة وطيبها مرتبطة بحب ثلاثة آخرين غير علي «عليه السلام»، وهم فاطمة والحسنان «عليهم السلام».. وهذا لا ينافي إقتصار سائر الروايات على ذكر علي «عليه السلام»، فإن إثبات شيء لشيء لا يعني الإنحصار به، بل قد يشاركه غيره فيه...
النبي يشهر علياً :
عن أنس بن مالك قال:
كان النبي «صلى الله عليه وآله» إذا أراد أن يشهر علياً في موطن أو مشهد علا على راحلته، وأمر الناس أن ينخفضوا دونه.
وإن رسول الله «صلى الله عليه وآله» شهر علياً يوم خيبر، فقال:
يا أيها الناس، من أحب أن ينظر إلى آدم في خلقه ـ وأنا في خلقي ـ وإلى إبراهيم في خلته، وإلى موسى في مناجاته، وإلى يحيى في زهده، وإلى عيسى في سنه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب، إذا خطر بين الصفين كأنما يتقلع من صخر، أو يتحدر من دهر.
يا أيها الناس، امتحنوا أولادكم بحبه، فإن علياً لا يدعو إلى ضلالة، ولا يبعد عن هدى، فمن أحبه فهو منكم، ومن أبغضه فليس منكم.
قال أنس بن مالك:
وكان الرجل من بعد يوم خيبر يحمل ولده على عاتقه، ثم يقف على طريق علي، وإذا نظر إليه يوجِّهه بوجهه تلقاءه، وأومأ بإصبعه: أي بني تحب هذا الرجل المقبل؟!
فإن قال الغلام: نعم، قبله.
وإن قال: لا، حرف (لعل الصحيح: ضرب) به الأرض، وقال له: الحق بأمك، ولا تلحق أبيك بأهلها [كذا]، فلا حاجة لي فيمن لا يحب علي بن أبي طالب «عليه السلام»([10]).
ونقول:
نستفيد من هذا النص أموراً، نذكر منها:
1 ـ إنه قد تكرر إشهار النبي «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه السلام» في المواطن والمشاهد . حتى أصبح مألوفاً للناس..
2 ـ إنه «صلى الله عليه وآله» كان يتخذ وضعاً خاصاً للقيام بعمله هذا، صار الناس يعرفون طريقته، وحالاته، فإذا رأوا تلك الحالات عرفوا أن ثمة أمراً يرتبط بعلي، وأنه يريد إشهاره وإعلانه، وهو أنه «صلى الله عليه وآله» يعلو على راحلته، ويأمر الناس بالإنخفاض دونه، وهذا الذي جرى في خيبر كان أحد تلك المشاهد.
3 ـ ودلت الصفات التي أطلقها «صلى الله عليه وآله» على أمير المؤمنين «عليه السلام» على أنه قد حوى من صفات الكمال والجمال أتمها وأفضلها، فقد حوى من صفات آدم «عليه السلام» صفات كماله في خلقته، ومن صفات النبي «صلى الله عليه وآله» أخلاقه الفاضلة، وأخذ أيضاً خلة إبراهيم، ومناجاة موسى، وزهد يحيى، وسن (أو سنة) عيسى.
أي أنه «عليه السلام» قد حاز الصفات التي امتاز بها الأنبياء، وجاراهم بها، حتى إن النظر إليه يكفي عن النظر إلى جميع الأنبياء، لأن الناظر إلى كل شخص لا بد أن ينجذب إلى الصفة التي كملت فيه حتى امتاز بها. ولكنه حين ينظر إلى علي «عليه السلام»، فإنه ينجذب إلى جميع الصفات، لأنها امتازت كلها فيه..
4 ـ ويلاحظ: أنه «صلى الله عليه وآله» قد وقف هذا الموقف في خيبر بالذات، ليدل على أن ما جرى على يد علي «عليه السلام» لا ينبغي أن يتعامل معه بنظرة ضيقة ومحدودة، تجعل من علي «عليه السلام» مجرد رجل شجاع وقوي. بل لا بد أن ينظر إلى علي «عليه السلام» كله في صفاته الخلقية، والخلقية، والنفسية، والإيمانية، ومقاماته الروحية، وفضائله، وفي نهجه، وفي هداه وكمالاته كلها.
5 ـ وأقوى تحذير يمكن أن نتصوره لمن يختار مناوأة أميرالمؤمنين «عليه السلام» ومعاداته هو هذا البيان الصريح والقاطع الذي يضع من يعاديه من أهل الهوى والعصبية الجاهلية أمام أصعب الخيارات، حيث يطعن في شرفه، ويضع علامة استفهام على طهارة مولده.
6 ـ وقد أصبح هذا البيان النبوي معياراً، يكشف الناس به الخفايا، ويظهرون به الخبايا، لأنهم على يقين من صدق نبيهم، ومن أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ..
وقد كان جابر «رحمه الله» يقول: كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب([11])، وعن عبادة بن الصامت مثله. والروايات حول ذلك كثيرة.
وقد اضطر كثير من الناس من أعداء علي «عليه السلام» إلى التظاهر بحب علي «عليه السلام» لإثبات براءتهم مما يرميهم به الناس، مع أن قرائن الأحوال لا تؤيد هذه البراءة..
إمتحان الأولاد بحب علي :
روى الصفوري الشافعي:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» أمر أصحابه يوم خيبر بأن يمتحنوا أولادهم بحب علي بن أبي طالب، فإنه لا يدعو إلى ضلالة ولا يبعد عن هدى، فمن أحبه فهو منكم، ومن أبغضه فليس منكم.
قال أنس:
فكان الرجل بعد ذلك يقف بولده على طريق علي، فيقول: يا بني أتحب هذا؟!
فإن قال: نعم، قبله.
وإن قال: لا، طلق أمه وتركه معها([12]).
عن عبادة الصامت قال:
كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فإذا رأينا أحدهم لا يحب علي بن أبي طالب علمنا أنه ليس منا، وأنه لغير رشدة.
ثم قال الجزري: لغير رشدة: ولد زنا. وهذا مشهور من قديم وإلى اليوم، أنه ما يبغض علياً إلا ولد زنا([13]).
عن أبي سعيد الخدري:
كنا معشر الأنصار نبور أولادنا بحبهم علياً «عليه السلام»، فإذا ولد فينا مولود فلم يحبه، عرفنا أنه ليس منا.
قوله: نبور: نختبر ونمتحن([14]).
ونقول:
إن هذه الأحاديث قد تضمنت أموراً تحتاج إلى بسط في البيان، ربما لا نستطيع أن نوفره في الوقت الحاضر، غير أننا نشير إلى ما يلي:
اختبار المولود:
إن موضوع الحب والبغض أمر قلبي جوانحي، لابد من الإحساس به وإدراكه قبل التعبير عنه بالكلمة، أو بالإشارة ونحوها. والمولود لا يكون مؤهلاً عادة لمثل هذا الإمتحان..
وإذا كان الحب والبغض يحتاج إلى محفزات، ولنفترض أن ذلك الطفل قد كبر حتى صار عمره عدة سنوات، فإن أجواءه قد لا تسمح له بالتعرف على محاسن علي «عليه السلام»، حيث يكون له عالمه الخاص به، واهتماماته المناسبة لسنه، فما معنى أن يمتحن المولود بحب علي «عليه السلام»..
وهل يمكن الإعتماد على ما يظهره المولود إذا كان لا يتعقل ما يقول، ويتابع غيره فيما يقول وفيما يفعل؟! فلعله ابتلى بمن كان يعلمه بغض علي «عليه السلام»، ويوحي إليه بما ينفره منه.. فكيف تؤاخذ أمه على أمر من هذا القبيل، ثم تتهم به، وتطلق، وتمزق العائلة؟!
ويمكن أن يجاب:
بأن الله تعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا مَا آَتَاهَا﴾([15]). فلو لم يؤته الله سبحانه حب علي «عليه السلام» وإمكان التعبير عنه، وإلهامه الصواب والصدق فيه، لم يعرِّض الله كرامة أمه للخطر، وحياتها للإنتكاس.
ومن الذي قال:
إنه تعالى لم يوجد بين القلوب والأرواح علاقات وروابط لا تنالها إدراكاتنا، تجعلها تتواصل، وتتحابب وتتنافر بصورة طبيعية، وحتى من دون أن يتم لقاء وتعارف مباشر بين الأشخاص. فقد روي: أن الأرواح جند مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف([16]).
وقيل: من القلب إلى القلب سبيل([17]).
هذا المعيار حساس:
وقد لوحظ: أن هذا المعيار الذي جعله الله، قد جاء في غاية الحساسية والأهمية، بالنسبة للناس الغيورين على نسائهم، والمهتمين بسلامة شرفهم، وطهارة ذيلهم.
وهو بنفسه يثير الحماس لممارسة هذا الإختبار، ويثير الخوف والرهبة منه أيضاً.. ويدعو للحذر من مخالفته مقتضياته. والتحفظ من تبعات الفشل في الإمتحان فيه.
كما أنه معيار لمدى ثقة الإنسان المؤمن، بربه ونبيه.
الحادثة في خيبر:
وبما أن العنايات الإلهية، والألطاف الربانية، والكرامة الظاهرة لكل ذي عينين قد تجلت في معركة خيبر، بنحو يوجب اليقين، وزوال أدنى شك أو ريب بها، فمن الطبيعي أن يطلق النبي «صلى الله عليه وآله» هذا المعيار البالغ في دقته وحساسيته، وآثاره على المشاعر، وخطورته على البنية العائلية ـ من الطبيعي أن يطلقه «صلى الله عليه وآله» ـ في خصوص هذه المناسبة، ليمكن للناس أن يفهموه وأن يستوعبوه، وأن يتقبلوه بنفوس أبية، وبأريحية وحمية، وهكذا كان..
الهوامش:
([9]) الفصول المئة ج3 ص288 عن فرائد السمطين ج2 ص373 والأربعون حديثاً لمنتجب الدين بن بابويه ص19 والمناقب للخوارزمي ص296 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج1 ص174 وشرح إحقاق الحق ج9 ص165 وج18 ص415 وج25 ص238 وج26 ص259 وج27 ص95 وج33 ص89 وشرح الأخبار ج3 ص515 والغدير ج1 ص336 وج4 ص323 والنص والإجتهاد ص90 عن سمط النجوم ج2 ص488 والرياض النضرة (ط مكتبة الخانجي بمصر) ج2 ص189.
([10]) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (ط بيروت) ج2 ص224 وتاريخ مدينة دمشق (ط دار الفكر) ج42 ص288 و (ط مكتبة المرعشي) ج15 ص611 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج15 ص611 وج21 ص364.
([11]) شرح الأخبار ج1 ص446 وتفسير نور الثقلين ج5 ص45 وشواهد التنزيل ج1 ص449 وراجع: الرواشح السماوية للأسترآبادي ص137والغدير ج3 ص26 وج4 ص322 وتفسير مجمع البيان ج9 ص177 وراجع: الإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص158 و 160 وتفسير جوامع الجامع ج3 ص372 والتفسير الصافي ج5 ص30 وج6 ص482 ونهج الإيمان ص456 والنهاية في غريب الحديث ج1 ص161 وشرح إحقاق الحق ج7 ص266 وج14 ص656 وج17 ص250 وج21 ص365 ـ 367.
([12]) نزهة المجالس ج2 ص208 والمحاسن المجتمعة (مخطوط) ص161 عن الزهر الفاتح، وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج17 ص249 وج30 ص301.
([13]) أسنى المطالب ص57 والغدير ج3 ص26 وج4 ص322.
([14]) أسنى المطالب ص58 والغدير ج4 ص322 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص159 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج21 ص367 و 368.
([15]) الآية 7 من سورة الطلاق.
([16]) راجع: روضة الواعظين ص492 والأمالي للصدوق ص209 وعلل الشرائع ج1 ص84 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص380 ومختصر بصائر الدرجات ص214 وراجع: المسائل السروية ص37 والتحفة السنية (مخطوط) ص84 ونهج السعادة ج8 ص254 وعون المعبود ج13 ص124 وراجع: بصائر الدرجات ص109 و 411 وكتاب المؤمن للحسين بن سعيد ص39 والإعتقادات في دين الإمامية للصدوق ص48 والإختصاص للمفيد ص311 وعوالي اللآلي ج1 ص288 ومدينة المعاجز ج2 ص197 وبحار الأنوار ج2 ص265 وج5 ص241 و 261 وج6 ص294 وج25 ص14 وج45 ص404 وج58 ص31 و 63 و 64 و 79 و 80 و 106 و 134 و 139 و 144 وج65 ص205 و 206.
([17]) راجع: تفسير الآلوسي ج23 ص214.
السيد جعفر مرتضى العاملي
الصحيح من سيرة الإمام علي عليه السلام ج8 ص303-330
عن زيد بن يثيع قال:
سمعت أبا بكر الصديق يقول: رأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال ـ وقد خيَّم خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي، وفاطمة، والحسن، والحسين «عليهم السلام» ـ: أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، وحرب لمن حاربهم، وولي لمن والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد، طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقي الجد، رديء الولادة .
فقال رجل: يا زيد، أنت سمعت من أبي بكر هذا؟!
قال: إي ورب الكعبة([9]).
ونقول:
1 ـ إن الروايات المصرحة بأن مبغض علي«عليه السلام» رديء الولادة أو ابن زنا كثيرة، رواها أهل السنة والشيعة على حد سواء.. وهذا الخبر واحد منها. وكذلك الخبر الآتي.
2 ـ إن زيد بن يثيع يقسم على أنه قد سمع ذلك من أبي بكر بعد أن سأله سائل: إن كان قد سمع ذلك منه حقيقة.. حيث يبدو أن السائل لم يتعقل صدور هذا الأمر من أبي بكر، الذي نازع علياً «عليه السلام» في الخلافة، وجرت الأمور على النحو المعروف. وحصل ما حصل..
3 ـ إنه «صلى الله عليه وآله» قد جعل رداءة الولادة وطيبها مرتبطة بحب ثلاثة آخرين غير علي «عليه السلام»، وهم فاطمة والحسنان «عليهم السلام».. وهذا لا ينافي إقتصار سائر الروايات على ذكر علي «عليه السلام»، فإن إثبات شيء لشيء لا يعني الإنحصار به، بل قد يشاركه غيره فيه...
النبي يشهر علياً :
عن أنس بن مالك قال:
كان النبي «صلى الله عليه وآله» إذا أراد أن يشهر علياً في موطن أو مشهد علا على راحلته، وأمر الناس أن ينخفضوا دونه.
وإن رسول الله «صلى الله عليه وآله» شهر علياً يوم خيبر، فقال:
يا أيها الناس، من أحب أن ينظر إلى آدم في خلقه ـ وأنا في خلقي ـ وإلى إبراهيم في خلته، وإلى موسى في مناجاته، وإلى يحيى في زهده، وإلى عيسى في سنه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب، إذا خطر بين الصفين كأنما يتقلع من صخر، أو يتحدر من دهر.
يا أيها الناس، امتحنوا أولادكم بحبه، فإن علياً لا يدعو إلى ضلالة، ولا يبعد عن هدى، فمن أحبه فهو منكم، ومن أبغضه فليس منكم.
قال أنس بن مالك:
وكان الرجل من بعد يوم خيبر يحمل ولده على عاتقه، ثم يقف على طريق علي، وإذا نظر إليه يوجِّهه بوجهه تلقاءه، وأومأ بإصبعه: أي بني تحب هذا الرجل المقبل؟!
فإن قال الغلام: نعم، قبله.
وإن قال: لا، حرف (لعل الصحيح: ضرب) به الأرض، وقال له: الحق بأمك، ولا تلحق أبيك بأهلها [كذا]، فلا حاجة لي فيمن لا يحب علي بن أبي طالب «عليه السلام»([10]).
ونقول:
نستفيد من هذا النص أموراً، نذكر منها:
1 ـ إنه قد تكرر إشهار النبي «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه السلام» في المواطن والمشاهد . حتى أصبح مألوفاً للناس..
2 ـ إنه «صلى الله عليه وآله» كان يتخذ وضعاً خاصاً للقيام بعمله هذا، صار الناس يعرفون طريقته، وحالاته، فإذا رأوا تلك الحالات عرفوا أن ثمة أمراً يرتبط بعلي، وأنه يريد إشهاره وإعلانه، وهو أنه «صلى الله عليه وآله» يعلو على راحلته، ويأمر الناس بالإنخفاض دونه، وهذا الذي جرى في خيبر كان أحد تلك المشاهد.
3 ـ ودلت الصفات التي أطلقها «صلى الله عليه وآله» على أمير المؤمنين «عليه السلام» على أنه قد حوى من صفات الكمال والجمال أتمها وأفضلها، فقد حوى من صفات آدم «عليه السلام» صفات كماله في خلقته، ومن صفات النبي «صلى الله عليه وآله» أخلاقه الفاضلة، وأخذ أيضاً خلة إبراهيم، ومناجاة موسى، وزهد يحيى، وسن (أو سنة) عيسى.
أي أنه «عليه السلام» قد حاز الصفات التي امتاز بها الأنبياء، وجاراهم بها، حتى إن النظر إليه يكفي عن النظر إلى جميع الأنبياء، لأن الناظر إلى كل شخص لا بد أن ينجذب إلى الصفة التي كملت فيه حتى امتاز بها. ولكنه حين ينظر إلى علي «عليه السلام»، فإنه ينجذب إلى جميع الصفات، لأنها امتازت كلها فيه..
4 ـ ويلاحظ: أنه «صلى الله عليه وآله» قد وقف هذا الموقف في خيبر بالذات، ليدل على أن ما جرى على يد علي «عليه السلام» لا ينبغي أن يتعامل معه بنظرة ضيقة ومحدودة، تجعل من علي «عليه السلام» مجرد رجل شجاع وقوي. بل لا بد أن ينظر إلى علي «عليه السلام» كله في صفاته الخلقية، والخلقية، والنفسية، والإيمانية، ومقاماته الروحية، وفضائله، وفي نهجه، وفي هداه وكمالاته كلها.
5 ـ وأقوى تحذير يمكن أن نتصوره لمن يختار مناوأة أميرالمؤمنين «عليه السلام» ومعاداته هو هذا البيان الصريح والقاطع الذي يضع من يعاديه من أهل الهوى والعصبية الجاهلية أمام أصعب الخيارات، حيث يطعن في شرفه، ويضع علامة استفهام على طهارة مولده.
6 ـ وقد أصبح هذا البيان النبوي معياراً، يكشف الناس به الخفايا، ويظهرون به الخبايا، لأنهم على يقين من صدق نبيهم، ومن أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ..
وقد كان جابر «رحمه الله» يقول: كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب([11])، وعن عبادة بن الصامت مثله. والروايات حول ذلك كثيرة.
وقد اضطر كثير من الناس من أعداء علي «عليه السلام» إلى التظاهر بحب علي «عليه السلام» لإثبات براءتهم مما يرميهم به الناس، مع أن قرائن الأحوال لا تؤيد هذه البراءة..
إمتحان الأولاد بحب علي :
روى الصفوري الشافعي:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» أمر أصحابه يوم خيبر بأن يمتحنوا أولادهم بحب علي بن أبي طالب، فإنه لا يدعو إلى ضلالة ولا يبعد عن هدى، فمن أحبه فهو منكم، ومن أبغضه فليس منكم.
قال أنس:
فكان الرجل بعد ذلك يقف بولده على طريق علي، فيقول: يا بني أتحب هذا؟!
فإن قال: نعم، قبله.
وإن قال: لا، طلق أمه وتركه معها([12]).
عن عبادة الصامت قال:
كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فإذا رأينا أحدهم لا يحب علي بن أبي طالب علمنا أنه ليس منا، وأنه لغير رشدة.
ثم قال الجزري: لغير رشدة: ولد زنا. وهذا مشهور من قديم وإلى اليوم، أنه ما يبغض علياً إلا ولد زنا([13]).
عن أبي سعيد الخدري:
كنا معشر الأنصار نبور أولادنا بحبهم علياً «عليه السلام»، فإذا ولد فينا مولود فلم يحبه، عرفنا أنه ليس منا.
قوله: نبور: نختبر ونمتحن([14]).
ونقول:
إن هذه الأحاديث قد تضمنت أموراً تحتاج إلى بسط في البيان، ربما لا نستطيع أن نوفره في الوقت الحاضر، غير أننا نشير إلى ما يلي:
اختبار المولود:
إن موضوع الحب والبغض أمر قلبي جوانحي، لابد من الإحساس به وإدراكه قبل التعبير عنه بالكلمة، أو بالإشارة ونحوها. والمولود لا يكون مؤهلاً عادة لمثل هذا الإمتحان..
وإذا كان الحب والبغض يحتاج إلى محفزات، ولنفترض أن ذلك الطفل قد كبر حتى صار عمره عدة سنوات، فإن أجواءه قد لا تسمح له بالتعرف على محاسن علي «عليه السلام»، حيث يكون له عالمه الخاص به، واهتماماته المناسبة لسنه، فما معنى أن يمتحن المولود بحب علي «عليه السلام»..
وهل يمكن الإعتماد على ما يظهره المولود إذا كان لا يتعقل ما يقول، ويتابع غيره فيما يقول وفيما يفعل؟! فلعله ابتلى بمن كان يعلمه بغض علي «عليه السلام»، ويوحي إليه بما ينفره منه.. فكيف تؤاخذ أمه على أمر من هذا القبيل، ثم تتهم به، وتطلق، وتمزق العائلة؟!
ويمكن أن يجاب:
بأن الله تعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا مَا آَتَاهَا﴾([15]). فلو لم يؤته الله سبحانه حب علي «عليه السلام» وإمكان التعبير عنه، وإلهامه الصواب والصدق فيه، لم يعرِّض الله كرامة أمه للخطر، وحياتها للإنتكاس.
ومن الذي قال:
إنه تعالى لم يوجد بين القلوب والأرواح علاقات وروابط لا تنالها إدراكاتنا، تجعلها تتواصل، وتتحابب وتتنافر بصورة طبيعية، وحتى من دون أن يتم لقاء وتعارف مباشر بين الأشخاص. فقد روي: أن الأرواح جند مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف([16]).
وقيل: من القلب إلى القلب سبيل([17]).
هذا المعيار حساس:
وقد لوحظ: أن هذا المعيار الذي جعله الله، قد جاء في غاية الحساسية والأهمية، بالنسبة للناس الغيورين على نسائهم، والمهتمين بسلامة شرفهم، وطهارة ذيلهم.
وهو بنفسه يثير الحماس لممارسة هذا الإختبار، ويثير الخوف والرهبة منه أيضاً.. ويدعو للحذر من مخالفته مقتضياته. والتحفظ من تبعات الفشل في الإمتحان فيه.
كما أنه معيار لمدى ثقة الإنسان المؤمن، بربه ونبيه.
الحادثة في خيبر:
وبما أن العنايات الإلهية، والألطاف الربانية، والكرامة الظاهرة لكل ذي عينين قد تجلت في معركة خيبر، بنحو يوجب اليقين، وزوال أدنى شك أو ريب بها، فمن الطبيعي أن يطلق النبي «صلى الله عليه وآله» هذا المعيار البالغ في دقته وحساسيته، وآثاره على المشاعر، وخطورته على البنية العائلية ـ من الطبيعي أن يطلقه «صلى الله عليه وآله» ـ في خصوص هذه المناسبة، ليمكن للناس أن يفهموه وأن يستوعبوه، وأن يتقبلوه بنفوس أبية، وبأريحية وحمية، وهكذا كان..
الهوامش:
([9]) الفصول المئة ج3 ص288 عن فرائد السمطين ج2 ص373 والأربعون حديثاً لمنتجب الدين بن بابويه ص19 والمناقب للخوارزمي ص296 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج1 ص174 وشرح إحقاق الحق ج9 ص165 وج18 ص415 وج25 ص238 وج26 ص259 وج27 ص95 وج33 ص89 وشرح الأخبار ج3 ص515 والغدير ج1 ص336 وج4 ص323 والنص والإجتهاد ص90 عن سمط النجوم ج2 ص488 والرياض النضرة (ط مكتبة الخانجي بمصر) ج2 ص189.
([10]) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (ط بيروت) ج2 ص224 وتاريخ مدينة دمشق (ط دار الفكر) ج42 ص288 و (ط مكتبة المرعشي) ج15 ص611 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج15 ص611 وج21 ص364.
([11]) شرح الأخبار ج1 ص446 وتفسير نور الثقلين ج5 ص45 وشواهد التنزيل ج1 ص449 وراجع: الرواشح السماوية للأسترآبادي ص137والغدير ج3 ص26 وج4 ص322 وتفسير مجمع البيان ج9 ص177 وراجع: الإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص158 و 160 وتفسير جوامع الجامع ج3 ص372 والتفسير الصافي ج5 ص30 وج6 ص482 ونهج الإيمان ص456 والنهاية في غريب الحديث ج1 ص161 وشرح إحقاق الحق ج7 ص266 وج14 ص656 وج17 ص250 وج21 ص365 ـ 367.
([12]) نزهة المجالس ج2 ص208 والمحاسن المجتمعة (مخطوط) ص161 عن الزهر الفاتح، وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج17 ص249 وج30 ص301.
([13]) أسنى المطالب ص57 والغدير ج3 ص26 وج4 ص322.
([14]) أسنى المطالب ص58 والغدير ج4 ص322 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص159 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج21 ص367 و 368.
([15]) الآية 7 من سورة الطلاق.
([16]) راجع: روضة الواعظين ص492 والأمالي للصدوق ص209 وعلل الشرائع ج1 ص84 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص380 ومختصر بصائر الدرجات ص214 وراجع: المسائل السروية ص37 والتحفة السنية (مخطوط) ص84 ونهج السعادة ج8 ص254 وعون المعبود ج13 ص124 وراجع: بصائر الدرجات ص109 و 411 وكتاب المؤمن للحسين بن سعيد ص39 والإعتقادات في دين الإمامية للصدوق ص48 والإختصاص للمفيد ص311 وعوالي اللآلي ج1 ص288 ومدينة المعاجز ج2 ص197 وبحار الأنوار ج2 ص265 وج5 ص241 و 261 وج6 ص294 وج25 ص14 وج45 ص404 وج58 ص31 و 63 و 64 و 79 و 80 و 106 و 134 و 139 و 144 وج65 ص205 و 206.
([17]) راجع: تفسير الآلوسي ج23 ص214.
السيد جعفر مرتضى العاملي
الصحيح من سيرة الإمام علي عليه السلام ج8 ص303-330
تعليق