الفصل الثالث و العشرون
في صباح اليوم التالي، فتحت عيني على صوت الهاتف المحمول و هو يتعالى ينبئني بورد مكالمة ما ،..
و لم أكن لأركز على رقم الهاتف الوارد ، و النعاس بسلطانه كان لا يزال عالقا على أهداب عيني .. فقط رفعت السماعة و همهمت بصوت ناعس
" نعم ؟؟!! "
" ... "
" من هناك؟! "
" ... "
" فلتنطقي! من معي ؟! "
و لكن دون جدوى.. فلا من مجيب سوى صمت مطبق، و صوت تنفس أحدهم أو إحداهن .. و هي تزفر بعمق .. و تتنهد بألم !
هي نفسها تلك التي كانت تتصل في.. و تتهمني بأني خاطفة الرجال بلا شك..
و مع هذا .. عاودت النوم مجددا..لا أنكر أن ذلك كان بصعوبة .. و قد أطارت تلك المجنونة النوم من عيني ..
و لكن لم تمر سوى ربع ساعة إلا و قد عاود الهاتف الصياح مرة أخرى !!
" نعم ؟؟.. من ؟؟ .. فلتتكلمي أيتها المجنونة !! من معي !! "
" ... "
و ما من مجيب هذه المرة أيضا !!
لذا أغلقت السماعة ، و قد ارتفع ضغط دمي لدرجة أني كنت أشعر بحرقة شديدة في أعماقي .. و ثوران غاضب في شراييني !
رميت برأسي على الوسادة مجددا .. و رفعت كذلك البطانية أغطي بها وجهي و كلي إصرار على مواصلة النوم .. فالساعة لا تزال عند التاسعة صباحا !!
بعدها بقليل.. رفعت السماعة للمرة الثالثة .. و قد ارتفع صياح ( موبايلي ) مجددا .. و قد أخذ مني الغضب مأخذه ..
لذا و دون أن ألمح من هو المتصل هذه المرة .. فقط رفعت السماعة لأجيب ، و كلي غضب و حقد على من سلبني النوم في هذا الصباح الباكر، و يحاول سلبني سعادتي في أحلى أيام عمري ..
" هييييي.. يا قليلين الأدب ! ردوا.. و إلا بيصير إليكم شي عمركم ما شفتونه!"
و لم أكن لأكمل سلسلة شتائمي المشبعة بالغضب .. و قد ارتفع صوت الطرف الآخر مذهولا ليقاطعني !
" صباح الورد يا أحلى مرام ! "
" ها؟!! هذا أنت يا عصام ! "
و لكم فقط أن تتخيلوا مقدار الحرج الشديد و اللون الأحمر الذي انطبع في وجنتاي في تلك اللحظة !
" عصام.. آسفة .. لم أكن أقصدك بالطبع ! "
" خير عزيزتي..
ما الأمر ؟! .. ماذا هناك ؟! "
" هو هاتف من مجهولة.. تكرر كذا مرة .. دون أن تتكلم ، فقط تسمعني صوت بكائها حينا .. أو تنهداتها و زفراتها حينا آخر .. ! "
و الصدمة الكبرى كانت هي حين أمليت الرقم على عصام ..
فقد كانت هي من أخشاها .. ابنة العمة المحترمة !!
" يا الهي ،،
ماذا تريد مني؟! لماذا لا تتركني وشأني ؟! لماذا هي مصرة على تحطيم حياتنا! "
" هوني الأمر عليك حبيبتي ،
لن تستطيع هي أو حتى غيرها أن يضروك .. و أنا معك !"
طمأنني عصام بنبرته الحانية ،
" أروع ما في خطيبي هي قدرته العجيبة في امتصاص ثورة غضبي مهما كانت ! "
و لم يكن عصام ليتركني قبل أن يسمع مني ضحكة قصيرة عقبت بها على نغزته المازحة و هو يقول ..
" حبيبتي .. أو لن تعزميني على غداء من صنع يديك اليوم ، فأنا أود حقا الاطمئنان على مستقبلي ! "
و قبل أن يغلق عصام الخط مودعا .. ذكرته بالعقد .. فخطيبي مصاب كغيره من أبناء هذا الجيل .. بداء النسيان ..
" عصام.. لا تنسى أن تمر في طريقك على العقد لتحضره .. "
" أووه.. كدت أنساه .. جيد أنك ذكرتني ! "
" أو لم أقل لكم !! .. إلا خوفتي يوم من الأيام ينساني ! "
سرعان ما تنشطت همتي ، و قد أنعشني صوت خطيبي المبجل و حديثه الرائع بنبرته الحانية !
لذا أسرعت اتجاه والدتي أطلب منها المساعدة في المطبخ ،
بل أقصد أن أخبرها أن عصام سيتناول معنا الغداء اليوم.. و أنا من يتحتم علي مساعدتها .. لا العكس ..
حضرنا ما حضرناه من أطباق و سلطات و عصائر و حلويات ..
" يا بختك يا عصام .. ما راح تطلع من بيتنا إلا زايد وزنك كم كيلو .. ! "
و في الواقع ، كان جل همي و أنا أساعد أمي أن أرى ردة فعل عصام و هو يضع اللقمة الأولى مما صنعته يدي ..
أووه أقصد والدتي .. و لكن تحت إرشاداتي .. و لكن لا تخبروه بذلك .. و ليكن هذا سر ٌ بيني و بينكم حتى حين ..
بعد أن تناولنا الغداء في ذلك اليوم ، و الذي نال بالطبع رضا خطيبي الكامل ..
و الدليل على ذلك أننا رفعنا جميع الأطباق من على المائدة .. فارغة تماما !
أصر خطيبي المبجل على رؤية صوري القديمة و التي ترجع إلى أيام الطفولة المنصرمة ..!!
" لا مستحيل .. وا فشيلتاه !!
في صور واجد اتخرع ، و صور مخيفة جدا .. و صور مرعبة جدا ! و صور ما إليها طعمة ! و من غير أي سالفة ! "
و لكن و لأن أخي محمد لم يدع لي أي فرصة للتهرب.. و قد قفز فجأة ملبيا طلب عصام !
لم يكن أمامي حينها سوى الإذعان.. و محاولة التستر على ما وراء الصور من حكايات .. و مشاغبات الطفولة البريئة و ذكريات و إن كانت قديمة .. فهي و بالتأكيد جميلة .. بل رائعة !
" آآه .. يا ليت الطفولة تعود يوما .. فقط لأخبرها بما فعل بي الشباب ! "
آسفة على التأخير..والله يوفقنا واياكم في الأمتحانات..,,
الفصل الرابع و العشرون
أمي كانت معنا و هي تقلب أمامنا الألبومات القديمة.. بما فيها من ذكريات جميلة و رائعة ..
و كنت أرى على عينيها و اللتان أغرورقتا بالدمع..مشاعر هي أعمق من أن أتمكن من ترجمتها مزدانة بالحب..الأمومة .. الحنان .. و بل ربما الفخر و الاعتزاز ..
فمن ذا الذي يصدق أن تلك الطفلة الصغيرة في الصور .. و التي نراها بشعرها المنفوش .. و دموعها المنسابة بسبب و دونما سبب..
قد أصبحت عروسا.. و عريسها ماثل أمامنا.. يشاركنا ضحكنا.. و تعليقاتنا على الصور القديمة ..
" يا سبحان الله ..
لكم هي الأيام تمر بسرعة.. أو لا تشعرون معي بمثل هذا الشعور ؟! "
اختار خطيبي واحدة من أحلى صوري .. و أصر على الاحتفاظ بها في محفظته .. مع أني حاولت إقناعه بأني سأصور لأجله صورة أخرى في (الاستيديو).. تكون رائعة بالفعل .. لكنه و كما كان يقول أنه يرى في هذه الصورة .. أن من فيها ملاك رائع..
" خلاص هذا أهم شي .. أن أكون في نظر خطيبي ملاك رائع ! "
و أنا أيضا أريد له صورة !! واحدة بواحدة ! و لم أكن لأنفك أطلبها منه و لو بطريقة غير مباشرة .. حتى وعدني بإحضار صورة شخصية له غدا ..
" أيوه كذا .. علشان أشعر بأني مخطوبة .. و أفوشر بصورة بعلي على ربعي ! و أقول إليهم .. شوفوا اشكثر عصامي وسيم و يجنن ! "
ثم أني سرعان ما انتهزت لحظة تعذرت أمي فيها بالذهاب إلى المطبخ.. لشرب الماء .. و إن كنت أعلم أن غسل عبراتها و تجفيف دموعها.. هو السبب الحقيقي في انصرافها عنا ..
انتهزت الفرصة لأحادث خطيبي المبجل و بشيء من الدلال.. في رغبتي باستعارة سيارته.. للقيام بمشاويري اللازمة لحفلة الخطوبة المرتقبة !
و كانت عبارتي تلك .. هي الشرارة لأن أبدأ حربا معه .. استمرت لأكثر من ربع ساعة ،
و هو يحاول فيها عبثا إقناعي بأنه سيقوم بإيصالي إلى المكان الذي أريد ..
فهو و كما يقول .. أبدا لا يحبذ سياقة المرأة .. إلا فقط للضرورة القصوى !
" بس انتوا طبعا تدرون شنو ردة فعلي و رايي في هالموضوع !
و الله هذا اللي ناقص ! ياخذني و يحبسني و يمنعني من السياقة بعد ! "
و عندما لم يجدي المنطق في إقناع عصام بوجهة نظري .. لجأت كما عادة المرأة .. إلى سلاح العاطفة .. ليرضخ عصام و قد استعملت معه كل ما لدي من طاقة و قدرة في تمثيل دور ( الزعلانين ) و أنا أهمهم له ..
" إن كنت خائف على سيارتك لهذه الدرجة .. فأنا خلاص لم أعد أرغب في أخذها ! "
فما كان أمام عصام سوى أن يطرق رأسه قليلا.. و قد شرد بنظراته لبضع ثوان.. قبل أن يجيئني صوته راضخا ..
" حسنا .. حسنا عزيزتي ..
و لكن انتبهي لنفسك جيدا ! "
ثم مد يديه إلى جيبه ليناولني مفاتيح السيارة ..
اعتلت وجهي ابتسامة واسعة و أنا أمد يدي لأختطفها من بين يده .. إلا أن أصابع عصام كانت لا تزال عالقة .. تأبى أن تترك لي المفاتيح ..
" ها ؟!! هل غيرت رأيك ؟ ألن تناولني إياها ؟! "
" ليس قبل أن تعيديني أنك ستنتبهين لنفسك جيدا .. و أنك لن تكوني لوحدك ..
اصطحبي معك صفاء.. أو محمد .. أو حتى أسماء ! "
" حاضر .. عزيزي حاضر ! "
و لم أكن لأنتبه ما تفوهت به من شدة الفرحة التي كانت تغمرني.. في تلك اللحظة ..
و لكن ردة فعل خطيبي و ابتسامته الواسعة .. جعلتني أدرك ما قلته له للتو ..
و قد كانت هذه هي المرة الأولى التي أناديها فيها بعزيزي .. مع أنها جاءت عفوية بالفعل.. دون أن أخطط لها مسبقا !
" أعيدي ما قلتيه لي للتو .. "
تجمدت في مكاني .. و قد أصبح وجهي بلون التوت الأحمر ..
إلا أني سرعان ما تداركت الموقف بأن قلت ..
" لم أقل شيئا سوى حاضر عصام حاضر ! "
" لا.. كانت هناك كلمة أخرى .. أعيديها أرجوك !"
و لأنه كان قابضا بقوة على معصمي .. و في عينيه رسالة ترجي صادقة ..
" لاحقا .. لاحقا..
لا تكن طماعا .. ع ز ي ز ي ! "
و انفرجت أساريره.. و اعتلت وجهه ابتسامة طفل وديع.. قبل أن يسمح لي بالانصراف إلى خارج البيت.. حيث أستطيع المرور على صفاء لاصطحابها معي إلى السوق كما خططت ..
" لكم هي مشاعرهم مرهفة و حساسة ! هؤلاء الرجال في بعض الأحيان .. كما الأطفال تماما !! "
في داخل السيارة .. و قبل أن نتحرك .... طالعتني صفاء و هي تتساءل ..
" ما هي خطتنا في المشاوير مرام ! "
" سنمر أولا على الفستان .. ثم الباقة .. و من ثم الصالة لنحجزها ! "
" ما شاء الله .. الله يعينا على كل هالمشاوير ! "
" ها .. إذا ما إليج خلق .. قولي من الحين قبل ما نتحرك ! "
" لا.. ليش كم مرام أنا عندي .. أنا ما قلت شي .. بس انتبهي للطريق قبل ما تودينا في داهية .. "
" أشووه .. حسبت بعد ! "
بعدها بقليل .. ارتفع صوتي مخاطبا ابنة خالتي ..
" ناوليني الهاتف .. سأتصل بعصام ! "
" و لماذا يا ست الحسن و الجمال ! "
" ليصف لي أين يقع محل الأزهار ؟!! "
" و لكني أعرف جيدا أين ذا يقع !! "
" أعلم بذلك .. و لكني أرغب في أن يصف لي هو .. لا أنت !! "
بعدها بقليل.. أعدت الكرة أيضا .. و لكن لأننا كنا بالفعل ضائعين !
و من شدة ارتباكي ..لم أنتبه إلا و صوت صفاء يصرخ مدويا ..
" مراااااام.. انتبهي .. انتبهي !!!"
و تداركت الأمر .. بأن حرفت السيارة قليلا.. لأتجاوز حادثا كان على وشك أن يقع !!
" هي من توقفت فجأة .. ليس ذنبي أن غيري لا يعرف كيف يسوق ! "
و لأن الارتباك كان قد أخذ مني مأخذه .. لذا سرعان ما أوقفت السيارة جانبا .. و شرعت في البكاء ..
و ما زاد الطين بلة .. هو أن الموقف الذي أوقفت فيه السيارة .. كان من الممنوع الوقوف فيه ..
و قد لمحنا رجل مرور في تلك اللحظة .. و بالطبع فإن رجال المرور متفانين في الخدمة .. و بالقيام بواجبهم على أتم وجه ..
لذا فإنه فقط أعطانا مخالفة بالوقوف في ما هو ممنوع الوقوف فيه .. و أخرى لعدم ارتدائي الحزام !
و لم يقتصر يومي على هذه المفاجآت فقط.. بل أعدت السيارة لعصام في نهاية النهار.. بخدش صغير..صغير جدا !
حدث حينما حاولت إيقاف السيارة في زقاق ضيق بالقرب من الخياط !
و في واقع الأمر أنه لم يكن صغيرا جدا .. و لكن هذه هي الطريقة المتبعة في تهوين الأمور الجسام !
و مع هذا ..
.فقد كانت ردة فعل عصام هي فقط أن رفع يده واضعا إياها على رأسه .. فاغرا فاه .. لبرهة من الزمن و هو يتأمل الخدش و الذي امتد على جانب السيارة .. من بدايتها .. إلى نهايتها !
و لأني كنت بالفعل أشعر بشيء من تأنيب الضمير .. أسرعت أهمهم له بشيء من كلمات الاعتذار الصادقة ..و أنا أناوله مفاتيح السيارة .. و قد ترقرق الدمع في عيني يرجو سماحه..
" آسفة عصام .. أنا حقا آسفة .. لم يكن قصدي .. "
عملية استيعاب الموقف .. أخذت من عصام بضع ثوان قبل أن يجيئني صوته هادئا ..
" خيرا إن شاء الله .. أهم شيء أنك لم تصابي بسوء ..
إنها فقط قطعة من الحديد.. لا تهتمي بذلك ! "
ابتسمت و أنا أكرر أسفي له .. و قد تذكرت لحظتها ما قالته لي صفاء حينما خدشت السيارة ..
" في الحديد .. و لا فيني ! أليس كذلك ؟!! أهم شي سلامتي !! "
تعليق