إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

مجموع مواضيع التطبير

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #61
    راجع هذا الكتاب

    http://www.14masom.com/14masom/05/mk...k19/fehres.htm

    تعليق


    • #62
      الشعائر في الميزان الفقهي
      الشيخ عبد الحسين الحلي

      انقله لك متفرقا لغرض اتمام الفائدة



      القسم الأول: المنكر والنهي عنه



      وقد زعم صاحبها(1) أنّ المنكرات التي أدخلت في مجموع الشعائر الحسينية هي مما أجمع المسلمون على تحريم أكثرها، وأنّ بعضها من الكبائر، وهي - حسب إحصائه - تسعة.

      وإنّي سأوقفه على ما يقنع به من البرهان الصحيح الصريح على أنّ المحرّم منها لم يدخل في شيء من المظاهر الحسينية، والداخل منها فيها ليس بمحرّم البتة.

      ولكن كان عليه قبل كل شيء أن يتنبّه إلى معرفة مورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم يأمر وينهى إذا شاء.


      إنكار المنكر:

      إنّ مسألة شرعية المواكب العزائية المتنوعة الممثلة لفاجعة الحسين (عليه السلام) واللاّدمة صدورها حتى تحمر، والضاربة رؤوسها حتى تدمى بما احتف بها من صياح وزعق(2) من الرجال والنساء، ونفخ الأبواق وضرب الطبول المعتادة، قد صارت منذ أعوام قريبة من الأمور النظرية، ووقعت موقع السؤال والتشكيك.

      وقد تبع العلماء آراءهم فيها، والعامة مقلّديهم. وقد انتشرت فتاواهم - مطبوعة وغير مطبوعة - في هذا الموضوع الذي ما كان يدور بالبال أن يقع موقع شك وسؤال!

      فما هو مورد النهي عن المنكر في مورد التقليد وحصول الوفاق أو الخلاف من المجتهدين؟ أهل يرى الكاتب جواز الإنكار في المسائل النظرية الخلافية، لننكر عليه إنكاره؟ أم بلغت المحرّمات المزعومة درجة كانت فيها من ضروريات الدين أو المذاهب؟

      كلاّ، ثم كلاّ إنّه لا يدّعي ذلك أدنى الجهال. أين ضرورية حرمة تشبه الرجال بالنساء بالمعنى المدّعى وقوعه في العزاء؟ أين ضرورية حرمة صياح النساء؟ أين ضرورية حرمة زعقات الرجال؟ أين ضرورية حرمة ركوب المرأة في الهودج حاسرة(3) أيها المنصفون؟ وأين ضرورية حرمة الهتك المدعى؟ وما هو مصداقه الضروري الحرمة؟ وأين ضرورية حرمة النفخ في البوق، وليس بمزمار؟ وما يدري الكاتب أنّ الطبل المحرّم هو هذا المستعمل اليوم في العزاء؟ أذلك ضروري في المذهب أم هو اجتهاد منه؟

      ولعمري إنّ الكذب والغناء المدّعى وقوعهما من القرّاء هما أيضاً محل النظر من جهة الموضوع والحكم معاً - كما ستقف عليه -، والمرجع فيهما المجتهدون. فكيف - والناس فيهما وفي غيرهما من المقلّدة - يصح في الشرع الإنكار عليهم ورميهم بأنهم يعملون المنكرات لولا سورة الغضب (4)؟

      إنه كان على الكاتب إبداء رأيه في شأن الشعائر الحسينية، إبداؤه في سائر المسائل الفرعية، لا دعوى أنّها قد دخلت فيها المنكرات التي قام ينكرها. ولقد كنّا نظن أنّ الأمر انتهى من قبل أكثر من عامين على قاعدة رجوع العامة إلى مقلّديهم بلا جلبة(5) فارغة، ولا تهويل شائن. فما للكاتب أعجله الغضب عن هذه القاعدة الأساسية إلى حرب تخسر فيها الشيعة أكثر مما تستفيد؟

      ولأعد إلى ذكر المنكرات المدّعاة، مجانباً ما يحاوله بعض أهل العصر من التشبث بكلمات العلماء وجمع الشواذ المتفرقة نصرةً لرأيه، فإن ذلك لا تقوم به حجة، ولا يلزم احترامه مهما كان صاحبه عظيماً، فإن كلمات العلماء فيها الشاذ والمهجور والمتروك والمأثور، والمتّبع هو البرهان الصريح.



      1- أي: صاحب (رسالة التنزيه). م

      2- زعق: صياح. م

      3- حاسرة: كاشفة. م

      4- سَورة الغضب: شدّة الغضب. م

      5- جلبة: اختلاط الأصوات والصياح. م




      يتبع.............

      تعليق


      • #63
        القسم الثاني



        القسم الثاني المحرمات المزعومة وجودها في الشعائر الحسينية

        الباب الأول: الكذب في مراثي الإمام الحسين

        (فالأول منها(1): الكذب بذكر الأمور المكذوبة المعلوم كذبها(2)، وعدم وجودها في خبر، ولا نقلها في كتاب، وهي تتلى على المنابر وفي المحافل بكرة وعشياً، ولا رادع(3) وسنذكر طرفاً منها في طي كلماتنا الآتية).

        انتهى في الصفحة الثالثة.

        وذكر في الصفحة الثالثة عشرة شطراً من الأخبار المكذوبة - بزعمه - منها: حديث (أين ظلّت مطيّتك يا حسان)، وحديث (خرجت أتفقد الثنايا والعقبات)، وحديث الطائر الذي أعلم بنت الحسين (عليه السلام) بقتله، وحديث دفن السجاد لأبيه مع بني أسد، وغيرها.

        وأنا لا أريد تفنيد رأيه في بعض ما رمز إليه، ولكن لأنبّهه على أمور:


        تعريف الكذب المحرم:

        الأول: إنّ كذب القارئ هو أن يقرأ من تلقاء نفسه كلاماً زوّر معناه، وصاغ ألفاظه، ونسبه إلى غيره، من دون أن ترد به رواية - ولو مرسلة - ولا أدرج في كتاب معتبر.

        وأما نقله للكذب فهو أن يقرأ كلاماً زوّره غيره وافتعله، مع علمه بذلك أو ظنه.

        ولا ريب أن أحداً من قرّاء تعزية سيد الشهداء (عليه السلام) حتى الأصاغر وغير أهل الورع منهم لم يزوّر خبراً من نفسه، وإنما ينقل عن غيره من نقلة الحديث الموثوق بهم، غير المعلوم عنده كذب حديثهم، وعهدة مثل هذا الحديث على راويه، لا على ناقل روايته. فإذاً ليس هو بكاذب، وإن كان المقروء كذباً واقعاً، ولا ناقلاً لما هو معلوم الكذب.

        وعسى أن يكون هذا هو السبب في عدم إنكار أحد من العلماء - قديماً وحديثاً - شيئاً من الأخبار التي تتلى على المنابر وفي المحافل بكرة وعشيّاً - كما يعترف به الكاتب -، ولو كانوا يرون ذلك كذباً لأنكروه، لكنهم أجلّ من أن ينكروا ما تقضي عليهم القواعد بعدم كونه كذباً، ولا مننقل الكذب.


        التسامح في نقل أخبار القصص والفضائل والوقائع

        الثاني: إنّ وقائع الطف وما احتفّ بها وما سواها مما يقرأه الذاكرون لم تتضمن أحكاماً إلزامية لينظر في سندها ويعرف أنّه من قسم الصحيح أو الموثق أو الحسن، ولا حكماً غير إلزامي ليقع الكلام في تحكيم أخبار التسامح في أدلة السنن فيها - كما هو المشهور - أو عدمه - كما هو مذهب بعض -، بل هي قسم ثالث من سنخ الرّخص، وإن لم تكن رخصاً حقيقة، وأعني بذلك القصص والمواعظ والفضائل والمصائب وأخبار الوقائع، فإنها نوع من الأخبار لا تدخل في ما تضمّن الأحكام الشرعية ليجري عليها حكمه من لزوم التصحيح وجواز المسامحة. وما يكون كذلك مما لا يترتب عليه حكم شرعي، لا ينبغي النظر في سنده إذا كان مما لا تنفيه فطرة العقول، وكان الضرر فيه مأموناً على تقدير كذبه في نفس الأمر.

        وقد ادّعى الشهيد الأول (قدس سره) في (الذكرى) أنّ أهل العلم يتسامحون في أخبار الفضائل (4). ونسب الشهيد الثاني في (شرح الدراية). إلى الأكثر جواز العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ والفضائل، واستحسن ذلك ما لم يبلغ الخبر في الضعف حد الوضع والاختلاق(5). والمراد بالعمل بالخبر الضعيف في الفضائل والمصائب هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب، وذلك مما لا محذور فيه عقلاً، لفرض أمن المضرّة فيه على تقدير الكذب، وشرعاً لأنه لا يعدّ عرفاً من الكذب حتى تترتب عليه أحكامه، وليس ثمّة عنوان آخر من العناوين المحرمة يشمله حتى يقال لأجله بعدم الجواز.

        قال شيخنا المحقق الأنصاري(6)- بعد نقل العبارة المتقدمة عن الشهيد الثاني -: (المراد بالعمل بالخبر الضعيف(7) في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب وترتيب الآثار عليها عدا ما يتعلق بالواجب والحرام. والحاصل أن العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء، وهذا أمر وجداني لا ينكر، ويدخل في ذلك [حكاية] فضائل أهل البيت ومصائبهم. ويدخل في العمل - أي: العمل بالخبر الضعيف في الفضائل والمصائب وشبهها - الإخبار(8) بوقوعها - أي: الفضائل والمصائب - من دون نسبة إلى الحكاية(9) على حد الاجتهاد بالأمور المذكورة الواردة بالطرق المعتمدة، كأن يقال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول كذا، ويبكي كذا، ونزل على مولانا سيد الشهداء كذا وكذا، ولا يجوز ذلك في الأخبار الكاذبة، وإن كان يجوز حكايتها فإنّ حكاية الخبر الكاذب ليست كذباً، مع أنّه لا يبعد عدم الجواز إلاّ مع بيان كونها كاذبة.

        ثم إن الدليل(10) على جواز ما ذكرنا من طريق العقل، حسن العمل بهذه مع أمن المضرة فيها على تقدير الكذب، وأما من طريق النقل فرواية ابن طاووس(11) والنبوي(12) مضافاً إلى إجماع (الذكرى)(13) المعتضد بحكاية ذلك عن الأكثر)(14). انتهى كلام المحقق الأنصاري بنصه.

        ومن هذا يعلم الوجه في ما جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً من العمل - بالمعنى الذي ذكرناه - بالوقائع التاريخية، فإنها لم يصح السند في شيء منها، وإنما ترسل في كتب التاريخ مسلّمة، ولذلك إذا نقل المؤرخ في كتابه واقعة منها، لا يقال إنّها من الأمور المكذوبة، لأنه لم يسندها معنعنة إلى من شهد تلك الواقعة، وكذلك إذا نقل الواقعة نفسها ناقل من ذلك الكتاب، لا يعدّ من ناقلي الكذب لمجرد أنه نقل ما ليس مسنداً عن رجال قد زكّي كل واحد منهم بشهادة عدل أو عدلين.


        الإرسال في أخبار وقائع الطف:

        الثالث: إنّ وقائع الطف لم تصل إلينا - حتى التي تلقيناها بواسطة المفيد والشيخ والسيد وأضرابهم - إلا مرسلة، وأكثر ما يرسل المؤرخون وأوثقهم ابن جرير الطبري عن أبي مخنف، وهو لم يحضر الواقعة وكذلك غيره. وكثيراً ما اعتمدوا في النقل على هلال بن نافع وحميد بن مسلم وهلال بن معاوية وغيرهم ممن شهد حرب الحسين (عليه السلام) وكان مقاتلاً له.

        وأيّ فرق - غير اختلاف مراتب الوثوق - بين ما ينقله المفيد ويرسله السيّد، وبين قوله في (البحار) وغيره من الجوامع (روي مرسلاً) أو (روى بعض الثقات) أو (روى بعض أصحابنا) أو (روي في بعض الكتب القديمة) أو (روي في بعض الكتب المعتبرة) وشبه ذلك من العبائر؟!

        أم أيّ فرق - غير ذلك - بين ما تضمنته تلك العبارات، وبين ما يوجد في كتاب العالم الفاضل الأديب الشيخ حسن بن الشيخ علي السعدي، الكنّى بـ(أبي قفطان)(15) من مراسيل تلقاها من مشايخ أهل الكوفة وصاغ لها ألفاظاً من نفسه، وما القصور الذي يكون فيها بحيث تنحطّ عن درجة سائر المراسيل الموجودة في (المنتخب) وفي (الدمعة الساكبة) إلى حيث تسقط عن درجة الاعتبار من رأس؟ وإذا كان القارئ - على ما قلناه - نقل مضمون تلك المراسيل المروية في تلك الكتب، لا يكون كاذباً البتة، ولا ناقلاً لما هو معلوم الكذب، فما هو إذاً معنى قول الكاتب - مشيراً إلى ما يقرأه - الذاكرون من الأخبار - إنّها معلومة الكذب؟!

        من ذا يا ترى - غير عالم الغيب - يعلم أنّ الأخبار مكذوبة. نعم إنّ تلك الأخبار غير معلومة الصدق، وهكذا جميع الأخبار بلا استثناء، وشتان بين معلوم الكذب وبين غير معلوم الصدق. ولو لزم الناس أن لا ينقل أحد منهم إلا الصادق أو معلوم الصدق - ولو بالطرق الظاهرية المعروفة في كتب الأصول والحديث - لانسدّ باب نقل الأخبار، وبطل الاحتجاج بأقوال المؤرخين، وذلك ما لا يلتزم به عالم ولا جاهل.

        ولو أن الكاتب - سامحه الله - توسط في الأمر، فتوقف في الأخبار المزعوم كذبها، وردّ علمها إلى قائلها، لكان أدنى للحزم وأقرب إلى ما جاء عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من (إن حق الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عندما لا يعلمون)(16) وأنّه إذا جاءهم من يقول للّيل إنّه نهار، وللنهار إنّه ليل، لا يسعهم إلاّ ردُّ علمه إليهم، وإلاّ فإنه يكون مكذّباً لهم(17). وعن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام): (لا تكذبوا بحديث أتاكم به أحد، فإنكم لا تدرون لعلّه من الحق)(18). وعن علي المسناني عن أبي الحسين (عليه السلام): (لا تقل لما بلغك عنا، أو نسب إلينا: هذا باطل، وإن كنت تعرف خلافه(19) (20).


        الأخبار المكذوبة!!

        الأخبار المكذوبة - بزعم الكاتب - مما دخل في التعازي الحسينية معدودة محصورة، وقد ذكر منها في صفحة 13 نحو عشرة أخبار، فلتكن مائة بدل كونها عشرة، فإنها مهما كثرت لا يقرأها كل قارئ، بل الصغار قد يقرءون نبذة من بعضها في السنة مرة أو مرتين جهداً منهم بأنها مفتعلة، لأنهم ليسوا من أهل التمييز بين الأخبار، فاللازم على المصلحين تعيين تلك الأخبار والنهي عن قراءتها، لا التهويل على الشعائر الحسينية بأنها محرّمة، لأن فيها الكذب المحرّم الذي هو من الكبائر بإجماع المسلمين، فيما هذا إلا إرعاد يراد به إخفاء صوت الحقيقة الحقة التي لا تخفى بالتهاويل.

        هذا مع أنّ بعض ما أشار إليه من الأخبار المختلقة - بزعمه - لا يقصر عن غيره من المراسيل والمسانيد التي يعتمد عليها في باب التاريخ كافة العلماء.

        أما حديث الطيور البيض فقد رواه في محكي (العوالم)(21)، وفي (المنتخب)(22)، و(البحار) (23) وعبارتها هكذا: (روي من طريق أهل البيت أنه لما استشهد الحسين (عليه السلام) [بقي في كربلاء صريعاً، ودمه على الأرض مسفوحاً، و] إذا بطائر أبيض قد أتى وتمسّح بدمه...)(24) الحديث.

        ومثله حديث الغراب(25) الذي أعلم فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) - بقتله، فقد نقله في محكي (العوالم)(26) وفي (البحار)(27) عن كتاب المناقب القديم، مسنداً(28) عن المفضل بن عمر الجعفي عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن علي بن الحسين (عليه السلام)(29).

        وأما حديث (خرجت أتفقّد الثنايا) فقد نقله في (الدمعة الساكبة) وهذا لفظه: (عثرت على أشياء أرسلها بعض معاصرينا في مؤلفاتهم، فأحببت ذكرها، وإن لم أقف عليها في الكتب، منها ما عن المفيد قال: ...)(30) الحديث.

        وهذا المعاصر هو العالم العامل الشيخ حسن الملقّب بأبي قفطان، فقد حكى أنّه روى أحاديث كثيرة، منها حديث (أتفقد الثنايا)، وحديث (أنا صاحب السيف الصقيل)، وحديث (أين ظلت مطيتك يا حسان) عن مشايخ من أهل الكوفة يروونها عن آبائهم ومشايخهم. وهذه لا تقصر عن المراسيل المروية في الكتب القديمة عن حميد بن مسلم وهلال بن نافع، وبين زمان تأليفها وزمن رواتها أكثر من خمسمائة عام.

        وأما حديث دفن السجاد لأبيه فقد نقله في (الدمعة) عن بعض الكتب المعتبرة عن كتاب (أسرار الشهادات) (31)،(32).

        وروى أبو عمرو الكشّي - في رجاله - عن الرضا (عليه السلام) ما يتضمن تقرير الواقعة بأن علي بن الحسين هو الذي دفن أباه(33).

        ويؤيده ما روي عنهم من أنّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام، إما ظاهراً وإما بطريق الخفاء (34).

        وأما قول بعض قد مائنا بدفن بني أسد له، فيراد به معاونتهم للسجاد (عليه السلام) في دفن أبيه، وكذلك ما جاء من قول: (السلام على من دفنه أهل القرى) (35)، وقول النبي (صلى الله عليه وآله) عن الحسين (عليه السلام): (يدفنه الغرباء، ويزوره الغرباء)(36).

        ومن الغريب القطع بأمر يعينه في شأن دفن الحسين (عليه السلام) بعد إرسال المفيد(37) والسيد(38) دفن بني أسد له، ورواية (الأسرار) بأن الذي دفنه هو السجاد (عليه السلام) (39)، وذلك مؤيد بما عرفت من رواية الكشي التي هي حجة مستقلة.

        وروى الشيخ أبو جعفر الطوسي في أماليه والصدوق في مجالسه بأسانيد معتبرة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي دفن الحسين (عليه السلام) (40).

        فلماذا ولأيّ مرجح يكون الأول صادقاً ويجعل الكاذب ما عداه؟ مع أنّ الكل مروي مسنداً ومرسلاً عدا دفن بني أسد، فإنها لم ترد في رواية مرسلة، وإنما ذكر في الكتب قولاً كحادثة من التاريخ منقولة.

        ومن غريب ما تركه الأول للآخر أنّ خاتمة المحدثين شيخنا النوري (قدس سره) و(ناهيك به إطلاعاً وإنكاراً للكذب) استقصى في كتابه (اللؤلؤ والمرجان) الأخبار المكذوبة(41)، وما عدّ منها حديث دفن السجاد لأبيه مجملاً ولا مفصلاً، ولا حديث الطيور البيض، ولا الغراب الذي طار من كربلاء إلى المدينة وغيرها مما سرّده الكاتب، وما ذلك إلا لاكتفائه في مقام النقل أن توجد الرواية في كتاب معتبر، ولو بعنوان (روى بعض أصحابنا) وشبه ذلك إذا كانت مما لا يأباها العقل، ولم تظهر عليها أمارات الوضع والافتعال. وكم له في بعض كتبه مثل ذلك.

        إنّ شيخنا النوري (قدس سره) في كتابه المذكور بالغ في تقريع القرّاء باستعمال الكذب ونقل الأحاديث في ذمه، وها نحن نزيده من تقريعهم على الكذب - إذا شاء - ونؤكد ذمه وقبحه عقلاً ونقلاً، ولكن أين هو ممّا يقرءونه؟ إنّهم لم يتخطّوا قيد شبر عمّا رسمه لهم من الخطة المتبعة إذ يقول (ما ترجمته): (إنّ على الناقل أن ينقل عن ثقة مطمئن بنقله، وذلك بأن يكون متحرزاً عن الكذب، بانياً على الصدق، بحيث كان الصدق له ملكة أو عادة، حتى يكون معروفاً في ذلك بين من عرفه وعاشره، وأن لا يكون كثير النسيان والسهو، وأن يكون من أهل المعرفة والبصيرة)(42).

        وفي مقام آخر - بعد نقل ما جاء في النهج في كتاب علي (عليه السلام) للحارث الهمداني: (ولا تحدّت الناس بكل ما سمعت، فكفى بذلك كذباً) وبما جاء في (كشف المحجة) عن رسائل ثقة الإسلام من قولهم: (ولا تحدّث إلاّ عن ثقة، فتكون كذاباً، والكذب ذل). ونحو ذلك - قال ما ترجمته: (وحاصل مفاد جميع هذه الأخبار المعتبرة أنّ تكليف الناقل في مقام نقل أي أمر ديني أو دنيوي لغيره، بنفسه أو بواسطة أو وسائط، أو من كتاب، أن ينقل عن شخص ثقة يطمأن بنقله)(43).

        وهذا مما لا ينكره أحد، لكنه لا يوجب إلا ترك ما لا يطمأن بصدقه، أو علم كون راويه متعمداً للكذب أو كثير الخطأ في الأمور المحسوسة، فضلاً عن المنقولة، لا ما يحاوله الكاتب من الاقتصار على مرويّات المشاهير الأقدمين وأرباب التاريخ.

        وأما ما ادعاه الكاتب في صحيفة 13 من فقرات ادعى كذبها، فإنّا لا نعرفها ولا سمعنا أحداً يقرأها في العراق، ولقد سألت كثيراً من القرّاء عنها، فلم يعرفها أحد، وكم سألني جمع منهم عنّها، فلم أدر بها.

        وعسى أن تكون تلك صادرة من البحر الذي ورد منه قول الكاتب أن زين العابدين (عليه السلام) شاهد شمر بن ذي الجوشن يفري بسيفه وريدي الحسين (عليه السلام) حتى فصل رأسه المكرّم عن جسده(44).

        وقوله ج 3 ص 6، وج 4 ص 3: أن الرّباب أخذت رأس الحسين (عليه السلام) ووضعتها في حجرها، وقبّلته وقالت:

        واحسيـناً فلا نســـيت(45) حسيناً أقصــــــدته أســــنة الأعداء(46)

        وقوله ج 3 ص 119: بات أطفال الحسين (عليه السلام) في الليلة الحادية عشر جياعاً عطاشى.

        وقوله ج 2 ص 47: كانت لحيته المباركة مخضوبة بالوسمة، كأنها سواد السبّح(47). فإن لفظ (سواد السبج) وقع في حديث مسلم الجصاص الذي جاء فيه: (نطحت جبينها بمقدّم المحمل)(48).

        وقوله ج 3 ص 22 وج 4 ص 16: إنّ مروان أخذ رأس الحسين (عليه السلام) بعد قتله فوضعه بين يديه، وجعل يقول: (يا حبّذا بردك في اليدين). والله لكأني أنظر إلى أيام عثمان...)، مع أن من ذكر ذلك يظهر منه أنّ ذلك كان في المدينة، وهو بعيد عن الصحة. نعم جاء في كتب أصحابنا أنّ مروان لما نظر إلى الرأس الشريف في الشام جعل يهزّ أعطافه وينشد الأبيات، ولا كلمة بعدها.

        وقوله في ج 2 ص 138 - تبعاً لبعض الروايات - : إنّ السجّاد عاش بعد أبيه أربعون سنة، وهو يبكي. مع أنّه يعلم بأنه (سلام الله عليه) على جميع الأقوال والروايات في وفاته، لم يعش بعد أبيه أزيد من خمس وثلاثين سنة.

        وروايته ج 4 ص 22 وص 37 حديث جابر الجعفي في تغسيل الباقر (عليه السلام) أباه، وقوله: (لما جردته ثيابه، وجدت آثار الجامعة في عنقه). إلى غير ذلك مما لا أحبّ ذكره، ولا أطيل.


        الكذب في الشعر:

        يصرّح صاحب (المستند) بأن ما يتضمن من الشعر نسبة قول أو فعل إلى أحد الأئمة (عليهم السلام) يقطع بعدم صدوره، هو محرّم ومبطل للصوم، لأنه من الكذب على الإمام (عليه السلام)، إلاّ إذا كان داخلاً في باب مبالغات الشعر وإغراقاته(49)،(50).

        وهذا من الغرائب، فإن الخلاص عن الكذب لا ينحصر بالمبالغة والإغراق، لأن الشعر أكثر ما يكون خيالاً أو متضمناً لحكاية، حال، نظير قوله تعالى: (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) على ما يرتئيه سيدنا المرتضى في (المسائل الطرابلسية)(51).

        فمن الخيال قوله:

        تريب المــــحيّا تظــــــنّ السّما بأن علـــــى الأرض كــــيوانها

        ومن حكاية الحال قوله:

        وقال قفـــــي يا نفــــس وقفة واردٍ حيــــاض الــرّدى لا وقفة المتردّد

        وقوله:

        وهوى علــــيه مــــا هنـــالك قائـلاً اليــــوم بـــان عن اليمين حسامها

        ومن أقسام الخيال إرسال القول أو الفعل مبنياً على إضمار (كأنّ) أو شبهها، كقوله:

        عجّت بهم مذ على أبرادها اختلفت أيدي الــــعدوّ ولكــــن من لها بهم

        يريد (كأني بها عجّت بهم وهي تقول كذا..) ولا يقصد أنّ ذلك واقع منها واقعاً، فهو في الحقيقة يجري مجرى قول علي (عليه السلام) في إحدى خطبه في وصف الموتى (ولو استنطقت(52) عنهم عرصات تلك الديار الخاوية، والربوع الخالية، لقالت: ذهبوا في الأرض ضلاّلا..)(53) في كونه ليس من الكذب إن أريد به (كأنّي بها لو استنطقت..).

        وكذا إذا لم يرد ذلك، لكنه يكون على هذا من حكاية الحال نحو (قالت نملة).

        ولو أني ذهبت استقصي أمثال هذا من شعر حسّان بن ثابت، والكميت، والسيد(54) ودعبل، وغيرهم الذين أنشدوا بحضور النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لخرجت عن وضع الرسالة.



        1- منها: من المنكرات. م

        2- هذا القول نفسه كذب.

        3- هذا قدح في العلماء من حيث عدم نهيهم عن المنكر. ودعوى عدم السماع منهم، مما لا ينبغي الإصغاء إليها في خصوص الأخبار المكذوبة، ولعل عدم الإنكار دليل على عدم كونها عندهم من الأخبار المكذوبة.

        4- ذكرى الشيعة /68. م

        5- الرعاية/ 94. م

        6- في التنبيه الرابع من رسالته المعمولة في مسألة التسامح [صفحة 158 من المطبوع في ضمن (الرسائل الفقهية)].

        7- المراد بالضعيف ما لم يعلم أو يظن بكونه مختلقاً، ولذا قيّد الشهيد ذلك بما لم يبلغ حد الوضع.

        8- مصدر (أخبر)، لا جمع (خبر).

        9- الإخبار مع النسبة إلى الرواية مما لا ينبغي الريب فيه بناءً على ما ذكر في جوازه لأنه لا كذب فيه، وإن كان فهو من الراوي لا الناقل، وحكاية الخبر الكاذب ليست بكذب، بل نقل الكفر ليس بكفر. أما الإخبار بالوقوع بلا نسبة ففي غاية الإشكال، إلاّ إذا اعتقد المخبر الوقوع، أو كان ذلك مظنوناً له بالظن الاطمئناني، وإن كان مخالفاً للواقع، أو كان من قصده النسبة إلى الرواية، لكنه لم يذكرها في اللفظ حتى يفهم ذلك كل سامع، لأن هذا كذكر شيء له ظاهر وإرادة غيره من دون قرينة في أن ناقله لا يعدّ كاذباً، ولا تترتب عليه شرعاً أحكام الكذب، وإن لم يكن كذلك لزم الإسناد، لما جاء في الكافي [1/52] عن علي (عليه السلام): (إذا حدّثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم، فإن كان حقاً فلكم، وإن كان كذاباً فعليه).

        وهذا هو الذي اختاره بعض مشايخنا (قدس الله أسرارهم)، وبه صرح العلامة الفقيه الشيخ زين العابدين المازندراني الحائري في كتابه (ذخيرة المعاد) / ص 368 - 369، وهذه ترجمة عبارته: هل يجوز في الفضائل والمصائب القراءة بلسان الحال ومقتضى شاهد الحال أم لا؟ وعلى تقدير الجواز هل يجب الإشعار والإعلام بذلك أم لا؟ وإذا نقل أحدٌ حكايات الفضائل من كتاب غير معتبر أو لسان بعض القرّاء، هل يجوز ذلك أم لا؟ وهل على القارئ إسناده أم لا؟ الجواب: ذكر المصائب بلسان الحال جائز إذا كان مناسباً للإمام (عليه السلام)، ولابد من الإشعار والإعلام بكونه لسان الحال، وإذا نقل من كتاب معتبر أو غير معتبر لابد من الإسناد إلى الناقل، ولا حاجة إلى تعيين الكتاب المنقول عنه).

        10- قد لا يحتاج إلى بعض ما ذكره من الأدلة الشرعية، فإنه يكفي في الجواز شرعاً أن ذلك لا يعدّ كذباً عرفاً حتى تترتب عليه أحكامه، وليس سواه عنواناً محرّماً يعمه حتى يقال بالحرمة لأجله. وأما العقل فلا حاجة إلى تحسينه، بل يكفي عدم حكمه بقبحه، لفرض خلوه عن المضرة على تقدير الكذب، وببيان آخر يكفي في جوازه شرعاً الأصل، لعدم الدليل من العقل والنقل على حرمته.

        11- مراده - على الظاهر - من رواية ابن طاووس ما رواه في (الإقبال) [صفحة 627] عن الصادق (عليه السلام) قال: (من بلغه شيء من الخير فعمل به، كان له [أجر] ذلك، وإن لم يكن الأمر كما بلغه).

        12- ومراده بالنبوي ما نسبه الشهيد الثاني في الرعاية [صفحة 94] إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من طريق الفريقين من أنه (صلى الله عليه وآله) قال: (من بلغه عن الله فضيلة، فأخذها وعمل بما فيها إيماناً بالله، ورجاء ثوابه، أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك).

        13- ومراده من إجماع (الذكرى) قول الشهيد فيها [صفحة 68]: (أخبار الفضائل يتسامح بها عند أهل العلم).

        14- و[المراد] بالاعتضاد بالحكاية عن الأكثر، مما نقلناه عن الشهيد الثاني من أن (الأكثر جوّزوا العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في صفات الله وأحكام الحرام والحلال، وهو حسن ما لم يبلغ حدّ الوضع والاختلاق). [الرعاية/94].

        15- ولد الشيخ حسن المذكور في النجف في حدود سنة ألف ومائتين وبضع عشرة هجرية، وتلمذ في الأصول على جماعة، منهم الميرزا القمي - صاحب القوانين -، وفي الفقه على العلامة المحقق المدقق صاحب الجواهر (قدس سره)، وله يد طولى في الأدب وشعر كثير في مدائح أعيان عصره ومراثيهم، ومراجعات أدبية خالدة مع السيد راضي البغدادي والسيد حيدر الحلّي.

        وقد أكثر من رثاء سيد الشهداء، بيد أن الموجود منه قليل، وله كتاب في مقتل الحسين (عليه السلام) يتضمن مراسيل غريبة، وقد أخفاه في حياته تحرّجاً، لأن بعض ما فيه لم يروه بلفظه، وتورّع عن النقل بالمعنى مع صوغ اللفظ من معدن أدبه.

        وقد نقل عنه في (الدمعة) كثيراً، وهو من معاصري صاحبها، ولو كان معروفاً بالكذب - كما قد يتوهم - لعلم ذلك معاصره، ولم ينقل عنه. وللشيخ حسن المذكور ولد يدعى الشيخ أحمد، ذكره المحدث النوري في بعض كتبه بهذا اللفظ: (بديع الزمان في هذا الأوان، الجامع بين العلم والأدب والحسب الباذخ والنسب، أبو سهل الشيخ أحمد بن العالم العليم والفقيه الحكيم المقتدى المؤمن المؤتمن الشيخ حسن بن الشيخ علي بن الشيخ عبد الحسين الملقّب بـ(أبي قفطان) تغمده الله بالرحمة والرضوان).

        وله أخوة، منهم الشيخ محمد والشيخ جعفر ولدا الشيخ علي السعدي، وكانت مهنتهم التي يعيشون بها نسخ كتب الفقه والحديث، وخاصة كتاب (جواهر الكلام) في الفقه، وكانوا يحسبون ذلك قرباً وزلفة. وهم رياحيون من سعد العشيرة من تميم الذين يقطنون في أطراف الدجيل قرب سامراء. انتقل والدهم الشيخ علي بن نجم الدين إلى قرية شرقي الكوفة، تبعد عنها نحو اثني عشر فرسخاً، ثم منها إلى النجف، وبها ولد الشيخ حسن المترجم وأخوته، ولازال بنوهم اليوم في النجف.

        16- وسائل الشيعة 18/11، الحديث التاسع. م

        17- لم أجد حديثاً بهذا المضمون، والذي وجدته أن سفيان بن السمط قال للإمام الصادق (عليه السلام): جعلت فداك! إن الرجل ليأتينا من قبلك، فيخبرنا عنك بالعظيم من الأمر، فيضيق بذلك صدورنا حتى نكذبه.

        فقال الإمام له: أليس عني يحدثكم؟

        فأجاب سفيان: بلى.

        فقال الإمام: فيقول للّيل أنه نهار والنهار أنه ليل؟

        فأجاب سفيان: لا.

        فقال الإمام: رده إلينا، فإنك إن كذّبت، فإنما تكذبنا). بحار الأنوار 2/187. م

        18- بحار الأنوار 2/186. م

        19- بحار الأنوار 2/186. م

        20- هذه الأخبار مذكورة في بصائر الدرجات وفي الوسائل أيضاً في أبواب متفرقة.

        21- عوالم العلوم والمعارف 17/493-494 م.

        22- لم أجده فيه. م

        23- بحار الأنوار 45/191 - 192. م

        24- بقيته: (وجاء والدم يقطر منه، فرأى طيوراً...، فقال لهم.. الحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ ملقى على الرمضاء، ضامئ مذبوح ودمه مسفوح... فلما رأته الطيور... تواقعن على دمه يتمرغن فيه، وأن طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول وجاء يرفرف حول قبر سيدنا رسول الله... يعلن بالنداء ألا قتل الحسين بكربلاء، ألا ذبح الحسين بكربلاء، فلما نظر أهل المدينة...). م

        25- قد يستبعد عقلاً صدور هذا الخبر، لبعد وصول الطير المتمرغ بالدم من كربلاء إلى المدينة فضلاً عن وقوعه على جدران بيت فاطمة. ولكن يردّ هذا الاستبعاد أن نوعاً من الطيور في العراق تمعن في الطيران إلى أبعد من المدينة تسمى (حمام الهدى) و(حمام الرسائل). ويؤخذ من قول شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله المعمري - في كتاب: (التعريف)- أن أصل هذه الطيور من الموصل. وقد اعتنى بها الملوك الفاطميين إلى الغاية، وكانت الرسائل تعلّق بأرجلها وترسل، فتطير للمكان الذي اعتادته، مهما بعد، فإذا أخذ الكتاب منها عادت إلى المحل الذي جاءت منه مزودة بكتاب أيضاً أو غير مزودة. وأنا للآن لم أعثر على ما يدل على أثر لها في دولة بني أمية ولا في أوائل دولة بني العباس. وعن كتاب (تمائم الحمائم) نقل المحيي الدين بن عبد الظاهر أن أول من نقلها من الموصل من الملوك هو نور الدين محمود بن زنكي في سنة 575. وهذا خطأ يشهد به مراجعة تاريخ الفاطميين والعباسيين في القرن الثالث والرابع. ولعل هذه الطيور نوع من الغربان، أو أن المتمرغ طائرٌ صار بتمرغه بالدم والتراب بلون الغراب، فاتفق وقوعه على جدران بيت فاطمة. والذي يغلب على ظني - إن صح الحديث - أنه من معجزات سيد الشهداء وكراماته، وهي أول كرامة له بعد شهادته. وقد ذكره السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) [4/72-73] بأسانيد مختلفة ومتون متقاربة من معجزاته (عليه السلام)، وكرّر نقله في مواضع من الكتاب المذكور.

        26- عوالم المعارف 17/490.

        27- بحار الأنوار 45/171.

        28- عن علي بن أحمد العاصمي، عن إسماعيل بن محمد البيهقي، عن أبيه، عن أبي عبد الله الحافظ، عن يحيى بن محمد العلوي، عن أبي علي الطرطوسي [في نسخة الطرسوسي] عن الحسن بن علي الحلواني، عن علي بن يعمر، عن إسحاق بن عبادة، عن المفضل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) عن أبيه، عن علي بن الحسين (عليه السلام).

        29- نصه: (لما قتل الحسين بن علي (عليهما السلام) جاء غراب، فوقع في دمه، ثم طار.. فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين بن علي (عليه السلام) وهي الصغرى، فرفعت رأسها، فنظرت إليه، فبكت بكاءً شديداً. م

        30- الدمعة الساكبة 2/291. والذي فيه: لما نزل الحسين (عليه السلام) في كربلاء، كان أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له هلال بن نافع، سيما في مظان الاغتيال...، فخرج الحسين (عليه السلام) ذات ليلة إلى خارج الخيم حتى بعُد، فتقلد هلال سيفه وأسرع في مشيه حتى لحقه، فرآه يختبر الثنايا والعقبات والأكمات المشرفة على المنزل، ثم التفت إلى خلفه فرأى هلال، فقال: من الرجل؟

        هلال؟ فقال: نعم جعلني الله فداك، أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة معكسر هذا الطاغي. م.

        فقال: يا هلال! خرجتُ أتفقد هذه التلال مخافة أن تكون كنّاً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم تحملون ويحملون.. ثم فارق الإمام هلال ودخل خيمة أخته.. قالت: أخي! هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟..

        فبكى (عليه السلام) وقال: أما والله لقد بلوتهم وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس.. م

        31- الدمعة الساكبة 2/317، أسرار الشهادة - للدربندي -/469 (المجلسي 19). م

        32- لعل هذا غير كتاب (أسرار الشهادة) للفاضل الدربندي، ولا أعرف مؤلف.

        33- ذكر ذلك في ترجمة ابن السراج وابن البطائني وابن المكاري، صفحة 289 في حديث طويل جاء فيه: (فقال له علي - يعني: ابن أبي حمزة البطائني -: إنّا روينا عن آبائك أن الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله. فقال له أبو الحسن (عليه السلام): فأخبرني عن الحسين بن علي (عليه السلام) كان إماماً أو كان غير إمام؟

        قال: كان إماماً.

        قال: فمن ولي أمره؟

        فقال: علي بن الحسين.

        قال: وأين كان علي بن الحسين؟

        قال: كان محبوساً في يد عبيد الله بن زياد في الكوفة، خرج وهم كانوا لا يعلمون حتى ولي أمر أبيه، ثم انصرف.

        فقال له أبو الحسن (عليه السلام): إن هذا الذي أمكن علي بن الحسين أن يأتي من كربلاء فيلي أمر أبيه فهو أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثم ينصرف، وليس هو في حبس ولا في إساءة.

        34- بحار الأنوار 27/288 - 291. و 45/169. وفيها أخبار تدل نصاً وتقريراً على ذلك. م

        35- هذا السلام جزء من زيارة عاشوراء المعروفة بـ(زيارة الناحية المقدسة)، ذكرها الشيخ المفيد في كتاب (المزار الكبير) /165 - 171، ونقلها عنه في البحار 98/317 - 328. م

        36- في البحار [98/44]: وجدت بخط محمد بن علي الجبعي، نقلاً عن خط الشهيد نقلاً من مصباح الشيخ أبي منصور (رحمه الله): روي أنه دخل النبي يوماً إلى فاطمة، (وساق الحديث إلى أن) قال: وأما الحسين (عليه السلام) فإنه يظلم، ويمنع حقه، وتقتل عترته، وتطؤه الخيل، وينهب رحلة، وتسبى نساؤه وذراريه، ويدفن مرمّلاً بدمه، ويدفنه الغرباء. قال علي (عليه السلام) فبكيت وقلت: هل يزوره أحد؟ فقال: يزوره الغرباء.

        37- الإرشاد /243. وفيه: (ولما رحل ابن سعد، خرج قوم من بني أسد كانوا نزولاً بالغاضرية، إلى الحسين وأصحابه (رحمة الله عليهم)، فصلّوا عليهم، ودفنوا الحسين (عليه السلام) حيث قبره الآن، ودفنوا...) م

        38- اللهوف/127. م

        39- أسرار الشهادة /469 (المجلس 19). م

        40- روى الصدوق والشيخ في المجالس [صفحة 119] والأمالي [1/89] عن الصادق (عليه السلام) أن أم سلمة زوجة النبي أصبحت يوماً تبكي بكاءً شديداً، فقيل لها: ممّ بكاؤك؟ قالت: لقد قتل الحسين (عليه السلام) الليلة، وذلك أني ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ مضى إلا الليلة، فرأيته شاحباً كئيباً، فقلت: مالي أراك يا رسول الله شاحباً كئيباً؟. فقال: ما زلت الليلة أحفر القبور للحسين وأصحابه.

        وروى في الأمالي [1/322] عن أم سلمة أنها أصحبت تصرخ صراخاً عظيماً، وهي تقول: يا بنات عبد المطلب أسعدنني وابكينّ معي، فقد قتل سيد كنّ الحسين. فقيل لها: من أين علمت ذلك؟ فقالت: رأيت رسول الله شعثاً مذعوراً، فسألته عن شأنه، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته، فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم.

        وروى ذلك في المناقب [لابن شهر آشوب 4/55] عن عدة طرق من طرق الجمهور.

        وفي الأمالي [1/323] عن ابن عباس في رواية ابن جبير عن أم سلمة أيضاً في حديث طويل جاء فيه قول أم سلمة (فلما كانت الليلة القابلة، رأيت رسول الله أغبر أشعث، فسألته عن شأنه، فقال: ألم تعلمي أني فرغت من دفن الحسين وأصحابه؟

        41- اللؤلؤ والمرجان /175 - 180. م

        42- اللؤلؤ والمرجان / 136 - 137. م

        43- اللؤلؤ والمرجان /137 - 138. م

        44- في مجالسه ج 2 ص 47.

        45- في نسخة (فلا عدمت..). م

        46- هذا البيت وما ورد بعده ذكره الطبري في تاريخه وأبو الفرج في (الأغاني) ج 16 ص 126 لعاتكة بنت يزيد بن عمرو بن نفيل، وليس هو للرباب التي لم يؤثر عنها أنها وضعت رأس الحسين (عليه السلام) في حجرها، ولا قبّلته. إنما المروي لها في رثائه ما ذكره أبو الفرج في (الأغاني) ج 14 ص 158، وهو:

        إن الذي كان نوراً يســــــتضاء به بكربــــلاء قتــــــيلٌ غــــير مدفون

        في أبيات خمسة مذكورة في المحل الذي ذكرناه من (الأغاني).

        47- سواد السَّبج: حجر شديد السواد، يشبّه به سواد الشيء. م

        48- بحار الأنوار 45/114، عوالم العلوم 17/373. وفيه: (.. أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام)، وهو رأس زهريٌ قمريٌ، أشبه الخلق برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولحيته كسواد السبج بها...، فالتفتت زينب (عليها السلام) فرأت رأس أخيها، فنطحت جبينها بمقدم المحل، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بخرقة..). ومقصود المؤلف أن كون لحية الإمام كسواد السبج ورد في حديث مسلم الجصّاص، وقد ورد في نفس هذا الحديث أن السيدة زينب بنت الإمام أمير المؤمنين جرحت رأسها في عزاء أخيها أمام الحسين. فإذا كان السيد الأمين يرى حرمة تجريح الرأس، فكيف اعتمد على حديث دال على جواز تجريح الرأس؟ م

        49- كقوله:

        وقفت له الأفلاك حين هويه وتبــدلت حـركاتها بسكون

        50- مستند الشيعة 2/109. م

        51- رسائل الشريف المرتضى 1/356. حيث نفى المرتضى أن تكون النملة قد تكلمت فعلاً، بل أوّل الآية بأنها لما خافت من الضرر الذي أشرف النمل عليه، جاز أن يقول الحاكي لهذه الحال تلك الحكاية البليغة، لأنها لو كانت قائلة ناطقة ومحفوفة بلسان وبيان لما قالت إلا مثل هذا. م

        52- في المصدر (استنطقوا). م

        53- نهج البلاغة / لخطبة 221. م

        54- المقصود هو السيد الحميري. م



        يتبع...........

        تعليق


        • #64
          القسم الثاني



          القسم الثاني المحرمات المزعومة وجودها في الشعائر الحسينية

          الباب الأول: الكذب في مراثي الإمام الحسين

          (فالأول منها(1): الكذب بذكر الأمور المكذوبة المعلوم كذبها(2)، وعدم وجودها في خبر، ولا نقلها في كتاب، وهي تتلى على المنابر وفي المحافل بكرة وعشياً، ولا رادع(3) وسنذكر طرفاً منها في طي كلماتنا الآتية).

          انتهى في الصفحة الثالثة.

          وذكر في الصفحة الثالثة عشرة شطراً من الأخبار المكذوبة - بزعمه - منها: حديث (أين ظلّت مطيّتك يا حسان)، وحديث (خرجت أتفقد الثنايا والعقبات)، وحديث الطائر الذي أعلم بنت الحسين (عليه السلام) بقتله، وحديث دفن السجاد لأبيه مع بني أسد، وغيرها.

          وأنا لا أريد تفنيد رأيه في بعض ما رمز إليه، ولكن لأنبّهه على أمور:


          تعريف الكذب المحرم:

          الأول: إنّ كذب القارئ هو أن يقرأ من تلقاء نفسه كلاماً زوّر معناه، وصاغ ألفاظه، ونسبه إلى غيره، من دون أن ترد به رواية - ولو مرسلة - ولا أدرج في كتاب معتبر.

          وأما نقله للكذب فهو أن يقرأ كلاماً زوّره غيره وافتعله، مع علمه بذلك أو ظنه.

          ولا ريب أن أحداً من قرّاء تعزية سيد الشهداء (عليه السلام) حتى الأصاغر وغير أهل الورع منهم لم يزوّر خبراً من نفسه، وإنما ينقل عن غيره من نقلة الحديث الموثوق بهم، غير المعلوم عنده كذب حديثهم، وعهدة مثل هذا الحديث على راويه، لا على ناقل روايته. فإذاً ليس هو بكاذب، وإن كان المقروء كذباً واقعاً، ولا ناقلاً لما هو معلوم الكذب.

          وعسى أن يكون هذا هو السبب في عدم إنكار أحد من العلماء - قديماً وحديثاً - شيئاً من الأخبار التي تتلى على المنابر وفي المحافل بكرة وعشيّاً - كما يعترف به الكاتب -، ولو كانوا يرون ذلك كذباً لأنكروه، لكنهم أجلّ من أن ينكروا ما تقضي عليهم القواعد بعدم كونه كذباً، ولا مننقل الكذب.


          التسامح في نقل أخبار القصص والفضائل والوقائع

          الثاني: إنّ وقائع الطف وما احتفّ بها وما سواها مما يقرأه الذاكرون لم تتضمن أحكاماً إلزامية لينظر في سندها ويعرف أنّه من قسم الصحيح أو الموثق أو الحسن، ولا حكماً غير إلزامي ليقع الكلام في تحكيم أخبار التسامح في أدلة السنن فيها - كما هو المشهور - أو عدمه - كما هو مذهب بعض -، بل هي قسم ثالث من سنخ الرّخص، وإن لم تكن رخصاً حقيقة، وأعني بذلك القصص والمواعظ والفضائل والمصائب وأخبار الوقائع، فإنها نوع من الأخبار لا تدخل في ما تضمّن الأحكام الشرعية ليجري عليها حكمه من لزوم التصحيح وجواز المسامحة. وما يكون كذلك مما لا يترتب عليه حكم شرعي، لا ينبغي النظر في سنده إذا كان مما لا تنفيه فطرة العقول، وكان الضرر فيه مأموناً على تقدير كذبه في نفس الأمر.

          وقد ادّعى الشهيد الأول (قدس سره) في (الذكرى) أنّ أهل العلم يتسامحون في أخبار الفضائل (4). ونسب الشهيد الثاني في (شرح الدراية). إلى الأكثر جواز العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ والفضائل، واستحسن ذلك ما لم يبلغ الخبر في الضعف حد الوضع والاختلاق(5). والمراد بالعمل بالخبر الضعيف في الفضائل والمصائب هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب، وذلك مما لا محذور فيه عقلاً، لفرض أمن المضرّة فيه على تقدير الكذب، وشرعاً لأنه لا يعدّ عرفاً من الكذب حتى تترتب عليه أحكامه، وليس ثمّة عنوان آخر من العناوين المحرمة يشمله حتى يقال لأجله بعدم الجواز.

          قال شيخنا المحقق الأنصاري(6)- بعد نقل العبارة المتقدمة عن الشهيد الثاني -: (المراد بالعمل بالخبر الضعيف(7) في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب وترتيب الآثار عليها عدا ما يتعلق بالواجب والحرام. والحاصل أن العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء، وهذا أمر وجداني لا ينكر، ويدخل في ذلك [حكاية] فضائل أهل البيت ومصائبهم. ويدخل في العمل - أي: العمل بالخبر الضعيف في الفضائل والمصائب وشبهها - الإخبار(8) بوقوعها - أي: الفضائل والمصائب - من دون نسبة إلى الحكاية(9) على حد الاجتهاد بالأمور المذكورة الواردة بالطرق المعتمدة، كأن يقال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول كذا، ويبكي كذا، ونزل على مولانا سيد الشهداء كذا وكذا، ولا يجوز ذلك في الأخبار الكاذبة، وإن كان يجوز حكايتها فإنّ حكاية الخبر الكاذب ليست كذباً، مع أنّه لا يبعد عدم الجواز إلاّ مع بيان كونها كاذبة.

          ثم إن الدليل(10) على جواز ما ذكرنا من طريق العقل، حسن العمل بهذه مع أمن المضرة فيها على تقدير الكذب، وأما من طريق النقل فرواية ابن طاووس(11) والنبوي(12) مضافاً إلى إجماع (الذكرى)(13) المعتضد بحكاية ذلك عن الأكثر)(14). انتهى كلام المحقق الأنصاري بنصه.

          ومن هذا يعلم الوجه في ما جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً من العمل - بالمعنى الذي ذكرناه - بالوقائع التاريخية، فإنها لم يصح السند في شيء منها، وإنما ترسل في كتب التاريخ مسلّمة، ولذلك إذا نقل المؤرخ في كتابه واقعة منها، لا يقال إنّها من الأمور المكذوبة، لأنه لم يسندها معنعنة إلى من شهد تلك الواقعة، وكذلك إذا نقل الواقعة نفسها ناقل من ذلك الكتاب، لا يعدّ من ناقلي الكذب لمجرد أنه نقل ما ليس مسنداً عن رجال قد زكّي كل واحد منهم بشهادة عدل أو عدلين.


          الإرسال في أخبار وقائع الطف:

          الثالث: إنّ وقائع الطف لم تصل إلينا - حتى التي تلقيناها بواسطة المفيد والشيخ والسيد وأضرابهم - إلا مرسلة، وأكثر ما يرسل المؤرخون وأوثقهم ابن جرير الطبري عن أبي مخنف، وهو لم يحضر الواقعة وكذلك غيره. وكثيراً ما اعتمدوا في النقل على هلال بن نافع وحميد بن مسلم وهلال بن معاوية وغيرهم ممن شهد حرب الحسين (عليه السلام) وكان مقاتلاً له.

          وأيّ فرق - غير اختلاف مراتب الوثوق - بين ما ينقله المفيد ويرسله السيّد، وبين قوله في (البحار) وغيره من الجوامع (روي مرسلاً) أو (روى بعض الثقات) أو (روى بعض أصحابنا) أو (روي في بعض الكتب القديمة) أو (روي في بعض الكتب المعتبرة) وشبه ذلك من العبائر؟!

          أم أيّ فرق - غير ذلك - بين ما تضمنته تلك العبارات، وبين ما يوجد في كتاب العالم الفاضل الأديب الشيخ حسن بن الشيخ علي السعدي، الكنّى بـ(أبي قفطان)(15) من مراسيل تلقاها من مشايخ أهل الكوفة وصاغ لها ألفاظاً من نفسه، وما القصور الذي يكون فيها بحيث تنحطّ عن درجة سائر المراسيل الموجودة في (المنتخب) وفي (الدمعة الساكبة) إلى حيث تسقط عن درجة الاعتبار من رأس؟ وإذا كان القارئ - على ما قلناه - نقل مضمون تلك المراسيل المروية في تلك الكتب، لا يكون كاذباً البتة، ولا ناقلاً لما هو معلوم الكذب، فما هو إذاً معنى قول الكاتب - مشيراً إلى ما يقرأه - الذاكرون من الأخبار - إنّها معلومة الكذب؟!

          من ذا يا ترى - غير عالم الغيب - يعلم أنّ الأخبار مكذوبة. نعم إنّ تلك الأخبار غير معلومة الصدق، وهكذا جميع الأخبار بلا استثناء، وشتان بين معلوم الكذب وبين غير معلوم الصدق. ولو لزم الناس أن لا ينقل أحد منهم إلا الصادق أو معلوم الصدق - ولو بالطرق الظاهرية المعروفة في كتب الأصول والحديث - لانسدّ باب نقل الأخبار، وبطل الاحتجاج بأقوال المؤرخين، وذلك ما لا يلتزم به عالم ولا جاهل.

          ولو أن الكاتب - سامحه الله - توسط في الأمر، فتوقف في الأخبار المزعوم كذبها، وردّ علمها إلى قائلها، لكان أدنى للحزم وأقرب إلى ما جاء عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من (إن حق الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عندما لا يعلمون)(16) وأنّه إذا جاءهم من يقول للّيل إنّه نهار، وللنهار إنّه ليل، لا يسعهم إلاّ ردُّ علمه إليهم، وإلاّ فإنه يكون مكذّباً لهم(17). وعن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام): (لا تكذبوا بحديث أتاكم به أحد، فإنكم لا تدرون لعلّه من الحق)(18). وعن علي المسناني عن أبي الحسين (عليه السلام): (لا تقل لما بلغك عنا، أو نسب إلينا: هذا باطل، وإن كنت تعرف خلافه(19) (20).


          الأخبار المكذوبة!!

          الأخبار المكذوبة - بزعم الكاتب - مما دخل في التعازي الحسينية معدودة محصورة، وقد ذكر منها في صفحة 13 نحو عشرة أخبار، فلتكن مائة بدل كونها عشرة، فإنها مهما كثرت لا يقرأها كل قارئ، بل الصغار قد يقرءون نبذة من بعضها في السنة مرة أو مرتين جهداً منهم بأنها مفتعلة، لأنهم ليسوا من أهل التمييز بين الأخبار، فاللازم على المصلحين تعيين تلك الأخبار والنهي عن قراءتها، لا التهويل على الشعائر الحسينية بأنها محرّمة، لأن فيها الكذب المحرّم الذي هو من الكبائر بإجماع المسلمين، فيما هذا إلا إرعاد يراد به إخفاء صوت الحقيقة الحقة التي لا تخفى بالتهاويل.

          هذا مع أنّ بعض ما أشار إليه من الأخبار المختلقة - بزعمه - لا يقصر عن غيره من المراسيل والمسانيد التي يعتمد عليها في باب التاريخ كافة العلماء.

          أما حديث الطيور البيض فقد رواه في محكي (العوالم)(21)، وفي (المنتخب)(22)، و(البحار) (23) وعبارتها هكذا: (روي من طريق أهل البيت أنه لما استشهد الحسين (عليه السلام) [بقي في كربلاء صريعاً، ودمه على الأرض مسفوحاً، و] إذا بطائر أبيض قد أتى وتمسّح بدمه...)(24) الحديث.

          ومثله حديث الغراب(25) الذي أعلم فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) - بقتله، فقد نقله في محكي (العوالم)(26) وفي (البحار)(27) عن كتاب المناقب القديم، مسنداً(28) عن المفضل بن عمر الجعفي عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن علي بن الحسين (عليه السلام)(29).

          وأما حديث (خرجت أتفقّد الثنايا) فقد نقله في (الدمعة الساكبة) وهذا لفظه: (عثرت على أشياء أرسلها بعض معاصرينا في مؤلفاتهم، فأحببت ذكرها، وإن لم أقف عليها في الكتب، منها ما عن المفيد قال: ...)(30) الحديث.

          وهذا المعاصر هو العالم العامل الشيخ حسن الملقّب بأبي قفطان، فقد حكى أنّه روى أحاديث كثيرة، منها حديث (أتفقد الثنايا)، وحديث (أنا صاحب السيف الصقيل)، وحديث (أين ظلت مطيتك يا حسان) عن مشايخ من أهل الكوفة يروونها عن آبائهم ومشايخهم. وهذه لا تقصر عن المراسيل المروية في الكتب القديمة عن حميد بن مسلم وهلال بن نافع، وبين زمان تأليفها وزمن رواتها أكثر من خمسمائة عام.

          وأما حديث دفن السجاد لأبيه فقد نقله في (الدمعة) عن بعض الكتب المعتبرة عن كتاب (أسرار الشهادات) (31)،(32).

          وروى أبو عمرو الكشّي - في رجاله - عن الرضا (عليه السلام) ما يتضمن تقرير الواقعة بأن علي بن الحسين هو الذي دفن أباه(33).

          ويؤيده ما روي عنهم من أنّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام، إما ظاهراً وإما بطريق الخفاء (34).

          وأما قول بعض قد مائنا بدفن بني أسد له، فيراد به معاونتهم للسجاد (عليه السلام) في دفن أبيه، وكذلك ما جاء من قول: (السلام على من دفنه أهل القرى) (35)، وقول النبي (صلى الله عليه وآله) عن الحسين (عليه السلام): (يدفنه الغرباء، ويزوره الغرباء)(36).

          ومن الغريب القطع بأمر يعينه في شأن دفن الحسين (عليه السلام) بعد إرسال المفيد(37) والسيد(38) دفن بني أسد له، ورواية (الأسرار) بأن الذي دفنه هو السجاد (عليه السلام) (39)، وذلك مؤيد بما عرفت من رواية الكشي التي هي حجة مستقلة.

          وروى الشيخ أبو جعفر الطوسي في أماليه والصدوق في مجالسه بأسانيد معتبرة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي دفن الحسين (عليه السلام) (40).

          فلماذا ولأيّ مرجح يكون الأول صادقاً ويجعل الكاذب ما عداه؟ مع أنّ الكل مروي مسنداً ومرسلاً عدا دفن بني أسد، فإنها لم ترد في رواية مرسلة، وإنما ذكر في الكتب قولاً كحادثة من التاريخ منقولة.

          ومن غريب ما تركه الأول للآخر أنّ خاتمة المحدثين شيخنا النوري (قدس سره) و(ناهيك به إطلاعاً وإنكاراً للكذب) استقصى في كتابه (اللؤلؤ والمرجان) الأخبار المكذوبة(41)، وما عدّ منها حديث دفن السجاد لأبيه مجملاً ولا مفصلاً، ولا حديث الطيور البيض، ولا الغراب الذي طار من كربلاء إلى المدينة وغيرها مما سرّده الكاتب، وما ذلك إلا لاكتفائه في مقام النقل أن توجد الرواية في كتاب معتبر، ولو بعنوان (روى بعض أصحابنا) وشبه ذلك إذا كانت مما لا يأباها العقل، ولم تظهر عليها أمارات الوضع والافتعال. وكم له في بعض كتبه مثل ذلك.

          إنّ شيخنا النوري (قدس سره) في كتابه المذكور بالغ في تقريع القرّاء باستعمال الكذب ونقل الأحاديث في ذمه، وها نحن نزيده من تقريعهم على الكذب - إذا شاء - ونؤكد ذمه وقبحه عقلاً ونقلاً، ولكن أين هو ممّا يقرءونه؟ إنّهم لم يتخطّوا قيد شبر عمّا رسمه لهم من الخطة المتبعة إذ يقول (ما ترجمته): (إنّ على الناقل أن ينقل عن ثقة مطمئن بنقله، وذلك بأن يكون متحرزاً عن الكذب، بانياً على الصدق، بحيث كان الصدق له ملكة أو عادة، حتى يكون معروفاً في ذلك بين من عرفه وعاشره، وأن لا يكون كثير النسيان والسهو، وأن يكون من أهل المعرفة والبصيرة)(42).

          وفي مقام آخر - بعد نقل ما جاء في النهج في كتاب علي (عليه السلام) للحارث الهمداني: (ولا تحدّت الناس بكل ما سمعت، فكفى بذلك كذباً) وبما جاء في (كشف المحجة) عن رسائل ثقة الإسلام من قولهم: (ولا تحدّث إلاّ عن ثقة، فتكون كذاباً، والكذب ذل). ونحو ذلك - قال ما ترجمته: (وحاصل مفاد جميع هذه الأخبار المعتبرة أنّ تكليف الناقل في مقام نقل أي أمر ديني أو دنيوي لغيره، بنفسه أو بواسطة أو وسائط، أو من كتاب، أن ينقل عن شخص ثقة يطمأن بنقله)(43).

          وهذا مما لا ينكره أحد، لكنه لا يوجب إلا ترك ما لا يطمأن بصدقه، أو علم كون راويه متعمداً للكذب أو كثير الخطأ في الأمور المحسوسة، فضلاً عن المنقولة، لا ما يحاوله الكاتب من الاقتصار على مرويّات المشاهير الأقدمين وأرباب التاريخ.

          وأما ما ادعاه الكاتب في صحيفة 13 من فقرات ادعى كذبها، فإنّا لا نعرفها ولا سمعنا أحداً يقرأها في العراق، ولقد سألت كثيراً من القرّاء عنها، فلم يعرفها أحد، وكم سألني جمع منهم عنّها، فلم أدر بها.

          وعسى أن تكون تلك صادرة من البحر الذي ورد منه قول الكاتب أن زين العابدين (عليه السلام) شاهد شمر بن ذي الجوشن يفري بسيفه وريدي الحسين (عليه السلام) حتى فصل رأسه المكرّم عن جسده(44).

          وقوله ج 3 ص 6، وج 4 ص 3: أن الرّباب أخذت رأس الحسين (عليه السلام) ووضعتها في حجرها، وقبّلته وقالت:

          واحسيـناً فلا نســـيت(45) حسيناً أقصــــــدته أســــنة الأعداء(46)

          وقوله ج 3 ص 119: بات أطفال الحسين (عليه السلام) في الليلة الحادية عشر جياعاً عطاشى.

          وقوله ج 2 ص 47: كانت لحيته المباركة مخضوبة بالوسمة، كأنها سواد السبّح(47). فإن لفظ (سواد السبج) وقع في حديث مسلم الجصاص الذي جاء فيه: (نطحت جبينها بمقدّم المحمل)(48).

          وقوله ج 3 ص 22 وج 4 ص 16: إنّ مروان أخذ رأس الحسين (عليه السلام) بعد قتله فوضعه بين يديه، وجعل يقول: (يا حبّذا بردك في اليدين). والله لكأني أنظر إلى أيام عثمان...)، مع أن من ذكر ذلك يظهر منه أنّ ذلك كان في المدينة، وهو بعيد عن الصحة. نعم جاء في كتب أصحابنا أنّ مروان لما نظر إلى الرأس الشريف في الشام جعل يهزّ أعطافه وينشد الأبيات، ولا كلمة بعدها.

          وقوله في ج 2 ص 138 - تبعاً لبعض الروايات - : إنّ السجّاد عاش بعد أبيه أربعون سنة، وهو يبكي. مع أنّه يعلم بأنه (سلام الله عليه) على جميع الأقوال والروايات في وفاته، لم يعش بعد أبيه أزيد من خمس وثلاثين سنة.

          وروايته ج 4 ص 22 وص 37 حديث جابر الجعفي في تغسيل الباقر (عليه السلام) أباه، وقوله: (لما جردته ثيابه، وجدت آثار الجامعة في عنقه). إلى غير ذلك مما لا أحبّ ذكره، ولا أطيل.


          الكذب في الشعر:

          يصرّح صاحب (المستند) بأن ما يتضمن من الشعر نسبة قول أو فعل إلى أحد الأئمة (عليهم السلام) يقطع بعدم صدوره، هو محرّم ومبطل للصوم، لأنه من الكذب على الإمام (عليه السلام)، إلاّ إذا كان داخلاً في باب مبالغات الشعر وإغراقاته(49)،(50).

          وهذا من الغرائب، فإن الخلاص عن الكذب لا ينحصر بالمبالغة والإغراق، لأن الشعر أكثر ما يكون خيالاً أو متضمناً لحكاية، حال، نظير قوله تعالى: (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) على ما يرتئيه سيدنا المرتضى في (المسائل الطرابلسية)(51).

          فمن الخيال قوله:

          تريب المــــحيّا تظــــــنّ السّما بأن علـــــى الأرض كــــيوانها

          ومن حكاية الحال قوله:

          وقال قفـــــي يا نفــــس وقفة واردٍ حيــــاض الــرّدى لا وقفة المتردّد

          وقوله:

          وهوى علــــيه مــــا هنـــالك قائـلاً اليــــوم بـــان عن اليمين حسامها

          ومن أقسام الخيال إرسال القول أو الفعل مبنياً على إضمار (كأنّ) أو شبهها، كقوله:

          عجّت بهم مذ على أبرادها اختلفت أيدي الــــعدوّ ولكــــن من لها بهم

          يريد (كأني بها عجّت بهم وهي تقول كذا..) ولا يقصد أنّ ذلك واقع منها واقعاً، فهو في الحقيقة يجري مجرى قول علي (عليه السلام) في إحدى خطبه في وصف الموتى (ولو استنطقت(52) عنهم عرصات تلك الديار الخاوية، والربوع الخالية، لقالت: ذهبوا في الأرض ضلاّلا..)(53) في كونه ليس من الكذب إن أريد به (كأنّي بها لو استنطقت..).

          وكذا إذا لم يرد ذلك، لكنه يكون على هذا من حكاية الحال نحو (قالت نملة).

          ولو أني ذهبت استقصي أمثال هذا من شعر حسّان بن ثابت، والكميت، والسيد(54) ودعبل، وغيرهم الذين أنشدوا بحضور النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لخرجت عن وضع الرسالة.



          1- منها: من المنكرات. م

          2- هذا القول نفسه كذب.

          3- هذا قدح في العلماء من حيث عدم نهيهم عن المنكر. ودعوى عدم السماع منهم، مما لا ينبغي الإصغاء إليها في خصوص الأخبار المكذوبة، ولعل عدم الإنكار دليل على عدم كونها عندهم من الأخبار المكذوبة.

          4- ذكرى الشيعة /68. م

          5- الرعاية/ 94. م

          6- في التنبيه الرابع من رسالته المعمولة في مسألة التسامح [صفحة 158 من المطبوع في ضمن (الرسائل الفقهية)].

          7- المراد بالضعيف ما لم يعلم أو يظن بكونه مختلقاً، ولذا قيّد الشهيد ذلك بما لم يبلغ حد الوضع.

          8- مصدر (أخبر)، لا جمع (خبر).

          9- الإخبار مع النسبة إلى الرواية مما لا ينبغي الريب فيه بناءً على ما ذكر في جوازه لأنه لا كذب فيه، وإن كان فهو من الراوي لا الناقل، وحكاية الخبر الكاذب ليست بكذب، بل نقل الكفر ليس بكفر. أما الإخبار بالوقوع بلا نسبة ففي غاية الإشكال، إلاّ إذا اعتقد المخبر الوقوع، أو كان ذلك مظنوناً له بالظن الاطمئناني، وإن كان مخالفاً للواقع، أو كان من قصده النسبة إلى الرواية، لكنه لم يذكرها في اللفظ حتى يفهم ذلك كل سامع، لأن هذا كذكر شيء له ظاهر وإرادة غيره من دون قرينة في أن ناقله لا يعدّ كاذباً، ولا تترتب عليه شرعاً أحكام الكذب، وإن لم يكن كذلك لزم الإسناد، لما جاء في الكافي [1/52] عن علي (عليه السلام): (إذا حدّثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم، فإن كان حقاً فلكم، وإن كان كذاباً فعليه).

          وهذا هو الذي اختاره بعض مشايخنا (قدس الله أسرارهم)، وبه صرح العلامة الفقيه الشيخ زين العابدين المازندراني الحائري في كتابه (ذخيرة المعاد) / ص 368 - 369، وهذه ترجمة عبارته: هل يجوز في الفضائل والمصائب القراءة بلسان الحال ومقتضى شاهد الحال أم لا؟ وعلى تقدير الجواز هل يجب الإشعار والإعلام بذلك أم لا؟ وإذا نقل أحدٌ حكايات الفضائل من كتاب غير معتبر أو لسان بعض القرّاء، هل يجوز ذلك أم لا؟ وهل على القارئ إسناده أم لا؟ الجواب: ذكر المصائب بلسان الحال جائز إذا كان مناسباً للإمام (عليه السلام)، ولابد من الإشعار والإعلام بكونه لسان الحال، وإذا نقل من كتاب معتبر أو غير معتبر لابد من الإسناد إلى الناقل، ولا حاجة إلى تعيين الكتاب المنقول عنه).

          10- قد لا يحتاج إلى بعض ما ذكره من الأدلة الشرعية، فإنه يكفي في الجواز شرعاً أن ذلك لا يعدّ كذباً عرفاً حتى تترتب عليه أحكامه، وليس سواه عنواناً محرّماً يعمه حتى يقال بالحرمة لأجله. وأما العقل فلا حاجة إلى تحسينه، بل يكفي عدم حكمه بقبحه، لفرض خلوه عن المضرة على تقدير الكذب، وببيان آخر يكفي في جوازه شرعاً الأصل، لعدم الدليل من العقل والنقل على حرمته.

          11- مراده - على الظاهر - من رواية ابن طاووس ما رواه في (الإقبال) [صفحة 627] عن الصادق (عليه السلام) قال: (من بلغه شيء من الخير فعمل به، كان له [أجر] ذلك، وإن لم يكن الأمر كما بلغه).

          12- ومراده بالنبوي ما نسبه الشهيد الثاني في الرعاية [صفحة 94] إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من طريق الفريقين من أنه (صلى الله عليه وآله) قال: (من بلغه عن الله فضيلة، فأخذها وعمل بما فيها إيماناً بالله، ورجاء ثوابه، أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك).

          13- ومراده من إجماع (الذكرى) قول الشهيد فيها [صفحة 68]: (أخبار الفضائل يتسامح بها عند أهل العلم).

          14- و[المراد] بالاعتضاد بالحكاية عن الأكثر، مما نقلناه عن الشهيد الثاني من أن (الأكثر جوّزوا العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في صفات الله وأحكام الحرام والحلال، وهو حسن ما لم يبلغ حدّ الوضع والاختلاق). [الرعاية/94].

          15- ولد الشيخ حسن المذكور في النجف في حدود سنة ألف ومائتين وبضع عشرة هجرية، وتلمذ في الأصول على جماعة، منهم الميرزا القمي - صاحب القوانين -، وفي الفقه على العلامة المحقق المدقق صاحب الجواهر (قدس سره)، وله يد طولى في الأدب وشعر كثير في مدائح أعيان عصره ومراثيهم، ومراجعات أدبية خالدة مع السيد راضي البغدادي والسيد حيدر الحلّي.

          وقد أكثر من رثاء سيد الشهداء، بيد أن الموجود منه قليل، وله كتاب في مقتل الحسين (عليه السلام) يتضمن مراسيل غريبة، وقد أخفاه في حياته تحرّجاً، لأن بعض ما فيه لم يروه بلفظه، وتورّع عن النقل بالمعنى مع صوغ اللفظ من معدن أدبه.

          وقد نقل عنه في (الدمعة) كثيراً، وهو من معاصري صاحبها، ولو كان معروفاً بالكذب - كما قد يتوهم - لعلم ذلك معاصره، ولم ينقل عنه. وللشيخ حسن المذكور ولد يدعى الشيخ أحمد، ذكره المحدث النوري في بعض كتبه بهذا اللفظ: (بديع الزمان في هذا الأوان، الجامع بين العلم والأدب والحسب الباذخ والنسب، أبو سهل الشيخ أحمد بن العالم العليم والفقيه الحكيم المقتدى المؤمن المؤتمن الشيخ حسن بن الشيخ علي بن الشيخ عبد الحسين الملقّب بـ(أبي قفطان) تغمده الله بالرحمة والرضوان).

          وله أخوة، منهم الشيخ محمد والشيخ جعفر ولدا الشيخ علي السعدي، وكانت مهنتهم التي يعيشون بها نسخ كتب الفقه والحديث، وخاصة كتاب (جواهر الكلام) في الفقه، وكانوا يحسبون ذلك قرباً وزلفة. وهم رياحيون من سعد العشيرة من تميم الذين يقطنون في أطراف الدجيل قرب سامراء. انتقل والدهم الشيخ علي بن نجم الدين إلى قرية شرقي الكوفة، تبعد عنها نحو اثني عشر فرسخاً، ثم منها إلى النجف، وبها ولد الشيخ حسن المترجم وأخوته، ولازال بنوهم اليوم في النجف.

          16- وسائل الشيعة 18/11، الحديث التاسع. م

          17- لم أجد حديثاً بهذا المضمون، والذي وجدته أن سفيان بن السمط قال للإمام الصادق (عليه السلام): جعلت فداك! إن الرجل ليأتينا من قبلك، فيخبرنا عنك بالعظيم من الأمر، فيضيق بذلك صدورنا حتى نكذبه.

          فقال الإمام له: أليس عني يحدثكم؟

          فأجاب سفيان: بلى.

          فقال الإمام: فيقول للّيل أنه نهار والنهار أنه ليل؟

          فأجاب سفيان: لا.

          فقال الإمام: رده إلينا، فإنك إن كذّبت، فإنما تكذبنا). بحار الأنوار 2/187. م

          18- بحار الأنوار 2/186. م

          19- بحار الأنوار 2/186. م

          20- هذه الأخبار مذكورة في بصائر الدرجات وفي الوسائل أيضاً في أبواب متفرقة.

          21- عوالم العلوم والمعارف 17/493-494 م.

          22- لم أجده فيه. م

          23- بحار الأنوار 45/191 - 192. م

          24- بقيته: (وجاء والدم يقطر منه، فرأى طيوراً...، فقال لهم.. الحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ ملقى على الرمضاء، ضامئ مذبوح ودمه مسفوح... فلما رأته الطيور... تواقعن على دمه يتمرغن فيه، وأن طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول وجاء يرفرف حول قبر سيدنا رسول الله... يعلن بالنداء ألا قتل الحسين بكربلاء، ألا ذبح الحسين بكربلاء، فلما نظر أهل المدينة...). م

          25- قد يستبعد عقلاً صدور هذا الخبر، لبعد وصول الطير المتمرغ بالدم من كربلاء إلى المدينة فضلاً عن وقوعه على جدران بيت فاطمة. ولكن يردّ هذا الاستبعاد أن نوعاً من الطيور في العراق تمعن في الطيران إلى أبعد من المدينة تسمى (حمام الهدى) و(حمام الرسائل). ويؤخذ من قول شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله المعمري - في كتاب: (التعريف)- أن أصل هذه الطيور من الموصل. وقد اعتنى بها الملوك الفاطميين إلى الغاية، وكانت الرسائل تعلّق بأرجلها وترسل، فتطير للمكان الذي اعتادته، مهما بعد، فإذا أخذ الكتاب منها عادت إلى المحل الذي جاءت منه مزودة بكتاب أيضاً أو غير مزودة. وأنا للآن لم أعثر على ما يدل على أثر لها في دولة بني أمية ولا في أوائل دولة بني العباس. وعن كتاب (تمائم الحمائم) نقل المحيي الدين بن عبد الظاهر أن أول من نقلها من الموصل من الملوك هو نور الدين محمود بن زنكي في سنة 575. وهذا خطأ يشهد به مراجعة تاريخ الفاطميين والعباسيين في القرن الثالث والرابع. ولعل هذه الطيور نوع من الغربان، أو أن المتمرغ طائرٌ صار بتمرغه بالدم والتراب بلون الغراب، فاتفق وقوعه على جدران بيت فاطمة. والذي يغلب على ظني - إن صح الحديث - أنه من معجزات سيد الشهداء وكراماته، وهي أول كرامة له بعد شهادته. وقد ذكره السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) [4/72-73] بأسانيد مختلفة ومتون متقاربة من معجزاته (عليه السلام)، وكرّر نقله في مواضع من الكتاب المذكور.

          26- عوالم المعارف 17/490.

          27- بحار الأنوار 45/171.

          28- عن علي بن أحمد العاصمي، عن إسماعيل بن محمد البيهقي، عن أبيه، عن أبي عبد الله الحافظ، عن يحيى بن محمد العلوي، عن أبي علي الطرطوسي [في نسخة الطرسوسي] عن الحسن بن علي الحلواني، عن علي بن يعمر، عن إسحاق بن عبادة، عن المفضل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) عن أبيه، عن علي بن الحسين (عليه السلام).

          29- نصه: (لما قتل الحسين بن علي (عليهما السلام) جاء غراب، فوقع في دمه، ثم طار.. فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين بن علي (عليه السلام) وهي الصغرى، فرفعت رأسها، فنظرت إليه، فبكت بكاءً شديداً. م

          30- الدمعة الساكبة 2/291. والذي فيه: لما نزل الحسين (عليه السلام) في كربلاء، كان أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له هلال بن نافع، سيما في مظان الاغتيال...، فخرج الحسين (عليه السلام) ذات ليلة إلى خارج الخيم حتى بعُد، فتقلد هلال سيفه وأسرع في مشيه حتى لحقه، فرآه يختبر الثنايا والعقبات والأكمات المشرفة على المنزل، ثم التفت إلى خلفه فرأى هلال، فقال: من الرجل؟

          هلال؟ فقال: نعم جعلني الله فداك، أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة معكسر هذا الطاغي. م.

          فقال: يا هلال! خرجتُ أتفقد هذه التلال مخافة أن تكون كنّاً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم تحملون ويحملون.. ثم فارق الإمام هلال ودخل خيمة أخته.. قالت: أخي! هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟..

          فبكى (عليه السلام) وقال: أما والله لقد بلوتهم وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس.. م

          31- الدمعة الساكبة 2/317، أسرار الشهادة - للدربندي -/469 (المجلسي 19). م

          32- لعل هذا غير كتاب (أسرار الشهادة) للفاضل الدربندي، ولا أعرف مؤلف.

          33- ذكر ذلك في ترجمة ابن السراج وابن البطائني وابن المكاري، صفحة 289 في حديث طويل جاء فيه: (فقال له علي - يعني: ابن أبي حمزة البطائني -: إنّا روينا عن آبائك أن الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله. فقال له أبو الحسن (عليه السلام): فأخبرني عن الحسين بن علي (عليه السلام) كان إماماً أو كان غير إمام؟

          قال: كان إماماً.

          قال: فمن ولي أمره؟

          فقال: علي بن الحسين.

          قال: وأين كان علي بن الحسين؟

          قال: كان محبوساً في يد عبيد الله بن زياد في الكوفة، خرج وهم كانوا لا يعلمون حتى ولي أمر أبيه، ثم انصرف.

          فقال له أبو الحسن (عليه السلام): إن هذا الذي أمكن علي بن الحسين أن يأتي من كربلاء فيلي أمر أبيه فهو أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثم ينصرف، وليس هو في حبس ولا في إساءة.

          34- بحار الأنوار 27/288 - 291. و 45/169. وفيها أخبار تدل نصاً وتقريراً على ذلك. م

          35- هذا السلام جزء من زيارة عاشوراء المعروفة بـ(زيارة الناحية المقدسة)، ذكرها الشيخ المفيد في كتاب (المزار الكبير) /165 - 171، ونقلها عنه في البحار 98/317 - 328. م

          36- في البحار [98/44]: وجدت بخط محمد بن علي الجبعي، نقلاً عن خط الشهيد نقلاً من مصباح الشيخ أبي منصور (رحمه الله): روي أنه دخل النبي يوماً إلى فاطمة، (وساق الحديث إلى أن) قال: وأما الحسين (عليه السلام) فإنه يظلم، ويمنع حقه، وتقتل عترته، وتطؤه الخيل، وينهب رحلة، وتسبى نساؤه وذراريه، ويدفن مرمّلاً بدمه، ويدفنه الغرباء. قال علي (عليه السلام) فبكيت وقلت: هل يزوره أحد؟ فقال: يزوره الغرباء.

          37- الإرشاد /243. وفيه: (ولما رحل ابن سعد، خرج قوم من بني أسد كانوا نزولاً بالغاضرية، إلى الحسين وأصحابه (رحمة الله عليهم)، فصلّوا عليهم، ودفنوا الحسين (عليه السلام) حيث قبره الآن، ودفنوا...) م

          38- اللهوف/127. م

          39- أسرار الشهادة /469 (المجلس 19). م

          40- روى الصدوق والشيخ في المجالس [صفحة 119] والأمالي [1/89] عن الصادق (عليه السلام) أن أم سلمة زوجة النبي أصبحت يوماً تبكي بكاءً شديداً، فقيل لها: ممّ بكاؤك؟ قالت: لقد قتل الحسين (عليه السلام) الليلة، وذلك أني ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ مضى إلا الليلة، فرأيته شاحباً كئيباً، فقلت: مالي أراك يا رسول الله شاحباً كئيباً؟. فقال: ما زلت الليلة أحفر القبور للحسين وأصحابه.

          وروى في الأمالي [1/322] عن أم سلمة أنها أصحبت تصرخ صراخاً عظيماً، وهي تقول: يا بنات عبد المطلب أسعدنني وابكينّ معي، فقد قتل سيد كنّ الحسين. فقيل لها: من أين علمت ذلك؟ فقالت: رأيت رسول الله شعثاً مذعوراً، فسألته عن شأنه، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته، فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم.

          وروى ذلك في المناقب [لابن شهر آشوب 4/55] عن عدة طرق من طرق الجمهور.

          وفي الأمالي [1/323] عن ابن عباس في رواية ابن جبير عن أم سلمة أيضاً في حديث طويل جاء فيه قول أم سلمة (فلما كانت الليلة القابلة، رأيت رسول الله أغبر أشعث، فسألته عن شأنه، فقال: ألم تعلمي أني فرغت من دفن الحسين وأصحابه؟

          41- اللؤلؤ والمرجان /175 - 180. م

          42- اللؤلؤ والمرجان / 136 - 137. م

          43- اللؤلؤ والمرجان /137 - 138. م

          44- في مجالسه ج 2 ص 47.

          45- في نسخة (فلا عدمت..). م

          46- هذا البيت وما ورد بعده ذكره الطبري في تاريخه وأبو الفرج في (الأغاني) ج 16 ص 126 لعاتكة بنت يزيد بن عمرو بن نفيل، وليس هو للرباب التي لم يؤثر عنها أنها وضعت رأس الحسين (عليه السلام) في حجرها، ولا قبّلته. إنما المروي لها في رثائه ما ذكره أبو الفرج في (الأغاني) ج 14 ص 158، وهو:

          إن الذي كان نوراً يســــــتضاء به بكربــــلاء قتــــــيلٌ غــــير مدفون

          في أبيات خمسة مذكورة في المحل الذي ذكرناه من (الأغاني).

          47- سواد السَّبج: حجر شديد السواد، يشبّه به سواد الشيء. م

          48- بحار الأنوار 45/114، عوالم العلوم 17/373. وفيه: (.. أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام)، وهو رأس زهريٌ قمريٌ، أشبه الخلق برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولحيته كسواد السبج بها...، فالتفتت زينب (عليها السلام) فرأت رأس أخيها، فنطحت جبينها بمقدم المحل، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بخرقة..). ومقصود المؤلف أن كون لحية الإمام كسواد السبج ورد في حديث مسلم الجصّاص، وقد ورد في نفس هذا الحديث أن السيدة زينب بنت الإمام أمير المؤمنين جرحت رأسها في عزاء أخيها أمام الحسين. فإذا كان السيد الأمين يرى حرمة تجريح الرأس، فكيف اعتمد على حديث دال على جواز تجريح الرأس؟ م

          49- كقوله:

          وقفت له الأفلاك حين هويه وتبــدلت حـركاتها بسكون

          50- مستند الشيعة 2/109. م

          51- رسائل الشريف المرتضى 1/356. حيث نفى المرتضى أن تكون النملة قد تكلمت فعلاً، بل أوّل الآية بأنها لما خافت من الضرر الذي أشرف النمل عليه، جاز أن يقول الحاكي لهذه الحال تلك الحكاية البليغة، لأنها لو كانت قائلة ناطقة ومحفوفة بلسان وبيان لما قالت إلا مثل هذا. م

          52- في المصدر (استنطقوا). م

          53- نهج البلاغة / لخطبة 221. م

          54- المقصود هو السيد الحميري. م



          يتبع...........

          تعليق


          • #65
            القسم الثاني المحرمات المزعومة وجودها في الشعائر الحسينية

            الباب الأول: الكذب في مراثي الإمام الحسين

            (فالأول منها(1): الكذب بذكر الأمور المكذوبة المعلوم كذبها(2)، وعدم وجودها في خبر، ولا نقلها في كتاب، وهي تتلى على المنابر وفي المحافل بكرة وعشياً، ولا رادع(3) وسنذكر طرفاً منها في طي كلماتنا الآتية).

            انتهى في الصفحة الثالثة.

            وذكر في الصفحة الثالثة عشرة شطراً من الأخبار المكذوبة - بزعمه - منها: حديث (أين ظلّت مطيّتك يا حسان)، وحديث (خرجت أتفقد الثنايا والعقبات)، وحديث الطائر الذي أعلم بنت الحسين (عليه السلام) بقتله، وحديث دفن السجاد لأبيه مع بني أسد، وغيرها.

            وأنا لا أريد تفنيد رأيه في بعض ما رمز إليه، ولكن لأنبّهه على أمور:


            تعريف الكذب المحرم:

            الأول: إنّ كذب القارئ هو أن يقرأ من تلقاء نفسه كلاماً زوّر معناه، وصاغ ألفاظه، ونسبه إلى غيره، من دون أن ترد به رواية - ولو مرسلة - ولا أدرج في كتاب معتبر.

            وأما نقله للكذب فهو أن يقرأ كلاماً زوّره غيره وافتعله، مع علمه بذلك أو ظنه.

            ولا ريب أن أحداً من قرّاء تعزية سيد الشهداء (عليه السلام) حتى الأصاغر وغير أهل الورع منهم لم يزوّر خبراً من نفسه، وإنما ينقل عن غيره من نقلة الحديث الموثوق بهم، غير المعلوم عنده كذب حديثهم، وعهدة مثل هذا الحديث على راويه، لا على ناقل روايته. فإذاً ليس هو بكاذب، وإن كان المقروء كذباً واقعاً، ولا ناقلاً لما هو معلوم الكذب.

            وعسى أن يكون هذا هو السبب في عدم إنكار أحد من العلماء - قديماً وحديثاً - شيئاً من الأخبار التي تتلى على المنابر وفي المحافل بكرة وعشيّاً - كما يعترف به الكاتب -، ولو كانوا يرون ذلك كذباً لأنكروه، لكنهم أجلّ من أن ينكروا ما تقضي عليهم القواعد بعدم كونه كذباً، ولا مننقل الكذب.


            التسامح في نقل أخبار القصص والفضائل والوقائع

            الثاني: إنّ وقائع الطف وما احتفّ بها وما سواها مما يقرأه الذاكرون لم تتضمن أحكاماً إلزامية لينظر في سندها ويعرف أنّه من قسم الصحيح أو الموثق أو الحسن، ولا حكماً غير إلزامي ليقع الكلام في تحكيم أخبار التسامح في أدلة السنن فيها - كما هو المشهور - أو عدمه - كما هو مذهب بعض -، بل هي قسم ثالث من سنخ الرّخص، وإن لم تكن رخصاً حقيقة، وأعني بذلك القصص والمواعظ والفضائل والمصائب وأخبار الوقائع، فإنها نوع من الأخبار لا تدخل في ما تضمّن الأحكام الشرعية ليجري عليها حكمه من لزوم التصحيح وجواز المسامحة. وما يكون كذلك مما لا يترتب عليه حكم شرعي، لا ينبغي النظر في سنده إذا كان مما لا تنفيه فطرة العقول، وكان الضرر فيه مأموناً على تقدير كذبه في نفس الأمر.

            وقد ادّعى الشهيد الأول (قدس سره) في (الذكرى) أنّ أهل العلم يتسامحون في أخبار الفضائل (4). ونسب الشهيد الثاني في (شرح الدراية). إلى الأكثر جواز العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ والفضائل، واستحسن ذلك ما لم يبلغ الخبر في الضعف حد الوضع والاختلاق(5). والمراد بالعمل بالخبر الضعيف في الفضائل والمصائب هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب، وذلك مما لا محذور فيه عقلاً، لفرض أمن المضرّة فيه على تقدير الكذب، وشرعاً لأنه لا يعدّ عرفاً من الكذب حتى تترتب عليه أحكامه، وليس ثمّة عنوان آخر من العناوين المحرمة يشمله حتى يقال لأجله بعدم الجواز.

            قال شيخنا المحقق الأنصاري(6)- بعد نقل العبارة المتقدمة عن الشهيد الثاني -: (المراد بالعمل بالخبر الضعيف(7) في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب وترتيب الآثار عليها عدا ما يتعلق بالواجب والحرام. والحاصل أن العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء، وهذا أمر وجداني لا ينكر، ويدخل في ذلك [حكاية] فضائل أهل البيت ومصائبهم. ويدخل في العمل - أي: العمل بالخبر الضعيف في الفضائل والمصائب وشبهها - الإخبار(8) بوقوعها - أي: الفضائل والمصائب - من دون نسبة إلى الحكاية(9) على حد الاجتهاد بالأمور المذكورة الواردة بالطرق المعتمدة، كأن يقال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول كذا، ويبكي كذا، ونزل على مولانا سيد الشهداء كذا وكذا، ولا يجوز ذلك في الأخبار الكاذبة، وإن كان يجوز حكايتها فإنّ حكاية الخبر الكاذب ليست كذباً، مع أنّه لا يبعد عدم الجواز إلاّ مع بيان كونها كاذبة.

            ثم إن الدليل(10) على جواز ما ذكرنا من طريق العقل، حسن العمل بهذه مع أمن المضرة فيها على تقدير الكذب، وأما من طريق النقل فرواية ابن طاووس(11) والنبوي(12) مضافاً إلى إجماع (الذكرى)(13) المعتضد بحكاية ذلك عن الأكثر)(14). انتهى كلام المحقق الأنصاري بنصه.

            ومن هذا يعلم الوجه في ما جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً من العمل - بالمعنى الذي ذكرناه - بالوقائع التاريخية، فإنها لم يصح السند في شيء منها، وإنما ترسل في كتب التاريخ مسلّمة، ولذلك إذا نقل المؤرخ في كتابه واقعة منها، لا يقال إنّها من الأمور المكذوبة، لأنه لم يسندها معنعنة إلى من شهد تلك الواقعة، وكذلك إذا نقل الواقعة نفسها ناقل من ذلك الكتاب، لا يعدّ من ناقلي الكذب لمجرد أنه نقل ما ليس مسنداً عن رجال قد زكّي كل واحد منهم بشهادة عدل أو عدلين.


            الإرسال في أخبار وقائع الطف:

            الثالث: إنّ وقائع الطف لم تصل إلينا - حتى التي تلقيناها بواسطة المفيد والشيخ والسيد وأضرابهم - إلا مرسلة، وأكثر ما يرسل المؤرخون وأوثقهم ابن جرير الطبري عن أبي مخنف، وهو لم يحضر الواقعة وكذلك غيره. وكثيراً ما اعتمدوا في النقل على هلال بن نافع وحميد بن مسلم وهلال بن معاوية وغيرهم ممن شهد حرب الحسين (عليه السلام) وكان مقاتلاً له.

            وأيّ فرق - غير اختلاف مراتب الوثوق - بين ما ينقله المفيد ويرسله السيّد، وبين قوله في (البحار) وغيره من الجوامع (روي مرسلاً) أو (روى بعض الثقات) أو (روى بعض أصحابنا) أو (روي في بعض الكتب القديمة) أو (روي في بعض الكتب المعتبرة) وشبه ذلك من العبائر؟!

            أم أيّ فرق - غير ذلك - بين ما تضمنته تلك العبارات، وبين ما يوجد في كتاب العالم الفاضل الأديب الشيخ حسن بن الشيخ علي السعدي، الكنّى بـ(أبي قفطان)(15) من مراسيل تلقاها من مشايخ أهل الكوفة وصاغ لها ألفاظاً من نفسه، وما القصور الذي يكون فيها بحيث تنحطّ عن درجة سائر المراسيل الموجودة في (المنتخب) وفي (الدمعة الساكبة) إلى حيث تسقط عن درجة الاعتبار من رأس؟ وإذا كان القارئ - على ما قلناه - نقل مضمون تلك المراسيل المروية في تلك الكتب، لا يكون كاذباً البتة، ولا ناقلاً لما هو معلوم الكذب، فما هو إذاً معنى قول الكاتب - مشيراً إلى ما يقرأه - الذاكرون من الأخبار - إنّها معلومة الكذب؟!

            من ذا يا ترى - غير عالم الغيب - يعلم أنّ الأخبار مكذوبة. نعم إنّ تلك الأخبار غير معلومة الصدق، وهكذا جميع الأخبار بلا استثناء، وشتان بين معلوم الكذب وبين غير معلوم الصدق. ولو لزم الناس أن لا ينقل أحد منهم إلا الصادق أو معلوم الصدق - ولو بالطرق الظاهرية المعروفة في كتب الأصول والحديث - لانسدّ باب نقل الأخبار، وبطل الاحتجاج بأقوال المؤرخين، وذلك ما لا يلتزم به عالم ولا جاهل.

            ولو أن الكاتب - سامحه الله - توسط في الأمر، فتوقف في الأخبار المزعوم كذبها، وردّ علمها إلى قائلها، لكان أدنى للحزم وأقرب إلى ما جاء عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من (إن حق الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عندما لا يعلمون)(16) وأنّه إذا جاءهم من يقول للّيل إنّه نهار، وللنهار إنّه ليل، لا يسعهم إلاّ ردُّ علمه إليهم، وإلاّ فإنه يكون مكذّباً لهم(17). وعن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام): (لا تكذبوا بحديث أتاكم به أحد، فإنكم لا تدرون لعلّه من الحق)(18). وعن علي المسناني عن أبي الحسين (عليه السلام): (لا تقل لما بلغك عنا، أو نسب إلينا: هذا باطل، وإن كنت تعرف خلافه(19) (20).


            الأخبار المكذوبة!!

            الأخبار المكذوبة - بزعم الكاتب - مما دخل في التعازي الحسينية معدودة محصورة، وقد ذكر منها في صفحة 13 نحو عشرة أخبار، فلتكن مائة بدل كونها عشرة، فإنها مهما كثرت لا يقرأها كل قارئ، بل الصغار قد يقرءون نبذة من بعضها في السنة مرة أو مرتين جهداً منهم بأنها مفتعلة، لأنهم ليسوا من أهل التمييز بين الأخبار، فاللازم على المصلحين تعيين تلك الأخبار والنهي عن قراءتها، لا التهويل على الشعائر الحسينية بأنها محرّمة، لأن فيها الكذب المحرّم الذي هو من الكبائر بإجماع المسلمين، فيما هذا إلا إرعاد يراد به إخفاء صوت الحقيقة الحقة التي لا تخفى بالتهاويل.

            هذا مع أنّ بعض ما أشار إليه من الأخبار المختلقة - بزعمه - لا يقصر عن غيره من المراسيل والمسانيد التي يعتمد عليها في باب التاريخ كافة العلماء.

            أما حديث الطيور البيض فقد رواه في محكي (العوالم)(21)، وفي (المنتخب)(22)، و(البحار) (23) وعبارتها هكذا: (روي من طريق أهل البيت أنه لما استشهد الحسين (عليه السلام) [بقي في كربلاء صريعاً، ودمه على الأرض مسفوحاً، و] إذا بطائر أبيض قد أتى وتمسّح بدمه...)(24) الحديث.

            ومثله حديث الغراب(25) الذي أعلم فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) - بقتله، فقد نقله في محكي (العوالم)(26) وفي (البحار)(27) عن كتاب المناقب القديم، مسنداً(28) عن المفضل بن عمر الجعفي عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن علي بن الحسين (عليه السلام)(29).

            وأما حديث (خرجت أتفقّد الثنايا) فقد نقله في (الدمعة الساكبة) وهذا لفظه: (عثرت على أشياء أرسلها بعض معاصرينا في مؤلفاتهم، فأحببت ذكرها، وإن لم أقف عليها في الكتب، منها ما عن المفيد قال: ...)(30) الحديث.

            وهذا المعاصر هو العالم العامل الشيخ حسن الملقّب بأبي قفطان، فقد حكى أنّه روى أحاديث كثيرة، منها حديث (أتفقد الثنايا)، وحديث (أنا صاحب السيف الصقيل)، وحديث (أين ظلت مطيتك يا حسان) عن مشايخ من أهل الكوفة يروونها عن آبائهم ومشايخهم. وهذه لا تقصر عن المراسيل المروية في الكتب القديمة عن حميد بن مسلم وهلال بن نافع، وبين زمان تأليفها وزمن رواتها أكثر من خمسمائة عام.

            وأما حديث دفن السجاد لأبيه فقد نقله في (الدمعة) عن بعض الكتب المعتبرة عن كتاب (أسرار الشهادات) (31)،(32).

            وروى أبو عمرو الكشّي - في رجاله - عن الرضا (عليه السلام) ما يتضمن تقرير الواقعة بأن علي بن الحسين هو الذي دفن أباه(33).

            ويؤيده ما روي عنهم من أنّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام، إما ظاهراً وإما بطريق الخفاء (34).

            وأما قول بعض قد مائنا بدفن بني أسد له، فيراد به معاونتهم للسجاد (عليه السلام) في دفن أبيه، وكذلك ما جاء من قول: (السلام على من دفنه أهل القرى) (35)، وقول النبي (صلى الله عليه وآله) عن الحسين (عليه السلام): (يدفنه الغرباء، ويزوره الغرباء)(36).

            ومن الغريب القطع بأمر يعينه في شأن دفن الحسين (عليه السلام) بعد إرسال المفيد(37) والسيد(38) دفن بني أسد له، ورواية (الأسرار) بأن الذي دفنه هو السجاد (عليه السلام) (39)، وذلك مؤيد بما عرفت من رواية الكشي التي هي حجة مستقلة.

            وروى الشيخ أبو جعفر الطوسي في أماليه والصدوق في مجالسه بأسانيد معتبرة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي دفن الحسين (عليه السلام) (40).

            فلماذا ولأيّ مرجح يكون الأول صادقاً ويجعل الكاذب ما عداه؟ مع أنّ الكل مروي مسنداً ومرسلاً عدا دفن بني أسد، فإنها لم ترد في رواية مرسلة، وإنما ذكر في الكتب قولاً كحادثة من التاريخ منقولة.

            ومن غريب ما تركه الأول للآخر أنّ خاتمة المحدثين شيخنا النوري (قدس سره) و(ناهيك به إطلاعاً وإنكاراً للكذب) استقصى في كتابه (اللؤلؤ والمرجان) الأخبار المكذوبة(41)، وما عدّ منها حديث دفن السجاد لأبيه مجملاً ولا مفصلاً، ولا حديث الطيور البيض، ولا الغراب الذي طار من كربلاء إلى المدينة وغيرها مما سرّده الكاتب، وما ذلك إلا لاكتفائه في مقام النقل أن توجد الرواية في كتاب معتبر، ولو بعنوان (روى بعض أصحابنا) وشبه ذلك إذا كانت مما لا يأباها العقل، ولم تظهر عليها أمارات الوضع والافتعال. وكم له في بعض كتبه مثل ذلك.

            إنّ شيخنا النوري (قدس سره) في كتابه المذكور بالغ في تقريع القرّاء باستعمال الكذب ونقل الأحاديث في ذمه، وها نحن نزيده من تقريعهم على الكذب - إذا شاء - ونؤكد ذمه وقبحه عقلاً ونقلاً، ولكن أين هو ممّا يقرءونه؟ إنّهم لم يتخطّوا قيد شبر عمّا رسمه لهم من الخطة المتبعة إذ يقول (ما ترجمته): (إنّ على الناقل أن ينقل عن ثقة مطمئن بنقله، وذلك بأن يكون متحرزاً عن الكذب، بانياً على الصدق، بحيث كان الصدق له ملكة أو عادة، حتى يكون معروفاً في ذلك بين من عرفه وعاشره، وأن لا يكون كثير النسيان والسهو، وأن يكون من أهل المعرفة والبصيرة)(42).

            وفي مقام آخر - بعد نقل ما جاء في النهج في كتاب علي (عليه السلام) للحارث الهمداني: (ولا تحدّت الناس بكل ما سمعت، فكفى بذلك كذباً) وبما جاء في (كشف المحجة) عن رسائل ثقة الإسلام من قولهم: (ولا تحدّث إلاّ عن ثقة، فتكون كذاباً، والكذب ذل). ونحو ذلك - قال ما ترجمته: (وحاصل مفاد جميع هذه الأخبار المعتبرة أنّ تكليف الناقل في مقام نقل أي أمر ديني أو دنيوي لغيره، بنفسه أو بواسطة أو وسائط، أو من كتاب، أن ينقل عن شخص ثقة يطمأن بنقله)(43).

            وهذا مما لا ينكره أحد، لكنه لا يوجب إلا ترك ما لا يطمأن بصدقه، أو علم كون راويه متعمداً للكذب أو كثير الخطأ في الأمور المحسوسة، فضلاً عن المنقولة، لا ما يحاوله الكاتب من الاقتصار على مرويّات المشاهير الأقدمين وأرباب التاريخ.

            وأما ما ادعاه الكاتب في صحيفة 13 من فقرات ادعى كذبها، فإنّا لا نعرفها ولا سمعنا أحداً يقرأها في العراق، ولقد سألت كثيراً من القرّاء عنها، فلم يعرفها أحد، وكم سألني جمع منهم عنّها، فلم أدر بها.

            وعسى أن تكون تلك صادرة من البحر الذي ورد منه قول الكاتب أن زين العابدين (عليه السلام) شاهد شمر بن ذي الجوشن يفري بسيفه وريدي الحسين (عليه السلام) حتى فصل رأسه المكرّم عن جسده(44).

            وقوله ج 3 ص 6، وج 4 ص 3: أن الرّباب أخذت رأس الحسين (عليه السلام) ووضعتها في حجرها، وقبّلته وقالت:

            واحسيـناً فلا نســـيت(45) حسيناً أقصــــــدته أســــنة الأعداء(46)

            وقوله ج 3 ص 119: بات أطفال الحسين (عليه السلام) في الليلة الحادية عشر جياعاً عطاشى.

            وقوله ج 2 ص 47: كانت لحيته المباركة مخضوبة بالوسمة، كأنها سواد السبّح(47). فإن لفظ (سواد السبج) وقع في حديث مسلم الجصاص الذي جاء فيه: (نطحت جبينها بمقدّم المحمل)(48).

            وقوله ج 3 ص 22 وج 4 ص 16: إنّ مروان أخذ رأس الحسين (عليه السلام) بعد قتله فوضعه بين يديه، وجعل يقول: (يا حبّذا بردك في اليدين). والله لكأني أنظر إلى أيام عثمان...)، مع أن من ذكر ذلك يظهر منه أنّ ذلك كان في المدينة، وهو بعيد عن الصحة. نعم جاء في كتب أصحابنا أنّ مروان لما نظر إلى الرأس الشريف في الشام جعل يهزّ أعطافه وينشد الأبيات، ولا كلمة بعدها.

            وقوله في ج 2 ص 138 - تبعاً لبعض الروايات - : إنّ السجّاد عاش بعد أبيه أربعون سنة، وهو يبكي. مع أنّه يعلم بأنه (سلام الله عليه) على جميع الأقوال والروايات في وفاته، لم يعش بعد أبيه أزيد من خمس وثلاثين سنة.

            وروايته ج 4 ص 22 وص 37 حديث جابر الجعفي في تغسيل الباقر (عليه السلام) أباه، وقوله: (لما جردته ثيابه، وجدت آثار الجامعة في عنقه). إلى غير ذلك مما لا أحبّ ذكره، ولا أطيل.


            الكذب في الشعر:

            يصرّح صاحب (المستند) بأن ما يتضمن من الشعر نسبة قول أو فعل إلى أحد الأئمة (عليهم السلام) يقطع بعدم صدوره، هو محرّم ومبطل للصوم، لأنه من الكذب على الإمام (عليه السلام)، إلاّ إذا كان داخلاً في باب مبالغات الشعر وإغراقاته(49)،(50).

            وهذا من الغرائب، فإن الخلاص عن الكذب لا ينحصر بالمبالغة والإغراق، لأن الشعر أكثر ما يكون خيالاً أو متضمناً لحكاية، حال، نظير قوله تعالى: (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) على ما يرتئيه سيدنا المرتضى في (المسائل الطرابلسية)(51).

            فمن الخيال قوله:

            تريب المــــحيّا تظــــــنّ السّما بأن علـــــى الأرض كــــيوانها

            ومن حكاية الحال قوله:

            وقال قفـــــي يا نفــــس وقفة واردٍ حيــــاض الــرّدى لا وقفة المتردّد

            وقوله:

            وهوى علــــيه مــــا هنـــالك قائـلاً اليــــوم بـــان عن اليمين حسامها

            ومن أقسام الخيال إرسال القول أو الفعل مبنياً على إضمار (كأنّ) أو شبهها، كقوله:

            عجّت بهم مذ على أبرادها اختلفت أيدي الــــعدوّ ولكــــن من لها بهم

            يريد (كأني بها عجّت بهم وهي تقول كذا..) ولا يقصد أنّ ذلك واقع منها واقعاً، فهو في الحقيقة يجري مجرى قول علي (عليه السلام) في إحدى خطبه في وصف الموتى (ولو استنطقت(52) عنهم عرصات تلك الديار الخاوية، والربوع الخالية، لقالت: ذهبوا في الأرض ضلاّلا..)(53) في كونه ليس من الكذب إن أريد به (كأنّي بها لو استنطقت..).

            وكذا إذا لم يرد ذلك، لكنه يكون على هذا من حكاية الحال نحو (قالت نملة).

            ولو أني ذهبت استقصي أمثال هذا من شعر حسّان بن ثابت، والكميت، والسيد(54) ودعبل، وغيرهم الذين أنشدوا بحضور النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لخرجت عن وضع الرسالة.



            1- منها: من المنكرات. م

            2- هذا القول نفسه كذب.

            3- هذا قدح في العلماء من حيث عدم نهيهم عن المنكر. ودعوى عدم السماع منهم، مما لا ينبغي الإصغاء إليها في خصوص الأخبار المكذوبة، ولعل عدم الإنكار دليل على عدم كونها عندهم من الأخبار المكذوبة.

            4- ذكرى الشيعة /68. م

            5- الرعاية/ 94. م

            6- في التنبيه الرابع من رسالته المعمولة في مسألة التسامح [صفحة 158 من المطبوع في ضمن (الرسائل الفقهية)].

            7- المراد بالضعيف ما لم يعلم أو يظن بكونه مختلقاً، ولذا قيّد الشهيد ذلك بما لم يبلغ حد الوضع.

            8- مصدر (أخبر)، لا جمع (خبر).

            9- الإخبار مع النسبة إلى الرواية مما لا ينبغي الريب فيه بناءً على ما ذكر في جوازه لأنه لا كذب فيه، وإن كان فهو من الراوي لا الناقل، وحكاية الخبر الكاذب ليست بكذب، بل نقل الكفر ليس بكفر. أما الإخبار بالوقوع بلا نسبة ففي غاية الإشكال، إلاّ إذا اعتقد المخبر الوقوع، أو كان ذلك مظنوناً له بالظن الاطمئناني، وإن كان مخالفاً للواقع، أو كان من قصده النسبة إلى الرواية، لكنه لم يذكرها في اللفظ حتى يفهم ذلك كل سامع، لأن هذا كذكر شيء له ظاهر وإرادة غيره من دون قرينة في أن ناقله لا يعدّ كاذباً، ولا تترتب عليه شرعاً أحكام الكذب، وإن لم يكن كذلك لزم الإسناد، لما جاء في الكافي [1/52] عن علي (عليه السلام): (إذا حدّثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم، فإن كان حقاً فلكم، وإن كان كذاباً فعليه).

            وهذا هو الذي اختاره بعض مشايخنا (قدس الله أسرارهم)، وبه صرح العلامة الفقيه الشيخ زين العابدين المازندراني الحائري في كتابه (ذخيرة المعاد) / ص 368 - 369، وهذه ترجمة عبارته: هل يجوز في الفضائل والمصائب القراءة بلسان الحال ومقتضى شاهد الحال أم لا؟ وعلى تقدير الجواز هل يجب الإشعار والإعلام بذلك أم لا؟ وإذا نقل أحدٌ حكايات الفضائل من كتاب غير معتبر أو لسان بعض القرّاء، هل يجوز ذلك أم لا؟ وهل على القارئ إسناده أم لا؟ الجواب: ذكر المصائب بلسان الحال جائز إذا كان مناسباً للإمام (عليه السلام)، ولابد من الإشعار والإعلام بكونه لسان الحال، وإذا نقل من كتاب معتبر أو غير معتبر لابد من الإسناد إلى الناقل، ولا حاجة إلى تعيين الكتاب المنقول عنه).

            10- قد لا يحتاج إلى بعض ما ذكره من الأدلة الشرعية، فإنه يكفي في الجواز شرعاً أن ذلك لا يعدّ كذباً عرفاً حتى تترتب عليه أحكامه، وليس سواه عنواناً محرّماً يعمه حتى يقال بالحرمة لأجله. وأما العقل فلا حاجة إلى تحسينه، بل يكفي عدم حكمه بقبحه، لفرض خلوه عن المضرة على تقدير الكذب، وببيان آخر يكفي في جوازه شرعاً الأصل، لعدم الدليل من العقل والنقل على حرمته.

            11- مراده - على الظاهر - من رواية ابن طاووس ما رواه في (الإقبال) [صفحة 627] عن الصادق (عليه السلام) قال: (من بلغه شيء من الخير فعمل به، كان له [أجر] ذلك، وإن لم يكن الأمر كما بلغه).

            12- ومراده بالنبوي ما نسبه الشهيد الثاني في الرعاية [صفحة 94] إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من طريق الفريقين من أنه (صلى الله عليه وآله) قال: (من بلغه عن الله فضيلة، فأخذها وعمل بما فيها إيماناً بالله، ورجاء ثوابه، أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك).

            13- ومراده من إجماع (الذكرى) قول الشهيد فيها [صفحة 68]: (أخبار الفضائل يتسامح بها عند أهل العلم).

            14- و[المراد] بالاعتضاد بالحكاية عن الأكثر، مما نقلناه عن الشهيد الثاني من أن (الأكثر جوّزوا العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في صفات الله وأحكام الحرام والحلال، وهو حسن ما لم يبلغ حدّ الوضع والاختلاق). [الرعاية/94].

            15- ولد الشيخ حسن المذكور في النجف في حدود سنة ألف ومائتين وبضع عشرة هجرية، وتلمذ في الأصول على جماعة، منهم الميرزا القمي - صاحب القوانين -، وفي الفقه على العلامة المحقق المدقق صاحب الجواهر (قدس سره)، وله يد طولى في الأدب وشعر كثير في مدائح أعيان عصره ومراثيهم، ومراجعات أدبية خالدة مع السيد راضي البغدادي والسيد حيدر الحلّي.

            وقد أكثر من رثاء سيد الشهداء، بيد أن الموجود منه قليل، وله كتاب في مقتل الحسين (عليه السلام) يتضمن مراسيل غريبة، وقد أخفاه في حياته تحرّجاً، لأن بعض ما فيه لم يروه بلفظه، وتورّع عن النقل بالمعنى مع صوغ اللفظ من معدن أدبه.

            وقد نقل عنه في (الدمعة) كثيراً، وهو من معاصري صاحبها، ولو كان معروفاً بالكذب - كما قد يتوهم - لعلم ذلك معاصره، ولم ينقل عنه. وللشيخ حسن المذكور ولد يدعى الشيخ أحمد، ذكره المحدث النوري في بعض كتبه بهذا اللفظ: (بديع الزمان في هذا الأوان، الجامع بين العلم والأدب والحسب الباذخ والنسب، أبو سهل الشيخ أحمد بن العالم العليم والفقيه الحكيم المقتدى المؤمن المؤتمن الشيخ حسن بن الشيخ علي بن الشيخ عبد الحسين الملقّب بـ(أبي قفطان) تغمده الله بالرحمة والرضوان).

            وله أخوة، منهم الشيخ محمد والشيخ جعفر ولدا الشيخ علي السعدي، وكانت مهنتهم التي يعيشون بها نسخ كتب الفقه والحديث، وخاصة كتاب (جواهر الكلام) في الفقه، وكانوا يحسبون ذلك قرباً وزلفة. وهم رياحيون من سعد العشيرة من تميم الذين يقطنون في أطراف الدجيل قرب سامراء. انتقل والدهم الشيخ علي بن نجم الدين إلى قرية شرقي الكوفة، تبعد عنها نحو اثني عشر فرسخاً، ثم منها إلى النجف، وبها ولد الشيخ حسن المترجم وأخوته، ولازال بنوهم اليوم في النجف.

            16- وسائل الشيعة 18/11، الحديث التاسع. م

            17- لم أجد حديثاً بهذا المضمون، والذي وجدته أن سفيان بن السمط قال للإمام الصادق (عليه السلام): جعلت فداك! إن الرجل ليأتينا من قبلك، فيخبرنا عنك بالعظيم من الأمر، فيضيق بذلك صدورنا حتى نكذبه.

            فقال الإمام له: أليس عني يحدثكم؟

            فأجاب سفيان: بلى.

            فقال الإمام: فيقول للّيل أنه نهار والنهار أنه ليل؟

            فأجاب سفيان: لا.

            فقال الإمام: رده إلينا، فإنك إن كذّبت، فإنما تكذبنا). بحار الأنوار 2/187. م

            18- بحار الأنوار 2/186. م

            19- بحار الأنوار 2/186. م

            20- هذه الأخبار مذكورة في بصائر الدرجات وفي الوسائل أيضاً في أبواب متفرقة.

            21- عوالم العلوم والمعارف 17/493-494 م.

            22- لم أجده فيه. م

            23- بحار الأنوار 45/191 - 192. م

            24- بقيته: (وجاء والدم يقطر منه، فرأى طيوراً...، فقال لهم.. الحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ ملقى على الرمضاء، ضامئ مذبوح ودمه مسفوح... فلما رأته الطيور... تواقعن على دمه يتمرغن فيه، وأن طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول وجاء يرفرف حول قبر سيدنا رسول الله... يعلن بالنداء ألا قتل الحسين بكربلاء، ألا ذبح الحسين بكربلاء، فلما نظر أهل المدينة...). م

            25- قد يستبعد عقلاً صدور هذا الخبر، لبعد وصول الطير المتمرغ بالدم من كربلاء إلى المدينة فضلاً عن وقوعه على جدران بيت فاطمة. ولكن يردّ هذا الاستبعاد أن نوعاً من الطيور في العراق تمعن في الطيران إلى أبعد من المدينة تسمى (حمام الهدى) و(حمام الرسائل). ويؤخذ من قول شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله المعمري - في كتاب: (التعريف)- أن أصل هذه الطيور من الموصل. وقد اعتنى بها الملوك الفاطميين إلى الغاية، وكانت الرسائل تعلّق بأرجلها وترسل، فتطير للمكان الذي اعتادته، مهما بعد، فإذا أخذ الكتاب منها عادت إلى المحل الذي جاءت منه مزودة بكتاب أيضاً أو غير مزودة. وأنا للآن لم أعثر على ما يدل على أثر لها في دولة بني أمية ولا في أوائل دولة بني العباس. وعن كتاب (تمائم الحمائم) نقل المحيي الدين بن عبد الظاهر أن أول من نقلها من الموصل من الملوك هو نور الدين محمود بن زنكي في سنة 575. وهذا خطأ يشهد به مراجعة تاريخ الفاطميين والعباسيين في القرن الثالث والرابع. ولعل هذه الطيور نوع من الغربان، أو أن المتمرغ طائرٌ صار بتمرغه بالدم والتراب بلون الغراب، فاتفق وقوعه على جدران بيت فاطمة. والذي يغلب على ظني - إن صح الحديث - أنه من معجزات سيد الشهداء وكراماته، وهي أول كرامة له بعد شهادته. وقد ذكره السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) [4/72-73] بأسانيد مختلفة ومتون متقاربة من معجزاته (عليه السلام)، وكرّر نقله في مواضع من الكتاب المذكور.

            26- عوالم المعارف 17/490.

            27- بحار الأنوار 45/171.

            28- عن علي بن أحمد العاصمي، عن إسماعيل بن محمد البيهقي، عن أبيه، عن أبي عبد الله الحافظ، عن يحيى بن محمد العلوي، عن أبي علي الطرطوسي [في نسخة الطرسوسي] عن الحسن بن علي الحلواني، عن علي بن يعمر، عن إسحاق بن عبادة، عن المفضل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) عن أبيه، عن علي بن الحسين (عليه السلام).

            29- نصه: (لما قتل الحسين بن علي (عليهما السلام) جاء غراب، فوقع في دمه، ثم طار.. فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين بن علي (عليه السلام) وهي الصغرى، فرفعت رأسها، فنظرت إليه، فبكت بكاءً شديداً. م

            30- الدمعة الساكبة 2/291. والذي فيه: لما نزل الحسين (عليه السلام) في كربلاء، كان أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له هلال بن نافع، سيما في مظان الاغتيال...، فخرج الحسين (عليه السلام) ذات ليلة إلى خارج الخيم حتى بعُد، فتقلد هلال سيفه وأسرع في مشيه حتى لحقه، فرآه يختبر الثنايا والعقبات والأكمات المشرفة على المنزل، ثم التفت إلى خلفه فرأى هلال، فقال: من الرجل؟

            هلال؟ فقال: نعم جعلني الله فداك، أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة معكسر هذا الطاغي. م.

            فقال: يا هلال! خرجتُ أتفقد هذه التلال مخافة أن تكون كنّاً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم تحملون ويحملون.. ثم فارق الإمام هلال ودخل خيمة أخته.. قالت: أخي! هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟..

            فبكى (عليه السلام) وقال: أما والله لقد بلوتهم وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس.. م

            31- الدمعة الساكبة 2/317، أسرار الشهادة - للدربندي -/469 (المجلسي 19). م

            32- لعل هذا غير كتاب (أسرار الشهادة) للفاضل الدربندي، ولا أعرف مؤلف.

            33- ذكر ذلك في ترجمة ابن السراج وابن البطائني وابن المكاري، صفحة 289 في حديث طويل جاء فيه: (فقال له علي - يعني: ابن أبي حمزة البطائني -: إنّا روينا عن آبائك أن الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله. فقال له أبو الحسن (عليه السلام): فأخبرني عن الحسين بن علي (عليه السلام) كان إماماً أو كان غير إمام؟

            قال: كان إماماً.

            قال: فمن ولي أمره؟

            فقال: علي بن الحسين.

            قال: وأين كان علي بن الحسين؟

            قال: كان محبوساً في يد عبيد الله بن زياد في الكوفة، خرج وهم كانوا لا يعلمون حتى ولي أمر أبيه، ثم انصرف.

            فقال له أبو الحسن (عليه السلام): إن هذا الذي أمكن علي بن الحسين أن يأتي من كربلاء فيلي أمر أبيه فهو أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثم ينصرف، وليس هو في حبس ولا في إساءة.

            34- بحار الأنوار 27/288 - 291. و 45/169. وفيها أخبار تدل نصاً وتقريراً على ذلك. م

            35- هذا السلام جزء من زيارة عاشوراء المعروفة بـ(زيارة الناحية المقدسة)، ذكرها الشيخ المفيد في كتاب (المزار الكبير) /165 - 171، ونقلها عنه في البحار 98/317 - 328. م

            36- في البحار [98/44]: وجدت بخط محمد بن علي الجبعي، نقلاً عن خط الشهيد نقلاً من مصباح الشيخ أبي منصور (رحمه الله): روي أنه دخل النبي يوماً إلى فاطمة، (وساق الحديث إلى أن) قال: وأما الحسين (عليه السلام) فإنه يظلم، ويمنع حقه، وتقتل عترته، وتطؤه الخيل، وينهب رحلة، وتسبى نساؤه وذراريه، ويدفن مرمّلاً بدمه، ويدفنه الغرباء. قال علي (عليه السلام) فبكيت وقلت: هل يزوره أحد؟ فقال: يزوره الغرباء.

            37- الإرشاد /243. وفيه: (ولما رحل ابن سعد، خرج قوم من بني أسد كانوا نزولاً بالغاضرية، إلى الحسين وأصحابه (رحمة الله عليهم)، فصلّوا عليهم، ودفنوا الحسين (عليه السلام) حيث قبره الآن، ودفنوا...) م

            38- اللهوف/127. م

            39- أسرار الشهادة /469 (المجلس 19). م

            40- روى الصدوق والشيخ في المجالس [صفحة 119] والأمالي [1/89] عن الصادق (عليه السلام) أن أم سلمة زوجة النبي أصبحت يوماً تبكي بكاءً شديداً، فقيل لها: ممّ بكاؤك؟ قالت: لقد قتل الحسين (عليه السلام) الليلة، وذلك أني ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ مضى إلا الليلة، فرأيته شاحباً كئيباً، فقلت: مالي أراك يا رسول الله شاحباً كئيباً؟. فقال: ما زلت الليلة أحفر القبور للحسين وأصحابه.

            وروى في الأمالي [1/322] عن أم سلمة أنها أصحبت تصرخ صراخاً عظيماً، وهي تقول: يا بنات عبد المطلب أسعدنني وابكينّ معي، فقد قتل سيد كنّ الحسين. فقيل لها: من أين علمت ذلك؟ فقالت: رأيت رسول الله شعثاً مذعوراً، فسألته عن شأنه، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته، فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم.

            وروى ذلك في المناقب [لابن شهر آشوب 4/55] عن عدة طرق من طرق الجمهور.

            وفي الأمالي [1/323] عن ابن عباس في رواية ابن جبير عن أم سلمة أيضاً في حديث طويل جاء فيه قول أم سلمة (فلما كانت الليلة القابلة، رأيت رسول الله أغبر أشعث، فسألته عن شأنه، فقال: ألم تعلمي أني فرغت من دفن الحسين وأصحابه؟

            41- اللؤلؤ والمرجان /175 - 180. م

            42- اللؤلؤ والمرجان / 136 - 137. م

            43- اللؤلؤ والمرجان /137 - 138. م

            44- في مجالسه ج 2 ص 47.

            45- في نسخة (فلا عدمت..). م

            46- هذا البيت وما ورد بعده ذكره الطبري في تاريخه وأبو الفرج في (الأغاني) ج 16 ص 126 لعاتكة بنت يزيد بن عمرو بن نفيل، وليس هو للرباب التي لم يؤثر عنها أنها وضعت رأس الحسين (عليه السلام) في حجرها، ولا قبّلته. إنما المروي لها في رثائه ما ذكره أبو الفرج في (الأغاني) ج 14 ص 158، وهو:

            إن الذي كان نوراً يســــــتضاء به بكربــــلاء قتــــــيلٌ غــــير مدفون

            في أبيات خمسة مذكورة في المحل الذي ذكرناه من (الأغاني).

            47- سواد السَّبج: حجر شديد السواد، يشبّه به سواد الشيء. م

            48- بحار الأنوار 45/114، عوالم العلوم 17/373. وفيه: (.. أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام)، وهو رأس زهريٌ قمريٌ، أشبه الخلق برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولحيته كسواد السبج بها...، فالتفتت زينب (عليها السلام) فرأت رأس أخيها، فنطحت جبينها بمقدم المحل، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بخرقة..). ومقصود المؤلف أن كون لحية الإمام كسواد السبج ورد في حديث مسلم الجصّاص، وقد ورد في نفس هذا الحديث أن السيدة زينب بنت الإمام أمير المؤمنين جرحت رأسها في عزاء أخيها أمام الحسين. فإذا كان السيد الأمين يرى حرمة تجريح الرأس، فكيف اعتمد على حديث دال على جواز تجريح الرأس؟ م

            49- كقوله:

            وقفت له الأفلاك حين هويه وتبــدلت حـركاتها بسكون

            50- مستند الشيعة 2/109. م

            51- رسائل الشريف المرتضى 1/356. حيث نفى المرتضى أن تكون النملة قد تكلمت فعلاً، بل أوّل الآية بأنها لما خافت من الضرر الذي أشرف النمل عليه، جاز أن يقول الحاكي لهذه الحال تلك الحكاية البليغة، لأنها لو كانت قائلة ناطقة ومحفوفة بلسان وبيان لما قالت إلا مثل هذا. م

            52- في المصدر (استنطقوا). م

            53- نهج البلاغة / لخطبة 221. م

            54- المقصود هو السيد الحميري. م




            يتبع...........

            تعليق


            • #66
              الباب الثاني: التغني بمراثي الإمام الحسين

              الثاني: التلحين(1) بالغناء. قال في ص 3: (وهذا يستعمله جملة من القرّاء بدون تحاش، ولم يستثن الفقهاء من ذلك إلا غناء المرأة في الأعراس بشرط أن لا تقول باطلاً، ولا يسمع صوتها الأجانب. وقد قام الإجماع على تحريمه، سواء كان لإثارة السرور أو الحزن، وعدّه العلامة الطباطبائي من الكبائر فيما نقله عنه صاحب الجواهر، لقوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث). انتهى.

              لا ريب في حرمة الغناء في الجملة وأنّه من الكبائر - إن صح تفسير آية لهو الحديث أو غيرها به -، وأنّه من مقولة الأصوات باعتبار كيفياتها من دون مدخلية لمواد الألفاظ فيه من كونها حقاً أو باطلاً، وأنّه لا فرق في حرمته بين إثارته للسرور أو الوجد الموجبين للانشراح والبكاء.

              ولكن ما هو الغناء؟ وما هو المحرم منه؟


              تعريف الغناء:

              الغناء موضوعاً وحكماً مختلف فيه، ولا يخلو ما ذكر في تفسيره عن إشكال أو إجمال. وصدق اسمه على أرقّ وأرخم صوت يقرأ به الذاكرون في العراق في مأتم سيد الشهداء غير معلوم، إن لم يكن معلوم العدم، وقواعد الفن تقتضي في مثل المقام بحرمة المتيقن كونه غناءً فقط(2).

              ولعل استعمال ما ينسبه إلى القراء بلا تحاش، مع سماع العلماء له وعدم إنكارهم آية عدم كونه غناءً عندهم.

              وكم بين هذه النسبة المسوقة للإنكار وبين تأييد المقدس الأردبيلي في (مجمع البرهان)(3) والفاضل النراقي في (المستند)(4) القول بعدم حرمة الغناء في الرثاء بعمل(5) المسلمين في الأعصار والأمصار بغير نكير من زمن المشايخ إلى زمانهم، وعسى أن لا يكون ذلك من الغناء المحرّم أيضاً.

              وما استشهد به في ص 23 من قيام بعض العلماء الصلحاء من المجلس حينما يقرأ فيه الشعر بالألحان - كما يقول - وتذمّر البعض الآخر عند سماعها، فالوجه فيه التورّع منهم عن الوقوع في الشبهة، لأن موضوع الغناء لم يكن متضحاً لديهم، لا لحكمهم بكون ذلك غناءً محرّماً، ولذلك لم يأمر أحد منهم الناس بالخروج من المجلس، ولم ينه القارئ عن قراءته. ولا بدع إذا أشكل على أولئك القشفين معنى الغناء، لأنه موضوع لا يعرفه النّسّاك في الأغلب.

              لا ريب في أن مجرد مدّ الصوت ورفعه ليس بغناء، فضلاً عن كونه محرماً، كذلك مطلق تحسين الصوت المتناول لمثل حسن جوهره ورخامته. كيف وقد كان الأئمة (عليهم السلام) يقرأ القرآن، فربما مرّ به المار فيصعق من حسن صوته، والسقّاءون يمرون فيقومون ببابه يستمعون قراءته، لحسن صوته(6). وكذا كان ولده أبو جعفر (عليه السلام)(7).

              وقد ورد في الأخبار مدح الصوت الحسن وأنّه من الجمال(8)، وأنّه ما بعث الله نبياً إلا بالصوت الحسن(9).

              وورد فيها الترغيب في تحسين الصوت بقراءة القرآن، ففي بعضها:

              (إنّ لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن)(10) وفي آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في قوله تعالى: (ورتّل القرآن ترتيلاً)(11) قال: (أن تتمكّث وتحسن فيه(12) صوتك)(13).

              وكذلك مطلق الترجيع، فإن الحكم بكونه غناءً مما لا شاهد له من عرف أو لغة، بل الحديث المروي من طريق الفريقين(14) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم وألحان أهل الفسوق والكبائر، فإنه سيجيء بعدي قوم يرجّعون القرآن ترجيع الغناء...)(15) الحديث.

              فيه(16) دلالة ظاهرة على أنّ مطلق الترجيع ليس غناءً لتضمّنه أنّ الغناء المنهي عنه في القرآن لحن أهل الفسق والكبائر المتداول في الملاهي، والغناء المحرّم شيء واحد في القرآن وغيره. والخبر كالنص في أنّ المحرّم ليس هو ألحان العرب، أي: تطريبهم وترجيعهم، بل هو لحن أهل الفسوق وغناؤهم(17).

              وحاصل هذا يرجع إلى أن الغناء كيفية خاصة من الترجيع، وهي معروفة بين أهل الفسوق يستعملونها في الملاهي.

              هذا مع أنّ من راجع الأخبار الدالة على حرمة الغناء بأسرها(18)، يحصل له القطع بأن حرمته من حيث كونه لهواً وباطلاً، كما اعترف بذلك المحقق الأنصاري في مواضع من كتابه(19).

              والمراد بذلك - على ما صرح المحقق المذكور - كون الصوت بنفسه (مهما كانت مادته) صوتاً لهوياً يناسبه اللعب بالملاهي والتكلم بالأباطيل، وذلك هو لحن أهل الفسق والمعاصي وترجيعهم الذي ورد النهي عن قراءة القرآن به، سواء كان هو الغناء - كما هو الظاهر - أو أخص منه(20).

              وكيف يكون مطلق تحسين الصوت وترجيعه غناءً، مع أنّ غالب الأصوات في قراءة القرآن والخطب والمراثي التي تقرأ على العلماء في جميع الأعصار والأمصار لا تخلو عن تحسين وترجيع في الجملة.

              أمّا تعريفه(21) بالترجيع المطرب فلا يخلو عن إجمال أيضاً، لأن المطرب لا يراد به الملائم للطبع، لأن ذلك لازم حسن الصوت، بل يراد به مرتبة خاصة المعروفة بين أرباب الملاهي والفسوق.


              استثناء الغناء في الرثاء:

              قد استثنى فقهاؤنا من حرمة الغناء أفراداً، بعضها ذهب الأكثر إلى استثنائه، والبعض الآخر لا يزال مذهب الأقلّين، ولا يهمّنا التعرّض لذلك، لأنّ محطّ النظر الغناء في رثاء سيد الشهداء.

              وقد حكى المحقق الثاني في (جامع المقاصد)(22) والوحيد البهبهاني في محكي حواشي المسالك(23) قولاً باستثنائه فيه، نظير استثنائه في الأعراس.

              ويظهر من المقدس الأردبيلي في (مجمع الفائدة) جوازه فيه، ووجود القول به قبله(24). وتلميذه الفاضل السبزواري في (الكفاية) جوّزه فيه وفي كل ما ليس بلهوٍ ولا باطل من قرآن ومناجاة(25).

              وبذلك صرح الفاضل النراقي في (مستند الشيعة)(26)، وولده في كتابه (مشارق الأنوار)، وزاد هذا رثاء أولاد الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم إذا قصد به الإبكاء والتحزين.

              بل حكى شيخنا المرتضى الأنصاري في (المكاسب) عن بعض أهل عصره تقليداً لمن سبقه من الأعيان، منع صدق الغناء في المراثي(27) ومراده بـ(من سبق من أعياننا) على الظاهر كاشف الغطاء في محكي (شرح القواعد)، فإنه حُكي عنه دعوى أنّ الغناء والرثاء متغايران متباينان موضوعاً وحكماً، لا يطلق أحدهما على الآخر عرفاً.

              وهذا منه مبني على أن لمواد الألفاظ دخلاً في كون الصوت غناءً أو رثاءً. والتحقيق خلاف ذلك.

              وكيف كان فقد قال هؤلاء المجوزون أنّ الأصل الجواز(28) بعد قصور أدلة الحرمة عن الشمول لذلك: أما الإجماع فلانتفائه في محل الخلاف، مع كونه دليلاً لبّياً، وأما الأخبار - فمع قصور إطلاقاتها(29)- معارضة بالمحكي عن (قرب الإسناد) عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن الغناء في الفطر والأضحى والنوح(30) قال: (لا بأس ما لم يعص به)(31). والظاهر أن المراد بعدم العصيان به عدم قيامه بكلام لهوٍ أو باطل أو بمزمار(32).

              ويؤيّد هذا قوله (عليه السلام) في المحكي عن نفس كتاب علي بن جعفر (لا بأس ما لم يزمر به)(33).

              وأيّد ذلك المقدس الأردبيلي وغيره بأنه متعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلى زمانه من غير تذكير، وبما دل على جواز النياحة بالغناء وأخذ الأجرة عليها، ثم ذكر أخبار جواز مطلق النياحة الشاملة للغناء ومؤيداتها، ومؤيدات جواز الغناء في الرثاء من أنّ تحريم الغناء للطرب، ولهذا قيّد بالمطرب، وليس في المراثي طرب، بل ليس إلاّ الحزن. إلى أن قال: (وبالجملة: عدم ظهور دليل على التحريم، والأصل، وأدلة جواز النياحة مطلقاً، بحيث يشمل الغناء، بل إنّها لا تكون إلاّ معه، تفيد الجواز، والاجتناب أولى وأحوط)(34) انتهى.

              قلت: ويؤيّد هذا - وإن لم أذهب إليه واختاره(35) - خبر أبي هارون المكفوف(36) قال: قال لي أبو عبد الله: (أنشدني في الحسين) (عليه السلام)، فأنشدته. قال: (أنشدني كما تنشدون، يعني بالرقة). فأنشدته:

              امرر علـى جــــدث الحــــسين وقــــــل لأعـــــظمه الــــــزكية

              الخبر(37).

              وخبره الآخر: قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (أنشدني). فأنشدته. فقال: (لا، كما تنشدون، وكما ترثيه عند قبره). فأنشدته... الخبر(38).

              فإن قوله (عليه السلام) في هذين الخبرين (كما تنشدون) يراد به - على الظاهر - كما تنشدون الشعر في ما بينكم بالألحان المهيّجة للبكاء، المثيرة للحزن، ويومئ إليه قوله في الخبر الأول (يعني الرقة)، أي بترقيق الصوت ومدّه والتمكّث فيه، فإن الصوت واللحن من الأمور المرققة للقلب، المعدّة له أن يتأثر بسرعة بتذكر الأحوال الذي لا يمكن إنكار سببية اللحن له.

              إنّ هذا المعنى الذي ندب إليه فيه الخبرين هو الذي سمعناه منذ نشأنا للآن، وسمعه كل واحد في العراق من القرّاء في المحافل وعلى المنابر، وما سمعنا منهم غناءً. فإن كان هذا هو الغناء الذي يعنيه الكاتب، فالأخبار صريحة بجوازه، وإن كان غيره مما يشتمل على تراجيع أرباب الملاهي وإطرابهم، فهذا أمر يبرأ منه كل ذاكر عراقي.

              وعسى أن يكون المؤلف سمعه في الشام أو غيرها من البلدان السورية. وعلى أيّ فاللازم عليه - وهو من دعاة الإصلاح - أن ينهى عن الغناء (وقد نهى عنه جميع الفقهاء)، لا أن يهوّل على المجالس العزائية بأنّ الغناء يستعمل فيها بلا تحاش بحيث يرى الناس أنّ ذلك أمراً لا ينفك عنه أي مجلس رثائي!!

              وماذا يكون لو غنّى قارئ واحد يوماً في بلد من البلدان غير أنّه فعل حراماً؟ ولزم نهيه عن غنائه، كما لو غنّى يوماً بالقرآن أو بشعر غزلي أهل يصح - والحال هذه - نهي الكافة عن قراءة القرآن ونشيد الأشعار الغزلية؟؟



              1- لفظ التلحين غلط لغوي، ولست بصدد استقصائه. التلحين تخطئة الإنسان غيره بقوله. ولا يأتي بمعنى القراءة أو التصويت أو التطريب أو الترجيع ونحوها مما يحتمل أن يقصده الكاتب.

              2- والرجوع في ما عدا ذلك إلى الأدلة المثبتة للتكاليف، لأنها مخصصة بمنفصل مجمل مفهوماً، مردد بين قلة الخارج وكثرته. ولعل القائل بالرجوع إلى البراءة مراده ذلك لموافقته لأصالة البراءة حكماً ونتيجة. هذا على القول بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة المفهومية.

              3- مجمع الفائدة والبرهان 8/61. م

              4- مستند الشيعة 2/343-344. م

              5- الباء للسببية، أي: بسبب عمل.. م

              6- وسائل الشيعة 4/859.

              7- وسائل الشيعة 4/858.

              8- الكافي 2/615. م

              9- الكافي 2/616. م

              10- الكافي 2/615. م

              11- سورة المزمّل آية 4. م

              12- في المصدر (به). م

              13- وسائل الشيعة 4/856. م

              14- رواه الجمهور عن حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وآله). ورواه أصحابنا عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فهو صحيح بلا مرية.

              15- الكافي 2/614. م

              16- أي: في الحديث المروي عن النبي. م

              17- اللّحن - كما في (النهاية) الأثيرية [14/242]، والصحاح [4/1293]، والقاموس [4/374] - هو التطريب، وترجيع الصوت، وتحسين القراءة، والغناء. قال في (الصحاح): ومنه: (اقرؤوا القرآن بلحون العرب). وقد لحن في قراءته: إذا طرب وغرد، وهو ألحن الناس: إذا كان أحسنهم قراءة وغناءً. وفيه [4/1293] الغرد - بالتحريك -: التطريب في الصوت.

              والخبر - بواسطة مراجعة كلمات اللغويين هذه - يدل على أن المحرّم هو الغناء المستعمل عند أرباب الملاهي، لا غناء العرب، وكل منهما فيه تطريب وترجيع، ولكن الغناء هو ترجيع أولئك لا غيرهم. وصاحب الحدائق [الحدائق 18/114] جعل اللحن في هذا الخبر بمعنى اللغة، أي: بلغة العرب، وكأنه أراد باللغة اللهجة، ظناً منه أن بقاءه في معناه يوجب ظهور الخبر في جواز الغناء بالقرآن.

              قال شيخنا الأنصاري [المكاسب 3/280]: وهذا خيال فاسد، لأن مطلق اللحن - أي الترجيع والتطريب - إذا لم يكن لهوياً ليس غناءً. وقوله (صلى الله عليه وآله) (إياكم ولحون أهل الفسق) نهي عن الغناء.

              18- وسائل الشيعة 12/225 - 232. م

              19- المكاسب 3/281، 287، 235، 295. م

              20- المكاسب 3/ 215 - 216، 235. م

              21- أي: تعريف الغناء. م

              22- جامع المقاصد 4/23. م

              23- مخطوط. م

              24- مجمع الفائدة والبرهان 8/61. م

              25- كفاية الأحكام /86. م

              26- مستند الشيعة/ 343. م

              27- المكاسب 3/269. م

              28- هو أصالة الإباحة في مطلق الشبهة التحريمية البدوية. وعلى ما أسلفناه يراد به العمومات المثبتة للتكليف.

              29- مرادهم من قصور الإطلاقات كون المحكوم فيها بالحرمة لفظ الغناء، وهو مفرد معرّف، وقد حقّق في الأصول عدم إفادته العموم في نفسه.

              30- في المصدر (والفرح) بدل (والنوح). م

              31- قرب الإسناد/294. م

              32- ذكر ذلك المحقق الأنصاري في (المكاسب) [3/260-261]. ولا يضر اشتمال الخبر على جواز الغناء في غير النوح مما لا يقولون بجوازه فيه. ويحتمل أن يراد بالغناء في الجميع لحن العرب وترجيعهم، وهو ليس بغناء حقيقة.

              33- مقصوده أنه توجد في نسخة أخرى عبارة (لا بأس ما لم يزمر به) بدلاً من (لا بأس ما لم يعص به).

              34- مجمع الفائدة والبرهان 8/61-62. م

              35- وإنما ذكرت ذلك لتنبيه الكاتب على أن الغناء في الرثاء ليس بتلك المكانة من وضوح الحرمة، وعدم القائل، كما يستفاد من ظاهر كلامه.

              36- رواه الصدوق في (ثواب الأعمال) [صفحة 108 - 109].

              37- كامل الزيارات /104. م

              38- رواه الشيخ أبو القاسم جعفر بن قولويه في الكامل [صفحة 104].




              يتبع...

              تعليق


              • #67
                الباب الثالث: العُسر والحرج في التطبير والضرب بالسلاسل و...

                الثالث(1): إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها. وهذا يتحقق - في مزعمة الكاتب - بضرب الرؤوس وجرحها بالمدي والسيوف. قال ص 3: (وكثيراً ما يؤدّي ذلك إلى الإغماء بنزف الدم الكثير، وإلى المرض، أو الموت(2) أو طول برأ الجرح(3)، وبضرب الظهور بسلاسل الحديد، وغير ذلك. وتحريم ذلك ثابت بالعقل والنقل وما هو معلوم من سهولة الشريعة وسماحتها الذي تمدّح به رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: (أتيتكم بالشريعة السمحة السهلة)(4). ومن رفع الحرج والمشقة في الدين بقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)(5).

                النقد: إضرار النفس شيءٌ وحملها على الأمر الشاقّ شيٌ آخر، لا دخل على رأي الكاتب لأحدهما بالآخر موضوعاً وحكماً، كما يفهم مما ذكره في ص 17 و ص 18 من رسالته، وقد صرّح في الموضعين بأن الكلفة إذا بلغت حدّ العسر والحرج، أسقطت التكليف، وإذا بلغت حدّ الإضرار، أوجبت حرمة الفعل، ولذلك فإنني أطارحه الكلام في مقامين: العسر والضرر.

                وبالرغم على ما أخذته على نفسي من الاختصار وابتذال التعبير، لا أشك أني قد أخرج عن الشرط، لأن الكاتب - سامحة الله - قد خلط في الاستدلال بين دليلي القاعدتين الذين يعترف بتغايرهما حكماً وموضوعاً، وخبط في كل واحدة منهما بما لم يعهد من أحد قبله!!


                مدلول أدلة نفي العسر والحرج:

                الكلام في باب العسر والحرج في أمرين:

                الأول: في أنهما أوجبا وقوع التخفيف في أصل شرعية الأحكام، بمعنى أن ما ثبت في الشرع من تكليف لا حرج فيه ولا عسر.

                وهذا المعنى إن ثبت في نفسه(6)، كما هو مقتضى قوله (صلى الله عليه وآله) (بعث بالحنيفية السهلة السمحة)(7) وغيره، لا ينفع في مقام الاستدلال على رفع الأحكام المشروعة الثابتة إذا عرض العسر عليها من باب الاتفاق، على ما يحاوله الكاتب في مواضع من رسالته(8).

                الثاني: في أن العسر والحرج يوجبان الحكم بالتخفيف لو طرأ العسر والضيق على تكليف من التكاليف التي هي في نفسها وفي أصل شرعيتها لا عسر فيها، كما هو مقتضى قوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)(9)، و(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(10).

                وهذا هو الذي ينفع في مقام الاستدلال، وباعتباره حكموا بسقوط وجوب مباشرة أفعال الحج عمن يكون عليه عسر وحرج في الركوب والغسل بالماء البارد عمن يؤذيه أو يوجب مرضه أو بطؤه، وأمثال ذلك كثير في أبواب العبادات في كتب الفقه.


                أدلة نفي العسر والحرج لا تشمل الشعائر الحسينية:

                وسواء أراد الكاتب أن بعض الشعائر الحسينية فيه عسر فلا يكون مما له حكم شرعي مجعول في المذهب من أصله، أو أراد أن حكمه الثابت له - ولو لطروّ عنوان كونه إبكاءً أو جزعاً أو حزناً أو إسعاداً أو غير ذلك - مرفوع لعروض العسر عليه، فيرد بوجوه، نذكر المهم منها:

                الأول: إن قاعدة العسر والحرج بمعنييهما السالفين مختصة - على ما صرح به كثير - بالإلزاميات، لا تشمل غيرها.

                والظاهر أنّ فقهاءنا لا يختلفون في ذلك، ولذلك جزموا بشرعية العبادات الشاقة المستحبة وصحتها، كصوم الدهر - غير العيدين -، وإحياء الليالي بالعبادة في تمام العمر إذا لم يوجب ضرراً، والحج متسكعاً لمن ليس عليه فرض الحج.

                والوجه في ذلك أمور:

                أحدها: أنّ رفع الحكم الحرجي إنما هو للامتنان، ولا منّة في رفع المندوبات والسنن، بل المنّة في ثبوتها.

                ثانيها: إنه لا يعقل تحقق الحرج مع الترخيص في الترك، لأن الحرج إنما يكون من قبل الحكم، لا من قبل متعلقه، مهما كان بذاته مشاقاً، ولذلك لا تجري القاعدة في الواجب المخيّر إذا تجرد بعض آحاده عن الحرج(11).

                ثالثها: إن الظاهر من أدلة الحرج عدم كون جعل الشارع سبباً قريباً لإلقاء المكلّف في الحرج بحيث يستند وقوعه فيه إلى جعله، وهذا إنما يكون في الإلزاميات فقط، دون ما رخص الشارع في تركه(12).

                رابعها: إن المتتبع للتكاليف أدنى تتبّع يعلم أن التكاليف غير الإلزامية - مع كونها أكثر من الإلزاميات أضعافاً مضاعفة - هي أشق منها بمراتب، كالصوم ندباً في الصيف، وإحياء الليالي الطوال بالعبادة، وطي الوقت بالجوع، وصلاة ألف ركعة في كل يوم وليلة، والوقوف ماثلاً بمقدار أن يقرأ ألف سورة - ولو مثل التوحيد - في ركعة واحدة -، والسجود على حجارة خشنة من الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس مثلاً وشبه ذلك من الأمور الشاقة، التي يعلم كل من مارس الأدلة وكيفية الاستدلال أن شرعيتها لا تنافي سهولة الشريعة وعدم الحرج فيها، لحصول السهولة والخروج عن الضيق بتركها، واختيار ما هو أسهل منها، وإن لم يلزم ذلك.

                والحاصل أن نفس كون المندوبات عسرة بذاتها أو بكثرتها(13) يدل على اختصاص القاعدة بالواجبات والمحرمات، فيسقط قول الكاتب من أصله.

                ولو أن فقيهاً أجرى قاعدة الحرج في المندوبات لاستراح الناس منها، وحرموا ثوابها - على رأي الكاتب -، لأن الحرج عنده يرفع الحكم ويكون الترك بمقتضى كلامه عزيمة لا رخصة، وإلاّ جاء المحذور!!(14)

                الثاني(15): إن فقهاءنا مختلفون في أن المنفي بعمومات الحرج هل هو الحرج الشخصي أو النوعي الغالبي، ومختار المحققين منهم المحقق الأنصاري وصاحب المستند الأول، وهو الحق(16). ومقتضاه عدم ارتفاع الحكم إلا عمن يكون الحكم في حقه عسراً.

                ولا ريب في أن المشقة - إذا كانت حاصلة في تلك الشعائر المذهبية - ليست عامة لجميع الشيعة قطعاً، فلماذا تعد غير مشروعة أو غير مندوبة على الإطلاق بحجة ارتفاع حكمها للعسر؟ والعسر لا يقتضي ارتفاع الحكم عمّن لا عسر عليه.

                وإذا كان الضرب على الصدر باليد، أو على الظهر بسلسلة، عسراً على الكاتب، فليسقط عن نفسه وأمثاله، ولا ينبغي له أن يتعرض لحال غيره ممن لا عسر في حقه، أو كان يتحمل المشقة والعسر.

                وإذا تسنى بالوجوه الصحيحة لجماعة كثيرة من فقهائنا تقييد الشين(17) - الذي دلت الأخبار على جواز التيمم عند حدوثه من استعمال الماء(18) - بالفاحش(19) وآخرين بما لا يتحمل في العادة(20)، وثالث بالشديد الذي يعسر تحمله(21)، ورابع بما إذا غير الخلقة وشوهها(22) مع إطلاق الأدلة بالنسبة إلى جميع هذه التقييدات، فإن بإمكان كل أحد إنكار أن يكون شيء من الشعائر الحسينية - عدا إدماء الرأس - عسراً(23).

                الثالث: إن المعروف بين أصحابنا مشروعية العبادات الحرجية وصحتها، كالصوم الحرجي، والطهارة الحرجية من الوضوء والغسل للغايات الواجبة، والصلاة قائماً لمن كان القيام في حقه عسراً من جهة مرض أو غيره، وغير ذلك من الموارد، بل لا أعرف أحداً حكم بعدم مشروعيتها للحرج إلا (كاشف الغطاء) إذ قاسها على العبادات الضررية.

                وشتان بينهما، فإن الضرر ببعض مراتبه ينتفي معه جواز الفعل(24)، وليس كذلك الحرج بأي مرتبة منه باعتراف هذا الرجل. وإلاّ بعض(25) مشايخنا، لكن في ماله بدلٌ اضطراري كالوضوء(26)، لا مطلقاً.

                وقد اختلفت كلمة الأصوليين منّا في وجه ذلك(27)، ولسنا بصدد بيانه.

                وعلى هذا لو توضّأ من يكون الوضوء عليه عسراً بقصد رجحانه الذاتي، يرتفع حدثه ويسقط عنه وجوب التيمم، لارتفاع موضوعه وكذا من يكون الصوم في حقه حرجياً مع عدم تضرره به، أو تحمّل العسر وصام بلحاظ حسنه ورجحانه ذاتاً، كان صومه جائزاً ومسقطاً للقضاء.

                فلماذا يا ترى كانت الشعائر الحسينية إذا فرض رجحانها لذاتها، أو بعنوان كونها من الإبكاء وإظهار الحزن والجزع على سيد الشهداء(28)، غير مشروعة، أو غير محكومة بالاستحباب لمجر دعوى كونها متعسرة، ذلك الأمر الذي يشاركها فيها سائر المتعسّرات؟؟

                وهلاّ وسع الضرب على الصدر ما وسع غيره من المستحبات والواجبات الشاقة التي أفتي الأصحاب بشرعيتها مع المشقّة وحصول الثواب عليها. وهاهو الكاتب في ص 2 يقول في شأن الشعائر الحسينية: (دخلت فيها المنكرات لإفسادها وإبطال منافعها).

                في ختام هذا الفصل يجب الالتفات لدقيقتين:


                العسر والحرج في الأدلة الخاصة حكمة لا علة:

                الدقيقة الأولى: إن كلام أصحابنا في نفي الحرج مختص بما إذا كان الحرج علة لرفع الحكم أو عدم جعله ابتداءً، أما إذا استند رفعه إلى دليل خاص، وإن لوحظ فيه الحرج حكمة، فليس ذلك من محل كلامهم في رفع الحكم بأدلة الحرج. ولذلك ترى الفقهاء يحكمون بجواز التيمم عند حصول الشين أو تشقق الجلد وخشونته، ولا يحكمون به في ما هو أشد من ذلك تعسّراً، كالوضوء والغسل - مثلاً - في البرد الشديد، والصلاة في حر الظهيرة إذا لم يجد الظل، والصوم في شدة الحر وطول النهار، وسفر الحج للبعيد في الأهوية غير المعتدلة وغير ذلك، وما هذا الفرق إلاّ لأن ارتفاع وجوب الوضوء في الموارد السالفة لدليلها المختص بها، وكون الحكمة فيها هي التخفيف لا يقضي بالتسري إلى غيرها، لأن الحكمة لا يلزم اطّرادها.

                ومن سبر مواضع وقوع تلك الموارد في رسالة الفقيه الشامي، يجده يهوّل بارتفاع الحكم في موردين أو ثلاثة(29) - لا أزيد من ذلك - بكون الفعل فيها أقل مشقة من لدم الصدور بالأيدي وضرب الظهور بالسلاسل، وانه إذا كان الحكم مرتفعاً في الأهون الأخف، كان ارتفاعه في الأصعب الأشق أولى!!

                وقد فاته أن يعلم أن ارتفاع الحكم في ما ذكره من الفروع إنما هو لدليله المختص به، والحرج فيه حكمة، لا علّة، فكيف يصح التهويل به وقياس غيره عليه لولا عدم التمييز بين الموردين؟

                وإذا كان ذكر موضعين أو ثلاثة من ذلك القبيل، فإن الشهيد الأول - في (القواعد) ذكر نيفاً وستين فرعاً جميعها مما بني على التخفيف، ولو حظ الحرج فيها حكمة، لا علة(30)، ولذلك لم يعتبر اطرادها، بل يؤخذ بالإطلاق في موارد كل منها، ولا يجوز في قواعد الفن وأصوله الأخذ بالفحوى والأولوية في غيرها.


                القاعدة عند الشد في تحقق العسر والحرج:

                الدقيقة الثانية: أن الأصوليين منا ذكروا أنه إذا تحقق في فعلٍ مقدارٌ من المشقة ومرتبة من الشدة فلا يعلم صدق مفهوم لفظ (العسر) عليها بحسب الحقيقة العرفية من حيث غموض معناه وكثرة مراتبه ضعفاً وقوة، كان المرجع في المصاديق المشكوكة إلى العمومات المثبتة للتكاليف(31).

                ولا وجه للتمسّك على رفع الحكم فيها أو عدم جعله ابتداءً بعمومات نفي العسر والحرج أصلاً(32)، ومقتضى ذلك جواز الإتيان بكل مشكوك الحرجية ورجحانه إذا كان أمراً عبادياً.

                وقد يكون صاحب الرسالة يعتقد بأن الحرج في لدم الصدور وضرب الظهور قد بلغ في المشقة حداً يقطع معه بتحقق العسر فيهما والحرج لكل أحد، وأنه لا شك عنده في ذلك، وإلا انقلب الأمر عليه. واليقين حالة قهرية ينبغي أن نساهله فيها من حيث نفسه، ولكن اعتقاده بتحقق الموضوع لا يكون حجة على الشاك فيه، أو المعتقد خلافه، حتى لو كان عامياً يرجع في الأحكام إليه، لأن أمثال هذه الموضوعات لا تقليد فيها.

                وعلى هذا كان اللازم عليه عندما يطرق هذا الموضوع أن لا يتعرض للمسألة بنحو كلي، بل يخص كلامه بمن عرف معنى العسر، واعتقد تحققه في تلك الشعائر الحسينية، ومع ذلك عليه أن يعرفه بأن فعله يكون مباحاً، لأن المرفوع بأدلة الحرج استحبابه فقط.



                1- أي الثالث من المنكرات التي ادعى السيد محسن الأمين دخولها في الشعائر الحسينية. م

                2- لا يخفى أن هذا الكلام عار عن الصحة تماماً، وقد كانت دعوى مرض المطبّر وموته منذ أمد بعيد أكثر ما يرد في غوغائيات القشريين المشهّرين بالشعائر الحسينية عموماً وبالتطبير خصوصاً. قال كاشف الغطاء في (المواكب الحسينية): قد بلغنا من العمر ما يناهز الستين، وفي كل سنة تقام نصب أعيننا تلك المحاشد الدموية، وما رأينا شخصاً مات أو تضرر، ولا سمعنا به في الغابرين. وقال الشيرازي في (الشعائر الحسينية): لئن سقط أحدهم - أي: أحد المطبّرين - حين الضرب، لكثرة نزف الدماء وتغلّب الضعف عليه، فسرعان ما ينهض ويواصل دوره في موكب التطبير وبقية المواكب، وإنني شخصياً لم أسمع برجل سقط فمات إلاّ وتتبعته، فإذا به يمشي في الشوارع، ويلعن أعداءه الذين أشاعوا موته كذباً. م

                3- دعوى وقوع الإغماء والمرض والموت وبطء البُرء فرية بلا مرية. نعم قد يتحقق نزف الدم بلا ضرر، ولكن نزف الدم نفسه عند الكاتب ضرر!!

                4- هذا اللفظ ما أظن وروده في حديث. والذي ذكره العلامة بحر العلوم والفاضل النراقي والمحقق الآشتياني هكذا: (بعثت بالحنيفية السهلة السمحة) [وهو مذكور في وسائل الشيعة 5/246]، وفي قواعد شيخنا الشهيد تقديم لفظة السمحة على السهلة. وأظن الكاتب نقله بالمعنى.

                5- سورة الحج آية 78. م

                6- هذا إشارة إلى وجود التكاليف الشاقّة في الشريعة، كالجهاد، والحج في حق البعيد، وتمكين النفس من الحدود والقصاص والتعزيرات، ومجاهدة النفس بترك الأخلاق الرديئة المرتكزة فيها، والصبر على المصائب والبلايا العظيمة، ونذر الأمور المتعسّرة كالمشي إلى بيت الله الحرام، وصوم الدهر عدا العيدين، وإحياء الليالي - على ما عليه جماعة من انعقاده-، والحج متسعكاً لمن زالت استطاعته بالتقصير بعد استقراره عليه، وغير ذلك.

                7- وسائل الشيعة 5/246. م

                8- منها ما في صفحة 20 من عدم وجوب الوضوء عند خشونة الجلد وتشققه من استعمال الماء، ومنها في صفحة 17 من الحكم بسقوط المباشرة عمن يعسر عليه الركوب للحج، وعدم وجوب الغسل على من يؤذيه استعمال الماء.

                9- سورة الحج آية 78. م

                10- سورة البقرة آية 185. م

                11- هذا الوجه ذكره في الفصول.

                12- هذا الوجه ذكره المحقق الآشتياني. وربما يدعى رجوعه على سابقه، ولكن لا يخفى أن الفرق بينهما هو أن الملحوظ في الأول دعوى انتفاء الحرج موضوعاً مع الترخيص في الترك. وفي الثاني لم يلحظ إلاّ مفاد الأدلة وما يستظهر منها مع الغض عن تحقّق الحرج أو انتفائه مع الترخيص في الترك.

                13- قد يحصل العسر في بعض المندوبات من نفس كثرتها، كالأعمال المندوبة في ليلة القدر التي لا تفي بها أطول ليلة، النصف من شعبان، وما بين الزوال وغروب الشمس يوم عرفة، وفي اليوم الخامس عشر من شهر رجب، وغير ذلك. ولا ريب أن نفس تكثر المندوبات وصعوبتها نوعاً دليل اختصاص القاعدة بغيرها، وكذا المكروهات. ومن هنا استشكل في استحباب الجميع، حيث انه موجب للاختلال، بل الجمع بين المستحبات الواقعة في الشريعة بحسب أجزاء الزمان مما لا يقدر عليه، ولذلك قيل بأنه من باب التزاحم، فيقدم أهمها، أو التخيير مطلقاً.

                14- لأن الحرج عنده لا يتأتى من قبل الحكم، وإلا يسقط كلامه من رأس بل كون الفعل حرجياً يقتضي عدم جعل الحكم له، والفعل حرجي دائماً مهما كان حكمه، فلا يكون جائزاً أبداً، وإلاّ إذا تغيّر تغيّراً تكوينياً بانقلاب حقيقته إلى فعل آخر غير حرجي.

                15- أي: الثاني من أهم الوجوه التي ترد على الكاتب أن أراد أنه لا حكم مجعول في الشريعة لبعض الشعائر الذي فيه عسر، أو أن حكمها مرفوع بسبب العسر. م

                16- لأن ظاهر خطابات أدلة الحرج تعلقها بكل مكلّف، لا بالمجموع، كقوله تعالى: (كتب عليكم الصيام)، ولأن رفع الحكم الحرجي للامتنان بلا شبهة، ولا يناسب ذلك رفعه عمن لا يكون الحكم في حقه حرجياً.

                17- الشين: ما يعلو البشرة من الخشونة المشوهة للخلقة، أو الموجبة لتشقق الجلد وخروج الدم. م

                18- وسائل الشيعة 2/967- 969، م

                19- منهم العلامة في المنتهى [1/135]، والمحقق والشهيد الثانيان في جامع المقاصد [1/472] والروضة [1/153]، وكاشف اللثام [لم أجده].

                20- حكى عنهم ذلك صاحب الجواهر [الجواهر 5/103-104].

                21- هو صاحب الجواهر نفسه 5/106.

                22- هو الفاضل السبزواري في الكفاية [كفاية الأحكام /8].

                23- أي: الثالث من أهم الوجوه التي ترد على الكاتب إن أراد أنه لا حكم مجعولاً في الشريعة لبعض الشعائر الذي فيه العسر، أو أن حكمها مرفوع بسبب العسر. م

                24- هذه المراتب هي: الموت، قطع عضو من أعضاء الجسم كاليد والرجل، ألم شديد طويل المدة الذي لا يتحمل عادةً، فإذا استلزم فعل أحد هذه الأمور الثلاثة، فهو موجب لرفع التكليف وحرمة الفعل. ولا يخفى أن القيام بالشعائر الحسينية وبالخصوص التطبير والضرب بالسلاسل على الظهر لا يوجب أحد هذه الأمور الثلاثة يقيناً. م

                25- هذا عطف على قوله: (إلا كاشف الغطاء). م

                26- وإلاّ لزم تساوي البدل الاضطراري ومبدله في الرتبة، وذلك خلاف ما يستفاد من أدلة البدلية الاضطرارية، وهذا من الشواهد عند هذا القائل على ارتفاع الحكم عند الحرج ملاكاً وخطاباً في ذلك المورد، لا الإلزام به فقط.

                27- الذي استقر عليه الرأي الأخير لهم هو أن المرفوع بأدلة الحرج - حسب ما يستفاد منها ومن الخارج - هو الإلزام بالفعل رعاية لعنوان التسهيل الذي هو أهم بنظر الشرع من بقاء الفعل على ما هو عليه من رجحانه وحسنه الذاتي. وهذا المقدار من الرجحان الذاتي يكفي في صحة الفعل العبادي إذا أتى به المكلّف لداعي كونه كذلك عند المولى، ولا تتوقف صحته عند المحققين على أزيد من ذلك، ولذلك حكموا بصحة العبادة في موارد خالية عن الطلب في بعض الفروض.

                28- حيث وردت أدلة خاصة على استحباب هذه الأمور. م

                29- مذكورة في ص 20 من الرسالة، وهي خوف المكلّف حصول الخشونة في جلده وتشققه من استعمال الماء في الوضوء، وفي ص 17 من سقوط مباشرة الحج عمن يعسر عليه الركوب.

                30- القواعد 1/127-132. م

                31- لأنها مخصصة بمنفصل مجمل مفهوماً، مردد بين قلة الخارج وكثرته، والمتعين في ذلك - على ما برهن عليه - الرجوع إلى العمومات المثبتة في غير المتيقن خروجه منها، لا إلى أصالة البراءة.

                32- إلاّ على المذهب المتروك عند المحققين من التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية.




                يتبع............

                تعليق


                • #68
                  والقول على هذا باتفاقية ترتبه لا يكاد يتعقل له محصل إلاّ إذا كان واقعاً من غير مدرك.
                  وثالثاً:الباب الرابع: الإيذاء والإضرار بالتطبير والضرب بالسلاسل و...
                  الفصل الأول: دليل حرمة الإيذاء والإضرار
                  الإيذاء والإضرار:
                  يوجد في كلمات شيخنا الشهيد أن الإنسان منهي عن جرح نفسه وإتلافها(1)، والظاهر أنه يريد بالجرح ما يوجب الضرر بحدوث مرض لا يتحمل عادة أو بطؤ برئه، ومع ذلك لا دليل من العقل والنقل على حرمة ذلك ما لم يؤدّ إلى إتلاف النفس.
                  وقد جوّز أصحابنا أن يختن الخنثى المشكل اعتماداً على أصالة البراءة، مع كون ذلك إيلاماً وإيذاءً وجرحاً يبقى ألمه أياماً، وربما يوجب مرضاً. ولم أعثر على قائل معلوم صرح بحرمته، وإنما اختلفوا في وجوبه، والمعروف بينهم - وهو الذي تقتضيه القواعد - العدم. نعم نسب الشهيد التحريم إلى القيل(2) ولعل القائل ليس منّا. وهو مع ذلك لا وجه له حتى على ما يقوله بعض العظماء(3) من حرمة الإضرار بالنفس عقلاً ونقلاً، لعدم كون ذلك إضراراً.
                  والفرق جلي بين الإضرار والإيذاء المؤقت، نظير وشم الأيدي وغيرها من الأعضاء، المتعارف قديماً وحديثاً، والأدلة ناصّة على حرمة إيذاء الغير وإضراره، والمطلق الشامل بذاته منها للنفس - لو كان -، هو منصرف إلى ذلك.
                  وربما كان في وجوب الختان على المسلم، ولو طعن في السن(4)، واستحباب ثقب أذني الغلام الذي اتفق عليه النص والفتوى(5)، وثقب آذان النساء وأنوفهن لتعليق الأقراط(6) والشّنوف(7) والخزائم(8) والوشم لهن على القول المعروف بجوازه على كراهية، وغير ذلك مما ستعرفه، دلالةٌ على شرعية الإيذاء والإضرار في الجملة.
                  لم يقع في الكتاب والسنة لفظ إيذاء النفس وإضرارها وما يؤدي معنى ذلك، موضوعاً لحكمٍ مّا حتى يصح لأحد أن يجاهر بدعوى دلالة النقل، فضلاً عن حكم العقل الذي لا يستبهم أمره على العقول.
                  وكل من رمز إلى دلالة الأدلة العقلية والنقلية على حرمة إيذاء النفس وإضرارها، لم يحل تلك الرموز حلاً تفصيلياً ولا إجمالياً.
                  ومن فحص الأدلة الشرعية لا يجد سوى ما تضمن حرمة إيذاء الغير وإضراره نصاً أو انصرافاً، ومن أمعن النظر في أحكام العقول لا يجد فيها سوى قبح ظلم النفس، وهو لو صلح دليلاً على الحرمة الشرعية، لا يعم - بلا شبهة - كل ما ينزله الإنسان بنفسه من أنواع الأذى والإضرار، ما لم يكن إتلافاً لها أو موجباً لفقد طرف أو حاسة، على إشكال في هذا لولا الاتفاق المدعى على تحريمه.
                  وأنا في هذه النبذة التي لابد من تحريرها، أفصّل حكم العقل عن النقل، وأفصّل الكلام في ما يقضي به كل منهما.
                  الدليل العقلي على حرمة الإيذاء:
                  إن جعل العقل شارعَ إيجابٍ وتحريم، إنزالٌ له في أرفع من منزله، بداهة أنه يحكم على الأشياء تبعاً لما يدرك فيها من حسن أو قبح لذاتها، أو لما يطرأ عليها من العناوين المحسنة والمقبحة بمدح فاعلها، أو ذمّة، ولا يحكم البتة بأن حكمها الوجوب أو الحرمة عنده ولا عند الشرع، بمعنى استحقاق فاعلها أو تاركها الجزاء الأخروي، إلا إذا كان مدركاً واجدية الشيء لملاك التحريم شرعاً، بمعنى كونه على الصفة التي تكون علة تامة لحكم الشرع عليه بالحرمة.
                  ولكن هذا بابٌ منسدٌّ غالباً، بل دائماً في وجه العقل، لأن دعوى إدراكه ذلك في قوة دعوى إدراكه حكم الله تعالى.
                  أما حكمه الايجابي أو التحريمي - لا بالمعنى المذكور، بل - بمعنى إلزامه بفعل شيء أو تركه لملاكات شتى(9)، لا يعلم بثبوت الملازمة بينها وبين حكم الشرع بالوجوب والتحريم المصطلحين، ككون الشيء ملائماً للطبع أو منافراً له، فذلك مما لا ريب فيه، لكنه لا يجدي شيئاً في ما يحاوله مدعي حرمة الإيذاء والإضرار عقلاً، لأن حقيقة هذا المعنى المسمى (حكماً عقلياً) لا يزيد على مجرد إدراك العقل حسن الشيء أو قبحه، بمعنى كونه على الصفة التي لو خلت عن الموانع والمزاحمات واقعاً، لجهة حسنه أو قبحه المدركين عقلاً، لكان واجباً أو حراماً شرعاً.
                  وهذا المعنى من حكم العقل قاصر عن إثبات الحرمة المصطلحة، إذاً فما معنى حرمة الإضرار عقلاً؟ وما هو الملاك لحكم العقل بحرمته؟
                  إن العقل لا يحكم على الأشياء بعناوينها العارضة عليها حكماً جزافياً، بل لابد له في حكمه من ملاك يتبعه، وإذا كان هو لا يدرك في مطلق ما يؤذي النفس واجديته لملاك التحريم شرعاً، وكان نفس كونه منافراً للطبع أو مؤذياً أو مضراً، لا يستتبع حرمته عقلاً ولا شرعاً بمعنى استحقاق العقاب عليه(10)، فما هو الملاك لحكمه على عنوان المضر للنفس بلزوم تركه حتى لو بلغ الضرر إلى درجة هلاك النفس، فضلاً عما دونه؟(11)
                  أجل! إن دفع الضرر عن النفس أمر جبلي فطري، وليس بحكم عقلي يتبع ملاكاً يخصه أو يعمه تبعية المعلول لعلته، ولذلك يشترك فيه الإنسان العاقل وسائر الحيوانات العجم، فإنها بما أودع في طباعها بأصل الخلقة، تتحرز عن مظان الوقوع في الضرر، وهذا هو الضرر المقطوع أو المظنون مما لا تعتري العقول فيه شبهة.
                  لا ضرر في التطبير:
                  وعلى كل حال فإن إدماء الرأس بمجرده ليس ضرراً ولا مما يقطع أو يظن بكونه ضرراً. نعم لا ريب في كونه إيذاءً للنفس وإيلاماً، والإيذاء غير الضرر.
                  وربما يدعى أنه لا فطرة ولا جبلة تقضي بالفرار إلا عن الضرر، أعني الموجب لخطر الهلاك، لا عن مطلق إيذاء النفس وإيلامها(12).
                  ولو فرض تساويهما في لزوم الدفع بالفطرة، لم يجد ذلك في دعوى حكم العقل المزعوم، لأن النفرة عن شيء بالطبع، غير حكم العقل بلزوم الفرار عنه، وآية ذلك أنك تجد الإنسان عند تسليم نفسه للفصد، أو الحجامة، أو لعملية جراحية، يرضى بذلك، ويريده بعقله، ولكنه كاره له بطبعه حينما هو راض به، فهو يفضل الحكم العقلي ترجيحاً للمنفعة على الدافع الجبلي.
                  وأخرى أن العقلاء مع فطرتهم وجبلتهم يقتحمون موارد الضرر المقطوع - فضلاً عن المظنون والمحتمل - لأغراض لهم لا تقع تحت الحصر، ومع ذلك لا يرون في تجاوزهم حد الفطرة والجبلة قبحاً عقلاً، ولا مراغمة إلا لحكم الفطرة الذي يكون مغلوباً كثيراً لحكم العقل. كما أنهم في بعض الموارد يحجمون عن الاقتحام في الضرر المحتمل، فضلاً عن المظنون والمقطوع، حسبما يتجلى لهم أهمية أحد الأمرين: السلامة والخطر(13).
                  ومعلوم أن مخالفة الأمر الجبلي بما هو أمر يندفع إليه أو عنه الإنسان بطبعه، لا تستدعي حرمة شرعية ولا عقاباً أخروياً.
                  وبلحاظ الأهمية التي أشرنا إليها تقدم النساء على الوشم المتعارف، وعلى قلع الأسنان الخلفية، ويقتحم الرجال خطر المهالك في المفاوز وغمرات البحار للتجارة إزاء منافع دنيوية ينالونها، ويرتكبون المحن المجهدة الشاقة والمضرة بالبدن.
                  ولعله بلحاظ هذه الأهمية أفتى الشهيدين في (القواعد) و(تمهيدها) بجواز أن يسلّم الإنسان نفسه للقتل إذا أُجبر على إظهار كلمة الكفر، كما يدل على ذلك تعليلهما بأن في القتل إعزازاً للإسلام وتثبيت عقائد العوام(14). مع أن إظهار كلمة الكفر جائز إجماعاً ونصّاً كتاباً وسنّة، إن لم يكن واجباً حفظاً للنفس. وما ذلك إلاّ لأهمّية إظهار عزّ الإسلام وتثبيت عقائد العوام على السلامة عن أعظم الأضرار والآلام.
                  وإذا كان المحسوس لعرفاء الجعفرية أن إعزاز طريقتهم وتثبيت عقائد عوامهم بسمو مراتب أئمتهم، واجتماع كلمتهم، وتميّزهم عن سائر الشّيع، وظهورهم للملأ بمظهر أكبر الفرق، يكون بإشهار مصيبة الحسين (عليه السلام) بمظاهرها المتنوعة التي منها تمثيله (عليه السلام) وأصحابه مثخنين بالجراح، وقد سالت دماؤهم على ثيابهم المتخذة أكفاناً لهم، فلماذا ينكر عليهم إذا فضلّوا ذلك بما فيه من تعب وألم على الراحة والدعة، وهم على كل حال ناجون من الخطر، واثقون بالسلامة؟
                  لماذا ينكر عليهم إذا وقفوا يمثّلون إمامهم مفادياً بروحه العزيزة في سبيل نصرة الدين - على قلّة الناصر، ووفور العدو عدّة وعدداً -، يرون الناس وكأنهم يخاطبونهم - بلسان الحال - بأنّ رجلاً تكون هذه حاله في المفاداة مع كونه أقرب الناس إلى الرسول والبقية من أهل البيت الطاهرين، هو الذي ينبغي أن يكون إمام الحق، وهو الذي يلزم اتّباعه والإقتداء بأفعاله البارة، دون سائر المنتحلين اسم الزعامة الدينية في الإسلام.
                  الدليل النقلي على حرمة الإضرار:
                  ظن شيخنا الأعظم في (رسالة الظن) دلالة بعض الآيات(15) على حرمة تعريض النفس للمهالك والمضار الدنيوية والأخروية المظنونة.
                  وهي على تقدير دلالتا على حكم التعريض المذكور، لا تدل إلاّ على الطلب الإرشادي، لا التحريم الشرعي(16)، وأكثرها يدل على الإيعاد على ترتب لوازم مخالفة الشارع.
                  أما الكاتب فإنه لم يذكر من الأدلة النقلية سوى أدلة نفي الحرج، كما في ص 3، وهذه لو تمت دلالتها لا تقتضي على مذهبه - المصرح به في ص 17 و18 و 20(17) إلا رفع الحكم في مورد تحقق الحرج، فأين ما يدل على ارتفاع الحكم عند الضرر، فضلاً عما يدل على ثبوت الحرمة؟
                  ولو أنه ادعى رفع الحكم عند حصول الضرر بالفحوى، بقي ما يدعيه من ثبوت الحرمة بغير دليل، لأن أدلة نفي الحرج لا تفي بذلك قطعاً باعترافه - في المواضع المشار إليها -.
                  أما إذا تمسّك بما دل على سهولة الشريعة وسماحتها وعدم جعل الحكم الحرجي فيها بأصل التشريع، لو تم ذلك(18) من حيث دلالته بالفحوى على عدم جعل الحكم الضرري كذلك، كان:
                  أولاً: محجوجاً بمثل الجهاد والختان وغيرهما، فإن الحكم الإيجابي متعلق بهما في أصل التشريع مع كونهما مضرين، وتخصيص مثل قاعدة الحرج المفروض استفادة حكم الضرر منها، مع سوقها مساق الامتنان، في غاية البعد.
                  ولو أنه تخلص عن النقض بالجهاد - بما لا حاجة إلى ذكره الآن - فلا مخلّص له في مسألة الختان، وثقب الآذان والأنوف، والوشم، وخصوص ختان الخنثى المشكل إلاّ الالتزام بمشروعية المؤذي في الجملة. هذا مضافاً إلى ما سيمرّ عليك مفصلاً من الإيذاءات الاختيارية الواقعة من الأئمة (عليهم السلام) لأنفسهم في العبادات وغيرها(19).
                  وثانياً: أن مقتضى تلك الأدلة أن الله تعالى لم يجعل في أصل التشريع حكماً ضررياً، بمعنى أنه لم يشرع حكماً يأتي من قبله الضرر.
                  والحكم الإستحبابي مهما كان متعلقه مضراً بذاته كالقتل، فضلاً عن إدماء الرأس، ليس بحكم ضرري، إذ المراد بالضرري ما يجيء الضرر من قبله، ويكون هو الموقع للإنسان في الضرر، والحكم إنما يكون كذلك إذا كان إلزامياً، غير مرخّص بتركه، كما سيأتي تفصيل ذلك في قاعدة الضرر.
                  وقول الكاتب - في مواضع من رسالته -: (الجرح ضرر، وإدماء الرأس ضرر) من التمويهات والأوهام. نعم هو ضرر، أي: أمر هو بذاته مضر، ولكن ماذا يترتب على كونه ضرراً بالمعنى المذكور إذا كان الشرع لم يرفع الضرر رفعاً تكوينياً، ولا نهى أن يضر أحد نفسه بالفرض، وإنما نفى - بفحوى أدلة الحرج، أو بقاعدة الضرر الآتية - أن يجيء من قبله الضرر المنحصر ذلك في كون حكمه الذي بيده رفعه ووضعه ضررياً، ولا ريب أن كونه كذلك إنما يتحقق إذا كان حكمه إلزامياً، سواء كان موضوعه مضراً بذاته أم لا، ولا أثر للمضرية الذاتية للشيء بمجردها إذا كان حكمه مرخصاً في تركه.
                  حرمة المؤمن عند الله:
                  قد يتوهم متوهم أن ما دل على عدم جواز إيذاء الغير وإضراره لاحترامه عند الله تعالى يدل على عدم جواز إيذائه لنفسه وإيلامها، لأنه كغيره في الاحترام، وليس احترامه لنفسه موكولاً إليه وداخلاً تحت اختياره حتى يكون له إسقاطه.
                  وهذا من المغالطات، لأن احترام المؤمن بعدم إيذائه قد أوجبه الله إذ أمر به. أما احترامه لنفسه بمعنى عدم إدخال الأذى عليها، فلم يوجد في الأدلة ما يقضي بلزومه. ولا ملازمة بين لزوم احترام الناس له وبين لزوم احترامه لنفسه(20). وغاية ما يوجد في الأدلة الشرعية أنه لا يظلم نفسه، ولا يلقي نفسه وفي التهلكة، أي لا يتلفها ولا يعرضها لخطر الهلاك، وأين هذا من مسألة إيذاء النفس المدعى حرمته مطلقاً؟
                  وأما قضية دخول احترام الإنسان لنفسه تحت اختياره، فهي إثباتاً ونفياً تتوقّف على البرهان، ولا برهان على النفي إلاّ الدعوى نفسها. وأما الإثبات فيكفيه - مع قطع النظر عن كل شيء - أصالة الجواز والإباحة(21).
                  الفصل الثاني: قاعدة نفي الضرر وحكم التطبير والضرب بالسلاسل
                  مدلول قاعدة نفي الضرر:
                  قد تبلغ الفقاهة (!!) بأحد إلى حد الاستدلال على حرمة إيذاء النفس وإضرارها بقاعدة نفي الضرر(22) المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله): (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(23).
                  وهذا الاستدلال مردود بوجوه:
                  الأول: أن القاعدة المذكورة - على ما استظهره المحققون من أدلتها على اختلاف تعبيراتهم - إنما تنفي ما يوجب الضرر من الأحكام، بمعنى أن ما يكون منها ضرراً على أحد من الله أو من العباد، منفي شرعاً وغير مجعول لله ولا ممضي عنده في أصل التشريع وبعده. وهذا - كما ترى - لا يقتضي إلا عدم جعل الأحكام الضررية ورفع الحكم المجعول إذا لزم منه الضرر. وأين ذلك من ثبوت الحرمة في مورد الضرر كما يدعيه المدعي؟؟
                  نعم لو حمل لفظ (لا) في قوله (لا ضرر) على نفي الحقيقة ادعاءً، بلحاظ نفي الحكم الثابت أو المناسب للضرر المنفي - كما يذهب إليه شيخنا المحقق صاحب الكفاية(24) - كان اللازم الحكم بعدم جواز إدماء الرأس حيث يكون ضرراً، لا مطلقاً. وهذا أخص من المدعى إن تم مبناه.
                  لكن إدماء الرأس لما كان نفسه ضرراً عند الكاتب(25)، يلزمه - بمقتضى زعمه - عدم صحة الاستدلال بالقاعدة على حرمته(26)، لخروجه عنها موضوعاً، ضرورة أن الحكم المنفي بنفي الضرر - على هذا الرأي - لا يعم الثابت للأفعال بما هي أمور ضررية، كالجهاد والزكاة، فضلاً عن نفس الضرر، لأن كون الشيء ضررياً أو ضرراً علة لنفي الحكم بالفرض، ولا يعقل أن يكون الموضوع في ظرف تحققه مانعاً عن ثبوت حكمه، على أن الحكم المناسب أو المتوهم لنفس الضرر هو الحرمة، ونفيها بالقاعدة ينتج ضد المدعى.
                  وليست القاعدة بمثبتة لحكم ما، وإنما هي من القواعد النافية للأحكام على جميع الآراء، غاية الأمر نفيها يلزمه الحكم بالحرمة في بعض الفروض، لا أن الحرمة هي مؤدّى نفس القاعدة.
                  نعم، لو حمل لفظ (لا) على النهي - كما تفرّد به البدخشي، وتبعه شاذ منّا(27) - لكان لما ذكر من التحريم وجه، لكن حمل (لا) على النهي غير وجيه، لوجوه مبينة في غير هذا الموضع.
                  الثاني: أن القاعدة - على المذهب المشهور - في مدلولها (وهو الذي يلوح من الكاتب اختياره)(28) مختصة بالإلزاميات، ولا تشمل المباحات والمندوبات، لما فصلناه آنفاً من أن رفع الحكم الذي يتأتّى من قبله الضرر للامتنان، ولا منّة في رفع المندوبات، ومن ارتفاع الضرر موضوعاً مع الترخيص في الترك، كما يصرّح بذلك شيخنا المرتضى في (رسالة الضرر)، إذ يقول: (إن إباحة الضرر، بل طلبه استحباباً، ليس حكماً ضررياً، ولا يلزم من جعله ضرر على المكلفين، ليكون مرفوعاً بالقاعدة)(29). ومن(30) أن الظاهر من أدلة القاعدة عدم كون جعل الشارع سبباً قريباً لإلقاء المكلّف في الضرر، وهو إنما يكون سبباً كذلك إذا كان حكمه إلزامياً، لأن الإلقاء في الضرر لو كان الحكم غير إلزامي، يكون مستنداً إلى اختيار المكلّف، لا إلى جعل الشرع. ومن(31) وقوع المندوبات الضررية بكثرة فائقة في الشرع(32)، وذلك آية اختصاص القاعدة بغيرها.
                  وربما يزاد هنا وجه آخر، وهو أن كون عدم جعل الحكم الضرري - إحداثاً وإبقاءً - للامتنان، يقتضي جواز أن يؤذي الإنسان نفسه ويضرها بغير القتل، فإن منعه عن ذلك خلاف الامتنان، بخلاف إضرار الغير، فإن في رفعه كمال المنة بانتظام أمر النوع(33).
                  الثالث: أن مذهب أصحابنا كافة - كما يعلم من تتبع كلماتهم في الموارد المتفرقة - أن المرفوع بقاعدة الضرر في العبادات الضرر الشخصي، لا النوعي الغالبي(34)، بمعنى أن الحكم في مورده الخاص إذا لزم منه الضرر على شخص يرتفع عنه، دون كلّيه ودون كلي الأشخاص.
                  التطبير ليس مضراً:
                  ولا ريب أن إدماء الرأس ليس مضراً للكافة، فلماذا يكون محرماً على الإطلاق، بل اللازم - لو استفيد التحريم من القاعدة - أن يكون محرماً حيث يكون ضرراً، لا مطلقاً.
                  لكن الكاتب في ما أسلفنا نقله من رسالته يقول: (الجرح نفسه ضرر)، وهذا ليس من كلام الفقهاء، بل من كلام طبيب غير حاذق، فالحاذق يأبي له حذقه من الحكم على البت بأن الجرح ضرر، لأنه في واقع الأمر وبحكم الوجدان قد يكون ضرراً وقد لا يكون.
                  أن حصول الضرر بالجراح من العوارض الاتفاقية التي لا يمكن ضبطها، ولا يصلح للفقيه جعلها مناطاً للحكم وملاكاً لقاعدة مطردة في جميع الموارد الشخصية. وأخرى أن على الفقيه بيان الأحكام، وليس من شأنه تنقيح الموضوعات الصرفة الجزئية، فضلاً عن الحكم على جزئياتها غير المحصورة(35).
                  ثم إذا كان الجرح ضرراً - كما يقول - لا يتجه أصلاً إثبات حرمته إلاّ بدليل غير قاعدة الضرر، كنحو (لا تضروا أنفسكم أو لا تؤذوها) أما القاعدة فقد تقدم أن موردها لا يندرج فيه الحكم الثابت للموضوع الضرري على رأي شيخنا صاحب (الكفاية). وأما على المذهب فخروج ذلك أبين، لما مر من أن المدار في شمول القاعدة لشيء على كون الحكم المجعول شرعاً يلزم منه الضرر، لا كون الشيء مضراً بذاته، والحكم لا يكاد يكون كذلك إلاّ إذا كان إلزامياً، لأن المرخص في تركه مهما كان متعلقه مضراً، لا يكون ضرراً من قبل الشرع.
                  في ختام هذا الفصل يجب أيضاً الالتفات إلى دقيقتين:
                  الضررية لا توجب حرمة التطبير والضرب بالسلاسل:
                  الدقيقة الأولى: إن كثيراً من أصحابنا(36) صرحوا بصحة العبادات الضررية إذا كان الضرر غير مؤد إلى الموت أو سرعته أو إلى مرض يزمن مثلاً، وشبه ذلك من الأضرار التي يعلم من الخارج عدم جواز تحملها.
                  ولا يخفى أن البطلان في هذه الصورة يبتني على امتناع اجتماع الأمر والنهي وترجيح جانب النهي، لا على قاعدة الضرر، ولذا يختص البطلان بصورة العلم بالضرر - كما هو المقرر في تلك المسألة من اختصاص الحرمة والفساد بصورة العلم.
                  وأما صحتها في ما إذا لم يكن الضرر مؤدياً إلى مثل ذلك، وبعبارة أخرى: إذا كان الضرر مما علم من الخارج جواز تحمله، فلأن نفي الضرر لا يقتضي إلاّ رفع وجوب الشيء المضر، لأن الضرر يتأتى من قبله، لا من قبل شرعيته. ورفع الإلزام لا ينافي ثبوت المصلحة المقتضية للتكليف غير الإلزامي في مورده، وذلك كاف في عبادية الشيء وصحة التقرب به لله تعالى.
                  وسيأتي في خاتمة هذا الباب أن شيخنا المحقق الأنصاري يحكم بصحة جميع العبادات الضررية التي يعتقد المكلف عدم التضرر بها مع كونها مضرة في نفس الأمر وتبعه على ذلك المحقق الآشتياني في (رسالة الحرج)(37)، لكن في غير الضرر الذي كان تجويزه منافياً لحكم العقل.
                  وإذا صحّت العبادات المضرة واقعاً مطلقاً، أو على بعض الوجوه عند هؤلاء المحقّقين، وكانت راجحة عندهم ومقربة لله، فلماذا يكون مثل إدماء الرأس، وضرب الظهر بسلسلة، محرّماً أو غير مندوب لمجرد دعوى كونه ضررياً، وهو أمر يشاركه فيه سائر العبادات؟ فهلاً وسعه - عند الكاتب - ما وسع غيره من الضرريات عند المحققين إذ أفتوا بشرعيتها في الجملة مع الضرر.
                  مع أن دعوى كون شديد جرح الرأس المتعارف في العزاء الحسيني - فضلاً عن خفيفه - ضرراً، ممنوعة جداً. نعم هو إيذاء، والإيذاء غير الضرر، ولا دليل من عقل أو نقل على حرمته وفساد التعبّد به لأجل الضرر.
                  اعتبار خوف الضرر موضوعي:
                  الدقيقة الثانية: إن الكاتب في ص 17 من رسالته هوّل على قول القائل (لم يقم برهان على عدم جواز أن يكلّف الله بما فيه ضرر) بأنه (أين قول الفقهاء: دفع الضرر المظنون واجب؟ وأين اكتفاؤهم باحتمال الضرر الموجب لصدق خوف الضرر في إسقاط التكليف؟ وأين قولهم بوجوب...، وقولهم ببطلان...)؟ وذكر مواضع يفتي الفقهاء فيها ببطلان العبادة مع خوف الضرر(38).
                  وهذا من غرائب الفقه، فإن لأصحابنا في اعتبار ظن الضرر وخوفه في الموارد المعدودة وغيرها، مذاهب شتى تعرف من متفرقات كلماتهم في أبوابها. والكلام في حكم أنيط بالضرر، لا بظنه أو خوفه كما هو الشأن في موارد النقض المذكورة.
                  والظاهر أن اعتبار أكثرهم للظن والخوف في تلك الموارد من باب الموضوعية، ولذلك لم يختلفوا - على الظاهر - في أن سلوك الطريق المظنون الخطر يوجب إتمام الصلاة فيه، وإن انكشفت عدم الضرر. وقد حكي عن المحقق في (المعتبر) الحكم بعدم وجوب إعادة الصلاة بوضوء على من ظن مخوفاً يمنع من استعمال الماء، فتيمم وصلى، ثم بان فساد ظنه، وببطلان الغسل إذا ظن الضرر باستعمال الماء، فاغتسل ثم بان فساد ظنه.
                  وإذا كان ظن الضرر أو خوفه في تلك الموارد تمام الموضوع أو جزءه، سقط الاستدلال به، ولم يصح أن يجعل آلة تهويل على ما هو محل الكلام من إدماء الرأس بسيف - مثلاًً -، أو ضرب الظهر بسلسلة، إلاّ إذا كانا مظنوني الضرر أو مقطوعيه، وذلك أخص ممن يدعيه.
                  ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا باعتباره من باب الطريقية، نظراً إلى أن انسداد باب العلم بالضرر الواقعي يوجب إناطة الحكم بالظن به بلا مدخلية له في الموضوعية للحكم، فغاية ما يقتضي ذلك ثبوت الحرمة عند تحقق الضرر واقعاً، وإن لم يكن مظنوناًً، وهذا لا أثر له في ما يراد إثباته ونفيه في المقام، لأن الانسداد المذكور - ولو بنينا على طريقية الظن - يوجب تبعية الحكم الفعلي للقطع بالضرر اتفاقاً، أو ظنه. ولا ريب في أن بطلان العبادة بالنهي عنها يتبع النهي الفعلي المنجز، ولا أثر للحكم الواقعي إلا الإعادة أو القضاء عند انكشاف الحال، ولكن في دعوى القطع أو الظن بالضرر في مثل إدماء الرأس من المجازفة والمكابرة ما يشهد الوجدان بخلافه.
                  أما قول القائل (أين قول الفقهاء: دفع الضرر المظنون واجب؟ وأين اكتفاؤهم باحتمال الضرر)؟، فهو أشد غرابة ومجازفة، فإنا لم نجد أحداً من الفقهاء أفتى بوجوب الصوم وإتمام الصلاة في السفر المحتمل فيه الضرر، ولا سقوط وجوب الحج عمن يحتمل في سفره ذلك، ولا وجوب التيمم مع احتمال الضرر بالوضوء أو الغسل، إلى غير ذلك من موارد احتمال الضرر الدنيوي.
                  نعم قد علّق الحكم في بعض الموارد على خوف الضرر المساوق للظن به، وهو أن شمل الشك، كان حكماً تعبدياً في مورده، لا يصح النقض به، ولا يصلح لاستفادة قاعدة منه.
                  وقول العلماء بوجوب دفع الضرر المظنون، لعله يراد به الضرر الأخروي، وهو في موارد قيام الأمارات الشرعية في الموضوعات والأحكام مما لا ريب فيه. وفي غير تلك الموارد ملحق بالضرر المحتمل، وقد تطابق العقل والنقل على الاعتناء به في الشبه البدوية مطلقاً أو في الجملة.
                  أما الضرر الدنيوي مظنوناً أو محتملاً، فقد أسلفنا القول بأن دفعه أمر فطري جبلي، وليس بحكم عقلي ولا شرعي إلا ما كان منه نحو إلقاء النفس في مهلكة، أو موجباً لفقد طرف، أو حدوث مرض أو شبه ذلك، وذلك لخصوص ما علق فيه الحكم على خوف الضرر أو ظنه، على تفصيل سلف في صحة العبادة معه وعدمها(39).
                  إذاً فما هو موقع القول (وأين اكتفاؤهم باحتمال الضرر الموجب لصدق خوف الضرر في إسقاط التكليف)، فإنا لا نعرف فقيهاً ولا أصولياً اكتفى في الضرر الدنيوي بالاحتمال في سقوط تكليف ولا ثبوته، كيف والأضرار المحتملة في الأفعال نفساً ومالاً وبدناً مما لا تكاد تنتهي، ولا يمكن التحرز عنها، إذ ما من فعل إلاّ ويحتمل الضرر فيه من جهة أو جهات.
                  نعم ذكر متكلمونا ذلك في مقام الاستدلال على وجوب شكر المنعم، إذ قالوا: بأن في تركه احتمال المضرة، وجعلوا ثمرة وجوب دفعه استحقاق تارك الفحص عن صحة دعوى مدعي النبوة، العقاب. والاكتفاء به من خصوصيات ذلك المقام المعلوم مصادفة الاحتمال فيه للواقع، وذلك في الحقيقة دفع لأعظم الأضرار المقطوعة، لا المحتملة.
                  خلاصة القول في الإيذاء والضرر:
                  لنرجع إلى مسألة إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها، ونبحث عنهما من طريق آخر لا يعسر على العامة فهمه، يكون نصفاً بين الجميع، فنقول:
                  لا ريب في أن لإيذاء النفس وإدخال الضرر عليها مراتب، أعلاها ما ليس فوقه إلا إزهاق النفس وأدناها ما ليس تحته إلا العدم المحض، والمراتب المتوسطة بينهما كثيرة لا تقف على حد. وليس في الأدلة الشرعية ما يقضي بحرمة غير ما يكون إلقاء للنفس بالتهلكة، أو الجناية عليها بقطع عضو، أو حدوث مرض لا يتحمل في العادة، وشبه ذلك.
                  ولا نجد في أحكام العقول ما يوجب قبح غير ما يكون ظلماً للنفس، وليس جميع المراتب المتوسطة من الظلم القبيح إذا خلت عن الأعراض الأخروية باعتبار انطباق العناوين الراجحة عليها شرعاً، فكيف إذا انطبق عليها نحو عنوان الإبكاء، والحزن، والجزع لمصاب سيد الشهداء.
                  والحاصل أن الفعل الذي ينزله الفاعل بنفسه - ويسميه هذا الكاتب إيذاءً وإضراراً - إذا وقع لغرض عقلائي، ولو كان هو النفع الأخروي، لا يصدق عليه اسم الظلم قطعاً، وإلاّ كان عليه أن يلتزم بحرمة ارتكاب المهن المجهدة للنفس والبدن من حرفة أو صنعة(40). ومع عدم صدقه فأي دليل من العقل والنقل - كما يقول - على حرمته؟ بل أي دليل على الحرمة إذا تجرد عن كل غرض عقلائي؟ إذ غاية الأمر صيرورته حينئذ فعلاً عبثياً، ولا برهان من العقل والنقل يدل على أن كل فعل ليس للعقلاء فيه فائدة مقصودة معتد بها، قبيح عقلاً ومحرّم شرعاً، فإن العناوين القبيحة العقلية معلومة، وليس العبث منها، وموضوعات الأحكام التحريمية معروفة - حسب ما يستفاد من الأدلة الشرعية -، وليس هو أحدها.
                  لكنى لا أستبعد من بعض أهل الأذواق اللطيفة أن يقول حينئذ (هو فعل همجي وحشي جنوني) إلى غير ذلك من هذه الألفاظ ومن أمثالها.
                  ونحن نلقي إليه بكل صراحة هذا الجواب: أن هذه السفاسف الرائجة لا يعتني بها الفقهاء، إلا أن يقوم البرهان عندهم على حرمة عنوان (الوحشية) و(الهمجية)، وإن لم يكن فيه خروج عن الحدود الشرعية.
                  ومن هذا كله يحصل اليقين بالفرق بين الإيذاء والإضرار، وأن الإيذاء بجميع أنواعه لا دليل على حرمته، ومنه جرح الإنسان رأسه بسيف أو مدية، وضرب ظهره بسلسلة، ولدم صدره حتى يسود، وحتى يسيل منه الدم.
                  وأما الإضرار فما يكون منه ظلماً للنفس بإلقائها في مهلكة وتعريضها للأمراض، والآفات والعاهات، فلا ريب في قبحه عقلاً وحرمته شرعاً(41). وما لم يكن كذلك فلا دليل على حرمة المعلوم كونه ضرراً، فضلاً عما يشك في كونه مضراً(42).
                  الهوامش:
                  الفصل الثالث: نماذج من إيذاء أهل البيت أنفسهم في سبيل الله
                  تتميمات ملحقة بقاعدتي الحرج والضرر:
                  قد وقعت لصاحب الرسالة نوافذ كلمات في مسألتي العسر والضرر بزعم أنه يرد بها على معاصره في ركونه إليها وجعلها دليلاً على مشروعية الشعائر الحسينية المجهدة، ولما أنها ليست من الأمور العديمة الأثر في تأييد تلك الشعائر المقدسة، فإني أتعرض لها بصورة محاكمة بين الرجلين:
                  تورم قدم النبي (صلى الله عليه وآله) من القيام للعبادة:
                  سيماء الصلحاء: لو كان الشاق - وإن دخل تحت القدرة والطوق - غير مشروع، ما فعلته الأنبياء، ألم يقم النبي (صلى الله عليه وآله) للصلاة حتى تورّمت قدماه؟(43).
                  رسالة التنزيه: قيام النبي (صلى الله عليه وآله) للصلاة حتى تورمت قدماه إن صح، لابد وأن يكون من باب الاتفاق، أي ترتب الورم على القيام اتفاقاً، ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) يعلم بترتبه، وإلا لم يجز القيام المعلوم أو المظنون أنه يؤدي إلى ذلك، لأنه ضرر يرفع التكليف ويوجب حرمة الفعل المؤدي إليه(44) انتهى.
                  النقد النزيه: حديث قيام النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أن تورّمت قدماه رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام)(45)، ورواه الطبرسي في (الاحتجاج) عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام)(46)، ونقله في (البحار)(47) عن (الخرائج)(48).
                  ويشهد له بالصحة ما رواه الشيخ أبو جعفر الطوسي في أماليه عن أبي جعفر (عليه السلام) منقول السجاد (عليه السلام): (أن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه(49) وما تأخّر، فلم يدع الاجتهاد في العبادة حتى ورم الساق، وانتفخ القدم(50). وما رواه في (البحار) عن كتاب (فتح الأبواب) في الاستخارات - لابن طاووس - عن الزهري من قول السجاد أيضاً: (كان رسول الله يقف للصلاة حتى تورم قدماه، ويظمأ(51) حتى يعصب فوه(52))(53).
                  وأنا لا أشك أن الكاتب قد يثبت صحة الخبر رواية، فتترتب عليها آثار وقوع المخبر به واقعاً، ولكن لأمرٍ ما يقول (إن صح)(!!)
                  إن هذه الأخبار بظاهرها تدل على استدامته على طول القيام، ويلزم ذلك - عادة - العلم بحصول الورم، وكونه (صلى الله عليه وآله) عامداً على إجهاد نفسه في عبادة ربه.
                  ويؤيد هذا أن انتفاخ الساق وورم القدم لا يكون دفعياً، بل تدريجياً، والمواظبة على الأمر التدريجي الضرر، ومع ظهور مباديه، لا يكون إلا للإقدام عليه عمداً مع العلم به.
                  أن إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنفسه في العبادة لو كان اتفاقياً وهو غير عالم به، لم يكن وجه لمعاتبة الناس له بأنه قد غفر الله له، فلا حاجة له إلى إتعاب نفسه وإيذائها، ولا لجوابه (صلى الله عليه وآله) لهم بقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً) بل لا وجه للعتاب الإرفاقي المتوجه إليه من جانبه تعالى بقوله: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)(54)، أي: لتستمر في فعل ما يشق على النفس، لأن العتاب الإرفاقي لا يكون على أمر غير اختياري غير معلوم الوقوع عنده.
                  إن دعوى اتفاقية ترتب الورم على قيامه (صلى الله عليه وآله) من دون علمه به مما لا مجال لاحتمالها:
                  أولاً: لما روى في (الاحتجاج) و(الخرائج) عن علي (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه(55) وفي (مجمع البيان) روى أنه كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه، فأنزل الله (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، فوضعها(56). وفي (الحدائق) - في أول باب أعداد الصلوات -: روى أنه كان يقوم [في الصلاة] على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه إجهاداً لنفسه في العبادة، حتى عاتبه الله على ذلك عتاب رحمة، فقال: (طه ما أنزلنا عليك الرآن لتشقى)(57). الحديث(58). وفي (مصباح الشريعة): كان رسول الله يصلي حتى يتورم، ويقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً)؟ أراد أن تعتبر [به] أمته، فلا يغفلوا عن الاجتهاد والتعب والرياضة(59).
                  فإن هذه الأخبار صريحة الدلالة على مواظبته (صلى الله عليه وآله) على القيام المؤذي الموجب للورم، وأنه إنما يفعل ذلك قاصداً إتعاب نفسه وإيذائها في العبادة.
                  وثانياً: أن الورم من حيث هو ليس بضرر، وإنما الضرر هو الألم الحاصل عند حدوث الورم، ولازم كل عاقل شاعر أن يحسّ بالألم عند حدوثه، مهما كان ضعيفاً، فكيف بالألم الموجب للورم؟
                  إن الأخبار الواردة عن أئمة الهدى في تفسير قوله - تبارك وتعالى -: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول)(60) تدل على أن محمداً (صلى الله عليه وآله) ممن ارتضاه الله، وأنه انتهى إليه، ثم إليهم علم كل ما قدّره الله وقضاه(61). ولا شك أن من ذلك تورم قدميه، لفرض وقوعه بتقدير الله وقضائه. ولعمري لو أن أحداً قال بأنه (صلى الله عليه وآله) لم يعلم ذلك بعلم الله، لكان في علمه العادي - بالتقريبات التي أسلفناها - كفاية.
                  إن قيام رسول الله الذي تورمت قدماه به لو كان قياماً عادياً، لصح لقائل أن يقول فيه ما شاء، لكنه شاق بذاته، مؤذٍ في نفسه وإن قصر، لأن علي بن إبراهيم - في تفسيره - يروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه(62) كان يقوم على أصابع رجليه حتى تورم(63). وثقة الإسلام - في (الكافي) - يروي عنه (عليه السلام): أنه كان يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)(64). وعبد الله بن جعفر الحميري - في محكى (قرب إسناده) - يروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كان يقوم ويرفع إحدى رجليه، فأنزل الله عليه (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، فوضعها(65)،(66).
                  فبالله عليك ما هذا القيام الشاق الذي اختاره رسول الله - على ما يقول صاحب الجواهر - إلا لأنه أشق أفراد القيام وأحمزها. وهل يصح في ما إذا اختاره (صلى الله عليه وآله) وهو مؤذٍ في نفسه أن يقال: أنه لا يعلم بترتب الأذى عليه؟ كل ذلك للفرار من القول بجواز فعل المؤذي للنفس في الجملة.
                  أنا والله لا أريد تأييد القول بعلمه بذلك إلا لرفع الوصمة عنه (صلى الله عليه وآله) وحفظ عصمته عن الزلّة(67)، لأنّ ترتب الورم على قيامه إن كان اتفاقياً وهو لا يعلم به، لزم مع جهله فعله للحرام جهلاً. وإن كان ليس باتفاقي - كما ظاهر أكثر الأخبار وصريح ما عداها - لزم على رأي الكاتب أن فعل كل ما يؤذي النفس محرماً لزم أن يكون الرسول الأكرم قد فعل الحرام عمداً(!!!)
                  وإذا جوّز بعض السهو عليه (صلى الله عليه وآله) في غير الأحكام، ونسب آخرون إليه الجهل بالموضوعات، فإن أحداً منّا قبل اليوم لم يلصق بساحته المقدسة فعل الحرام لا عمداً ولا جهلاً ولا سهواً ولا خطاً، لا اختياراً ولا اضطراراً، لا قبل النبوّة ولا بعدها(68).
                  بل الظاهر اتفاق أصحابنا على عدم وقوع السهو منه في المباحات والمكروهات وتنزيهه حتى عن مثل الفظاظة والغلظة، وعن المباحات القادحة في الأدب، كالأكل ماشياً وفي الطرقات.
                  بل صريح من جعل العصمة لطفاً - في نقل شارح التجريد - أنه مؤاخذاً على ترك الأولى، فلا يخل به عمداً، ولا سهواً، ولا خطأً.
                  ولذلك فإني لا أرى صاحبنا اليوم يتترّس - في مزعمته - بشيخنا الصدوق إذ جوّز عليه السهو عن الصلاة وفيها، بل ينبغي أن يضيف إليه القائل بجهله بالموضوعات،(69) لأن قوله مزيج من القولين اللذين ما أظنهما اجتمعا لواحد.
                  مع أنّا مهما وسعنا القول بعلمه (صلى الله عليه وآله) وعلم الأئمة (عليهم السلام) في باب الموضوعات، فلا يسعنا إنكار علمهم في الباب المذكور بمثل عاقبة القيام في الصلاة المؤدي إلى فعل الحرام عصمة لهم عن الإثم، وحفظاً عن الخطيئة، وإلا فما معنى كونهم مؤيّدين بروح القدس الذي لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو ولا يلعب؟(70).
                  هذا مع أن الصدوق نفسه يتنصل عن نسبة السهو إليه (صلى الله عليه وآله)، ويسمي ما يدّعى وقوعه منه إسهاءً من الله لنوع من المصلحة ذكره(71)، وأنه ليس كسهونا الذي هو من الشيطان. وأين هذا من مزعمة الكاتب الخالية عن المصلحة؟ وهي مع ذلك تجهيل للنبي (صلى الله عليه وآله)، لا إسهاءً من الله تعالى (!!).
                  وإذا كان الكاتب غير معتمد في مقالته على خبر يدل عليها، بل تأوّل خبراً لا ينافي بظاهره العصمة إلى ما ينافيها، فإن شيخنا رئيس المحدثين يركن إلى أخبار كثيرة مستفيضة، كان معذوراً في الاعتماد عليها(72) لو كان ممن يصلح - على رأي شيخنا المفيد - لسوى حمل الأخبار وروايتها(73) ومع ذلك فقد لقي من نوافذ الكلمات الشنيعة من المفيد والسيد والشيخ والعلامة والشهيد وأضرابهم ما لا يجمل بالأدب ذكر كله، حتى قال المفيد في خاتمة رسالة نفي السهو في الرد عليه - بعد أن نقل مقالته -: (وإن كان شيعياً يعتمد على هذا الحديث - يعني حديث ذي الشمالين المتضمن لسهوه - في الحكم على النبي (صلى الله عليه وآله) بالغلط والنقص وارتفاع العصمة، لناقص العقل، ضعيف الرأي، قريب إلى ذوي الآفات المسقطة عنهم التكليف)(74).
                  ولأكتفِ بهذا عن غيره مما هو شنيع للغاية، فإن رسالتي هذه لم توضع لنقل مطاعن العظماء، سامحنا الله وإيّاهم بفضل كرمه.
                  تورم قدمي السجاد (عليه السلام):
                  دع عنك تورم قدمي الرسول الأعظم واتفاقية ترتبه على عبادته، وخذ محتجاً بفعل الإمام السجاد ذي الثّفنات، فإنه لا يشك من له إلمام يسير بالسيرة بأنه عاش دائم السقم، دائم الحزن، نحيف البدن، وقد كلّف نفسه الجهد بالعبادة في قول جابر الأنصاري(75) وهو (يهلك نفسه اجتهاداً بالعبادة) في قول فاطمة بنت علي (عليه السلام)(76) وهو (شديد الاجتهاد بالعبادة) في قول ولده الباقر (عليه السلام)(77)، وبالاستدامة على العبادة المجهدة (اصفر لونه [من السهر]، ورمصت عيناه(78) من السهر(79)، ودبرت جبهته(80)، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام للصلاة)(81).
                  وقد رآه أبو حمزة في فناء الكعبة يصلّي، فأطال الصلاة حتى جعل يتوكّأ مرة على رجله اليسرى(82).
                  فما هي هذه الآلام البدنية؟ وهل هذا الذي ينزله الإمام بنفسه من أنواع المشقات التي تترتب عليها انخرام أنفه وورم ساقيه وقدميه إلا إضرار بنفسه؟ وليست هي باتفاقية قطعاً، كما يعلم ذلك من سيرته من له أدنى اطلاع على السيرة.
                  إنّ جابر بن عبد الله الأنصاري عندما يطلب منه البقيا على نفسه يقول له: (لا أزال على منهاج أبويّ مؤتسياً بسنتيهما حتى ألقاهما)(83). وولده أبو جعفر (عليه السلام) عندما يقول له: كم هذا الدأب، يجيبه بقول: (إنني أتحبّب إلى ربّي لعلّه يزلفني)(84). فلم لا قال له أحد: أن هذا الذي تفعله محرّم عليك ولا يطاع الله من حيث يعصى؟
                  وإذا كان ضرب الصدر باليد حتى يحمر أو يسود ضرراً وإيذاءً محرّماً، فإن اسوداد ظهر السجاد مما يحمله دائماً على ظهره إلى الفقراء بوفاق من مؤرخينا، فضلاًًُ عن إثفان السجود جبهته وعرنين أنفه الذين كان يقرضهما بالمقراض في السنة مرتين أو أكثر،(85) أولى(86) أن يكون إيذاءاً ومحرماً على مذهب أهل الشام.
                  تورم قدمي الزهراء (عليه السلام) وإضرارها:
                  إنّ شيخنا المجلسي يروي - في (البحار)- عن بعض مؤلفات العامة عن الحسن أنه قال: (ما كان في الدنيا أعبد من فاطمة (عليها السلام)، كانت تقوم حتى ورم قدماها)(87) وهذا يدل على أن الحسن يرى أن العبادة التي تتورم فيها القدمان من أفضل أفراد العبادة، وأن فاطمة (عليها السلام) كانت تدأب في طول القيام، وأنّ تورم قدميها ليس باتفاقي.
                  وجاء في أخبار كثيرة من طرقنا أن فاطمة (عليها السلام) استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها(88). والمجل في اليد هو ثخن جلدها بمزاولة الأعمال بالأشياء الصلبة، وذلك لا يكون إلاّ بعد آلام متتابعة.
                  وفي رواية (الخرايج) عن سلمان الفارسي وقد دخل على فاطمة، قال: كانت فاطمة جالسة، قدّامها الرحي، تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل، والحسين (عليه السلام) في ناحية من الدار يتضور من الجوع(89). فقلت: يا بنت رسول الله! دبرت كفّاك(90) وهذه فضة جالسة؟ فقالت: (أوصاني رسول الله أن تكون الخدمة بيني وبينها أياماً(91)، فكان أمس يوم خدمتها(92)) الحديث.
                  فإن صح الحديث وكان سيلان الدم من يديها على عمود الرحى اتفاقياً، ولم تكن تعلم بترتبه على طحنها، فإن دبر الكفين ومجلهما الذين لا ينفكان عن إيذاء النفس وإضرارها في بدء الأمر لا يكون اتفاقياً قطعاً.
                  إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه بالجوع:
                  سيماء الصلحاء: ألم يضع - يعنى النبي (صلى الله عليه وآله) - حجر المجاعة على بطنه، مع اقتداره على الشبع؟(93)
                  رسالة التنزيه: أما وضعه حجر المجاعة على بطنه مع اقتداره على الشبع، فلو صح، لحمل على صورة عدم خوف الضرر(94) لحرمة ذلك. ولكن من أين تثبت أنه كان يتحمل الجوع المفرط الموجب لخوف الضرر اختياراً مع القدرة على الشبع؟(95) انتهى.
                  النقد النزيه: قد صح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج من الدنيا خميصاً، ما أكل خبز برّ قط، ولا شبع من خبز شعير قط. أما إفراط الجوع به حتى شدّ الحجر على بطنه، فقد رواه الصدوق في مجالسه، وابن شهر آشوب في مناقبه مسنداً عن ابن عباس. ورواه ابن الجوزي مسنداً بعدة طرق عن علي (عليه السلام)، ونقله الزمخشري في (ربيع الأبرار) عنه (عليه السلام)، وكذا ابن أبي الحديد في (شرح النهج)، فقد نقله وذكر أنه جاء في الأخبار الصحيحة(96). وامتنّ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) على كافة المهاجرين والأنصار، وهو على المنبر في آخر يوم من أيام حياته إذ قال: (ألم أضع حجر المجاعة على بطني)؟ فقالوا: بلى.
                  وقد تقدم في حديث السجاد (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) ليس فقط يجوع حتى يربط على بطنه الحجر، بل ويظمأ حتى يعصب فوه، أي يجفّ ريقه من شدة العطش.
                  إن من الغريب قوله: (من أين ثبت أنه كان يتحمل الجوع المفرط)! وهو وكل أحد يعلم أن ربط الحجر لا يكون إلاّ للحاجة إليه، وإلا يكون فاعله مرائياً، ومع الحاجة إلى ربط الحجر لا معنى للقول بأن ذلك الجوع الذي كان لأجله ربط الحجر، لم يكن مفرطاً.
                  سلّمنا، لكن في تحمل ذلك الجوع مشقة شديدة، وإيذاء للنفس، والمشقّة وإن لم توجب حرمة الفعل، لكنها ترفع حكمه - على مذهبه - وعليه لا يكون تحمّله للجوع مستحباً ولا مطلوباً ولا مثاباً عليه، بل هو والشبع سواء في الإباحة، فما هو الداعي لفعل النبي (صلى الله عليه وآله) إياه وإيثاره على الشبع. وحمل جوعه على ما لا مشقة فيه أيضاً كما لا ضرر فيه، يوجب حصر شدّ الحجر بالرياء المحض.
                  وأغرب من هذا دعوى أن جوعه المفرط الموجب للضرر كان عن اضطرار، وذلك النبي (صلى الله عليه وآله) إذا انقطعت به المذاهب عن تدبير ما يسد به رمقه، ولو بقرض ونحوه، فلقد كان بإمكانه أن يبرز إلى ظواهر المدينة وضواحيها، فيأكل من حشائشها ما يحفظ به حشاشة نفسه الشريفة تأسّياً بأخيه موسى بن عمران (عليه السلام)، فلقد كانت خضرة الحشيش ترى من صفاق(97) بطنه لهزاله(98).
                  ولعمري إن امتنانه على المسلمين بربط الحجر، وتصديقهم إياه ينبئ عن علمهم بأنه كان باختياره يكابد الجوع المفرط غالب أيامه، وأنه أمر محبوب، وأنه لو شاء لم يكن مع أن جوعه لولم يكن مفرطاً، أو كان ولكن عن اضطرار، لم يكن لامتنانه على الأمة وجه.
                  نعم يظهر من بعض كتب السير أن المسلمين أصابهم جهد وقلّة زاد أيام حفر الخندق، وأن رسول الله ربط الحجر من الجوع على بطنه ثلاثة أيام يومئذ، وهذا ما لا يمتنّ به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لعموم ابتلاء المسلمين به.
                  إيذاء أهل البيت أنفسهم بالجوع:
                  إن الله جلّ ذكره أنزل في الذكر الحكيم سورة تتلى من حين نزولها إلى قيام الساعة (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً)، يشكر فيها سعي أهل البيت الطاهرين بتحمّلهم الجوع المفرط، وإيثارهم بالطعام من ليس هو بأولى به منهم يومئذ.
                  وقد جاء في الحديث المفسّر لآية (يوفون بالنذر)(99) أنه طووا ثلاثاً لم يطعموا سوى الماء، وأن الحسنين رآهما النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الثلاث يرتعشان من شدة الجوع كالفرخين، ورأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها(100). وهذا من أعظم أفراد إيذاء النفس المحرّم عقلاً ونقلاً على المذهب الجديد.
                  وروى في (الخرائج) أن رسول الله مضت عليه تلك الأيام والحجر على بطنه من الجوع أيضاً، وقد علم بحال أهل بيته وجوعهم(101).
                  وورد في حديث طويل يتضمن دخول النبي (صلى الله عليه وآله) وجابر الأنصاري على فاطمة (عليها السلام)، أن النبي لما دخل عليها رأى وجهها اصفر كأنه بطن جرادة، فقال لها رسول الله: (ما لي أرى وجهك اصفر)؟ فقالت: (يا رسول الله! الجوع...) وفي حديث آخر يرويه في (المناقب) - عن تفسير الثعلبي -: أن رسول الله دخل على فاطمة فرأى صفرة وجهها وتغير حدقتها، فسألها عن ذلك. فقالت: أن لنا ثلاثاً ما طعمنا شيئاً، وقد اضطرب عليّ الحسن والحسين من شدة الجوع، ثم رقدا كأنهما فرخان منتوفان. وكان النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه لم يطعم شيئاً يومئذ منذ ثلاث.
                  وفي (الخرايج): عن جابر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقام ثلاثاً لم يطعم شيئاً، فطاف بيوت أزواجه وبيت فاطمة، فلم يجد. وفي (البحار) - عن صحيفة الرضا (عليه السلام) - أن فاطمة (عليها السلام) جاءت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الخندق بكسرة من خبز. فقال لها: (أما إنها أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث)(102).
                  وفي هذا يتحقق غاية الجوع الذي يربط له الحجر، ومثله كثير. والغرض ذكر مثال منه.
                  إيذاء النفس بالمشي للحج:
                  سيماء الصلحاء: ألم تحج الأئمة (عليهم السلام) مشاة حتى تورمت أقدامهم، مع تمكّنهم من الركوب(103) انتهى.
                  رسالة التنزيه: وكذا استشهاده بحج الأئمة مشاة هو من هذا القبيل(104).
                  النقد النزيه: قد حج الإمام السجاد ماشياً مع سقمه وضعف بدنه، وذلك ملازم لمشقته وإيذاء نفسه(105). وحج الحسن (عليه السلام) ماشياً خمس وعشرين حجة، والنجائب تقاد خلفه(106)،(107)، وكذا الحسين (عليه السلام) في رواية(108).
                  وورد عنهم الحثّ على المشي إلى زيارة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) مهما بعدت عنه الدار. وهذا في نفسه - على الأغلب - مشقة يرتفع معها الحكم - كما سمعته -مع قطع النظر عن ترتب الأذى عليه، وإذا كان سيرهم متوالياً في كل يوم وموافقاً لسير القوافل - كما يدل عليه بعض الأخبار(109)-، فالمشقة أشد.
                  وقول الكاتب أن الاستشهاد بمشيهم من هذا القبيل، إن أراد به أن تورم أقدامهم - إن صح - فلابد من كونه حاصلاً من باب الاتفاق مع عدم علمهم به، فهذه فادحة يهون خطبها عليهم أنها نزلت بجدهم المصطفى من قبل. وإن أراد أن الورم غير معلوم تحققه، وأن مشيهم لم يثبت أنه كان موجباً للألم الموجب للتضرر(110)، قلنا: قد روى ثقة الإسلام في (الكافي) عن أبي أسامة عن الصادق (عليه السلام) أن الحسن (عليه السلام) خرج سنة إلى مكة ماشياً، فتورمت قدماه، فقال له بعض مواليه: لو ركبت، لسكن عنك هذا الورم. فقال: كلا، ولكن إذا أتينا هذا المنزل فإنه يستقبلك أسودٌ ومعه دهن، فاشتر منه ولا تماكسه...)(111) الحديث. وهو يدل بظاهره على أنه (عليه السلام) يتعمد أن تورم قدماه في عبادة ربه، وأنه يحسب ذلك طاعة لا معصية. هذا مع أن المشي إلى مكة إيذاء للنفس.
                  وظاهر قول السجاد - المروي في (الخصال)- أن الحسن (عليه السلام) كان إذا حجّ، حجّ ماشياً، وربما مشى حافياً(112)، أن المشي كان من دأبه كلما حج، وليس اتفاقياً، وأن الاتفاقي هو حفاه عند المشي.
                  وحمل ذلك على صورة عدم خوف الضرر، لا يجدي في رأي المؤلف من أن المضر بنفسه حرام فعله، سواءً اعتقد الفاعل الضرر به أم لا. سلّمنا، لكن لا أقل من كونه يوجب المشقة التي يرتفع معها استحباب المشي، فإذاً يكون سعي الأئمة (عليهم السلام) ومشيهم إلى بيت الله الحرام عبثاً ولغواً، ليس لهم عليه أجر وثواب ولو أنهم ركبوا - في ذلك السبيل - نجائبهم التي تقاد خلفهم، لكان الركوب أقرب لهم عند الله، لأنهم لا يريدون السمعة الكاذبة نعوذ بالله منها(!!).
                  بكاء السجاد على أبيه (عليهما السلام):

                  تعليق


                  • #69
                    سيماء الصلحاء: (ألم يتخذ علي بن الحسين (عليه السلام) البكاء على أبيه دأباً، والامتناع من تناول الطعام والشراب حتى يمزجها بدموع عينيه ويغمى عليه في كل يوم مرة أو مرتين؟ أيباح لزين العابدين أن ينزّل بنفسه ما ينزل من الآلام تأثراً وانفعالاً من مصيبة أبيه، ولا يباح لوليّه أن يؤلم نفسه لمصيبة إمامه؟(113) انتهى.
                    رسالة التنزيه: (أما بكاء علي بن الحسين (عليه السلام) المؤدي إلى الإغماء والامتناع عن الطعام والشراب، فإن صح فهو أجنبي عن المقام، فإن هذه أمور قهرية لا يتعلق بها تكليف، وما كان اختيارياً فحاله ما مر).(114) انتهى.
                    النقد النزيه: إن صح تعليق جميع ما سبق بـ(إن صح)، فإنه لا يصح تعليق بكاء سيد الساجدين على شيء، فقد صح، وتواتر نقله، وأُفردت له في كتب الحديث أبواب تخصه، حتى روى ابن شهر آشوب في (المناقب) أنه إذا أخذ إناءً يشرب ماءً، بكى حتى يملأه دماً.(115) وكذا الحال في الإغماء عليه من البكاء، وفي الامتناع عن الطعام والشراب، ولا شك أن الكاتب لا يشك في ذلك، ولكن تلجئ الضرورات في الأمور إلى سلوك ما لا يليق بالأدب.
                    دع عنك - بالله - التعليق بـ(إن صح)، وهلمّ الخطب في قوله (إن هذه أمور قهرية، لا يتعلّق بها تكليف). هلمّ نستعمل الدقة التامة في استخراج معناه بلا محاباة ولا تحامل. هلم بنا ننظر بكل هدوء وسكينة هل يوجد لهذه الكلمة معنى لا يحط من قدر الإمام؟ وبالأحرى لا يقدح في إمامته؟
                    إن الآلام التي ينزلها الإمام السجاد بنفسه، ومنها البكاء بضعاً وعشرين سنة حتى خيف على عينيه من كثرة بكائه - كما في (المناقب) - إن كانت محرّمة في نفسها - كما يدعيه هذا الكاتب -، فلا ترتفع حرمتها بكونها أموراً قهرية على بعض الوجوه. فإن أراد بقهريتها صدورها لا عن اختيار وإرادة، فإن الإمامية كافة يرفضون هذا الاعتقاد الشائن، لأنهم يعتقدون أنه لا يجوز أن يصدر عن الإمام المعصوم فعل أو قول من دون اختيار منه وإرادة، حتى إذا كان مباحاً، فضلاً عن المحرّم. وصدور المحرّم - ولو بلا اختيار - ينافي العصمة والتأييد بروح القدس(116).
                    ولقد قال بعض الصحابة - على ما يوجد في كتب التاريخ(117) - في حق الرسول الأعظم (إنّ النبي ليهجر)(118)، فرمي بسهام اللؤم إلى اليوم لمجرد أنه نسب إليه صدور لفظ لا باختياره، ولم ينسب له محرماً بلا اختيار.
                    مع أن كون البكاء قهرياً بهذا المعنى مما لا يكاد أن يقع من أحد أبداً، إلاّ إذا كانت مبادئه - كتذكر المصاب وغيره - قهرية أيضاً، ليكون خروج الدمع من العين كالدم المندفع من عرق، والماء المتدفق من ينبوع(119).
                    وإن أراد بقهريتها صدورها بمقتضى طبعه المتوغل فيه من محبة أبيه، فهذا أدهى وأمرّ من سابقه، لأن القهرية بهذا المعنى لا ترفع التكليف عقلاً ولا شرعاً، لأنها لا تنافي الاختيار، وهل بعد صدور المحرّم عمداً من الإمام يبقى محل لعصمته؟
                    إن الشيعي لا يرضى للإمام أن يستأسره أي عامل بشري لحظة واحدة، فضلاً عن بقائه بضعاً وعشرين سنة مسلوب الاختيار والإرادة، مغلوباً لدواعي الشهوة البشرية، على حين أن المشاهد من غير المعصومين من أرباب المجاهدات أنهم يصابرون النوائب بالجلد، ويتغلبون بسهولة على البواعث الطبيعية ضد الدواعي الإلهية بغية الثواب، وترفعاً عن مقام الشهوانيين.
                    تعتقد الشيعة أن محبة الأنبياء والأئمة لواحد من البشر قريباً أو غريباً ليس ولا يكون فقط ناشئاً عن الدواعي النفسانية والشهوات البشرية، لأن المدلول عليه بالأخبار الكثيرة - المدعومة بالبراهين العقلية - أنهم مجردون عن جميع الرغائب الطبيعية، إنما حبهم لله خالصاً، وإرادتهم له لا لسواه، وإذا أحبوا غيره، فذلك لحب الله له، ويرجع الأمر بالآخرة إلى محبة الله وحده، ولذلك أحبّ يعقوب يوسف دون أخوته، وكان إفراطه في حبّه غير مناف لخلوصه لربّه.
                    وإذا كان حب السجاد (عليه السلام) لأبيه لا لداع طبيعي قهري - كما تعتقده الإمامية - فلا يعقل أن يكون بكاؤه عليه قهرياً طبعياً، بل يكون لا محالة تابعاً لنفس داعي حبه له، وهو حب الله الخالص وحده(120).
                    سبحان الله! إن الرجل من سائر الناس ليبكي أو يتباكى ساعة واحدة على الحسين (عليه السلام)، فينال ما أعدّ له من ثواب البكاء أو التباكي، والإمام السجاد يبكي على أبيه البكاء المقرح مدة حياته، ولا يكون له على الله ثواب!! لأن الأمر القهري - بأي المعنيين أراده الكاتب - لا يستحق فاعله من الثواب شيئاً بحكم العقل، ولا كرامة!!!
                    سبحان الله! أما كان بإمكان السجاد (عليه السلام) في تلك المدة الطويلة التي تنيف - بلا ريب - عن عشرين عاماً، أن يروض جماح نفسه ويصد طبعه عما هو عليه، كما يفعل ذلك غيره من غير واجبي العصمة، ليبكي على أبيه بكاء أداني الناس عليه لينال الجزاء بذلك البكاء!!!
                    قوله: (وما كان منه اختيارياً، فحاله حال ما مرّ) إن أراد به ترتّب الإيذاء على الأمر الاختياري من الأمور السالفة النقل عن الإمام السجاد (عليه السلام)، وأنه لا يعلم بترتبه عليه، وإلاّ لم يجز له ذلك، فمع أن النظر في سيرته يكذّبه، يرجع إلى تجهيل الإمام وفعله الحرام، وهذه (شنشنة أعرفها من أخزم).
                    وإن أراد به أنه محمول على صورة عدم خوف الضرر الموجب لحرمة الفعل، كان مكابراً، لأن امتناع الصائم دهره عن الطعام والشراب الذي هو أحد الأمور الاختيارية له، موجب للضرر لو تجرد عن مثل مقارنته لذلك البكاء المقرح الذي يمتزج بدموعه طعامه وشرابه، فضلاً عما قارنه ذلك. على أن خوف الضرر لا أثر له في الحرمة على رأي الكاتب، كما أسلفناه.
                    امتناع العباس عن الماء:
                    سيماء الصلحاء: أينفُض العباس الماء من يده وهو على ما هو عليه من شدة الظمأ تأسّياً بعطش أخيه، ولا نقتصّ أثره(121).
                    رسالة التنزيه: (أمّا نفض العباس الماء من يده تأسّياً بعطش أخيه، فلو صح، لم يكن حجة، لعدم العصمة)(122).
                    النقد النزيه: نفض العباس الماء من يده ذكره العلامة المجلسي في (البحار)، ونقله عن بعض تأليفات أصحابنا(123) وأرسله فخر الدين في موضعين من منتخبه غير متردد فيه(124). ونقله في (الدمعة)(125) عن العوالم(126).
                    وذلك كافٍ في الحكم بصحة أية حادثة تاريخية(127). ولذلك جرى بفطرته عليها المؤلف، فذكر تلك الحادثة في موضعين من مجالسه(128) الذي ألّفه لانتقاء الأحاديث الصحيحة على ما تنطق به ص 11 من رسالته(129). ونظمه في قصيدته - المذكورة في (الدر النضيد) ص 130 - بقوله في حقه:
                    أبى بأن لا يـــــذوق المـــــاء وهو يرى أخـاه ظمآن من ورد له يئسا
                    ولكن الحادثة التاريخية غير الصحيحة القدح في العباس بأنه إن صح رواية أو واقعاً أنه نفض الماء من يده، فقد فعل حراماً يستحق العقاب عليه، لأنه آذى نفسه بترك شرب الماء، وأدخل الضرر عليها، وغير المعصوم يصدر منه الذنب ويعاقب عليه.
                    وإذا جهل أحد منصب النبوة ومقام الإمامة فلا بدع أن يجهل قدر العباس، ويحمل الإثم على عاتقه المقدس لمجرد كونه غير معصوم (!!!).
                    العباس (عليه السلام) ليس بواجب العصمة، لا أنه غير معصوم على البت، كما يرسله هذا الكاتب. أن العصمة مرتبة من الكمال الروحي تحصل من الله فيضاً بأسبابها الاختيارية تمنع من ارتكاب المعصية مع القدرة عليها، وإلا لم يكن لصاحبها على الله ثواب ولا جزاء. ولذلك يثبت كثير من علمائنا العصمة بهذا المعنى لسلمان الفارسي وأضرابه من ثقاة أمير المؤمنين (عليه السلام) على تفاوت درجاتهم ويقولون أنه محدّث ومؤيّد بالروح(130).
                    وأبو الفضل المتربى بحجر أبيه أبى الأئمة المعصومين، والمستن بسيرة أخويه الحسن والحسين (عليهما السلام) في نحو أربع وثلاثين سنة، أولى بنيل مراتب العصمة من سلمان وأضرابه.
                    وأظن هذا الرجل لا يعرف للمعصوم مصداقاً سوى واجب العصمة من نبي أو إمام، فلذلك يجاهر بالقول الجازم بنفي العصمة عن أبي الفضل العباس. ولو عرف أنه يكون من المعصومين من ليس بواجب العصمة، كما اجترأ على عظمة أبي الفضل العباس بتلك الكلمة الشائنة.
                    هب أن العباس (عليه السلام) غير معصوم، لكن لا ملازمة بين عدم العصمة واقعاً وبين فعل المحرّم خارجاً، ومع عدم الملازمة كيف يتسنى لرجل أن ينسب لغير المعصوم - مثل العباس - فعل الحرام إذا صدر منه فعل مشتبه الوجه لمجرد كونه غير معصوم، كل ذلك للمحافظة على دعوى أن كل ما يؤذي النفس حرام.
                    إن غير الجعفريين من فرق المسلمين يثبتون العصمة - بالمعنى الذي ذكرناه - للأقطاب والأبدال وللغوث والمشايخ والأولياء. وهم عندهم دون العباس مرتبةً عند الشيعة، فما له ينحط عند هذا الكاتب عن بعضهم؟
                    وأنا لا أستبعد ممن يقصر النظر في شأن العباس (عليه السلام) على العبارة المبذولة في الكتب المتداولة: (كان العباس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهّم(131) ورجلاه تخطان في الأرض)(132) أن يجهل منزلة العباس(133)، ولا يقدّر له من المزايا سوى كونه فارساً شجاعاً وبطلاً صاحب مناقب، وقائد كتائب، قد خرج مع أخيه للدين وللحميّة، ولم يكن يفضل سائر أصحابه بسوى الأخوة والنجدة!!
                    ولكن المتتبع لمؤلّفات المتأخرين وما جمعته الشوارد يعلم أنه كان من أكابر فقهاء أهل البيت وعلمائهم وعظمائهم، وأنه كان ناسكاً، عابداً، ورعاً، بين عينيه أثر السجود،(134) ووجهه كفلقة القمر ليلة البدر، يعلوه النور، لم يغيّر ولم يقلل القتل منه شيئاً(135).
                    وأنه روى الحديث عن أبيه وأخيه، وكان أبوه يمتحن نباهته وكمال معرفته - على الصغر-، فتظهر له منه شدة الورع والبصيرة في الدين(136).
                    شهد بعض المغازي، ولم يأذن له بحرب، وكان عمره يومئذ أربع عشرة سنة(137).
                    إن التاريخ لم يفرد للعباس بالتدوين صحيفة يؤخذ منها مقامه(138)، ولكن تعرف مكانته السامية التي تصعد به إلى مرتبة العصمة، من التدبّر في بعض ما ورد في حقه عن الأئمة المعصومين، فمن ذلك مخاطبة الإمام الصادق (عليه السلام) له في زيارته(139) بقول: (لعن الله أمّةً استحلّت منك المحارم، وانتهكت في قتلك حرمة الإسلام). إذ إنّ حرمة الإسلام لا تنتهك بقتل أي مسلم مهما كان عظيماً، إلا أن يكون هو الإمام المعصوم، وما ذلك إلاّ لبلوغ العباس المراتب السامية - في العلم والعمل - لمقام أهل العصمة.
                    ومن ثناء الإمام السجاد (عليه السلام) عليه(140) بقول: (وإن للعباس منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة). وهذا عام يشمل حتى علي بن الحسين الأكبر قتيل الطف وغيره من شهداء الطف وغيرهم، مع أن علي بن الحسين من المعصومين حكماً أو موضوعاً(141).
                    وربما يستشعر ذلك من قول الصادق فيه: (مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتبعاً للنبيين)(142) لأن مقترف الذنوب لا يصلح عده في الصالحين ولا في المقتدين بهم.
                    ومن قول نفسه يوم الطف: (إني أحامي أبداً عن ديني)(143)، إذ إنّ جميع من عداه يحامي بجهاده عن الحسين (عليه السلام) ويدافع عنه، وأما المحاماة عن الدين في محاربة الأمويين، فتلك منزلة إن تجاوزت شخص الحسين (عليه السلام) إلى غيره، فالعباس أحق بمعرفتها، وأولى أن يكون جهاده في سبيلها، وهي من الغايات البعيدة التي نالها بنفوذ بصيرته وصلابة إيمانه. وقد قال الصادق (عليه السلام) (في الخبر المروي في (العمدة)): (كان عمّنا العباس بن علي (عليه السلام) نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أخيه الحسين (عليه السلام) وأبلى بلاءً حسناً، حتى مضى شهيداً).
                    إن من صلابة إيمان العباس ونفوذ بصيرته أنه ألقي له ولأخوته الأمان يوم الطف، فنبذه(144)، وجاهد مع أخيه الحسين (عليه السلم) وواساه بنفسه وأخوته حتى قتلوا بين يديه.
                    ومن صلابة إيمانه ونفوذ بصيرته أنّه قدّم أخوته خلصائه إلى الموت أمامه، ليزرأ بهم، ويحتسبهم، فيشتد حزنه ويعظم أجره، ويكون هو الطالب بدمائهم، لأنهم لا ولد لهم(145).
                    ومن صلابة إيمانه ونفوذ بصيرته أنه لمّا ملك الماء يوم الطف، وقد ذكر عطش أخيه الحسين، نفضه من يده مواساة له، حتى في احتمال العطش، فخصّ من دون جميع أخوته وسائر من معه بقول الصادق (عليه السلام) (فنعم الأخ المواسي)(146) وبقول السجاد (عليه السلام): (رحم الله عمي العباس، فقد آثر وأبلى)(147).
                    إن العباس (عليه السلام) فادى بنفسه، وكذلك سائر آل الحسين (عليه السلام) وأخوته وجميع أصحابه كل فداه بمهجته، وما خص العباس (عليه السلام) من بينهم بكونه آثر وواسى، إلا لأن من عدا العباس لمّا لم يكن قد ملك الماء يوم الطف، يكون تحمّله للعطش لنفسه، لا لمواساة الحسين (عليه السلام) بعطشه، ولكن العباس (عليه السلام) لنفوذ بصيرته وصلابة إيمانه قاسى شديد العطش، وكابده لأجل المواساة، لا لغيرها، فخصّ بتلك الكلمات دون غيره(148).
                    إن كانت على العباس تبعة فهي أنه أراد شرب الماء وهمّ به، لا أنه ترك شربه ونفضه من يده، لأن الواجب عليه - وقد ملك الماء - إيصاله إلى إمامه وإمام المسلمين أخيه الحسين (عليه السلام) ليحفظ حشاشته الشريفة، فإن حفظها أهم من حفظ كل نفس معصومة ولولا أن العباس علم أنه لا يسوغ له التواني بمقدار زمان شربه غرفة من الماء بيده، لشرب الغرفة وزاد عليها، ولكنه من صلابة إيمانه ونفوذ بصيرته في دينه، كابد الظمأ المجهد، ولم يتأخّر لحظة واحدة عن إيصال الماء إلى الحسين (عليه السلام) مقدمة للواجب الأهم.
                    وأخرى أن الإيثار المشروع لا يقف على حد الضرر بالنفس، كما يدل عليه قوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(149). وقد جاء في حديث المعلّى بن خنيس عن الصادق (عليه السلام) أن ريّ الإنسان مع ظمأ أخيه المؤمن من الإجحاف بحقه، قال (عليه السلام) فيه: (الخامس - يعني الحق الخامس من الحقوق السبعة المذكورة في الحديث - أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى)(150).
                    وقد آثر أبو ذر الغفاري في غزاة تبوك(151) رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاحتمل العطش الشديد مع كونه يحمل ماءً عذباً، كان قد أبى أن يذوقه حتى يشرب منه رسول الله، ولو لم يكن أبو ذر شديد العطش، لما أمر رسول الله باستقباله بالماء مع كونه حاملاً له(152).
                    وقد ندب الإمام الصادق (عليه السلام) وأمر بالامتناع عن شرب الماء يوم عاشوراء إلى ما بعد العصر بساعة(153)، مع أن ذلك ليس بصوم شرعاً، بل جاء في الحديث الصحيح النهي عن صومه(154). أليس ذلك لمواساة الحسين (عليه السلام) وأهل بيته إذ انجلت الهيجاء عنهم حينئذ وعلى الأرض ثلاثون رجلاً صريعاً من آل رسول الله ومواليهم(155)، قد تفتت أكبادهم من شدة العطش، أفتندب مواساة الحسين (عليه السلام) بذلك بعد مقتله، ولا تندب أو تكون محرمة في حال حياته؟
                    إن المروي في (المنتخب) - مرسلاً -(156)، وعن (العوالم) عن ابن شهر آشوب(157) وفي (البحار) عن أبي مخنف عن الجلودي، أن الحسين (عليه السلام) لما أقحم فرسه على الفرات وولجه وغرف منه غرفة ليشرب، سمع صائح القوم يقول: (يا حسين! أدرك خيمة النساء فقد هتكت)، فرمى الماء من يده وخرج فإذا الخيمة سالمة(158). أتراه لا يعلم سلامة الخيمة؟ أم أن عدم انذعار النساء في الخيمة بمقدار زمان شربه غرفة من ماء بيده كان أهم من حفظ حشاشة نفسه من العطش الذي حال بينه وبين السماء كالدخان؟ فإن كان شرب الماء هو الأهم فلماذا نفضه الحسين (عليه السلام) من يده - إن صح ذلك -؟، والحسين معصوم عند جميع الشيعة. وإن كان الأهم عنده حفظ الخيام بحيث لا يجوز له التأخّر والتواني بمقدار زمان شربه لغرفة ماء بيده، فإن ترك العباس (عليه السلام) شرب غرفة في يده لأجل الإسراع في إيصال الماء إلى الحسين (عليه السلام) ليحفظ نفسه المقدسة من الظمأ أولى أن يكون هو اللازم عليه، وإن أضر نفسه.
                    إن المروي في (المنتخب) أن علي بن الحسين (عليه السلام) قتيل الطف شدّ على حرّاس الفرات، ففرّقهم، ومعه ركوة(159)، فملأها ماءً جاء به إلى أبيه وقال: (يا أبتاه! الماء لمن طلب، فاسْقِ أخي - يعني الرضيع -، وإن بقي شيء فصبّه عليّ...). فلما أخذ الحسين الركوة من يده، وتلقى دم ولده(160) فإن صح أن الحسين (عليه السلام) رمى الركوة، وأهريق ماؤها، فماذا يقال والحسين (عليه السلام) لا شك في عصمته؟
                    أنا وإن كنت لم أضمن صحة هذه الأحاديث (فضلاً عما تضمن منها أن الحسين (عليه السلام) عندما أقحم فرسه على الماء، وهمّ الفرس أن يشرب، وبّخه الحسين على تقدمه بالشرب عليه، فامتنع من الشرب، وهو حيوان أعجم) إلا أن خصائص يوم عاشوراء - على ما يقول صاحب (الخصائص الحسينية) - لا ينبغي لأحد أن يعترض على ما لا يعرفه منها، لأنها لا تنخرط في سلك ما نعرفه(161).
                    ولو أن الكاتب - سامحه الله - بدلاً عن حمل الإثم على عاتق العباس (عليه السلام) في يوم لا يرى الشيعي فيه أن تُنسب المعصية عمداً أو جهلاً إلى أداني أصحاب الحسين (عليه السلام) فضلاً عن عظمائهم، قال إني لا أعلم صحة الخبر، ولا أعرف وجه امتناع العباس عن شرب الماء إن صحّ، ولعله من خصائص ذلك اليوم، لخلص نجيّاً عن كل العثرات، وهكذا في كل ما يكون من هذا البحر وعلى تلك القافية.
                    تقريح الرضا (عليه السلام) جفونه:
                    سيماء الصلحاء: (أيقرح الرضا جفون عينيه من البكاء - والعين أعظم جارحة نفيسة - ولا نتأسّى به، فنقرح على الأقل صدورنا وبعض رؤوسنا)؟(162) انتهى.
                    رسالة التنزيه: (وأما استشهاده بتقريح الرضا (عليه السلام) جفون عينيه، فإن صح فلابدّ أن يكون ذلك حصل قهراً واضطراراً، لا قصداً واختياراً، وإلا لحرم)(163).
                    النقد النزيه: لم يرد في رواية أبداً أن الرضا (عليه السلام) تقرّحت جفون عينيه من البكاء وشبه ذلك من العبائر، وظني أن الكاتب يظن أن معاصره رمز بقوله (أيقرح الرضا عليه السلام) إلى خبر يتضمن أن الرضا (عليه السلام) تقرّحت جفون عينيه، وبما أنه لم يعرف خبراً كذلك، قال (إن صح).
                    ولكن المرموز إليه هو ما رواه الصدوق - في أماليه - عن إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا (عليه السلام) أنه قال - من جملة حديث طويل -: (أن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا)(164). وهذا لا يدل على أن الرضا (عليه السلام) فقط قد قرح البكاء عينيه، بل هو وسائر الأئمة وجميع أبناء الحسين قد تقرحت جفونهم.
                    وأما قوله: إن ذلك التقريح المحرّم - على رأيه - قد صدر من الإمام بغير قصد واختيار، فإن أراد أن الإمام يكون به مسلوب الإرادة حتى يرتفع عنه التكليف، نافى ذلك عصمة الإمام الذي تعتقد الإمامية أن حاله في الاختيار والاضطرار لا يختلف، حتى في النوم وأن حاله فيه كحاله في اليقظة، وأنه وغيره لا يغيّر منه شيئاً من جهة الاختيار والإدراك والمعرفة، لأنه إذا نامت عيناه، لا ينام قلبه، وقد بالغوا في عدم صدور شيء منه بغير اختيار حتى عند المرض والموت، حتى قالوا أنه لا يتثاءب ولا يتمطى(165).
                    وإن أراد أن البكاء المقرح للأجفان يصدر منه بطبيعة المحبّة والأبوة، فهذا - كما سلف - لا يرفع التكليف، لأنه لا ينافي الاختيار، وعلى هذا يكون التقريح المحرّم قد صدر منه باختياره، و(تلك لعمر الله قاصمة الظهر).
                    إن التقريح الذي يحصل بأسبابه الاختيارية لا يمكن في العادة صدوره بغير اختيار، إلاّ أن يكون البكاء نفسه واقعاً بغير اختيار.
                    نعم يمكن أن يصدر البكاء المقرح من أحد وهو لا يعلم بترتّب التقريح المحرّم عليه، لكن الإمام إن لم يجب عند الكاتب تنزيهه عن الجهل بالموضوعات، فهو واجب التنزيه عند كافة الإمامية عن فعل الحرام جهلاً به، لطهارته من جميع الأرجاس والمعايب، وتأييده بروح القدس الذي لا يلهو ولا يغفل ولا ينام، يخبره ويسدده أن يصدر منه العثار والخطل في القول والعمل(166).
                    ليس الإشكال في الخبر من جهة تقريح الرضا (عليه السلام) جفون عينيه فقط، بل ومن جهة إخباره به، فإن كان خبره صدقاً، كان إخباراً منه بإيقاعه الحرام - على رأي الكاتب - عمداً أو جهلاً، وكان الأولى به حيث فعله أن لا يخبر به. وإن كان كذباً، فإنا نبرأ إلى الله ممن يحتمل ذلك.
                    وربما يختلج ببال أحد أنه صادر في مورد المبالغة في شأن تلك الفادحة المحضة، والمبالغة إن لم تكن من الكذب الذي يتنزّه عنه الإمام، لا بأس بها. ويتّجه حينئذ حمل فقرة الحديث عليها.
                    وعلى مثل هذا يحمل أيضاً قول الحجة - إن صح - في زيارته لجده الحسين (لأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً)، لا على البكاء الاضطراري، لأنه (عليه السلام) لم يخبر بوقوع البكاء منه ليحمل على ذلك، وإنما يعِد به وعداً.
                    ولكن كيف يكون البكاء - وإن كان اضطرارياً - دماً؟ وهل يمكن أن تدمع العين دماً؟ وما هو وجه المبالغة لو أنه (عليه السلام) أراد أن يبالغ بشدة بكائه وكثرته، إذ إن المناسب - على هذا - أن يقول: (لأبكينّ بكاءً يغمر وجه الأرض بالدمع) وشبه ذلك، لا قول (لأبكينّ دماً).
                    وقد يريد (عليه السلام) بذلك أنه يبكي باحتراق وشدة حتى تتقرح أجفانه من عظم حرق المصيبة حتى تمتزج دموعه بالدم المتفجّر من أجفانه القريحة، إذ يصدق حينئذ أن يقال أنه بكى على جده دما. كما إنّا أوّلنا بذلك ما روي من السجاد (عليه السلام) أنه كان إذا أخذ إناءً ليشرب ماءً بكى حتى يملأه دماً(167).
                    وحينئذ يأتي رأي الكاتب في أن هذا البكاء المخصوص أو ذلك التقريح الموعود به هل يقع من الحجّة - عن قهر واضطرار أم قصد واختيار.
                    بكاء الأنبياء:
                    ليس تقريح جفون الرضا (عليه السلام) بأعظم مما صدر عن الأنبياء الكرام، أمناء الله على حلاله وحرامه، فقد جاء في حديث البكّائين الخمسة: أن آدم (عليه السلام) بكى لفراق الجنّة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وحتى ساخت أقدامه في الأرض التي غمرتها دموعه والأنهار، وأن يعقوب بكى لفراق يوسف حتى ابيضّت عيناه(168) - أي عميتا -.
                    وجاء في أحاديث زهد يحيى بن زكريا (عليه السلام) وعبادته وبكائه من النار ومن خشية الله، أن الدمع خدّ خديه حتى بانت للناظرين أضراسه، فوضعت أمه عليها لبداً يسترها ويشرب الدمع المنحدر عليها(169).
                    وورد في شعيب (عليه السلام) أنه بكى حبّاً لله وخشية منه حتى عمي، فردّ الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي، فردّ الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي، فردّ الله عليه بصره. وعند معاتبته من جانب الحق على ذلك البكاء، وتصريحه بأنه كان حبّاً لله، قال الله (عزّ وجل) له: لهذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران (عليه السلام)(170). روى ذلك الديلمي في إرشاده(171) - على ما ببالي -.
                    فما هذه الآلام والأضرار في العبادات، والضرر محرم عند الكاتب سيما في العبادة؟ وما هو ذلك الإطراء الذي تنطق به الأخبار لأولئك الأنبياء الكرام لولا أن إيذاء النفس في العبادات من أفضل الطاعات؟ أين هذا لعمري من قول الكاتب - ص 21 من رسالته - (ومن يعلم أن يظن أن البكاء يقرح عينيه، فلا يجوز له البكاء إن قدر على تركه، لوجوب دفع الضرر بالإجماع وحكم العقل)؟ انتهى.
                    إنّ عمى يعقوب وشعيب، وتخدّد خدّي آدم ويحيى، أشدّ من تقرح الأجفان. وما وبخ الله عليه واحداً من الأنبياء ولا أسقطه بذلك عن مرتبة النبوّة والأمانة على الوحي، بل شكر سعيهم، ورفع منازلهم، وباهى بهم ملائكته، ونشر ذكرهم بين الكافة أطيب نشر.
                    وقد ورد في متواتر الأحاديث وصف الشيعة بكونهم عمش(172) العيون من البكاء، خمص(173) البطون من الطوى،(174) ذَبْل(175) الشفاه من الظمأ.
                    فقد أسلفنا الكلام فيه، وكذا حكم العقل الذي لا يقبل التخميص لو تمّ وتحقّق، ولا يختص بشريعة دون أخرى، ولا بأمّة، بل الناس فيه جميعاً سواء.
                    وقد صح عن الأنبياء والأئمة المعصومين أنهم تعمدوا إضرار نفوسهم وإيلام أجسامهم في عاداتهم وعباداتهم، وخاصة تقريح أجفانهم، وعمش عيونهم، وذهاب بصرها ونورها بالكلية. فكيف يصح - والحال هذه - دعوى حكم العقل بأن البكاء المظنون كونه مقرحاً للأجفان من أفراد العصيان عقلاً ونقلاً؟ إن هذا إلاّ اختلاق.
                    سيماء الصلحاء: (وهب أنه لا دليل على الندب - أي ندب جرح الرؤوس، فلا دليل على الحرمة)(176). انتهى.
                    رسالة التنزيه: (هذا طريف، لأن الأصل في المؤذي والمضر الحرمة، ودفع الضرر واجب عقلاً ونقلاً)(177). انتهى.
                    النقد النزيه: هذا أطرف، لأنّا إن سلّمنا - بالرغم على إطلاق أدلة البراءة النقلية - أصالة الحرمة في إيذاء الغير وإضراره، ليس في نفسه فقط، بل وفي ماله وعرضه، ولكن أيّ أصل يقتضي الحرمة في إيذاء الرجل نفسه؟؟ وما هي المرتبة المحرّمة من الإيذاء؟ وأين هذه الأدلة العقلية والنقلية التي ادعاها المدعون، لنراها وننظر ما يستفاد منها؟
                    وهب أن الأدلة النقلية خفيت علينا، فإن أحكام العقول لا تخفى، وليست العقول بالتي تحكم على الأشياء بلا ملاك يكون علة للحكم، فما هو الملاك عند العقل في حرمة كل ما ينزله الإنسان بنفسه مما يسميه الكاتب إيذاء وإضرار؟
                    إنه قد تعارف بين العقلاء وَشْم الأيدي وغيرها من الأعضاء وشماً كثيراً، ولا نجد فطرة عقولهم تنفيه وتدفعه لمجرد كونه إيذاءً وضرراً على النفس، وقس على هذا ثقب الآذان والأنوف للنساء لتعليق الأقراط والشنوف والخزائم.
                    ولا أريد بهذا سوى الاستشهاد على أن العقل بفطرته لا يأبي من تحمّل الضرر الذي لا يوفي بصاحبه على التلف، وإن كان ذلك بالنظر إلى استحباب الزينة للنساء وخصوص الشنوف والأقراط دلالة على جواز ثقب الآذان والأنف وإدمائها شرعاً أيضاً. وقد أسلفنا القول في دلالة وجوب الختان على كل مسلم واستحباب ثقب أذني الغلام الذي لم يخالف فيه أحد من أصحابنا على جواز الإيلام شرعاً في الجملة.
                    سيماء الصلحاء: (إن الشيعي الجارح نفسه لا يعتقد بذلك الضرر، ومن كان بهذه المثابة لا يلزم بالمنع من الجرح وإن حصل منه الضرر اتفاقاً(178). انتهى.
                    .

                    تعليق


                    • #70
                      أيها الإخوة.......

                      اللي مرجعه يجيز له يطبر......

                      خل يطبر.......

                      و اللي ما يجيز له لا يطبر......

                      و انتهينا......

                      و هذا النقاش مكانه الحوار الشيعي الشيعي......

                      تعليق


                      • #71
                        رسالة التنزيه: الجرح نفسه ضرر وإيذاء محرّم، ولا يحتاج إلى اعتقاد أنه يترتب عليه ضرر أو لا(179).
                        النقد النزيه: تنسكب العبرات هاهنا لثلاث: النبي (صلى الله عليه وآله)، والفقه، والفقهاء.
                        أما النبي (صلى الله عليه وآله) فلأنه إذا كان فعل المؤذي والمضر محرماً، وإن لم يعتقد الإنسان بترتب الضرر والأذى على فعله، كان النبي (صلى الله عليه وآله) بإدخاله الأذى على نفسه بتورم قدميه - وهو لا يعلم بترتبه على فعله - قد وقع في فعل الحرام، وهو لا يعلم بوقوعه - على رأي الكاتب سامحه الله -.
                        وأما الفقهاء، فإن قوله (الجرح ضرر) كلمة طبيب لا فقيه. أن للطبيب أن يقول (الجرح ضرر)، فيحكم الفقيه بأنه حرام. أما أن الضرر حرام - في رأي الكاتب - فها هو ذا طبيب وفقيه. هب أنه صار طبيباً، فليكن حاذقاً في فنه، فالحاذق لا يقول (الجرح ضرر)، بل الجرح قد يكون ضرراً وقد لا يكون.
                        وأما الفقه فلمعلومية أن جرح الإنسان غيره وإيذاءه ولو بخدش، محرّم، أما جرح نفسه نحو جرح رأسه في العزاء الحسيني غير المستلزم تلف النفس ولا مرض البدن، فلا نعلم أي عقل وشرع يمنعه. وأدلة الحرج التي تمسّك بها آنفاً على حرمة ذلك قد بيّنا مفصّلاً أنها أجنبية عنه، وأن الاستدلال بها عليه من الزلاّت التي لا تغفر للعلماء. والركون إلى قاعدة (لا ضرر في الإسلام) لو لم تخصص بغير العبادات البدنية - كما قيل -، مما لا يصح بوجه - كما تقدّم -.
                        ثم بناءً على حرمة الإضرار، لا ريب في دورانها مدار الاعتقاد بالضرر، وقوله بعدم الاحتياج إلى اعتقاد ترتب الضرر من غرائب الكلام، لأن حرمة المضر العقلية إن كانت، فالعلم جزء موضوعها قطعاً، وأما الشرعية فهي كحرمة سائر المحرمات، لا تكون فعلية إلا بالعلم، ولا أثر للحرمة الواقعية وضعاً ولا تكليفاً، مع الجهل بالموضوع المحرّم، ولذلك صرح كثير بصحة العبادات الضررية التي يعتقد المكلف عدم التضرر بها، مع كونها مضرة في نفس الأمر، سواءً كان المدرك لحرمة الضرر هو ما دل - بزعمهم - على تحريم الإضرار بالنفس مثل قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)(180)، أو هو قاعدة (لا ضرر في الإسلام)، لأن المانع عندهم عن امتثال الأمر هو النهي الفعلي المنجز في مسألة عدم جواز اجتماع الأمر والنهي، ومسألة النهي عن العبادة، لا الواقعي الشأني الذي لا يثمر إلا الإعادة أو القضاء عند انكشاف الحال، ولا فعلية للنهي مع الجهل بالمنهي عنه.
                        ومن هذا يعلم أن دعوى أن الضرر مانع واقعي عن صحة العبادة، كلام ظاهري، لأن حرمة الضرر إن كانت لمثل الآية السالفة، كان ثبوتها مبنياً على امتناع اجتماع الأمر والنهي، ولا ريب أن الذي يمتنع اجتماعه مع الأمر هو النهي الفعلي المنجّز، أعني الثابت للمتضرر العالم بتضرره. وإن كانت للقاعدة، كان دورانها مدار الاعتقاد أوضح على رأي شيخنا المحقق الأنصاري - المصرح به في رسالة الضرر - من أن القاعدة إنما تنفي الحكم الفعلي للمتضرر الثابت للعالم أو الظان بالضرر لأن الحكم المذكور هو الموقع للمكلّف في الضرر، لا الحكم الواقعي الذي لا يتفاوت فيه الحال وجوداً وعدماً في إقدام المكلّف على الضرر، ولا يكون نفيه امتناناً على المكلّف ولا تخليصاً له عن الضرر، بل هو لا يثمر إلا تكليفاً بالإعادة بعد العمل والتضرر(181).
                        وهذا غير بعيد بالنظر إلى ما أسلفناه عن بعض المحققين من دعوى ظهور القاعدة في عدم كون جعل الشارع سبباً للإلقاء في الضرر فإن الاعتقاد بعدم الضرر على هذا يوجب رفع استناد الوقوع فيه إلى الشارع. ولذا ذكروا أن القاعدة لا تجري فيكل مورد يكون إقدام المكلّف على الضرر رافعاً لموضوع استناد الضرر إلى الشارع. وهذا كلام لا تمس الحاجة إليه هنا، وإنما ذكرته وفاءً بوعد سابق.
                        والغرض نقد قول الكاتب: (الجرح ضرر، وأنه لا يحتاج إلى اعتقاد أنه يترتب عليه ضرر)، فإنه لا وجه له إلا دعوى أن الضرر الواقعي هو موضوع الحكم الواقعي، ولا أثر للاعتقاد سوى كونه طريقاً إليه.
                        لكنا قد أسلفنا بأنه لا أثر للطريقية والموضوعية فيما يراد إثباته ونفيه في المقام، فإن الضرر الواقعي أن سلمنا أنه موضوع الحرمة الواقعية، لكن فعليتها موقوفة على العلم بالضرر، وهذا لا اختصاص للضرر به، بل هو جار في جميع المحرمات الواقعية التي لم يوجب الشرع والعقل عند الجهل بها الاحتياط. ويختص الضرر من بينها بأن انسداد باب العلم به لا بالوقوع فيه يوجب تبعية الحكم الفعلي للقطع به أو ظنه، ولا أثر لحكمه الواقعي تكليفياً كان أو وضعياً، لعدم النهي الفعلي المنجز عنه مع الجهل به، كما لا يخفى.
                        وقد يحسن في خاتمة هذا الفصل أن أضمنه نبذة من النشرة التي جاد بها قلم بعض الأساطين من الفقهاء المعاصرين في رسالته (المواكب الحسينية)، فإن لها مساساً بالمقام دعوى ودليلاً. قال - سلّمه الله تعالى -: لا ريب أن جرح الإنسان نفسه وإخراج دمه بيده في حد ذاته من المباحات، ولكنه قد يجب تارة، وقد يحرم أخرى، وليس وجوبه أو حرمته إلاّ بالعناوين الثانوية الطارئة عليه، وبالجهات والاعتبارات، فيجب لو توقّفت الصحة على إخراجه، كما في الفصد والحجامة، وقد يحرم كما لو كان موجباً للضرر والخطر من مرض أو موت، وقد تعرض له جهة محسّنة ولا توجبه. وناهيك بقصد مواساة سيد أهل الإباء وخامس أصحاب العباء وسبعين باسلاً من صحبه وذويه. حسبك بقصد مواساتهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وإظهار التفجع والتلهّف عليهم(182)، وتمثيل شبح من حالتهم مجسمة أمام محبيهم. ناهيك بهذه الغايات والمقاصد جهات محسنة وغايات شريفة ترتقي بتلك الأعمال من أخس مراتب الحطة إلى أعلى مراتب الكمال.
                        أما ترتب الضرر أحياناً بنزف الدم المؤدي إلى الموت أو إلى المرض المقتضي لتحريمه، فذاك كلام لا ينبغي أن يصدر عن ذي لبّ، فضلاً عن فقيه أو متفقّه:
                        أما أولاً: فقد بلغنا من العمر ما يناهز الستين، وفي كل سنة تقام نصب أعيننا تلك المحاشد الدموية، وما رأينا شخصاً مات بها أو تضرر، ولا سمعنا به في الغابرين.
                        وأما ثانياً: فتلك الأمور على فرض حصولها إنما هي عوارض وقتية ونوادر شخصية لا يمكن ضبطها ولا جعلها مناطاً لحكم، أو ملاكاً لقاعدة، وليس على الفقيه إلا بيان الأحكام الكلية، أما الجزئيات فليست من شأن الفقيه ولا وظيفته.
                        والذي علينا أن نقول: أن كل من يخاف الضرر على نفسه من عمل من الأعمال، يحرم عليه ارتكاب ذلك العمل. ولا أحسب أن أحداً من الضاربين رؤوسهم بالسيوف يخاف من ذلك الضرر على نفسه، ويقدم على فعله، ولئن حرم ذلك العمل عليه فهو لا يستلزم حرمته على غيره.
                        وبالأصل الذي شيّدناه من أن المباح قد تعرض له جهات محسّنة، يتضح لك الوجه في جميع تلك الأعمال العزائية في المواكب الحسينية)(183).
                        عند هذا الحد أقطع المحاكمة، وأعود إلى استقصاء المحرّمات المزعوم دخولها في الشعائر الحسينية.
                        1- القواعد 1/231. م
                        2- القواعد 1/231. م
                        3- منهم المحقق الأنصاري في رسالة الضرر [صفحة 278]. إلا أنه لا يُعرف الوجه في ذلك. وهو أعرف بما قال. ولا يبعد أنه على هذه الدعوى بنى في كتاب (الغاية القصوى) حرمة ضرب الرؤوس بالسيوف في العزاء الحسيني. ولكن في كون ذلك إضراراً بالنفس وفي حرمة الإضرار بجميع مراتبه كلام ستعرفه.
                        4- في خبر السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام)-: (إذا أسلم الرجل اختتن، ولو بلغ ثمانين) [الكافي 6/37]. قال في الجواهر [31/261]: ولا قائل بالفصل بين المسلم وبين الكافر إذا أسلم.
                        5- لا خلاف في استحباب ثقب أذني الغلام. وفي الجواهر [31/263] الإجماع بقسميه عليه، مضافاً إلى السيرة. والنصوص الكثيرة، منها خبر ابن خالد عن الرضا (عليه السلام) أنه لما ولد الحسن (عليه السلام)، أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بثقب أذنيه، وذلك لما ولد الحسين (عليه السلام)، وكان الثقب في اليمنى في شحمة الأذن للقرط. وفي اليسرى في أعلاها للشنف [الكافي 6/34]. وفي خبر مسعدة بن صدقة أن ثقب أذن الغلام من السنة. [الكافي 6/35]. ومن هذا الباب خفض الجواري، فقد جاء في الأخبار أن الختان سنّة، وأنه من الحنيفية، وأن خفض الجواري، فقد جاء في الأخبار أن الختان سنّة، وأنه من الحنيفية، وأن خفض النساء مكرمة، وليس بواجب. [الكافي 6/37].
                        6- الأقراط جمع القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة ونحوها. م
                        7- الشُّنوف جمع القرط: ما يعلّق في أعلى الأذن من الحلي. م
                        8- الخزائم جمع الخِزامة: حلقة تجعل في أحد جانبي المنخرين.
                        9- بعضها لا يبتني على التحسين والتقبيح العقليين، كحكمه في باب المقدمة بوجوبها، وفي الضد بحرمته، وشبه ذلك من الملازمات التي ليس ما نحن فيه منها قطعاً، ومن هذا الباب حكمه باتباع الظن الانسدادي على القول بالحكومة، كما لا يخفى.
                        10- قد تقرر في الأصول أن الحسن والقبح العقليين، بمعنى كون الشيء ملائماً للطبع أو منافراً له، لا يستتبع حكماً عقلاً ولا شرعاً بوجوب الملائم، وحرمة المنافر، بمعنى استحقاق الجزاء الأخروي عليهما.
                        11- وفذلكة الأمر أن حكم العقل القطعي المستقل مفقود قطعاً، وغير المستقل - إن ثبت - لا يجدي شيئاً، ودعوى كون الضرر من الظلم، ستعرف ما فيها.
                        12- قيل: ولعل الخلاف في كون وجوب دفع الضرر المظنون إلزامياً - كما عليه الأكثر، أو استحسانياً - كما عليه الحاجبي - مبني على توهم تعميم المضر للمؤذي، وإلاّ فلا ريب في أن دفع المؤذي - كإدماء الرأس - إذا لم يكن فيه ضرر (أي: تعريض النفس للخطر الهلاك)، ليس إلزامياً، والتحرز عن مظنونه احتياط مستحسن، ولذلك يقدم عليه العقلاء، ولولا لغرض معتد به، بلا تحاش ومن دون مراغمة للفطرة.
                        13- أن دفع الضرر لكونه جبلياً - لا حكماً عقلياً - لا يقف العقلاء على حد الجبلة بحيث لا يتجاوزونه إلا بقاسر، بداهة أنهم يلقون بأيديهم إلى المؤذيات والأضرار حسب تفاوت مراتبها، حتى مرتبة الهلاك، فإنهم يتخطون إليها اختياراً لأغراضهم المتنوعة، ولا يرون في ذلك قبحاً عقلاً، ولا استهجاناً، ولا يجدون مراغمة إلا للفطرة والجبلة التي تتبع أهم الأمرين، وكثيراً ما تفضّل الهلاك على السلامة لرجاء الفوز بعاقبة تهون الأخطار دونها، أو للخلاص عن بؤس الحياة وتعاستها.
                        14- القواعد 1/124. م
                        15- وهي آية النبأ بمقتضى التعليل الموجود فيها، وقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)، (واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة)، (ويحذّركم الله نفسه)، (أفأمن الذين مكروا السيّئات..).
                        16- التحريم الشرعي لا يتصوّر بالنسبة إلى الضرر الأخروي المقطوع، فضلاً عن غيره، وأما الدنيوي فإنه وإن كان قابلاً لتعلق الحكم الشرعي بالمظنون منه أو المطقوع من باب الموضوعية، إلاّ أن ذلك خلاف ما ذكر من الآيات، لأنها على تقدير دلالتها على حكم تعريض النفس للأضرار لا تدل إلا على الطلب الإرشادي بالتحذر عن الوقوع في المضار، لما أنها غير ملائمة للطباع.
                        17- في ص 17: المؤذي والشاق غيران حكماً وموضوعاً. وفي ص 18 و 20: الكلفة إذا بلغت حد العسر، أوجبت رفع الحكم. وإذا بلغت حد الضرر، أوجبت حرمة الفعل.
                        18- إشارة إلى نقوض كثيرة موردة على القاعدة المذكورة تدل على عدم تماميتها. وقد ذكرها بحر العلوم، وكاشف الغطاء، وصاحب الفصول، والفاضل النراقي، وشيخنا المرتضي، وكثير من تلامذته، وتكلفوا في الجواب عنها. وتخصيص القاعدة بها في مورد الامتنان، بعيد. وتوجيهها بأن ملاحظة كثرة الثواب المترتب عليها يوجب عدم الضرر والحرج فيها، كما ترى، لأن الملاحظة المذكورة وإن صح أن تكون داعياً لبعض النفوس إلى الإقدام على الضرر والمشقّة، إلاّ أن ذلك لا يوجب انقلاب الحكم عما هو عليه من كونه شاقاً أو ضررياً. ولعل تأويل ما دل على عدم جعل الحكم الحرجي بالأصل، إلى إرادة رفع ما يعرض عليه الحرج من الأحكام المشروعة، أسلم من التوجيه المذكور وغيره.
                        19- كتحملهم الجوع المفرط ثلاثة أيام، وتورم أقدامهم من القيام للصلاة، ومن المشي للحج، وانخرام آنافهم، وأثفان جباههم من السجود، وغير ذلك مما ستعرفه مفصلاً.
                        20- قول القائل (المؤمن محترم عند الله) له معنيان:
                        أحدهما: أنه تعالى لم يهنه ولم يخذله ولم يكله إلى غيره، بل وقّره وقرّبه وجعل له على نفسه حقوقاً: أن يجيب دعوته، ويرفع عمله مضاعفاً، ويجزيه عليه أوفى جزاء وهذا لا دخل له بما يريده المتوهم.
                        ثانيهما: أنه تعالى أمر الناس باحترامه في ما بينهم بعدم إيذائه وإضراره وإهانته. وهذا هو الذي يراد التشبث على حرمة إيذاء نفسه وإضرارها. ولا يخفى أنه لا ملازمة بين لزوم احترام الناس له وبين لزوم احترامه نفسه، ومع فرض عدم الملازمة لا دليل يدل بخصوصه على لزوم احترامه نفسه.
                        21- بل ما يدل على أولوية الإنسان بنفسه من كل من عدا النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة، يقتضي إطلاقه سلطنته عليها، نحو سلطانه على ماله في تصريفه كيف شاء إلاّ ما علم عدم جوازه.
                        22- لمّا بلغت الفقاهة إلى حد الاستدلال على حرمة الضرر بما دل على رفع الحكم عند حصول العسر والحرج (!!)، فلا بدع أن تبلغ حد الاستدلال بقاعدة الضرر على حرمته.
                        23- الحديث عن النبي بهذا المضمون ورد مرسلاً في (تذكرة الفقهاء) 1/522. وورد مسنداً بتعبير (لا ضرر ولا ضرار) في (وسائل الشيعة) 17/319، /341. 17. وورد بتعبير (لا ضرر ولا ضرار على المؤمن) في (الوسائل) 17/341. م
                        24- كفاية الأصول 1/381 م.
                        25- إذ يقول في ص 21: (الجرح نفسه ضرر، وإيذاءٌ محرّم)، وفي ص 14: (الحجامة محرمة بالأصل، لأنها ضرر وإيذاء للنفس).
                        26- بل القاعدة - على هذا الرأي - تنفي الحكم الثابت للأفعال بعناوينها الأولية في حال الضرر، ولا تعمّ غيره، وإلاّ لوقعت المعارضة بين ما دل على وجوب الزكاة - مثلاً - وبين أدلة القاعدة، وذلك مما لم يقل به أو يتوهمه أحد من العلماء.
                        27- هو الفاضل النراقي في (عوائد الأيام). م
                        28- إذ يقول في ص 17 من رسالته: (إن الله لم يجعل حكماً ضررياً، بمقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): لا ضرر ولا ضرار).
                        29- قاعدة نفي الضرر /278. م
                        30- هذا هو الدليل الثالث من أدلة اختصاص قاعدة نفي الضرر بالإلزاميات. م
                        31- هذا هو الدليل الرابع من أدلة اختصاص قاعدة نفي الضرر بالإلزاميات. م
                        32- وقد ذكرنا في باب الحرج كثيراً من العبادات الضرورية، فراجعها، ويأتي في توابع هذا الفصل أضعافها.
                        33- لا يقال: جواز إضرار الإنسان نفسه يختل به أمر النوع أيضاً، لأنا نقول: أن هذا تمنع من وقوعه الفطرة والجبلة، فهو مهما جاز شرعاً، يكون نادر الوقوع أو معدوماً خارجاً، لا محالة فلا يحصل اختلال النظام بخلاف إضرار الغير، فإنه لا رادع عنه من طبع أو غيره، بل هو من شيم النفوس، والمناسب للامتنان كمال المناسبة رفعه.
                        34- لأن لازم هذا ارتفاع الحكم عمن لا يكون في حقه ضررياً إذا كان ذلك موجباً لضرر الأغلب، وهذا لا يلتزم به أحد في باب العبادات الضررية، مع أن فيه تفويت مصلحة الفعل بلا تدارك، وهو خلاف الامتنان الذي شرعت لأجله القاعدة.
                        35- ولذلك لم يوجد في شيء من الأخبار شيء من الأضرار الموجبة للإفطار، أو ترك القيام في الصلاة، أو غيرهما، بل أوكل إلى الإنسان نفسه، ففي خبر عمر بن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله ما حدّ المرض الذي يفطر فيه صاحبه والمرض الذي يدع فيه صاحبه الصلاة من قيام. فقال: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) وقال: (ذاك إليه، هو أعلم بنفسه). وفي خبر سماعة: قال: سألته: ما حد المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر؟ قال: (هو مؤتمن عليه، مفوّض إليه، فإن وجد ضعفاً فليفطر، وإن وجد قوّة فليصم). [وسائل الشيعة 7/156 - 157].
                        36- منهم: الشيخ العلامة الفقيه الشيخ آقا رضا الهمداني في كتابه (مصباح الفقيه) باب التيمم، وفي تعليقته على رسائل المحقق الأنصاري في آخر رسالة أصالة البراءة. ومنهم المحقق الأنصاري والفاضل الآشتياني، ولكن لهذين تفصيلاً آخر تعرفه مما أشرنا إليه في المتن.
                        37- رسالة الحرج مخطوط.
                        38- وهي حكمهم بوجوب الإفطار لخائف الضرر من الصوم، وبطلان غسل من يخاف الضرر باستعمال الماء، وبوجوب الصيام وإتمام الصلاة على المسافر الذي يخاف على نفسه الضرر بسفره، وبسقوط الجمع عمن يخاف الضرر بالسفر. ومن راجع كلمات الفقهاء في هذه الموارد يعلم تصريح بعضهم بصحتها مع حصول الضرر في الواقع إذا اعتقد المكلّف السلامة. ومع الغض عن ذلك فقد فات الكاتب أن يعلم أن الضرر الدنيوي الذي علّقت عليه الأحكام المذكورة ليس هو كل ما يعرض للإنسان من العوارض المؤذية، بل هو ما يخاف معه على النفس أو على الأطراف من التلف، أو يخاف معه حدوث مرض أو بطؤه، وأين ذلك من الإيذاء الحاصل بإدماء الرأس وضرب الظهر بسلسلة؟ ولما ذكرنا قيّد في (مجمع البرهان) [1/214] المرض المسوغ للتيمم بما يضر معه استعمال الماء ضرراً بيّناً، بحيث يقال عرفاً: أنه ضرر، وقيّد الأكثر الخوف بكونه على النفس في باب إتمام الصلاة على المسافر الذي يخاف الضرر. وصرّح في (الجواهر) [16/345] بأن ملاك الإفطار بالمرض، شديده.
                        39- قال في (بيان الأصول) 5/123: (إن قلنا بأصالة حلية الأضرار إلا ما خرج، فالمخرج أمور:
                        أ- قتل النفس مباشرة، أو بالواسطة القريبة والبعيدة التي يصدق عليها قتل النفس والإلقاء في التهلكة للآية (ولا تلقوا...)، والرواية (من قتل نفسه دخل النار)، والإجماع، والعقل، بل ضرورة الدين.
                        ب - قطع عضو من أعضائه، أو شل قوة من قواه، وقد ادعي عليه الإجماع.
                        ج - الأضرار العظيمة الموجبة لحدوث أمراض طويلة صعبة العلاج، أو مستمرة مدى العمر، وإن لم تؤد إلى الموت ونحوه. ولعله إما لصدق (التهلكة) عليه، فتأمّل، وإما لارتكاز ذهن المتشرعة. ولو أشكل فيهما موضوعاً أو حكماً، فالأصل البراءة). م
                        40- كالعمل في المعامل الحديدية، وأتونات البواخر والحمامات، وقس على ذلك حرث الأرض بالآلات العادية القديمة، وطرق الحديد بالمطارق الثقيلة، ومزاولة عمل البناء في حمّارة القيض وصبّارة القر، وغير ذلك مما يوجب إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها.
                        41- لعموم حرمة الظلم كتاباً وسنّة.
                        42- الموارد المشكوك كونها ضرراً من جهة الشبهة المفهومية، يرجع فيها إلى العمومات المثبتة للتكاليف، ولا يرجع - البتة - إلى ما يدل على حرمة الإضرار بالنفس لو كان له عموم أو إطلاق، إلا على القول بجواز التمسك بالعموم عند الاشتباه في المصداق.
                        43- سيماء الصلحاء/80.
                        44- رسالة التنزيه /20.
                        45- قال: كان - يعني رسول الله - يقوم على أصابع رجليه حتى تورم. [تفسير علي بن إبراهيم 2/58].
                        46- قال: لقد قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه، واصفر وجهه، يقوم الليل أجمع، حتى عوتب على ذلك. ورواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضاً.
                        47- بحار الأنوار 17/257. م
                        48- الخرائج 2/917. م
                        49- المقصود من الذنب هنا ليس هو المعصية. بل له معنى آخر لا يسع المقام تفصيله. م
                        50- الحديث طويل، وفيه - بعد الفقرة المذكورة -: فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال له: (أفلا أكون عبداً شكوراً)؟ [الأمالي 2/18].
                        51- في المصدر (ويظمأ في الصيام..). م
                        52- عصب الفم: جفاف ريقه من العطش. وهذا لا يكون - غالباً - إلا في طول الصلاة.
                        53- بحار الأنوار 46/57، فتح الأبواب /18. م
                        54- سورة طه آية 1-2. م
                        55- هذا كالصريح في كونه (صلى الله عليه وآله) قاصداً بذلك زيادة القرب لله. ومتنه هكذا: سأل بعض اليهود أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له: إن داود بكى على نفسه حتى سارت معه الجبال لخوفه. فقال (عليه السلام): (لقد كان كذلك، ومحمد أعطي ما هو أفضل من هذا) إلى أن قال: (ولقد قام عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه، واصفّر وجهه يقوم الليل أجمع حتى عوتب على ذلك بقول: (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، بل لتسعد به). والشقاء هو التعب، والسعادة: الراحة. [الاحتجاج 1/315، الخرائج 2/916].
                        56- مجمع البيان 7/4. م
                        57- الحدائق الناضرة 6/28. م
                        58- تمام الحديث. وكان يقسّم الليل أنصافاً، فيقوم في صلاة الليل بطوال السور، وكان إذا ركع يقال: لا يدرى متى يرفع. وإذا سجد، يقال: لا يدرى متى يرفع.
                        59- مصباح الشريعة /170. م
                        60- سورة الجن آية 26. م
                        61- هذه الأخبار مروية في الكافي [1/256] والبصائر [صفحة 295]، وهي كثيرة.
                        62- أي: رسول الله (صلى الله عليه وآله) م.
                        63- ير علي بن إبراهيم 2/58.
                        64- الكافي 2/95. م
                        65- قرب الإسناد /171. م
                        66- ليس كلامي في جواز رفع إحدى الرجلين أو الاعتماد على الأصابع في القيام للصلاة، فإن ذلك مختلف فيه. وقد ادعى بعض أصحابنا ارتفاع مشروعيته بعد نزول الآية، وإنما الغرض ذكر الأخبار فقط.
                        67- إذا كان إيذاء النفس وإضرارها ليس بمحرّم، فلا وصمة عليه ولا زلّة منه.
                        68- ذكر ذلك مؤلف الرسالة أيضاً في (الدّر الثمين) ص 10.
                        69- المراد بها الموضوعات الجزئية مطلقاً، أو التي لا حكم لكلّيّها، ككون الجارية في البيت أما التي يكون لكلّيّها حكم، كأبوّة زيد لعمرو المحكوم على كلّيّها بالتوارث، فيلزم تعميم علمه لها، ومن هذا القسم جهله (صلى الله عليه وآله) بكون قيامه مضراً.
                        70- وصف روح القدس بهذه الأوصاف قد تضمنته أخبار كثيرة مذكورة في بصائر الدرجات [صفحة 454]، ونقل بعضها في البحار عن كتاب الاختصاص.
                        71- في كتاب من لا يحضره الفقيه [1/134]. وهو أن لا يتخذه الناس رباً معبوداً، وأن يعرف الناس بذلك أحكام السهو، وأن لا يعيّر به بعضهم بعضاً. ولا يخفى أن هذه العلة لو تمت، لأدت إلى ما لا يقول به أحد من المسلمين، ولأوجبت جواز العرج والعور وشبههما من العيوب والعاهات، عليه.
                        72- القول بوقوع السهو من النبي - كيف ما كان - باطل بضرورة المذهب، ولما لم يكن هذا الموضوع قد صار ضرورياً في عصر الصدوق، فإن قوله بالسهو آنذاك، لم يعدّ قولاً على خلاف الضرورة المذهبية، ولم يوجب فسق القائل. أما اليوم الذي أصبح فيه عدم سهو النبي مطلقاً من ضروريات المذهب، فالقول به مخالف للضرورة وموجب للفسق قطعاً. م
                        73- وذلك لقوله في حقه في هذا الكتاب: (أنه قد تكلّف ما ليس من شأنه، ولا هو من صناعته، ولا يهتدي إلى معرفته، ولو كان ممن وفق لرشده، لما تعرض لما لا يحسنه). [عدم سهو النبي / 20].
                        74- عدم سهو النبي /32.
                        75- كما في الخبر المروي في أمالي الشيخ [ ] وفي المناقب [94/149].
                        76- في خبر الأمالي [ ]، والمناقب [4/148] أيضاً.
                        77- في المناقب [4/155]: كان علي بن الحسين (عليه السلام) شديد الاجتهاد بالعبادة، نهاره صائم، وليله قائم، حتى أضرّ ذلك بجسمه، فقال له أبو جعفر: يا أبه! كم هذا الدؤوب؟ فقال: أتحبّب إلى ربّي لعلّه يزلفني.
                        78- رَمِصَت عيناه: خرج منهما وسخ أبيض. والظاهر أن هذا تصحيف، والصحيح: (رمضت عيناه) أي حميتا. م
                        79- في المصدر (من البكاء) بدل (من السهر).
                        80- دبرت جبهته: حدثت قرحة أو جرحٌ في جبهته. م
                        81- روى ذلك الشيخ في أماليه مسنداً عن الباقر (عليه السلام)، والمفيد في الإرشاد [صفحة 255] مسنداً عن سعيد بن كلثوم عن الصادق (عليه السلام).
                        82- رواه صحيحاً ثقة الإسلام في الكافي [2/579-580] عن أبي حمزة الثمالي.
                        83- روى ذلك الشيخ في أماليه، وصاحب المناقب [4/149].
                        84- في رواية الخصال والعدد [2/517]: كان على ظهره مثل ركب الإبل. وفي رواية حلية الأولياء [3/136] عن الزهري: كان على ظهره محل. وعن عمرو بن ثابت: كان على ظهره سواد. وعن مطالب السؤول: كانت آثار في ظهره.
                        85- في رواية الصدوق في الخصال [2/518]: أنه كانت تسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده. قلت: ولذلك لقّب بـ(ذي الثفنات)، قال في القاموس [4/209]: ذو الثفنات هو علي بن الحسين.
                        86- هذا خبر (إنّ) في قوله (إذا كان ضرب الصدر باليد حتى يحمر أو يسود، إضراراً وإيذاءً محرماً، فإن اسوداد ظهر السجاد..)). م
                        87- بحار الأنوار 43/82. م
                        88- علل الشرائع 2/369. م
                        89- في نسخة (والحسين في ناحية الدار يبكي). م
                        90- دبرت كفّاك: حدثت قرحة أو جرح في كفيك. م
                        91- في المصدر (أن تكون الخدمة لها يوماً ولي يوماً).
                        92- الخرايج والجرائح 2/530.
                        93- سيماء الصلحاء/80.
                        94- إذا كان مبنى الكاتب - المصرّح به في ص 21 - على حرمة ارتكاب ما يكون ضرراً، سواء اعتقد فاعله أنه ضرر أم لا، فإن تحمل الجوع ضرر محرّم، وقد وقع منه (صلى الله عليه وآله) ولا دخل لخوف الضرر وعدمه في ذلك، مع أنه إذا كانت الحرمة في جوع النبي (صلى الله عليه وآله) منوطةً بخوف الضرر، فلم لا تكون حرمة إدماء الرأس منوطة بذلك أيضاً؟ ولم يكن محرّماً على الإطلاق؟
                        95- رسالة التنزيه/20.
                        96- وروى في البحار [20/198] عن أبي عبد الله الحافظ وغيره بأسانيدهم عن جابر الأنصاري حديث الكدية التي ظهرت في الخندق، وفيه: (ثم قام النبي (صلى الله عليه وآله) فأتى الكدية، وبطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول بيده وضربها، فعادت كثيباً).
                        97- صفاق: الجلد الذي فوق اللحم وتحت الجلد الأعلى الذي عليه الشعر. أو جلد البطن كله. م
                        98- نهج البلاغة [الخطبة 16]، وإرشاد القلوب للديلمي [1/156].
                        99- سورة الإنسان آية 7. م
                        100- روى الحديث المذكور بالألفاظ التي ذكرتها، العلامة الفاضل الطبرسي في (مجمع البيان) [9/611- 612 والمنقول قريب من المذكور] والزمخشري في (الكشاف) [4/670].
                        101- وأنه دخل في اليوم الرابع حذيفة والمقداد، فأطعمهم تمراً من جذع يابس.
                        102- بحار الأنوار 16/225، صحيفة الرضا /15.
                        103- سيماء الصلحاء/ 80.
                        104- التنزيه / 20.
                        105- في رواية المفيد وابن شهر آشوب [مناقب آل أبي طالب] أنه سار في عشرين يوماً من المدينة إلى مكة.
                        106- روى ذلك العامة والخاصة، لكن في (حلية الأولياء) و(المناب) [4/155] أنه حج عشرين حجة. وقود النجائب خلفه دليل تمكنه من الركوب، وأن غلمانه وأصحابه ركبوا وأجنبوا نجائبهم خلفهم.
                        107- بحار الأنوار 43/399. م
                        108- بحار الأنوار 44/ 192. م
                        109- المتضمنة لمشي كل من يلقاه إجلالاً له، حتى سعد بن أبي وقاص، وهو شيخ قريش يومئذ. وفي بعضها أن سعداً هذا قال له: يا بن رسول الله لو تنكبت الطريق لركب الناس، فقد كلّوا من المشي.
                        110- وكل ألم وإيذاء هو ضرر عند الكاتب، سواء اعتقد فاعله به الأذى أم لا، كما تنطق به ص 21 من رسالته.
                        111- الكافي 1/463. م
                        112- لم أجده في المصدر، نعم هو مذكور في أمالي الطوسي وأمالي الصدوق. م
                        113- سيماء الصلحاء /80.
                        114- التنزيه/20.
                        115- مناقب آل أبي طالب 4/166. لكن الذي فيه (حتى يملأه دمعاً). م
                        116- تعتقد الإمامية أن الإمام لا تختلف حاله في الاختيار والاضطرار حتى حال النوم، وقد بالغوا في ذلك حتى قالوا أنه لا يتثاءب ولا يتمطّى.
                        117- منها تاريخ ابن الأثير ج 2، ص 122، الطبعة الأولى.
                        118- صحيح البخاري 5/9، 28 - كتاب المغازي، باب مرض النبي و...-، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 6/51، مسند أحمد بن حنبل 1/324 - 325، 336. م
                        119- ورد في بعض أخبار الطف أنّ الحسين (عليه السلام) لما برز ولده الأكبر، لم يملك نفسه عن البكاء. [البحار 44/321]. وفي خبر أبي بصير المروي في (الكامل) عن الصادق (عليه السلام)، أنه (عليه السلام) بكى وقال: (يا أبا بصير! إذا نظرت إلى ولد الحسين (عليه السلام) أتاني ما لا أملكه بما أوتي إليهم وإلى أبيهم). [كامل الزيارات /82]. ولكن يُراد بهذا - حسب ما هو متعارفٌ في المحاورات - أنه (عليه السلام) تدركه غاية الدقة بتذكّر المصاب نحو الرقة على اليتيم والضعيف والمظلوم، لا صدور البكاء بلا اختيار، فإنه لا يكاد أن يكون معقولاً، وإن كرّره الكاتب في مواضع كثيرة.
                        120- قال العلامة المجلسي في (جلاء العيون) - ما ترجمته -: (إن بكاء المقرّبين بعضهم بعضاً ليس لأجل المحبة البشرية، بل لأغراض أُخر. والسجاد لما كان عالماً من أبيه ما يخفى على غيره، ويعلم أنه أحب الخلق إلى الله، وأن قتله سبب لضلالة الناس وضياع الدين منهم بقتل الإمام، بكى لذلك). وسواء أتمّ هذا في نفسه أم لا، فإنه صريح بتنزيه الإمام عن كون بكائه لطبيعة الوالدية والولدية.
                        121- سيماء الصلحاء / 80.
                        122- التنزيه/20.
                        123- بحار الأنوار 45/41 م.
                        124- المنتخب 2/430 م.
                        125- الدمعة الساكبة/320 /.
                        126- عوالم العلوم 17/284 م.
                        127- بناءً على ما أسلفناه - في باب الكذب - من التسامح العقلي في باب القصص والمصائب وشبهها إذا احتمل وقوع المخبر به، ولم تكن دلالة عقلية ولا نقلية على خلافه.
                        128- وهما ج 2 ص 16 و ص 129. [الطبعة الأولى].
                        129- وذكر السيد محسن الأمين في (المجالس السنية) في المجلس 61 وصول العباس إلى الماء ورفضه للشرب منه بسبب كون الإمام الحسين عطشاناً. وفي المجلس 63 ذكر أنه اغترف من الماء ليشرب، لكنه رمى بها عندما ذكر عطش أخيه الإمام. كذلك في المجلس 127. وذكر في المجلس 142 شعراً مفاده رفض العباس شرب الماء بالرغم من عطشه، وذلك مواساة مع أخيه الإمام. م
                        130- بفتح الدال على زنة اسم المفعول، وهو من يحدّثه ملك من الملائكة بما غاب عنه. وأما تأييده بالروح، فالمراد غير روح القدس، لأنه مختص بالأئمة على ما في بعض الأخبار.
                        131- المطهّم: الحسن، التام كل شيء منه. م
                        132- هذه هي عبارة أبي الفرج [مقاتل الطالبين /56] وصاحب العوالم [عوالم العلوم 17/282].
                        133- مما يدل على سمو منزلة العباس (عليه السلام) مخاطبة الإمام بقوله (لعن الله من جهل حقك، واستخف بحرمتك). [كامل الزيارات/566 - 557] فإنها تدل على أن له حقاً يمتاز به عن سائر الشهداء الذين نصروا الحسين (عليه السلام)، ولم يجئ في حق واحد منهم (لعن الله من جهل حقك)، وهذا الحق لابد وأن يكون لمزية لنفس العباس غير جهاده ونصرته.
                        134- يشهد لهذا ما رواه الصدوق في (عقاب الأعمال) عن القاسم بن الأصبغ، ونقله أبو الفرج في (المقاتل) [صفحة 79] عن المدايني عنه أنه رأي رجلاً من بني أبان بن دارم، وأخبره أنه قتل شاباً أمرد مع الحسين، بين عينيه أثر السجود. قال: والمقتول هو العباس بن علي (عليه السلام).
                        135- يشهد لهذا ما عن كتاب (الحقائق الوردية) من قول: روينا بالأسناد الصحيحة أنه لما أقبلت الخيل شماطيط، ومعها الرؤوس، جاء رجل على فرس أدهم، وقد علق بلبان فرسه رأس غلام أمرد، كأن وجهه فلقة القمر ليلة البدر، وقد أطال الخيط الذي فيه الرأس، والفرس يمرح، فإذا رفع الفرس رأسه، لحق الرأس بجرانه على الأرض، وإذا طأطأ رأسه صك الرأس الأرض. فسألت عن الفارس، فقيل: هذا حرملة بن كاهل، وعن الرأس، فقيل: هو رأس العباس بن علي (عليه السلام)... الحديث. وهذه الرواية تتفق مع سابقتها في كونه (عليه السلام) أمرد. مع أن عمره - على ما في كتاب (العمدة) - أربع وثلاثون سنة. وهكذا ما حكي عن (العوالم) [17/282 - 283] من أنه كان وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطان في الأرض، وكان يقال له (قمر بني هاشم) وكان شاباً أمرد، بين عينيه أثر السجود، وكان لواء الحسين معه.
                        136- يشهد لهذا ما نقله شيخنا المحدّث النوري - في حواشي مستدركه - عن مجموعة الشهيد الأول: أن علياً (عليه السلام) أراد يوماً أن يدرّب العباس ويمرّنه على الكلام بين يديه. فقال له: قل واحد. فقال واحد. فقال له: قل اثنان. فقال: استحي أن أقول اثنان باللسان الذي قلت به واحد، فأحنى علي (عليه السلام) عليه، وضمّه، وقبل ما بين عينيه.
                        137- ذكر ذلك الجزري في كتاب (أسد الغابة).
                        138- حتى أن الرجاليين منا لم يذكروا له ترجمة، لعدم انتهاء رواياته إليهم واستغنائه عن المدح عندهم. ولقد أجاد كل الإجادة شيخنا الشيخ محمد طه نجف - في كتاب رجاله - إذ قال فيه: إنه (عليه السلام) أجل من أن يذكر في عداد سائر الرجال، بل المناسب أن يذكر عند ذكر أهل البيت المعصومين (عليهم السلام).
                        139- المروية في (الكامل) عن أبي حمزة، عن الصادق (عليه السلام). [لم أجده في (كامل الزيارات)، نعم ورد في (المزار) (للشيخ المفيد صفحة 109) ما يلي: (لعن الله أمة قتلتك، ولعن الله أمة ظلمتك، ولعن الله أمة استحلّت منك المحارم وانتهكت فيك حرمة الإسلام)].
                        140- في الخبر الذي رواه الصدوق في المجالس [الأمالي /374 المجلس 70] والخصال [1/68] عن علي بن الحسين (عليه السلام)، وذلك عندما نظر إلى عبيد الله بن العباس.
                        141- لما جاء في زيارته في قول الحجّة - على قول - (وجعلك من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً). ولكن في كثير من زياراته هكذا: (وجعلك من ذرّية أهل البيت..).
                        142- بحار الأنوار 97/427، 98/218. م
                        143- هذا من رجز العباس المروي عن (العوالم) [17/283]، أنشده عند قطع يمينه. وبعده: (وعن إمام صادق اليقين).
                        144- ذكر ذلك أبو مخنف وغيره من أرباب المقاتل، ونقله أيضاً السيد الداودي في كتاب (العمدة).
                        145- ذكر ذلك كثير من أهل السير الموثوق بهم، ولكن لفظ الطبري هكذا: أنه (عليه السلام) قال لأخوته: يا بني أمّي تقدموا حتى أرثكم، فإنه لا ولد لكم). وهذا لا يبعد كونه تصحيفاً، والصحيح (أرزأ بكم) أو(أرزئكم). نعم عبارة أبي مخنف (أنه (عليه السلام) قدّم أخاه جعفر ليحوز ميراثه). وهذا بعيد للغاية، لأن العباس (عليه السلام) أجل من أن يفعل ذلك. مع أن الوارث لأخوته إذا لم يكن لهم ولد هو أمهم فاطمة بنت حزام، لا العباس ولا ولده.
                        146- هذا واقع في الزيارة المروية في (الكامل) عن أبي حمزة، عنه (عليه السلام).
                        147- الخصال 1/68.
                        148- نقل الورع الثقة، واحد عصره في الإطلاع على التاريخ والسير والحديث، فخر الذاكرين، الشيخ الميرزا هادي الخراساني النجفي عن كتاب (عدة الشهور): أن أمير المؤمنين عند وفاته دعا العباس، فضمه إليه، وقبّل عينيه، وأوصاه، وأخذ عليه العهد أنه إذا ملك الماء يوم الطف أن لا يذوق منه قطرة وأخوه الحسين عطشان. وعلى هذا يكون قول أرباب المقاتل في العباس (لمّا اغترف من الماء غرفة ذكر عطش الحسين (عليه السلام) أنه ذكر عطشه، وأنه موصى عند ذكر عطشه أن يواسيه في العطش ولا يشرب منه شيئاً.
                        149- سورة الحشر آية 9. م
                        150- الحديث مروي في الكافي [2/169]، ومنقول منه في الوسائل [8/544] في أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج.
                        151- تبوك موضع بالشام، بينه وبينها أحد عشر مرحلة، غزاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) سنة 9 من الهجرة، وقد كان قد بلغه أن هرقل - ملك الروم - تجهّز نحوه. فأنزل عسكره تبوك من أراضي البلقاء، ونزل هو بحمص. أقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بها أياماً، وصالح أهلها على الجزية.
                        152- الحديث طويل، مروي في تفسير علي بن إبراهيم [1/294 - 295] عند تفسير الآيات المتعلقة بالمتخلّفين عن النبي في تلك الغزاة. ونقله المجلسي في الجزء السادس من البحار [من الطبعة الحجرية، والجزء 22 صفحة 429 من الطبعة الحديثة].
                        153- روى ذلك الشيخ في (المصباح) عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) [مصباح المتهجّد /724].
                        154- في الصحيح المروي في (الكافي) [4/147] عن الصادق المتضمّن للسؤال عن صوم تاسوعاء وعاشوراء قال (عليه السلام): (.. وأما يوم عاشوراء فيوم أصيب فيه الحسين (عليه السلام) صريعاً بين أصحابه، وأصحابه صرعى. أفصوم يكون في ذلك اليوم؟ كلا ورب البيت الحرام ما هو يوم صوم، وما هو إلاّ يوم حزن ومصيبة دخلت على أهل السماء وأهل الأرض وجميع المؤمنين. ويوم فرح وسرور لابن مرجانة وآل زياد وأهل الشام...، وذلك يوم بكت عليه جميع بقاع الأرض خلا بقعة الشام). هكذا ورد في رواية عبد الله بن سنان المروية في مصباح الشيخ الطوسي [صفحة].
                        155- هكذا ورد في رواية عبد الله بن سنان، المروية في (مصباح) الشيخ الطوسي [مصباح المتهجد /724]. والمشهور أنهم أقل من ذلك عدداً.
                        156- المنتخب في جمع المراثي والخطب 1/441. م
                        157- عوالم المعارف والعلوم 17/294. م
                        158- بحار الأنوار 45/51. م
                        159- رَكْوَة: إناء صغير من جلد يُرب فيه الماء. م
                        160- المنتخب في جمع المراثي والخطب 2/431 - 432. م
                        161- عسى أن يكون من هذا القبيل امتناع مسلم بن عقيل الذي كان - في قول المجلسي - مميزاً بمزيد العلم ووفور العقل، عن شرب الماء لما سقطت ثناياه في القدح، مع أنه يكابد من الظمأ ما يجوز معه شرب الدم، فضلاً عن الماء المتنجس. ولكن مسلماً والعباس رضيعا لبن واحد عن الكاتب. وقد يكون سقوط ثناياه - بحيث يتعذر عليه الشرب - من متممات الحكمة التي اقتضت أن الحسين (عليه السلام) وجميع آله ومن معه يموتون عطاشى.
                        162- سيماء الصلحاء / 80.
                        163- التنزيه /21.
                        164- الأمالي / 111 (مجلس 27).
                        165- قد دلت على ذلك أخبار كثيرة مروية في (بصائر الدرجات) [صفحة 420 - 421] وغيرها، وذكرها المجلسي في البحار.
                        166- هذه أيضاً مضامين مروية في البصائر [صفحة 451 - 457]، والبحار [106/ 17، 18/2684، 25/55].
                        167- لم أجد هكذا رواية في مظانها.
                        168- الخصال 1/272 - 273. والمذكور هنا بعض ما يوجد في المصدر، وبالمضمون.
                        169- أمالي الصدوق /33- 34 (المجلس 8).
                        170- علل الشرائع 1/57. والمنقول بالمضمون.
                        171- لم أجده في (إرشاد القلوب).
                        172- عَمَش: سيلان الدمع من العين بصورة مستمرة حتى لا يكاد صاحبها أن يبصر بها. أو ضعف رؤية العين مع سيلان دمعها في أكثر أوقاتها.
                        173- خَمْص: خلاء البطون من الطعام جوعاً.
                        174- الطّوى: الجوع.
                        175- ذَبْل: يبس، جفاف.
                        176- سيماء الصلحاء/80.
                        177- التنزيه / 21.
                        178- سيماء الصلحاء/. م
                        179- التنزيه / 21.
                        180- سورة البقرة آية 195. م
                        181- قاعدة نفي الضرر/ 279. م
                        182- يشير بهذا إلى أن موكب السيوف الذي يدمي أربابه رؤوسهم ليس هو فقط تمثيلاً لموقف الحسين (عليه السلام) وأصحابه، ولا ظهوراً بمظهر الجازع لمصابهم، بل هذه أيضاً مواساة لهم، وقد شرعت المواساة في الحزن، لقول الصادق (عليه السلام)-: (رحم الله شيعتنا، لقد شاركونا بطول الحزن والحسرة، وبالامتناع عن الطعام والشراب إلى ما بعد العصر بساعة) كما دل على ذلك الخبر المروي عن الصادق. وفيه (صمه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، وليكن إفطارك بعد العصر بساعة على شربة من ماء..). الحديث [مصباح المتهجد / 724]. وبإدماء الرأس أيضاً، ويدل على ذلك أمورٌ:
                        الأول: الخبر الذي رواه السيد ابن طاووس - في أول كتاب المقتل [صفحة 9] - عن الإمام السجاد (عليه السلام) وفيه: (أيّما مؤمن مسه أذى فينا، صرف الله عن وجهه الأذى يوم القيامة، وآمنه من النار).
                        الثاني: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما استوحش من عدم البكاء على عمه حمزة، اجتمع نساء الأنصار يبكين على باب المسجد، وقد ذهب ثلث الليل، فلما خرج رسول الله ورآهنّ يبكين ويندبن عمه، قال لهنّ: (ارجعن رحمكنّ الله، لقد واسيتنّ معي). روى ذلك الشهيد في كتاب (مسكّن الفؤاد) [صفحة 108] وزيني دحلان في الحلية. وإذا كان بكاء أحد على ميت مواساة لأهله، لكونه مظهر الحزن عليه، فالإدماء الذي هو أظهر مظاهر الجزع أولى أن يكون مواساة. وقد ورد في البكاء أنه إسعاد للزهراء، وصلة لرسول الله، وأداء لحقه وحقوق الأئمة، ونصرة للحسين وأسوة بالأنبياء والأئمة والملائكة [كامل الزيارات /81].
                        الثالث: الأخبار الدالة على إدماء الله كثيراً من أنبيائه، آدم، وإبراهيم، وموسى لما وردوا أرض كربلاء، واللفظ الذي جاء فيه هذا (أن دماءهم سالت موافقة لدم الحسين (عليه السلام)).
                        الرابع: الأخبار التي رواها الصدوق - في العلل - عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وابن قولويه - في الكامل - عنه (عليه السلام) [صفحة 64]-، ونقلها جميعاً في (الوسائل) في أبواب الصبر على البلاء - التي تضمنت أن إسماعيل (عليه السلام) (وهو إسماعيل بن حزقيل، وليس ابن إبراهيم خليل الله، كما في بعض الأخبار كان نبياً من أنبياء الله بعثه إلى قومه، فسلخوا جلدة وجهه ورأسه، فأتاه ملك يخبره أن الله أمره بإطاعته فيما يريد صنعه بقومه، فقال (لي أسوة بما يصنع بالحسين). ويدل على المشروعية أمور أُخر، لا لعنوان كونه مواساة، بل لعناوين أخر تأتي إن شاء الله.
                        183- المواكب الحسينية/ 20-22.
                        يتبع.............

                        تعليق


                        • #72
                          الباب الخامس: استعمال آلات اللهو في الشعائر الحسينية

                          فالرابع منها(1): استعمال آلات اللهو. وهي في عبارة الرسالة هكذا: (الطبل، والزمر الدمام)(2) والصنوج النحاسية، وغير ذلك الثابت تحريمها في الشرع. ولم يستثن الفقهاء من ذلك إلا طبل الحرب، والدف في العرس بغير صنج)(3).

                          النقد: أين عنوان (آلات اللهو) من الأمور المعنونة الثلاث؟ أين البوق من المزمار؟ وهل يصح على الكاتب الجهل بهما؟ وهل هو لا يعلم أن البوق ليس من آلات اللهو، بخلاف المزمار؟ وما الذي أدخل لفظ (الزمر) في المقام لولا التغليط؟ فإن الزمر - مصدراً - هو التغني لا النفخ. وأين النفخ بالبوق من التغني بالمزمار؟

                          قس على هذا قول (الصنوج النحاسية). وأسأله: من ذا حرمها قبل هذا العصر؟ وفي أي كتاب وسنة وجد الدليل على حرمتها بالخصوص؟ وهي إن كانت من آلات اللهو، فلا ريب في اشتراكها بينه وبين غيره. وما هو الوجه في تقييدها بالنحاسية؟ وهل هي تحل إذا كانت من حديد أو شبهه؟

                          ثم عد إلى أعظم هذه وهو الطبل، كيف أخذ الكاتب تحريم مطلقه مسلّماً ليتسنى له القول باستثناء طبل الحرب منه؟ ومن حرّم المستثنى منه بنحو كلي؟ وأي فقيه ذكر ذلك في أي كتاب؟ وهل الاستثناء المزعوم يقضي بحلية طبل الحرب وإن ضرب به ضرباً لهوياً؟ أو إذا كان بالنحو المستعمل في الحرب للتهويل على الأعداء فقط.

                          ثم لأي حكمةٍ ترك الكاتب ذكر طبل القافلة المتفق على جوازه؟ وهو عين الطبل المستعمل في العزاء لا يفارقه في ذات ولا في هيئة ولا في صفة. لأي شيء - لعمري - يعود الضمير في قوله (الثابت تحريمها)؟ هل إلى العنوان - آلات اللهو - الذي لا ريب فيه؟ أم إلى المعنون في كلامه الذي فيه الريب والتخليط؟

                          إنه لا ينبغي للفقيه أن يتكلم بأي مسألة وهو آخذ منها بطرف من دون تحقيق. ولكن الذي يهون الخطب أن تباشير الزمان تنذر بهبوط الأمر في فقه الشريعة إلى أسفل من هذه الهوة العميقة.

                          وإني وإن عظم عليّ من بعض الجهات أن أحرر في هذا الباب كلمة، إلاّ أن الخلط في الآلات الثلاث من الكتاب والالتباس الواقع قبل اليوم فيها في أذهان كثير من النّسّاك وأكثر السّذّج، أوجبا أن أفتح هذا الباب الذي كنت ولا أزال أحب أن يبقى موصداً إلى الأبد..


                          الفرق بين طبل العزاء وطبل اللهو:

                          الطبل هو اسم جنس يشمل طبولاً ليس كلها محرماً، بل المحرّم منها هو طبل اللهو، وهو الذي يستعمله المخنّثون من طبل وسطه ضيق، وطرفاه واسعان وهو بوجه واحد - على ما ذكره العلامة(4) والمحقق الثاني(5) وغيرهما -. واسمه الذي يخصه في اللغة (كوبة) - بالضم -، أو (كبر) - بفتحتين -. ولم يقع موضوعاً للحكم بالحرمة في شيء من الأدلة سواهما.

                          وقد فسّر (الكوبة) في (الصحاح)(6) و(المصباح)(7) و(القاموس)(8) بالطبل الصغير المخصّر - بتشديد الخاء -. من التخصّر، وهو دقة الوسط من الإنسان وغيره.

                          وفي غير هذه فسّر بالطبل الصغير. بإسقاط لفظ (المخصّر). ومرادهم بالمخصّر ما نقلناه هنا عن العلامة والمحقق الثاني من كون وسطه ضيقاً. وهذا هو المستعمل اليوم عند أرباب الملاهي.

                          قال الأستاذ الإمام الشيخ محمّد عبده: هو المعروف بالدربكة (دنبركة). والظاهر أن هذه اللفظ حبشية، فإن الزنوج والحبش هم الذين ألقوها في العراق وفي مصر.

                          وعلى كلّ فليس الطبل العزائي - الذي يعبّر عنه بالدمّام - كوبة قطعاً، لأنه غير صغير ولا مخصّر. ولا كبراً، فإن (الكبر) - بوفاق من أهل اللغة -: الطبل بوجه واحد. وهذا ليس إلا طبل اللهو الذي وصفناه، فإن جميع ما عداه بوجهين.

                          وإذا لم يقع النهي في الأدلة إلا عن الكوبات والكبرات - كما يقف عليه المتتبع -، لا عن مطلق الطبل، فما هو الدليل على حرمة الطبل العزائي أيها المهوّلون بلفظ الطبل؟ وليس هو كوبة ولا كباراً.

                          وهل بعد هذا إلاّ أن ينظر في أن الضرب به هل هو لهوي أم لا. فإن مختار المحققين وخاتمتهم شيخنا المحقق الأنصاري، وغيره أن حرمة استعمال حتى آلات اللهو - فضلاً عن المشتركة بينه وبين غيره - ليس من حيث خصوص الآلة، بل من حيث أنه لهوٌ، أي: ضرب على سبيل البطر وشدة الفرح، حسب ما يستفاد من الأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار(9) ،(10).

                          فإن ادعى أحدٌ أن الضرب بالطبل العزائي ضرب لهوي واقع على سبيل البطر والفرح وعلى الكيفية التي يستعملها أهل الملاهي، كان محرماً من هذه الجهة، وتشاركه حينئذ في الحرمة من الجهة المذكورة القصاع والطسوس والطشوت، لوحدة الملاك وفرض عدم حرمة استعمال الجميع بعناوينها الخاصة بها من كونها طبلاً أو قصعة أو طاسة أو كوبة. وإن لم يكن ضرباً لهوياً بذلك المعنى، فما هو الدليل على تحريمها؟

                          هذا ومن البديهي الوجداني أن الطبل المعود استعماله في النجف اليوم في المواكب الحسينية المرسومة فيه أيضاً، مع أنها لم يقصد بها اللهو، هي بنفسها لا لهو بها أصلاً، وإنما يقصد بها انتظام الموكب والإعلان بمسيره ووقوفه ومشايعة صوته لندبة أهل الموكب، فإن انتظامه يختل بخفاء أصوات النادبين كثيراً لولا مشايعته لها.

                          ظني أنه لما كان من المحقّق بالضرورة أن شيئاً من الطبول محرم الاستعمال (وكانت الأسماء الخاصة للمسميات التي هي موضوعات الحكم بالتحريم) مفقودة عند العامة في زماننا وما قبله، ولم يبق لديهم من الأسماء شيء يعرفونه سوى لفظ الطبل الذي هو اسم جنس، توهموا أنه هو المحرم. وربما كان بعضهم يتوهّم أن المراد باللهو المضاف إليه الضرب، مطلق اللعب.

                          ولكن بعد ما عرفت من أن الطبل بنحو كلي لم يقع موضوعاً للحكم بالحرمة في شيء من الأدلة، وبعد ما أشرنا إليه من أن المراد باللهو وبالضرب اللهوي - حسب ما يستفاد من تتبّع كثير من موارد استعماله في الكتاب والسنّة - اللعب على سبيل البطر وشدة الفرح،(11) تعرف أن الطبل المحرّم الاستعمال غير الطبل العزائي إذا كان الضرب به بكيفية غير لهوية.

                          وهاهنا أوقفك على ما أشرت إليه من أن الفقهاء لم يحرموا الطبل بقول مطلق، ويستثنوا منه طبل الحرب - كما يقول الكاتب - بل ذكروا له أفراداً وحكموا بحليّة الجميع إلا واحداً منها، وهو طبل اللهو.

                          قال العلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلي في كتابه (تذكرة الفقهاء) (في كتاب الوصايا، في باب مسائل الوصية بالأعيان): (مسألة: لفظ (الطبل) يستعمل في طبل الحرب الذي يضرب به للتهويل، وعلى طبل الحجيج والقوافل الذي يضرب به لإعلام النزول والارتحال، وعلى طبل العطارين وهو سفطٌ لهم، وعلى طبل اللهو. وقد فسّر(12) بـ(الكوبة) الذي يضرب بها المخنّثون، وسطها ضيق، وطرفاها واسعان، وهي من آلات الملاهي. ولعل التمثيل بها أولى من التفسير(13).

                          فإن أوصى بطبل حرب، صحت الوصية إجماعاً، لأن فيه منفعة مباحة. وكذا باقي الطبول إلا طبل اللهو، فإن كان للحال يصلح لطبل اللهو والحرب معاً، صحت الوصية أيضاً، لأن المنفعة به قائمة)(14) انتهى موضع الحاجة منه بلفظه.

                          وقال المحقق الثاني علي بن عبد العال الكركي العاملي (في باب الوصية من كتابه (جامع المقاصد) في شرح قول العلامة في القواعد (ولو أوصى بطبل لهو بطل)): لفظة (الطبل) تقع على طبل الحرب، وعلى طبل الحجيج والقوافل، وعلى طبل العطارين، وعلى طبل اللهو. وفسّر بـ(الكوبة) التي يضرب بها المخنّثون، وسطها ضيق، وطرفاها واسعان، وهي من آلات الملاهي. ثم قال: إذا عرفت هذا فاعلم أن الطبل الذي الغرض المقصود منه أمر محلّل الذي ليس المراد منه اللهو، بل التهويل في قلوب الأعادي، يجوز اقتناؤه. ولو أوصي به، صحت الوصية إجماعاً نقله في التذكرة. ولو صلح للهوٍ وغيره، صحّت الوصية أيضاً للمنفعة المحلّلة. ولو لم يصلح إلاّ للهو، فإن أمكن إصلاحه لغيره، مع تغيير يسير، يبقى معه الاسم، صحّت أيضاً، خلافاً لبعض العامة، وإلاّ لم تصح.(15) انتهى موضع الحاجة ملخصاً.

                          وهاتان العبارتان صريحتان في أن المستثنى مما يجوز هو طبل اللهو(16)، لا أنه قد استثنى الفقهاء مما لا يجوز استعماله طبل الحرب فقط، كما يتهجّم به الكاتب.

                          وأنت إذا أحطت خبراً بهذه الطبول، وتيقّنت أنها جميعاً - حتى طبل القافلة - يمكن أن يضرب بها ضرب لهوي كما يستعمله أهل الملاهي، فلماذا جوّزوا استعمالها والوصية بها واقتناءها وبيعها وشراءها؟ أليس لأنها ما أعدّت ولا هيّئت لذلك؟ أليس لكون الضرب العادي بها ليس ملهياً ولا مطرباً، بل هو ضرب إعلام وتنبيه أو تهويل، كما هو الشأن في الطبل المستعمل في العزاء.

                          الطبل العزائي لو كان من الآلات المشتركة بين اللهو وغيره، فلا ريب أن استعماله ليس لأجل اللهو والطرب ولا الضرب به على الكيفية الملهية المطربة، ولهذا عد كاشف الغطاء (قدس سره) في عداد ما كان راجحاً لعنوان ينطبق عليه أكثر ما يقام في العزاء من (دق طبل إعلام، وضرب نحاس، وتشابيه صور).(17) وظاهر هذه العبارة، بل صريحها استحباب اتخاذ هذا الطبل في العزاء، لا جوازه.

                          ولم أقف على مثل هذا من غيره سوى الشيخ الفقيه المتبحّر الشيخ زين العابدين الحائري المازندراني(18) في رسالته (ذخيرة المعاد)،(19) فإنه بعد السؤال عن حكم الطبل والصنج المستعملين في العزاء الحسيني، أجاب - بما ترجمة نصه -: (لا بأس به، بل هو من الأمور المطلوبة المحبوبة).

                          وقد تضمن تاريخ العصر البويهي - الحافل بفطاحل العلماء المتنفذين على السلطان - ضرب الطبول في خمسة أوقات أيام سلطان الدولة بعد أن كانت تضرب في ثلاثة أوقات أيام عضد الدولة، حسب ما يؤثر عن تاريخ ابن الأثير وأبي الفداء. والظاهر أن ذلك الضرب للتنبيه على أوقات الصلاة، وليس من المراسم السلطانية.

                          قد رأينا ورأى كل من صحب القوافل الكبرى في جزيرة العرب طبل القافلة، وهو عين الدمام المتعارف استعماله في المواكب العزائية في النجف، أنهما في الشكل والحجم سواء، وفي كون الضرب عليهما بالآلة لا باليد سواء، وفي كون الضرب بهما منتظماً انتظاماً خاصاً سواء، وفي كون الغرض من ضربهما التنبيه والإعلام سواء، فما هو الفارق إذاً؟

                          إن طبل اللهو يفارق هذه الطبول في جميع هذه الخواص حتى في كيفية انتظام الضرب عليه، فإنه في طبل اللهو على كيفية خاصة يعرفها أهل الملاهي ولا يجهلها كل أحد، وتلك الكيفية غير حاصلة في ضرب الدمام ولا في ضرب طبل القافلة.


                          أسماء آلات الملاهي المنهي عن استعمالها:

                          في ختام هذا الفصل أستقصي لك أسماء آلات الملاهي التي وقعت في الأدلة موضوعاً للحرمة، لتعرف أن الطبل العزائي ليس أحدها، ولا يشبهها بوجه لا شكلاً، ولا حجماً، ولا هيئةً، لا ضرباً:

                          منها: الدف - بضم الدال، والفتح لغة -، وهذا يكون بإطار يختلف قطره ضيقاً وسعة، وهو يتراوح - على الأغلب - من قطر ذراع باليد تقريباً، وهو المستعمل في الملاهي، إلى قطر ذراعين، وهو المستعمل في حلقات الذكر. ولا ينفك غالباً إطاره عن قطع نحاس - أو شبهه - صغار بقدر أخمص الراحة، تعلّق عليه في جميع دورته، وهي الصنوج، وهذا ما لا يجهله أحد، ولا يجهل كونه ليس الطبل العزائي.

                          والذي تدل عليه عبارة الكاتب أن الفقهاء استثنوه في العرس. ولعلّ مراده البعض منهم، فإنه استثناه في الأملاك والختان، لنبويّ يدل على الترخيص بالضرب به إعلاناً للنكاح.(20).

                          والشيخ أبو جعفر الطوسي في (المبسوط)(21)، وابن إدريس في السرائر)(22) والعلامة في (التذكرة)(23)، وكاشف اللثام(24) وغيرهم حرموه مطلقاً. وهو الوجه، لضعف دليل الجواز سنداً ودلالة(25).

                          ومنها: البَرْبَط - كجعفر - وهو العود، كما في (القاموس)(26)، وقيل هو الكوبة التي عرفت أنها الطبل الصغير المخصّر - كما في مجمع البحرين -. وقال في (المصباح) أنه من ملاهي العجم. وعن ابن السكيت أن العجم تسميه (المزهر) و(العود)(27).

                          وعلى كل حال فليس الطبل العزائي بربطاً.

                          ومنها: الطنبور. قال في (القاموس): أصله (دُنْبه برّه)، شبّه بإلية الحَمْل(28) وهذا التشبيه ينبئ عن كونه العود أو الطبل الصغير. ومقتضى تشكيله(29) في (المنجد)(30) أنه الآلة المعروفة باسم (الربابة).

                          ومنها: المعازف، جمع (معزف). قال في (القاموس): المعازف: الملاهي، كالعود والطنبور(31) وشبهه. وعن (النهاية) الأثيرية: المعازف هي الدفوف وغيرها مما يضرب(32) بها. وعن (مجمع البحرين): المعازف: آلات اللهو، يضرب بها(33). وفي (المصباح): المعازف: آلات يضرب بها. وعن الأزهري: إذا قيل المعزف فهو نوع من الطنابير يتخذه أهل اليمن. قال: وغير الليث يجعل العود معزفاً(34) والظاهر أن المعازف آلات تشبه العود.

                          ومنها: المِزْهَر. وما عثرت على النهي عنه باسمه. وقد سمعت تفسير البربط به. وقيل هو الدف الكبير ينقر به. وفي (القاموس): المزهر - كمنبر -: العود الذي يضرب به(35) وهذا غير بعيد.

                          هذه هي أنواع من الآلات اللهوية قد وقع النهي عن استعمالها(36). وليس الطبل العزائي المستعمل في المواكب الحسينية - فيما رأيته في بلدان العراق - أحدها بلا شبهة، ولا شبيهاً بها، ولا أعرف الدليل على حرمة استعماله إذا كان الضرب به غير لهوي ولا مطرب.

                          ولو أني عثرت على النهي عن الطبل في شيء من الأدلة الشرعية، لكان للنظر في دلالة دليله على العموم الأفرادي والأحوالي وعدمها، مجالٌ.

                          ولكن مع الفحص التام لم أعثر على سوى المرويات في (الجعفريات) عن علي (عليه السلام) أنه قال: طرق طائفة من بني إسرائيل ليلاً عذاب، فأصبحوا وقد فقدوا أربعة: الطبّالين، والمغنيين...(37).

                          وعن (دعائم الإسلام) عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: مرّ بي أبي وأنا غلام وقد وقفت على زمارين وطبالين ولعابين أستمع، فأخذ بيدي وقال: مرّ، لعلك ممن شمت بآدم. فقلت: وكيف ذلك يا أبة؟ فقال: هذا الذي تراه كله من اللهو والغناء إنما صنعه إبليس شماتة بآدم حين أُخرج من الجنة)(38).

                          وهذان الخبران مع ضعفهما عن إثبات الحرمة - خصوصاً الأخير منهما - لا عموم فيهما، بل الظاهر - ولو بقرينة الاقتران بالمغنين والزمّارين واللعابين - أن المراد بالطبالين مستعملي طبل اللهو، أو ما يكون الضرب به ملهياً: ويؤيّد هذا الظهور أن المتعارف عند الطبّالين والزمّارين هو استعمال الكوبات والكبرات، لا غيرها. هذا مع أن قوله - في ذيل الخبر الأخير - (هذا الذي تراه كله من اللهو والغناء إنما صنعه إبليس) ظاهر في إرادة الضرب اللهوي، لا مطلقاً كما يومئ إلى ذلك خبر سماعة المتقدم على ما يراه شيخنا المرتضى.

                          ومن الغرائب أن جمعاً من المتفقّهة راموا إقامة الأدلة على حرمة استعمال الآلات الثلاث، فرموا أهزع كنانتهم وأفرغوها بالاستدلال بقول أبي عبد الله (عليه السلام)-: (من أنعم الله عليه بنعمة، فجاء عند تلك النعمة بمزمار، فقد كفرها)(39) وبقوله (عليه السلام): وقد سئل عن السفلة، فقال: (من يشرب الخمر ويضرب بالطنبور)(40) وبقول السجّاد (عليه السلام)-: (لا يقدس الله أمّة فيها بربط يقعقع)(41).

                          وأنت - مما أسلفناه وما يأتي - تعرف أن البوق ليس بمزمار، وأن البربط هو العود ذو الأوتار، وأن الطنبور ليس بطبل، بل هو آلة شبه العود تدعى الآن (ربابة).

                          وأما قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لنوف: (إياك أن تكون.. صاحب كوبة وهي الطبل)(42) فهو نهي عن الكوبة، وهي طبل قطعاً، ولكن ليس كل طبل كوبة، ويؤيّد هذا، بل يدل عليه ذيل هذا الحديث، وهو (أن نبي الله (صلى الله عليه وآله) خرج ذات ليلة، فنظر إلى السماء فقال: إنها الساعة التي لا تردّ فيها دعوة إلا دعوة عريف أو دعوة شاعر أو دعوة عاشر، أو شرطي أو صاحب عرطبة، أو صاحب كوبة)(43).

                          وقس على هذا كل ما تضمن النهي عن استعمال المزمار واستعمال الكوبة، كقوله (صلى الله عليه وآله) (أنهاكم عن الزفن والمزمار والكوبات والكبرات)(44).


                          البوق ليس مزمار:

                          البوق هو الآلة المستعملة في بعض المواكب العزائية، وتسمى بلسان العامة في عرف العراقيين (بوري).

                          ولكن الكاتب - في مفتتح كلامه - يقول (الزمر)! وهذا ما لا يعرف، فإن الزمر - مصدراً - هو الغناء بالمزمار، أو هو - بضمتين - جمع لـ(مزمار) إن صح(45). ومعلومٌ أنّ البوق ليس مزماراً، ولا التصويت به زمراً، فما هذا التخليط والتغليط الذي ينطلي على العامة التي لا تعرف اللغة ولا تدقق في العرف.

                          تعليق


                          • #73
                            (البوق) آلة ينفخ فيها نحو النفخ في النار، والنفخ في الزق، لكنها تصوّت بالنفخ بها تصويتاً حاداً هجناً مرتفعاً. و(المزمار) آلة يزمر فيها، أي يتغنى بها، ولا ينفخ فيها، ولذلك يقال: (نفخ في البوق) كما يقال (نفخ في الصور). ولا يقال (زمر في الصور) وغنّى في البوق. ولعل قوله في (القاموس): (البوق آلة ينفخ فيه ويزمر)(46) توسعٌ في العبارة، كيف والبوق هو الصور باعترافه - كما ستعرفه - وهو مما ينفخ فيه ولا يزمر.

                            والفرق جلي بين الزمر والتغني الذي هو صوت مقطع وبين النفخ المجرد عن تقطيع الصوت، وهذا الذي لا تقطيع فيه بطبعه ليس بغناء، بخلاف سابقه، إذاً فما وجه تبديل الكاتب (النفخ بالبوق) في كلام معاصره بـ(الزمر)، الذي يراد به التعمية على العامة؟ وهل يوجد في المواكب الحسينية إلا بوق، وليس فيها زمر ولا مزمار؟

                            المزمار - حسب ما تعرفه من اللغة - آلة يزمر فيها، أي يتغنّى بها، وكانت في بدء الأمر تتخذ من القصب، وهي لا تزال باقية لليوم عند الأعراب في البوادي، يسمى ذو الأنبوب الواحد منها (منفرد)، وذو الأنبوبين (مطبق)، يغنون به غناءً مطرباً، كما تغنى بالآلة ذات الأوتار.

                            قال في (القاموس) زمّر تزميراً: غنّى في القصب(47). وقال في (المجمع): زمر الرجل يزمر - من باب ضرب -: إذا ضرب بالمزمار. وهو - بالكسر - قصبة يُزمّر بها. وقال في (المنجد): الزمّارة: القصبة التي يزمّر فيها. وقال: المزمار: آلة يزمّر فيها، وزمر زمراً: غنّى بالنفخ في القصب(48).

                            ولكن سكان الحواضر والمترفون من أرباب الملاهي ارتفعوا عن القصب إلى ما أحكم منه وأبقى، فاستبدلوه بالشبه وغيره، إذ لا مدخلية للقصب مع حصول الفائدة بعينها في غيره من المعادن المعمولة على كيفية ما يسمى اليوم مزماراً أو (ني). ولا يفرق في كيفية التصويت بينها وبين القصب، بل هي ألهى وأرقّ وأطرب.

                            أما البوق فقد كان عند سذاجة البشر يتخذ من القرون، وهو لا يزال باقياً اليوم عند السوّاح المتسولة من الهنود والعجم (دراويش).

                            ولأمر يخص مزاعم هؤلاء يحافظون على شكله أن يتغيّر، قال صاحب (المجمع) وغيره من أهل اللغة (البوق هو القرن الذي ينفخ فيه).- ولقول صاحب القاموس (الصور - بالضم - هو القرن ينفخ فيه)(49)، يستدل على أن البوق هو الصور، وأنه شيء ينفخ فيه ولا يتغنى به. وقال في (المنجد): الصور: القرن ينفخ فيه، البوق. وقال: البوق: شيء مجوّف مستطيل ينفخ فيه(50).

                            وقد غيّر البوق عند من عرفت من المتسولة إلى مادة غير القرن، وهيئة يكون بها أرفع صوتاً وأشد هجنة، وهو مهما تغيّر مادته - حتى لو صيغ من الذهب - هو ذلك الصور القرني الذي لا زمر فيه ولا غناء.

                            ولذلك يستعمل اليوم في السلم والحرب للتنبيه على الأوقات، وأعداد الساعات، ولحشر الجنود المتفرقة، وتسيير مواكب الرجال المجندة، ونحو ذلك. ولم يعهد الزمر والتغني به منذ البدء للآن.

                            ولم يوجد في الأدلة إلاّ النهي عن (الزفن، والمزمار، والكوبات، والكبرات)(51) وما عثرنا على نهي عن البوقات. ولا أظن أنه توجد علاقة مصححة لإطلاق لفظ المزمار على البوق مجازاً، لبعده حتى في تركيبه الطبيعي عن الزمر، فهو في الحقيقة آلة تنبيه وإعلام، لا آلة طرب.

                            قال العلامة المجلسي(52) في بيان ما جاء في بعض الأحاديث من دقّ بوق التبريز، ما نصه: (بوق التبريز: أي البوق الذي ينفخ فيه لخروج العسكر إلى الغزو).

                            إن الذي يدل على أن البوق غير المزمار - مضافاً إلى ما سبق - أن المزمار لا يكون إلاّ بثقوب كثيرة - من أربعة إلى ثمانية - في أنبوبه المتساوي قدّاً، غير الثقب الذي يلي الشفة، ولكل واحد من تلك الثقوب الكثيرة نغمة خاصة تخالف نغمة الثقب الآخر، يسدّ الزامر ما شاء سدّه بطرف أنملته، ويفتح ما شاء، وهو لا يزال بسدّ وفتح.

                            أما البوق فهو لا يكون إلا بثقب واحد في أسفله غير فوهته العليا، ولذلك لا تكون له نغمة، ولا يكون الصوت الخارج منه إلاّ واحداً غير مختلف(53).. أما صلابته وهجنته فإنها تستند إلى سعة فوهته حسب تركيبه الطبيعي، فإنه كلما طال ودقّ موضع النفخ به واتسعت فوهته العليا، زاد صوته ارتفاعاً وهجنة، وربما كان لالتوائه مزيد دخل في شدة هجنته، إما لزيادة طوله بذلك الالتواء وإما لدوران الصوت به حسب التوائه.

                            فلارتفاعه استعمل لتنبيه الجند، ولهجنته جعل جزءاً من (الجوق الموسيقي) للتأليف بين الأصوات الكثيرة المختلفة، المختلف أفراد النوع الواحد منها، ليحصل كمال الطرب بالمجموع المؤلّف.

                            ولكن البوق لو انفرد عنها لا يكون ولا يصلح أن يكون مُلهياً ولا مطرباً، ولذلك لا ينبغي عدّه من الآلات المشتركة بين اللهو وغيره، فضلاً عن المختصة باللهو. وإذا لم يكن من آلات اللهو ولا من المزامير - لمباينته لها قدّاً وحجماً وشكلاً وهيئةً وتركيباً وصوتاً - فما هو الدليل على تحريمه؟ ولم يوجد في الأدلة ما يتضمن النهي عن استعماله باسم يخصه أو يعمه في ما يحضرني من كتب الفقه والحديث، وعسى أن يحظى بالعثور على تحريمه غيري، فيرشدني إليه(54).

                            عدم حرمة الصنح المستعمل في العزاء:

                            الصنج، وهو مفرد (صنوج) المعبّر عنه بلسان العامة في النجف (طوس). وهذا يستعمل في المواكب العزائية للعلة التي يستعمل لها الطبل من انتظام الموكب، والإعلان بمسيره، ووقوفه، ومشايعة صوته لندبة أهل الموكب، فإن انتظامه يختل بخفاء أصواتهم إذا تباعد محشد منهم عن آخر، لولا صوت هذا الصنج، ولذلك لا نجدهم يستعملونه عند لطمهم في دار - مثلاً -، لاستغنائهم عنه حينئذ.

                            والانتظام وإن لم يكن لازماً في مواكب العزاء، لكنه مستحسن قطعاً، والموكب المزعبل لا مُلزم به. وهب أنهم التزموا تشويش المواكب بترك الصنج، فالإعلام بالارتحال والوقوف وغيرهما لا يكون إلاّ به.

                            وقد سمعت من غير واحد من المشايخ(55) أن هذا الصنج أحدثه العلامة المجلسي (قدس سره) في قرى إيران مصاحباً لموكب اللطم المخترق للأزقّة والمجتمع في الدور والمآتم، ليسمع صوته أهل القرى القريبة منهم، ويعلموا بإقامتهم للعزاء ليشاركوهم إمّا في الاجتماع معهم، وإما بإقامة عزاء آخر في قريتهم، فاستطرد الناس استعماله لغير ذلك، وليتهم اكتفوا به عن الطبل، لأنه يقوم مقامه في الفائدة المقصودة منه.

                            وعلى كل حال، فإن من الخطأ الفاحش عدّ الصنج المتعارف ضربه اليوم في العزاء الحسيني في النجف من الآلات المشتركة بين اللهو وغيره، فضلاً عن المختصة.

                            وسواء أريد باللهو مطلق اللعب - كما يفهمه العوام - أو الواقع على سبيل البطر وشدة الفرح - كما أسلفنا نقله عن أهل التحقيق - فضرب الصنج لا يقصد به عند مستعمليه إلا ما ذكرنا من انتظام الموكب العزائي والإعلان بمسيره ووقوفه، وذلك ليس لعباً ولا بطراً، فكيف تعدّ الآلة المستعملة لذلك من آلات اللعب والبطر؟

                            إذاً فما الوجه في ما أرسله الكاتب على عواهنه من حرمة الصنوج النحاسية وما هو وجه التقييد بها؟ أنه في مفتتح مقالته يزعم أنه يذكر الأمور التي أجمع المسلمون على تحريم أكثرها، وأنها من المنكرات، ولازم ذلك كون القليل منها غير محرّم أو غير مجمع على تحريمه. فهل الضرب بالصنوج مما أجمع المسلمون على تحريمه أو هو محرّم بغير الإجماع؟ وما هو هذا الدليل القائم على التحريم إذا لم يكن الصنج من آلات اللهو الخاصة به؟

                            نعم أرسل الشيخ الفقيه المتبحّر المتقن الشيخ فخر الدين الطريحي النجفي في (مجمع البحرين) - وهو كتاب يجمع غريب القرآن والحديث، ليس للإمامية مثله - حديثاً لا يعلم من أي طريق روي، ومن هو المروي عنه، سوى أنه يتضمن التحذير عن استعمال الصنوح، وها هو ذا متنه: (إياك والضرب بالصوانج، فإن الشيطان يركض معك، والملائكة تنفر عنك)(56).

                            ولقد فحصت كثيراً في الأبواب المناسبة لهذا الحديث من كتاب أصحابنا في الفروع والحديث وغريبه، فلم أجده. والذي وجدته في أصل زيد النرسي - بعد استقصاء ما عداه فحصاً هو هذا (وأما ضربك بالصوالج، فإن الشيطان معك يركض، الملائكة تنفر عنك)(57).

                            وهذا موافق نصاً لما نقله شيخنا المحدث النوري - أعلى الله مقامه - في (المستدرك)(58) نقلاً عن أصل زيد النرسي(59).

                            و(الصوالج) في هذا الحديث - باللام قبل الجيم - مفرد (صولجان). والصولجان هو عصى في رأسها اعوجاج، فارسي معرب. قاله الجوهري.

                            وهذا نهي عن اللعب بالصولجان والكرة - المسماة في عرفنا (طوبة) -. واللعب بها أمر معروف عند العرب وغيرهم اليوم، فلا حاجة إلى وصفه.

                            وتمام الخبر المذكور - كما هو منقول في (المستدرك) - عن الصادق (عليه السلام) هكذا: قال في من طلب الصيد لاهياً: وإن المؤمن لفي شغل عن ذلك، شغله طلب الآخرة عن الملاهي. إلى أن قال: وإن المؤمن [عن جميع ذلك] لفي شغل، ما له والملاهي؟ فإن الملاهي تورث قساوة القلب، وتورث النفاق. وأما ضربك بالصوالج، فإن الشيطان يركض معك، والملائكة تنفر عنك. وإن أصابك شيء، لم تؤجر. ومن عثرت به دابته، فمات، دخل النار)(60).

                            وفي كتاب (الفقه الرضوي) - باب اللعب بالشطرنج والنرد والقمار والضرب بالصوالج - وساق النواهي في الثلاثة الأول ثم قال: (واتق اللعب بالخواتيم والأربعة عشر وكل قمار، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب.

                            وإياك والضربة بالصولجان، فإن الشيطان يركض معك والملائكة تنفر عنك. وإن عثرت به دابته فمات، دخل النار)(61) وروى في (المستند) عن الكتاب المذكور، مثله، إلا أن فيه (إياك والضربة بالصوالج).(62)

                            وعلى هذا يكون الخبر أجنبياً بالمرة عما نحن فيه، إذ هو يتضمن المنع عما يتلهى به الإنسان بغير آلات الطرب، كالصيد واللعب بالصولجان والكرة وغيرهما،(63) وأن المتلهي بهما إذا حدث به حدث من لعبه، لا يؤجر، وإذا عثرت - بمن يطلب الصيد - دابته فمات، يدخل النار.

                            وإذا كان الأمر كذلك، فأين الدليل على حرمة استعمال الصنج المتعارف، وليس هو من الآلات الخاصة بالملاهي قطعاً، ولا مستعملاً في اللهو؟ وأين وجده صاحب رسالة التنزيه وغيره عند الإفتاء بحرمته؟ وهل تصح الفتوى بلا فحص كامل عن وجود الدليل وبلا بحث وافٍ عن دلالته؟

                            ولولا أن مؤنة النفي عظيمة، لتحديتهم جميعاً بطلب الدليل على حرمة استعمال البوق والصنج المتعارفين في العزاء الحسيني في العراق.

                            إلاّ أن يكابر أحد منهم بدعوى كون المنقول في (مجمع البحرين) غير المذكور في كتاب النرسي والفقه الرضوي. وهذا في غاية البعد، لظهور وحدة الخبر، واختلاف النسخ فيه هو الذي أوقع صاحب المجمع في ما وقع فيه. وقد صرح بالوحدة واختلاف النسخة صاحب المستند - في كتاب الشهادات منه(64)-، لكن عبارته ليست صريحة في أن المحرّف (صوانج) لا (صوالج. نعم هي صريحة في أن تردد اللفظ الوارد بينهما كاف في عدم صلاحية الخبر لإثبات الحرمة(65).

                            ثم إنا إذا أخذنا الحديث المذكور في (المجمع) بمتنه مسلّم الرواية - وهو مرسل، وغير منقول في جوامع الحديث - فهل يصح على أصول أصحابنا إثبات حكم تحريمي به؟ كلا، إن أصحابنا - قديماً وحديثاً - لا يعملون بمثل هذا الخبر في الأحكام الإلزامية، ولا يثبتون بمثله إلا الاستحباب والكراهة.

                            ومع الغض عن هذا، فإن حمل النهي الذي هو باللفظ الموضوع للتحذير - لا بمادة النهي ولا بهيئة - على التحريم لا قرينة عليه من حال أو مقال. وليس التحذير - كالنهي - موضوعاً للحرمة أو ظاهراً فيها. ولا إجماع عليها حسب الفرض يصلح للقرينية على إرادتها منه.

                            ومع الإغضاء عن هذا أيضاً، فإن الصنج له في اللغة معان:

                            1- آلة بأوتار.

                            2- قطع نحاس تعلّق في إطار الدف.

                            3- آلة تتخذ من صفر، يضرب إحداهما بالأخرى.

                            4- الآلة التي يتخذها الراقصون في أطراف أصابعهم يصفقون بها، تسمى عند أرباب الملاهي (زنك) وهو معرب صنج. وغير ذلك من المعاني.

                            والمعنى الثالث منها ينطبق على ما هو المستعمل اليوم في العزاء الحسيني، لكن من المعلوم أن استعمال هذا الصنج لا يمكن قصد التلهي به، لأنه بذاته لا لهو فيه ولا طرب. وقد سمعت - في ما سلف - أن المستفاد من الأخبار الكثيرة أن حرمة اللعب بالآلات ليس من حيث خصوص الآلة، بل من حيث أنه لهو - أي ضرب على سبيل البطر والفرح -.

                            وأنت إذا تأمّلت، وجدت دق الصنج المتعارف في المواكب يوجب الضجر، لا الطرب، وما هو إلاّ كدقّ الصفّارين بمطارقهم الحديدية على النحاس دقّاً منتظماً.

                            ولا يبعد أن يكون الصنج الذي قد يعد من آلات الملاهي ليس هو هذا الصنج، ولا صنج الموسيقى القائم مقام التصفيق، بل هو ما يتخذه الراقصون في أصابع أيديهم يصفقون به من الآلة المسماة في عرفنا (زنك).

                            ثم إذا كان الصنج لغة مردداً بين معان، وكانت الآلة ذات الأوتار قدراً متيقناً مما جعل موضوع الحكم، وما عدا ذلك مشكوك المراد به من اللفظ، كان مقتضى أصول الفن لمن لا يوجب الاحتياط في الشبهة المفهومية التحريمية، أن يقول بجوازه، لا حرمته.

                            وكم فرق بين هذا وبين كاشف الغطاء إذ يعدّ من الأمور الراجحة (دق طبل إعلام وضرب نحاس)(66) وظني أن كاشف الغطاء والشيخ الحائري المازندراني(67) - لو كانا متيقنين للنهي عنه في أخبارنا وأن النهي تحريمي - قد حملا الصنج المنهي عنه على خصوص المطرب الذي يضرب به ضرب بطر وفرح ملاحظة للمناسبة بين الحكم وموضوعة(68).



                            1- أي: من المنكرات التي ادعى الأمين دخولها في الشعائر الحسينية. م

                            2- هكذا وقع في ص 4 من الرسالة. وفي ص 5 هكذا: (دق الطبول، وضرب الصنوج، والنفخ في البوقات - الدمام). والجميع خطأ، وهو إمّا غلط مطبعي أو سهو من قلم الكاتب.

                            3- التنزيه/4.

                            4- تذكرة الفقهاء 2/4863. م

                            5- جامع المقاصد 10/107. م

                            6- الصحاح 1/215. م

                            7- المصباح المنير 2/543. م

                            8- القاموس المحيط 1/131. م

                            9- المكاسب 4/243. المنقول بالمضمون. م

                            10- منها رواية سماعة عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لما مات آدم، شمت به إبليس وقابيل، فاجتمعا في الأرض، فجعل إبليس [وقابيل] المعازف [والملاهي] شماتة بآدم، فكل ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذّذ به الناس) من الزفن والمزمار والكوبات والكبرات (فإنما هو من ذلك). [وسائل الشيعة /233/ 12].

                            11- هذه الموارد كثيرة، يضيق المقام عن عدها، ويوجد في الأخبار وكلمات اللغويين خلافها. والمختار - تبعاً للشيخ المحقق الأنصاري - هو ما ذكرناه. قال (قدس سره) في جملة كلام له في مكاسبه [/244 - 246]: لكن الإشكال في معنى اللهو، فإن فسر به مطلق اللهو - كما يظهر من الصحاح والقاموس - فالظاهر أن القول بحرمته شاذ مخالف للمشهور والسيرة، فإن اللعب - وهو الحركة لا لغرض عقلائي - لهو، ولا خلاف ظاهراً في عدم حرمته. نعم لو خُصّ بما يكون عن بطر وفسّر بشدة الفرح، كان الأظهر تحريمه. ويدخل في ذلك الرقص والتصفيق والضرب بالطست بدل الدف، وكل ما يفيد فائدة آلات اللهو.

                            12- أي فُسّر طبل اللهو. م

                            13- هذا التعبير من العلامة إما بملاحظة أن الكوبة فسرت بمعان، منها الطبل الضيق الوسط، ومنها النرد والشطرنج - كما في القاموس -. وإما بملاحظة أن الدف طبل لهو أيضاً، وليس هو بكوبة، فيكون تفسير طبل اللهو بالكوبة على كل من الملاحظتين من قبيل تحديد المعنى وإبانته بذكر فرد من أفراده نحو تفسير الأعم بالأخص، ولا يصح أن يكون تفسيراً حقيقياً، بل جعل ذلك مثالاً، خيرٌ من جعله تفسيراً.

                            14- تذكرة الفقهاء 2/483. م

                            15- جامع المقاصد 1/107. م

                            16- لمعرفة المزيد من كلمات الفقهاء بهذا الشأن، راجع مفتاح الكرامة 7/447 - 448، 477 - 478. م

                            17- كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء/53. م

                            18- كاشف الغطاء هو من لا يجهل منزلته في العلم وترويج الدين أحدٌ من عوام الشيعة في بلدانها، فضلاً عن العلماء. أما الشيخ زين العابدين المازندراني الحائري فهو من خواص تلامذة خاتمة الفقهاء الأواخر الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر (قدس سره). وكان هذا الشيخ لشدة... وحفظه للجواهر، يستعين به أستاذه على كتابة أجوبة الاستفتاءات التي ترد عليه من الآفاق دون سائر تلامذته. قدم العراق سنة 1250هـ فقطن كربلاء يتلمذ على العلامة السيد إبراهيم القزويني صاحب الضوابط والدلائل. وعند وقوع الحصار على كربلاء من بعض العادين عليها، انتقل إلى النجف، فلزم درس شيخه الأعظم صاحب الجواهر، إلى أن توفي شيخه المذكور سنة 1266هـ، فانتقل إلى كربلاء بأمر صدر من سيد الوصيين أمير المؤمنين (عليه السلام) في العالم الذي من رآهم فيه فقد رآهم. ومن آيات صدق تلك الرؤيا نجاح الشيخ المذكور في كربلاء واستقامة الأمر له وتمكنه من بث العلم وتربية العلماء. وما برح كربلاء حتى توفي بها في أواخر السنة العاشرة بعد الثلاثمائة وألف من الهجرة.

                            19- طبعة بومباي، المطبوعة سنة 1316، ص 368 وص 435. وفي هذين الموضعين صرح بجواز استعمال طبل اللهو إذا كان القصد به حكاية حال قتلة الحسين في لهوهم. وقد سئل عن وجه ذلك - في ص 435 - ، فقال: ولما كان الغرض على ما يظهر من التواريخ، (على ما قيل) من أنهم عليهم اللعنة والعذاب كانوا يشتغلون بآلات اللهو وقت مجيء أنصارهم جديداً، ووقت مبارزة الأبطال ونحو ذلك، فلو فرض ضرب بعض آلات اللهو بقصد حكاية ما كانوا يفعلونه في تلك الأوقات، فلا نضايق من إباحته وعدم حرمته، لاختلاف القصد، فتبصّر وتأمّل. فحينئذ في الغناء وبعض آلات اللهو يمكن فرض الحلية. لا يقال: أن الحكاية بالمحرم، محرمة. لأنّا نمنع حرمة هذه الأمور بهذا القصد، والأصل الإباحة، والله العالم. انتهى. وهذا من الغرائب التي ما كنتُ أحسب أن يجترئ عليه فقيه. وأغرب منه أن نسخة الكتاب المذكور عليها حواشي ولده العلامة الشيخ حسين، وحواشٍ خطية للمحقق الورع الميرزا محمد تقي الشيرازي الحائري المتوفى سنة 1337هـ، وقد أمضيا ذلك ولم يعلقا عليه شيئاً، وكذا جواب السؤال المترجم في الأصل ملخصاً. وعلّق العلامة الميرزا محمد تقي على قوله (لا بأس به) هذه العبارة: (بالشرط السابق، أي إذا لم يصدق عليه أنه لهو).

                            20- النبوي المذكور هكذا (أعلنوا بهذا النكاح، واضربوا عليه بالدف). ولم أتحقق طريقه، ولم أجده - بغير فحص كامل - في كتب الحديث، وإنما أرسل في بعض كتب الفروع. والظاهر أنه عامي. ومثله قوله (صلى الله عليه وآله) (فصل ما بين الحلال والحرام والضرب بالدف عند النكاح). وقوله (لا يجوز ضرب الدف إلا في الأملاك).

                            21- المبسوط 4/20. م

                            22- السرائر/388. م

                            23- تذكرة الفقهاء 2/484. م

                            24- كشف اللثام 2/193. و2/373 من طبعة أخرى.

                            25- لأنه آلة لهو، ولاستفاضة الأخبار بالنهي عن استعماله، بحيث لا يصلح النبوي وحده مخصصاً أو مقيداً لها، لو تمت من جميع الجهات دلالته.

                            26- القاموس المحيط 2/350. م

                            27- المصباح المنير 1/41. م

                            28- القاموس المحيط 2/79. م

                            29- تشكيله: رسم شكله. م

                            30- المنجد/472. م

                            31- القاموس المحيط 3/175. م

                            32- النهاية في غريب الأثر 3/230 . م

                            33- مجمع البحرين 5/99. م

                            34- المصباح المنير 2/407. م

                            35- القاموس المحيط 2/43. م

                            36- قد ذكر أكثر الأخبار الدالة على النهي عنها وعن خصوص الكوبات والكبرات في الوسائل في أبواب التجارة. [12/233] وملاحظتها لسهل على أهل العلم الذين يهمهم معرفة الحال. وقد ورد في الأخبار تفسير الكوبة بالطبل [الخصال 1/338]. وذلك مما لا ريب فيه. إنما الكلام في أن المنهي عنه في الخبر الطبل مطلقاً، أو الكوبة التي هي طبل مخصوص؟ والخبر المشار إليه يدل على النهي عن كل كوبة لا عن كل طبل. وإنما ذكرت هذا لرفع التوهّم عن بعض الأفهام عندما يرون الخبر المذكور وهو هذا (يا نوف! إياك أن تكون عشّاراً أو شاعراً أو شرطياً أو عريفاً أو صاحب عرطبة وهي الطنبور، [أو صاحب كوبة وهي الطبل]) [الخصال 1/338].

                            37- الجعفريات /169 . م

                            38- دعائم الإسلام 2/209. ولا يخفى أن هذّ الرواية ضعيفة سنداً للإرسال، ودلالة بما تشتمل عليه من مضامين خاطئة لا يمكن قبولها، مثل استماع الإمام الصادق (عليه السلام) للهو، وإن كان عمره قليلاً، فهي مطروحة بالكلية، أو خصوص القسم المشتمل على تلك المضامين، تفكيكاً للحجية. م

                            39- الكافي 6/432- 433. م

                            40- الخصال 1/62. م

                            41- الكافي 6/434. م

                            42- الخصال 1/338. م

                            43- الخصال 1/338. م

                            44- الكافي 6/432. م

                            45- يظهر من كتب اللغة عدم صحته.

                            46- القاموس المحيط 2/41. م

                            47- القاموس المحيط 2/ 41. م

                            48- المنجد /305.

                            49- القاموس المحيط 2/26. م

                            50- المنجد / 439، 55. م

                            51- الكافي 6/432. م. النهي عن المزمار وعن الكوبات والكبرات كثير، ومنه الحديث المذكور في الهوامش السابقة. أما البوق فلم يقع النهي عنه في شيء من الأخبار. نعم جاء في كتاب المقاتل أنه عند دخول سبايا آل محمد إلى الشام، سمعت الطبول تضرب، والبوقات تدق. والظاهر أن استعمال البوقات لحشر الجنود وتنبيه الناس، فقد روي أن يزيد أمر أن تستقبل السبايا بمائة وعشرين راية، تحت كل راية كذا وكذا من الرجال.

                            52- في ج 6 من البحار، ص 339 [من الطبعة الحجرية، و17/259 من الطبعة الحديثة].

                            53- وأيضاً المزمار القصبي لا يتحقق الزمر به إلا بالمجمع، وهو قصبة صغيرة يدخلها الزامر في فمه، وطرفها الآخر مدخل في نفس المزمار، ولذلك قال فقهاؤنا: لو أوصي له بمزمار وأمكن الانتفاع به انتفاعاً محلّلاً، صحت الوصية، ولا يلزم حينئذ تسليم المجمع، وهو الذي يجعله الزامر بين شفتيه، لأن الاسم لا يتوقف عليه) صرح بذلك في (جامع المقاصد) وغيره. أما البوق فلا مجمع له، لأنه لا يزمر به، أي: لا يتغنى حتى يتوقف على مجمع. وظني أنه لو ثقب من وسطه، وأوصل أسفله بمجمع يدخل كله في الفم، أو صنع به ما يقوم مقام المجمع من الكيفيات المتعارفة بين اللهويين في آلاتهم كالني وغيره، لأمكن الزمر به.

                            54- أنا لا أتحدّى في هذا ولا في سابقه، لأن التتبع لا يقف على حد، سيما وبضاعتي من كتب الحديث ليست بتلك المكانة، ولكن القدر الحاصل من الفحص لي يوجب الجزم والمعذورية. نعم لا يكاد الإنسان يأتي على كتاب من كتب المغازي والحروب إلاّ ويجد فيها نحو هذه العبارة (فلما أصبحوا، ضربوا الطبول والبوقات) أو (أمر فلان بضرب الطبول والبوقات) وشبه ذلك مما يدل على أن البوق آلة تستعمل مع طبل الحرب قديماً لحشر العسكر.

                            55- منهم السيد العلامة الفاضل، قدوة أهل الورع واللطف والأخلاق الفاضلة في زمانه، السيد مصطفّى الطالقاني النجفي، والشيخ العلامة الفقيه المقدس الورع الشيخ حسن مطر (قدس سرهما). وقلّ من يوجد في النجف اليوم من لا يعرف مكانتهما من العلم والورع، لقرب العهد بهما. كانا من تلامذة المرحوم الشيخ محمد حسين الكاظمي (قدس سره) صاحب كتاب (هداية الأنام في شرائع الإسلام) المتوفى في أخريات سنة 1307 من الهجرة. وتلمذا بعده على شيخنا الذي قل أن يأتي له الدهر بنظير علماً وورعاً، الشيخ محمد طه نجف (قدس سره) نفعنا الله بهم أمواتاً، كما نفعنا بهم أحياءً.

                            56- مجمع البحرين 2/313.

                            57- أصل زيد النرسي /51. م

                            58- مستدرك الوسائل 3/216. م

                            59- النسخة التي بيدي الآن من كتاب زيد النرسي مستنسخة على نسخة العالم العامل الورع المقدس الباحث المتتبع الميرزا محمد الطهراني - سلمه الله - الذي يقيم اليوم في سامراء. جاء هذا الشيخ بمجموعة فيها من الأصول الأربعمائة نيف وعشرة أصول، منها كتاب النرسي، فاستنسخت عليها قبل سنين في النجف ثلاث نسخ، والأصل مستنسخ على نسخة الميرزا النوري (قدس سره) أو هو هي. وكان النوري يتفرد بهذه الأصول، ومنها ينقل في مستدركه. وليعلم أن في زيد الزراد وزيد النرسي، وفي كتابيهما كلاماً مذكوراً في كتب الرجال، لا محل لتحقيقه هنا. والمحقّق عند الشيخ أبي جعفر وجلّ من تأخر، صحة الكتابين وحسن حال الرجلين. وعلى ذلك بنى شيخنا النوري (قدس سره) في آخر مستدركه. وهو بناء محكم.

                            60- مستدرك الوسائل 3/216. م

                            61- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا /38. م

                            62- مستند الشيعة 2/637 م.

                            63- كاللعب بالخاتم والجوز والكعاب والأربعة عشر - المسماة في العرف (منقلة). ويشهد بإرادة هذا المعنى أمور: الأول: أن الضرب بالصنوج لا ركض فيه من الضارب ليركض الشيطان معه، بخلاف الصوالج، فإنها يركض بها خلف الكرة. الثاني: أن الضرب بالصنوج ليس في معرض حصول ضرر بدني، ليصح أن يقال: إن أصابه منه شيء لم يؤجر، بخلاف الصوالج، فإن الركض بها معرض العثرات والصدمات المضرة. الثالث: أن (صنج) لا يجمع على (صوانج) بنص المجمع [2/313] وغيره، بخلاف (صولجان) فإنه يجمع على (صوالج) وذلك آية تحريفه به.

                            64- قال في (المستند) [2/639]: ومنه ما يشك في دخوله فيه - أي: في اللهو كالصور - هو البوق -، وما يتخذه السلطان لإعلام العساكر وعلامة الجلال، ويقال له بالفارسية (كرنا)، وكذا الصنج - بالمعنى الذي فسّر به في (القاموس) - وهو دفتان من رصاص، يضرب بإحداهما على الأخرى لاجتماع الناس. وأما ما روي من قولهم (إياك والصوانج، فإن الشيطان يركض معك، والملائكة تنفر عنك) فلا يصلح لإثبات الحرمة، لاختلاف النسخة، فإن في الأكثر: الصوالج. فتأمل). انتهى. والظاهر أنّ مراده اختلاف نسخ (الفقه الرضوي). وإذا كان الرضوي هو مستند القوم مع اختلاف نسخه، زاد الاستدلال به ضعفاً على ضعف.

                            65- ونحن قد أقمنا الشواهد اللفظية والسياقية لتعيين كون الوارد هو (صوالج) لا غيره. على أن الموجود في نسخة (الفقه الرضوي) المطبوعة (صولجان) وعنوان الباب النهي عن (الصوالج)، فأين لفظ (الصوانج) لولا قول المستند أنه نسخة؟

                            66- كشف الغطاء/ 53-54. ورجحان الأمور المذكورة هو في حال كونها في مقام التعزية على الإمام الحسين (عليه السلام) كما صرح به كاشف الغطاء في المصدر المذكور. م

                            67- في ص 368 من كتاب (ذخيرة المعاد) المطبوعة في بومباي سنة 1316.

                            68- من جميع ما ذكرنا يعلم أن ما يتمنطق به بعض الطلبة القاصرين من الإتفاق على حرمة استعمال آلات اللهو، أجنبي عن المقام، ولذلك لما سئل حجة الاسلام الميرزا محمد تقي الشيرازي عن آلات اللهو، كالطبل والطنبور وسائر أنواع الملاهي التي هي من أنواع الطبل والمعازف في العزاء الحسيني، أجاب بأنه يجب فيه وفي غيره ترك آلات اللهو. وأنت قد عرفت أن الطنابير والمعازف وسائر آلات اللهو غير مستعملة في العزاء، ولكن القاصرين لا يعرفون الطّنبور والمِعْزَف واللهو، فيتكلّمون بما شاءوا.

                            تعليق


                            • #74
                              الباب السادس: التشبيه

                              الفصل الأول: تشبه الرجال بالنساء

                              تقول الرسالة(1): (هذا(2) يقع في التمثيل، وتحريمه ثابت في الشرع).

                              وبما أني أعتقد أن صاحب الرسالة لا يجهل وقوع الخلاف في التشبيه موضوعاً وحكماً، فإني أعدُّ قوله (تحريمه ثابت في الشرع) خيانة في الشرع، إذ أنه إن أراد ثبوته في الجملة - أي ولو في صورة تأنث الرجل - لم يفده شيئاً سوى التهويل. وإن أراد ثبوته مطلقاً، كان محجوجاً بما لا يجهله من عدم الثبوت كذلك.

                              إن اللازم في مثل هذه المسألة إرشاد العامة إلى مراجعهم في التقليد وإيكال أمرهم إليهم، لا إبداء الكاتب رأيه بين الكافة بمظهر أنه حقيقة راهنة لا خلاف فيها، فإن ذلك لا يصدر إلاّ من المغالطين.

                              إن التشبيه المدّعى وقوعه في التمثيل هو تجليل الرجل بإزار أسود من قرنه إلى قدمه، وهو بهيئته وملابسه الرجالية، ليتراءى للناظر إليه أنه امرأة، وهذا مما لم يثبت في الشرع تحريمه، ولا وجدنا قائلاً بذلك نصاً أو ظهوراً.

                              على أنّي ما رأيت منذ خمسين سنة للآن في التمثيلات العزائية في العراق تشبيه رجل بامرأة ولا امرأة برجل. وعسى أن يكون ما يوجد في غيره من قبل ما ذكر من التشبيه الصوري المؤقت، وهو ليس بتشبيه على الحقيقة.

                              والقدر المعلوم تحريمه من التشبّه هو أن يتأنّث الرجل، ويعدّ نفسه امرأة، ومظهر ذلك - مع قصد التأنث - أن يخرج عن زيه، ويأخذ بأزياء النساء، لا بمجرد لبسه ملابسهنّ بدون تبديل لزي(3).

                              وبهذا أفتى الميرزا القمي في (جامع الشتات)(4)، وشيخنا المحقق الأنصاري في (المكاسب)(5)، وأكثر علماء عصرنا، منهم شيخنا المحقق المدقق العلامة آية الله الميرزا محمد حسين النائيني الغروي (دام ظله)(6)، والشيخ الفقيه العلامة المتقن صاحب المصنفات الكثيرة، حجة الإسلام الشيخ عبد الله المامقاني النجفي (دام علاه)(7) وغيرهم(8).

                              ولأكتف بذكر عبارة الأوّلين ليطلع عليها من لا تحضره الكتب والأخبار. قال العلامة الأنصاري - في كتابه - بعد ذكر النبوي المشهور (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال)(9): (وفي دلالته عليه - يعني دلالة النبوي على حرمة مطلق التشبيه - قصور، لأن الظاهر من التشبّه تأنّث الذكر، وتذكّر الأنثى، لا مجرد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبيه. ويؤيّده المحكي عن (العلل) أن علياً (عليه السلام) رأى رجلاً تأنث في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له: اخرج من مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال وهم المخنّثون، واللائي ينكحن بعضهنّ بعضاً)(10).

                              ثم ذكر روايتين تدل إحداهما على كراهة أن يجرّ الرجل ثوبه تشبّهاً بالنساء، والآخر على زجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن التشبه بالنساء، وقال: إن (فيهما خصوصاً الأولى - بقرينة المورد - ظهور في الكراهـــة، فالحكم بالتــحريم لا يخلــــو عن إشـــكال)(11) انتهى.

                              وقال المحقق القمي (قدس سره) ما ملخص ترجمته هذا: المستفاد من الأخبار المانعة من تشبه الرجال بالنساء هو الخروج من زي أحدهما والدخول في زي الآخر، بحيث يعدّ الرجل نفسه من صنف النساء، وبالعكس. أما التشبه بامرأة خاصة في زمان قليل لغرض خاص فهو خارج عن منصرف الأخبار. واستطرد في أثناء كلامه تشبه رجل برجل، كتشبه أحد بالحسين (عليه السلام)، وآخر بأحد أعدائه، واستوجه رجحان ذلك إذا كان المقصود به الإبكاء ونحوه من الأمور الراجحة، خصوصاً التشبه بالأعداء، لما فيه من قهر النفس وإذلالها، لطاعة الله بنفس التشبّه بهم(12).

                              وجرى هذا المجرى الفقيه الحائري المازندراني في (الذخيرة)(13)، وسائر محشيها، كولده، والسيد الصدر، والميرزا الشيرازي الحائري.

                              وقد يلهج القاصدون بكون تشبّه رجل بالحسين (عليه السلام) توهيناً له، سيما إذا لم يكن من أهل الصلاح والشرف.

                              وهذا ما لا يخفى على أحد كونه تمويهاً، فإن التوهين عنوان لا يتحقق بفعل ما بدون قصده، كالظلم، والتأديب، ووقوع التوهين قهراً مع كون الفعل بذاته يقع على وجوه كثيرة مما لا يعقل.

                              نعم قد يحصل التوهين القهري بالقول بدون قصده، لكنه في الأفعال الممكنة الوقوع على وجوه لا يمكن تحققه لو خلت عن كل قصد، فكيف بالأفعال المقصود بها الإبكاء عند إلقاء مخاطبات الحسين (عليه السلام) وحكاية أفعاله الواقعة تجاه أعدائه يوم الطف. وقد تضمنت السيّر والأخبار تشبه رجل برجل في ما لا يحصى من الموارد.

                              وأرسل أبو حامد الغزالي في كتاب (إحياء العلوم) أن مضحك فرعون كان يتشبه بموسى بن عمران كراعي غنم قد لبس مدرعة صوف قصيرة وبيده عصى يهشّ بها على غنمه، قد نجاه الله من الغرق - أو رفع عنه العذاب - كرامة لموسى (عليه السلام) لنفس تشبّهه به، وإن كان لأجل أن يضحك فرعون وجلساؤه، عليه.




                              الفصل الثاني: تشبه المرأة بغيرها

                              إركاب النساء الهوادج مكشفات الوجوه تشبيهاً ببنات رسول الله:

                              تقول الرسالة(14): (وهو(15) محرّم في نفسه، لما يتضمنه من الهتك والمثلة، فضلاً عما إذا اشتمل على قبح وشناعة، مثل ما جرى في العام الماضي في البصرة من تشبيه امرأة خاطئة بزينب، وإركابها الهودج حاسرة على ملأ من الناس، كما سيأتي). انتهى.

                              وذكر نحواً من هذا في صفحة 21. ونقل عن زميله البصري وقوع ذلك التشبيه الشائن في الماضي من سنة 1345 هجرية.

                              النقد: عاش الرجل برهة من الدهر في العراق، ومرّ بكثير من بلدانه، وقضى جلّ عمره في البلاد السورية، فأين وجد تمثيل النساء؟ وهل رأى بعينه مشاهدة أو نقل له الثقات ذلك؟ فإنا ما رأينا ذلك، ولا سمعناه، ولا نقل لنا ناقل أنه شهد ذلك، أو أن أحد أجداده الأعلون شهده، أو نقله عن جده.

                              إنا لو أخذنا وقوع ذلك بكثرة مسلّماً، أو صححنا على مذهب أهل التهويل مؤاخذة جميع الشعائر العزائية بوقوعه فيها مرة في بلد، أو في قرية، أو في عامه الماضي - كما يزعم - أو من قبل سبع سنين أو سبعين سنة، فإنا نحب أن نعلم أي شيء هو المحرم: ركوب النساء؟ أم كون الركوب في الهوادج؟ أم كشف المرأة البرزة وجهها؟ أم تشبيه امرأة بامرأة؟ أم المحرم هو المجموع، في ملأ وقع أم في خلأ؟

                              فإنا ما وجدنا في الكتاب والسنّة ولا في فتاوى علماء الأمة كافة أن شيئاً من تلك العناوين محرّم، ولا مجموعها. وكيف يكون اجتماع المحلّلات حراماً. إن أشد ما يقف القلم دونه من الأمور السالفة هو كشف المرأة وجهها أو نظر الرجل إلى وجهها المكشوف؟ وفي هذا كلام يذكر في كتب الفقه، ولا محل لذكره في المقام.

                              يسرد الكاتب جملاً ثلاثة: إركاب النساء الهوادج، مكشفات الوجوه، تشبيههنّ ببنات الرسول (صلى الله عليه وآله). آخرها: تشبيه امرأة بامرأة. بحيث يظهر لأول النظر أنها جميعاً محرّمة، ثم يقول (وهو محرّم في نفسه)، فلماذا يعود هذا الضمير المفرد؟ الواحد غير المعين منها، أم للأخير، أم المجموع من المحللات؟

                              ثم إذا كان الأمر الذي يشير إليه محرّماً في نفسه - كما يقول - فما موقع قوله بأن حرمته لما يتضمنه من الهتك والمثلة؟ دع عنك انتقاد لفظة (المثلة)، فإن إقحامه - بمعناه المحرر في اللغة - تهويل بيّن(16).

                              وخذ في معرفة المراد من الهتك المزعوم.

                              الهتك هو إشهار النساء، سوقهنّ أمام ركاب القوم سبياً مجلوباً، يطاف به في البلدان وفي الأسواق وفي الأزقّة بكل احتقار واستهانة، كما فعله آل أمية بمخدرات آل محمد.

                              أما ما يدعي الكاتب وقوعه في التمثيل - الذي يبرأ منه كل تمثيل في العراق، ولعلّما سوريا أيضاً - فهو ليس بإشهار النساء حتى يكون مستقبحاً وظهور المرأة المتسترة للرجل بارزة الحجم، يرى الناس أنها هي تلك المرأة المسبية بين علوج بني أمية، حينما سيقت أمام ركابهم مهانة محتقرة ليس فيه شيء من الهتك للمرأة المتمثّلة ولا الممثّلة، وكيف - والحالة هذه - يكون محرماً أو يطرأ على الواقع منه في التمثيل عنوان مستقبح؟

                              نعم هو موجب للالتفات إلى قبح ما ارتكبه آل أبي سفيان من سبي عقائل الرسالة، ولا قبح فيه ولا هتك على الممثّلين ولا المتمثّلين.

                              أمّا ما ذكره من تمثيل امرأة خاطئة بزينب في عامه الماضي - وهو سنة 1347هـ. فينبغي أن يسامحه كل بصري ونزيل في البصرة، كما أنهم من قبل سنتين سامحوا من نقل أنه واقع في البصرة في عامه الماضي أيضاً - وهو في سنة 1345 -. فكم من عام ماض إلى عام ماض إلى سبع سنين ماضية لم يقع بها في البصرة شيء من ذلك.

                              نعم في سنة 1341 هجرية ركبت تلك (الخاطئة) من تلقاء نفسها في أحد المحامل التي تقاد في التمثيل، خالية أو ممتلئة بالأطفال الممثّلين للسبي من دون أن تتشبّه بامرأة، ولا جعلها أحد شبيهاً بها، بيد أن من يراها، يظن ذلك. ولم يمض على ركوبها بضع دقائق حتى أنزلت من المحمل بلا مدافعة منها، لأنها لم تعرف أن ركوب مثلها من الأمور الشائنة(17).



                              1- صفحة: 4.

                              2- أي: تشبه الرجال بالنساء. م

                              3- جاء في أخبارنا أن علياً (عليه السلام) سيّر من البصرة إلى المدينة أربعين امرأة ألبسهنّ العمائم والمناطق والأردية والدروع، وأمرهنّ بحمل السيوف والرماح.

                              4- جامع الشتات: 2/ 750، 787. م

                              5- المكاسب 2/ 191. م

                              6- ذكر ذلك في منشور له مطبوع مشهور. [وهو مذكور في ملحق في آخر هذا الكتاب].

                              7- ذكر ذلك في استفتاء له قد طبع مراراً مستقلاً وفي سلك غيره من الفتاوى المطبوعة. [فتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر الحسينية /14].

                              8- هذه الفتاوى مذكورة في كتاب (فتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر الحسينية). م

                              9- الكافي 8/69. م

                              10- عسى أن يكون أظهر مما ذكره المحقق الأنصاري في ما رامه، الخبر المروي في الجعفريات [صفحة 147] عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه لعن المخنّثين من الرجال المتشبّهين بالنساء، والمترجّلات من النساء المتشبّهات بالرجال والخبر المروى عن أصل أبي سعد العصفري [صفحة 18] أن النبي قال: لعن الله وأمّنت الملائكة على رجل تأنّث، وامرأة تذكّرت.

                              11- المكاسب 2/189-191. م

                              12- جامع الشتات 2/787. م

                              13- ذخيرة المعاد / 368. م

                              14- ص 4.

                              15- أي: إركاب النساء الهوادج مكشفات الوجوه تشبيهاً ببنات رسول الله.

                              16- المُثلة: التنكيل بالحيوان بقلع عضو من أعضائه. وليس إشهار الرجل والمرأة مثلة. ولعل الكاتب يريد بإقحام لفظ (المثلة) تكثير العناوين المحرّمة بالذكر، ناسبت المقام أم لم تناسب.

                              17- نقل ذلك لنا متواتراً ثقات البصريين. وليت شعري إذا نظر البصري في الرسالة، ورأى فيها (جرى ذلك في العام الماضي)، وهو يعلم أن ذلك غير واقع أصلاً، فماذا يظن بالكاتب؟ وبالأحرى كيف يثق بأقوال العلماء؟



                              يتبع...........

                              تعليق


                              • #75
                                الباب السابع: الصياح في الشعائر الحسينية

                                الفصل الأول: صياح النساء في مجالس التعزية

                                السابع(1): صياح النساء بمسمع من الرجال الأجانب.

                                يقول الكاتب: (صياح النساء بمسمع من الرجال الأجانب محرّم، لأن صوتها عورة، ولو فرض عدم تحريمه فهو معيب شائن مناف للآداب والمروءة، يجب تنزيه المآتم عنه)(2) انتهى.

                                النقد: لست أدري، ولا المنجم يدري في أي كتاب وسنة ورد (صوت المرأة عورة) حتى يبحث عن معناه؟ والكاتب يظهر منه كون ذلك حديثاً، أو مقعد إجماع حصّله(3)، أو قاعدة مستفادة من الأخبار المعمول بها، وإلاّ فما هو الوجه في تعليل التحريم بذلك؟

                                وهل المحرّم - في رأيه - تكلم المرأة بحيث يسمع صوتها الأجانب؟ أو هو صياحها بعنوانه الخاص؟ أو سماع الأجانب صوتها؟ أو استماعهم له؟ فإن محل كلام فقهائنا في التحريم نفياً وإثباتاً، إطلاقاً وتقييداً هو الاستماع لا غيره(4). وأما التكلم والسماع بلا استماع من الرجل، فليس بمحرم البتة.

                                والأخبار الصادرة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) وإن تضمن بعضها النهي عن تكلم المرأة مع غير محرم عليها، إلاّ أن أكثرها صريح بجوازه. وهي مؤيّدة بما ثبت من تكلم النساء معهم (عليهم السلام) بمحضر أصحابهم بلا ضرورة(5)، وربما جرت عليه سيرة العلماء من الصدر الأول إلى زماننا من التكلم مع النساء بما يزيد على القدر الضروري.

                                نعم ربما حرّم البعض منّا صياح المرأة على الموتى، لا لأن صوتها عورة، بل لأنه من الجزع الذي جاء في الأخبار الصحيحة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) أنهم قالوا: (كل الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين)(6).

                                إن كل ما تعمله الشيعة من الضرب بسلاسل الحديد على الظهور وجرح الرؤوس بالسيوف - فضلاً عن الصياح والضجيج - هو مظهر من مظاهر الجزع، وليس بجزع حقيقة، فإن الجزع أمر معروف في اللغة والعرف، وهو ضد الصبر، نحو أن ينتحر الرجل العاقل أو يلقي بنفسه من شاهق، لحادثة تغلب صبره وتورده الهلاك. وأين هذا من جرح الرأس بسيف أو مدية جرحاً خفيفاً يوجب خروج الدم، ولا يؤلم إلاّ بمقدار ما تؤلمه الحجامة وغيرها مما يرتكب لأغراض عقلائية سياسية أو طبية؟

                                وبهذا الاعتبار كان بعض العظماء يصحح المرسل المتضمن لكون بعض عيال الحسين (عليه السلام) ممن لا يشك في عصمتها وعظمتها، لما لاح لها رأسه، نطحت(7) جبينها بمقدم المحمل حتى سال دمها(8)، إذ أن ذلك لا بعد فيه إلا من جهة ظهور الجزع منها وإيلام نفسها والإيلام غير المؤدي إلى الهلاك أو المرض لا دليل على حرمته.

                                والجزع مندوب ومرغوب فيه في الأخبار الكثيرة(9)، بل الظاهر من الأخبار جواز (الهلع) أيضاً، وهو - على ما ذكره أئمة اللغة - أفحش الجزع وأشدّه.

                                ويظهر من خبر قدامة بن زائدة أن السجاد (عليه السلام) قد صدر منه الهلع(10) وكيف لا يهلع من إذا أخذ إناءً ليشرب، يبكي حتى يملأه دماً؟(11) وإذا ساغ للسجاد أن يسيّل الدم باختياره من أرقّ وأعزّ أعضائه، فما هو شأن ما يصدر من الشيعة من ضرب السلاسل والسيوف، فضلاً عن الصياح الذي ينكر اليوم؟

                                ولو أن الكاتب اعتمد في ما ذكر في حرمة صياح المرأة على ما ورد في بعض الأخبار من أنه (لا ينبغي الصراخ على الميت)، وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن الرنّة في المصيبة، وما ورد من تحديد أشد الجزع بالصراخ والعويل والويل، ولطم الوجه والصدر، وجزّ الشعر من النواصي، وبالنواحة، التي جاء فيها: (من أقام النواحة، فقد ترك الصبر)، وما ورد في الأخبار المستفيضة من النهي عن دعاء المرأة بالويل والثبور عند المصيبة، لكان أنسب بقواعد الفن، أخذاً بإطلاق هذه المضامين(12).

                                ولكان (مع قطع النظر عن قول صاحب الحدائق(13) (قدس سره) أن ظاهر أكثر الأصحاب الإعراض عن هذه الأخبار وتأويلها، وحملها على محمل آخر، فإن القول بالتحريم مذهب كثير من أصحاب الحديث من الجمهور) مردوداً(14) بوجوه:

                                أولاً: بأن ذلك لا يقتضي إلا حرمة نفس الصراخ، لا حرمة المآتم والتمثيلات التي يقع فيها ذلك، لأنه من الأمور الخارجة عن المآتم والتمثيل المقارنة لهما، والمحرّم الخارج المقارن لا يقتضي بوجه حرمة ما يقارنه، وقد روى في (الكافي) صحيحاً عن زرارة قال: حضر أبو جعفر (عليه السلام) جنازة رجل من قريش، وأنا معه، وكان في الناس عطاء(15). فصرخت صارخة. فقال عطاء: لتسكتنّ أو لنرجعنّ. فلم تسكت، فرجع عطاء. فقلت لأبي جعفر (عليه السلام) إن عطاء رجع لمكان صراخ الصارخة...، فقال: (امض بنا، فلو أنّا إذا رأينا شيئاً من الباطل [مع الحق]، تركنا له الحق، لم نقض حق مسلم)(16)... الحديث.

                                وهذا من وضوح الدلالة على ما أشرنا إليه بحيث لا يحتاج إلى تقريب.

                                وثانياً: بأن الصياح والصراخ إنما يكره أو يحرم على غير الحسين (عليه السلام)،(17) وأما عليه، فلا حرمة ولا كراهة، لأنه من مظاهر الجزع عليه، وهو مندوب إليه، كيف وأعظم المعدودات في تحديد الجزع هو لطم الوجه والصدر والنواحة؟ وهذه الأخيرة مما طفحت الأخبار باستحبابها، وإلاّ لزم سد المآتم عامة.

                                أما لطم الخد - فضلاً عن الصدر - فقد دل على جوازه خبر خالد بن سدير عن الصادق (عليه السلام)، وفيه: (ولقد شققن الجيوب، ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين [بن علي] (عليه السلام)، وعلى مثله تلطم الخدود وتشقّ الجيوب)(18).

                                هذا مضافاً إلى إطلاق قول الحجة (عليه السلام) في دعاء الندبة: (فعلى الأطايب من أهل بيت محمد وعلي فليبك الباكون، وإيّاهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضجّ الضاجّون، ويعجّ العاجّون)(19).

                                وفي حديث معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام): (اللّهمّ ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا)(20). قال في (القاموس): الصرخة: الصيحة الشديدة(21).

                                وثالثاً: بأن هذه الشعائر العزائية التي يقع فيها صياح النساء بمسمع من الرجال الأجانب قد عقدها الأئمة (عليهم السلام) في دورهم وأمروا بها. فقد روى الصدوق في (العيون)(22) أن دعبل بن علي لما أنشد الرضا (عليه السلام) - تائيته المشهورة وانتهى إلى قوله:

                                أفاطم لو خــــلت الحســــين مجدّلاً***وقـــد مـــات عطــشاناً بشط فرات

                                إذاً للطـــمت الخــــد فـــــاطم عنده***وأجريت دمـــع العين في الوجنات

                                لطمت النساء وعلا صراخ من وراء الستر، وبكى الرضا (عليه السلام) بكاءً شديداً حتى أغمي عليه مرتين.

                                وروى أبو الفرج(23) بسند معتبر أنه لما دخل السيد الحميري على الصادق (عليه السلام)، أقعد حرمه خلف الستر، ثم استنشده في رثاء جده الحسين (عليه السلام) فأنشده أبيات كثيرة قال - يعني راوي الحديث -(24): فرأيت دموع جعفر تنحدر على خديه، وارتفع الصراخ من داره حتى أمره بالإمساك، فأمسك الحديث.

                                وإنا إذا رجعنا إلى قواميس اللغة، وجدنا الصراخ: الصوت، أو شديده(25). و(الجمع) يقول: الصراخ هو الصياح باستغاثة وَجْدٍ وشدّة(26).

                                وقد جرى نحو هذه المآتم التي تصرخ فيها النساء بمسمع من الرجال، للصادق (عليه السلام) في غير قصة الحميري، ولكن اللفظ الذي جاء في هذه تارة هكذا: (فبكى الصادق (عليه السلام) وتهايج النساء)(27). وتارة هكذا (فلما انتهيت بالإنشاد إلى... صاحت باكية من وراء الستر: يا أبتاه)(28).

                                ولأعد من بعد هذا لتتميم الكلام السابق في دعوى الكاتب أن (صوت المرأة عورة) الفقرة التي لم نعثر في ما لدينا من كتب الحديث عليها. ولا أظن الكاتب وجدها في غير كتب الفقه عبارةً لفقيه(29).

                                ويبعد كل البعد أن يلتبس الأمر عليه بما ورد من أن (المرأة عورة) من جهة وجوب الستر عليها، فيتوهم كون صوتها كذلك من جهة وجوب إخفائه. كيف ومتن الرواية التي رواها هشام عن الصادق (عليه السلام) هكذا: (النساء عي(30) وعورة، فاستروا العورات بالبيوت، واستروا العيّ بالسكوت)(31). وهي صريحة في أن الأمر بالسكوت لعيّها، لا لكونها عورة، أو أن صوتها عورة، وأنه إنما يلزم من جهة كونها عورة سترها بالبيت لإخفاء صوتها(32).

                                إن هذه من غرائب الفقه قوله: (لو فرض عدم تحريمه - أي الصياح -، وجب تنزيه المآتم عنه، لكونه معيباً شائناً)، إذ أنه إذا كان بالفرض غير محرّم، فما هو الوجه في وجوب تركه، وغير المحرم لا يجب تركه؟ وإذا كان واجب الترك لكونه معيباً وشائناً - كما يقول - كان فعله محرماً لا محالة، وقد فرض عدم تحريمه.

                                إن كونه معيباً وشائناً ومناف للمروءة والأدب و... و... و... إلى آخره ما تفنى برقمه الطروس، إن كان يصلح علة لوجوب الترك، كان فعله حراماً، وإلاّ لم يكن تركه واجباً، فما هذا إلاّ كالمتناقض، وهل هو إلا إفتاء بوجوب الترك بلا حجّة؟

                                إنه كان اللازم على الكاتب عندما يفرض عدم حرمته، أن يتمهل في الحكم بوجوب تركه، ولا يتسرع إلى التهويل بكونه معيباً شائناً لأن الأئمة (عليهم السلام) في ما إذا أمروا به وفعلوه، لم يروه معيباً وشائناً، فما هو معنى معيب وشائن؟ شائن ومعيب لأي شيء في رأيه؟ وهل يوجد في العناوين المحرّمة الشرعية أو العقلية كون الشيء معيباً وشائناً؟ لعمري أنه شائن ومعيب للفقيه أن يفتي بغير دليل وأن يستعمل التهاويل.

                                وإذا أخذنا كونه شائناً ومعيباً قضية مسلّمة الحكم بالحرمة، فماذا يكون إذا صاحت المرأة عندما تسمع بأذنيها رزية سيد الشهداء، أو ترى نصب عينيها تمثيل مصيبته؟ أيكون صياحها وحده محرماً لأن صوتها عورة ومناف للأدب - كما يقول-؟ أم يكون التمثيل والقراءة محرمين؟ فإن كان الأول، بطل ما يرمز إليه بقوله(33): (إن تلك الأمور المحرمة دخلت في الشعائر قصداً لإفساد منافعها، وإبطال ثوابها). وإن كان الثاني، كان محجوجاً بما قضت به القواعد الأصولية من أن المحرّم المقارن ما لم يكن ملازماً لذات الواجب، أو عنواناً ثانوياً يتعنون به الراجح، لا يوجب حرمته ولا مرجوحيته، وأن الأعراض المفارقة الاتفاقية لو كانت في مورد اقترانها بالراجح، لا يوجب حرمته ولا مرجوحيته، وأن الأعراض المفارقة الاتفاقية لو كانت في مورد اقترانها بالراجح توجب حرمته، لحرمت الصلاة في بعض الصور(34)، ومنع الحج، ولكان المنع من زيارة ذلك الشهيد الأعظم الكريم على الله تعالى، أولى بالمنع، لما فيها من صياح النساء، ومزاحمتهنّ للرجال، وبروزهنّ في وسط تلك المشاهد الشريفة المقدّسة مكشفات الوجوه، بملأ من الناس وبمرأى منهم ومسمع.




                                الفصل الثاني: رفع الصوت في الندبة على الإمام


                                الثامن(35): الصياح والزعيق بالأصوات المنكرة القبيحة

                                كما وقف قلم الكاتب هنا عن إقامة دليل إقناعي - فضلاً عن برهان عقلي - على حرمة الصياح والزعيق، يقف قلمي أيضاً وقلم كل كاتب عن تلفيق أي حجة تهويلية على ذلك(36).

                                إنه لا يريد بكلمته هذه أن ينعى على قرّاء التعزية في المآتم استكراه أصواتهم، لأنه كان من قبل الساعة ينكر عليهم استعمال الغناء، فلا شك أنه يشير إلى ما يستعمله اللادمون صدورهم في الدور والأزقة من ندبة سيد الشهداء بلغتهم الدارجة العرفية، أو الفصيحة بصوت مرتفع في الجملة، أو إلى ضوضاء ترتفع لهم أحياناً.

                                وقد فاته أن يعلم أن الشرع في ما استحب فيه رفع الصوت - كالتلبية والأذان - لم يشترط فيه كون الصوت حسناً أو غير مستكره، فلماذا ولأي سبب يشترط هذا الكاتب - وقد جوّز ندبة سيد الشهداء - أن تكون بصوت غير مرتفع وغير مستكره؟

                                لعمري أن صياح وزعيق أولئك لا يزيد شيئاً في الارتفاع والاستكراه من حيث نفس الصوت، عن قول الحاج برفيع الصوت (لبيك)، إذ الحاج ليس كلهم حسن الصوت، بل الغالب على أصوات غير الشبان الاستكراه، برثاء تكلموا أم تلبية أم بأذان.

                                نعم إذا كان صوت أولئك الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم لمواساة أئمّتهم في أحزانهم وأفراحهم موجباً لإضرار الناس من جهة فزع أفئدتهم بأصواتهم المنكرة، كان للقول بحرمتها وجه، لا من جهة نفس قبح الصوت، بل من باب إضرار الغير.



                                1- أي: السابع من المنكرات التي ادّعى السيد محسن الأمين دخولها في الشعائر الحسينية. م

                                2- ص 4 من رسالته.

                                3- أما الإجماع المنقول في بعض شروح القواعد، فلا اعتبار به من وجوه.

                                4- مطلقاً أو إذا كانت عن تلذّذ وريبة، وبه قطع العلامة في (التذكرة)، واستجوده الشهيد الثاني وصاحبا الكفاية والمفاتيح، وجلّ من تأخّر عنهم.

                                5- من ذلك خبر أبي بصير المروي في (الكافي) قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فاستأذنت علينا أم خالد التي كان قطعها يوسف بن عمر. فقال أبو عبد الله: أيسرك أن تسمع كلامها؟ فقلت: نعم. فأذن لها، وأجلسني معه على الطنفسة. قال: ثم دخلت، فتكلمت، فإذا هي امرأة بليغة. وقد طفحت السيرة بنياحة النساء وبكائهنّ على حمزة بمسمع النبي وبأمره.

                                والنياحة ليست بكاءً مجرداً مع الصوت فقط، بل هي ندبة بمقاطيع من الشعر، تلقيها النساء إنشاداً أو إنشاءً، فتبكي لها - كما يعلم من السيرة -. وربما تخلل ذلك صياح وزعيق، كما يعلم من صياح فاطمة على أبيها، وصياح بناتها يوم قتل أمير المؤمنين (عليه السلام).

                                ومن الغريب أنّ الكاتب صرّح في إقناعه - ص 59 - بأن المحرّم هو استماع الأجنبي صوت المرأة مع تمييز الصوت، وحكم بإباحة ما عدا ذلك للأصل. وهاهنا ألهاه الغضب عن التقييد، فأطلق الحرمة وجعل موضوعها صياح النساء. ولعله تحقق عنده أن الأصل في صوت المرأة هو الحرمة، كما أن الأصل في الجرح الحرمة (!!).

                                6- بهذا اللفظ رواه الشيخ في (الأمالي) [1/162] عن معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام)، ونقله في (الوسائل) [10/395] عن الشيخ أيضاً عن معاوية بن وهب في حديث: أنه (عليه السلام) قال لشيخ: أين أنت عن قبر جدي المظلوم الحسين (عليه السلام)؟ قال: إني لقريب منه. قال: كيف إتيانك له؟ قال: إني لآتيه وأكثر. قال (عليه السلام): ذاك دم يطلب الله به. ثم قال: (كل الجزع والبكاء مكروه، ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين).

                                وروى ابن قولويه في (الكامل) [صفحة 100] عن أبيه، عن سعد، مسنداً إلى أبي حمزة [عن أبيه] عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ما خلا البكاء [والجزع] على الحسين (عليه السلام) فإنه [فيه] مأجور).

                                وفي خبر مسمع كردين عن الصادق (عليه السلام): (أما إنك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا). [كامل الزيارات / 101]. وفي ما رواه الشيخ في (المصباح) [صفحة 714] مسنداً عن أبي جعفر (عليه السلام) في من يزور الحسين عن بعد في يوم عاشوراء: (ويقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه).

                                7- نطحت: ضربت. م

                                8- بحار الأنوار 45/114، عوالم العلوم 17/373، المنتخب في جمع المراثي 2/464 (المجلس 10).

                                9- مرّ ذكر بعضها في التعليقة في صفحة. م

                                10- الحديث المذكور رواه في (كامل الزيارات)، وجاء فيه من قول السجاد (عليه السلام) في خطاب عمته (كيف لا أجزع وأهلع، وقد أرى أبي وعمومتي وولد عمي صرعى لا يوارون)؟

                                11- مرّ في مسألة بكاء السجاد (عليه السلام) نقل هذا الخبر عن (المناقب)، ونقله عنه في (البحار)، وفي (جلاء العيون). [الموجود في النسخ المطبوعة من كتابي (البحار) و(المناقب) أن الإناء كان يمتلأ (دمعاً) لا (دماً). ولا يوجد ذلك أيضاً في (جلاء العيون) بل الموجود فيه (في صفحة 498) مضمون ما في (البحار) و(المناقب). ولعل تحريفاً ما وقع عند الطباعة].

                                12- مقصود المؤلف - رحمه الله - مما يذكره هو أن ما استدل به السيد محسن الأمين لإثبات حرمة صياح النساء هو كون صوت المرأة عورة، لكن هذا لم يرد في خبر معتبر، ولا في كلمات الفقهاء بمقدار يحصل معه الإجماع، ولا في قاعدة فقهية مصطيدة من النصوص، بل كان الأنسب الاستدلال للحرمة بإطلاقات الأخبار المشار إليها في المتن. لكنه مع ذلك، فإن الاستدلال بهذه الروايات لإثبات حرمة صياح النساء، مردود بوجوه، هي: 1- مفاد الأخبار حرمة خصوص الصراخ، لا ما فيه الصراخ من المآتم والتمثيليات. 2- اختصاص الحرمة بغير الإمام الحسين، فإن كان الصياح لهذا الإمام فلا تحريم، لتخصيص ما دل على استحباب الجزع على هذا الإمام لهذه الأخبار، لكون الصياح عليه مظهراً للجزع عليه. 3- تقرير الأئمة (عليهم السلام). هذا كله على فرض صحة هذه الأخبار - المشار إليها في الصفحة السابقة وحجيتها. لكن المشهور من الفقهاء الشيعة أعرضوا عنها بالكلية، وحملوها على أمور كالتقية، وحينئذ فهذه الأخبار ساقطة عن الحجية بالكلية، فلا يوجد أي دليل مثبت لتحريم صياح النساء.

                                وحتى بناءً على عدم وهن إعراض المشهور، فهذه الأخبار مشتملة على قرائن الصدور تقية، لا لبيان الحكم الواقعي، ومع عدم تحقق أصالة الجد فيها، لا يشملها دليل حجية الخبر. م

                                13- في باب أحكام الموتى من كتاب الطهارة. [4/168].

                                14- قوله (مردوداً) خبر (كان).

                                15- عطاء هذا كان من كبار بني أمية ومفتي بلاطهم. م

                                16- هذا الحديث مروي في (الكافي) [3/171 - 172]، ونقله في (الوسائل) [2/818] في أبواب تشييع الجنازة.

                                17- لأن ما دل على جواز الصياح والصراخ والضجيج على الحسين أخص مطلقاً من نحو قوله (لا ينبغي الصراخ على الميت)، وما هو عام منها. وإن كان معارضته له بالعموم من وجه، لكنه أرجح من معارضه من وجوه عديدة لا تخفى على المتدرب المتدبر في الأخبار.

                                18- روى ذلك الشيخ في (التهذيب (8/325) عن خالد بن سدير. ولا يخفى أن لطم الخدود لا ينفك عن احمرارها باللطم، بل اسودادها وخروج الدم منها، ولا يكاد يقع لطم الوجه بدون ذلك، إلاّ أن يراد من لطم الوجه، مسحه باليد، كما يمسح الرأس والرجل بالماء.

                                19- إقبال الأعمال /295. م

                                20- كامل الزيارات / 117. م

                                21- القاموس المحيط 1/273. م

                                22- ليس عندي الآن كتاب (العيون)، وإنما نقلت ذلك عن كتب مشايخنا وأصحابنا. نعم نقل ذلك الفاضل العباسي في كتاب (معاهد التنصيص) في ترجمة دعبل بن علي الخزاعي.

                                23- في الأغاني ج 7، ص 7.

                                24- وهو إسماعيل التميمي، والد علي بن إسماعيل راوي الحديث.

                                25- الصحاح 1/426. م

                                26- مجمع البحرين 2/437. م

                                27- روي ذلك في (الكامل) عن أبي هارون المكفوف، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: (أنشدني). فأنشدته. فقال: (لا، كما تنشدون، وكما ترثيه عند قبره)، فأنشدته: امرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية. فبكى. فلما بكى أمسكت، فقال: مر. فمررت، ثم قال: (زدني). فأنشدته:

                                يا مريم قومـــي واندبي مولاك***وعلــى الحسين فأعولي ببكاك

                                فبكى وتهايج النساء. [كامل الزيارات 105 - 106].

                                28- رواه في (الكامل) أيضاً بسنده عن عبد الله بن غالب قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فأنشدته مرثية الحسين بن علي، فلما انتهيت إلى هذا الموضع:

                                فيا لــــــيلة تسقــــو حــــســيناً***بمســــقاة الـثرى عفر التراب

                                صاحت باكية من وراء الستر: يا أبتاه! [كامل الزيارات /106] ونحو هذا كثير.

                                29- هذه الكلمة ذكرت في بعض المتون الفقهية - كالشرائع [2/496]، ولم أجد أحداً من الشراح إلا وهو راد لها، مانع لمعناها، ومن الغريب أن كاشف اللثام ادعى الإجماع عليها، مع أن التتبع يكذب هذا النقل للإجماع، ولذا لم يعتن به أحد ممن تأخّر عنه. وقد رده في (الجواهر) بالسيرة المستمرة من العلماء والمتدينين على خلافه، وبالمتواتر أو المعلوم من كلام الزهراء وبناتها بحضور الأجانب، ومن مخاطبة النساء للنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة على وجه لا يمكن إحصاؤه، ولا تنزيله على الاضطرار لدين أو دنيا. ثم قال: (ولعله لذا وغيره صرح جماعة كالكركي، والفاضل - في المحكي عن التذكرة - وغيرهما ممن تأخّر عنه كالمجلسي وغيره بجواز سماع صوتها، بل بملاحظة ذلك يحصل للفقيه القطع بالجواز). انتهى. [جواهر الكلام 29/ 98].

                                30- العي: الليّ، أو العجز عن البيان أو الكلام. م

                                31- هذا اللفظ مستفيض الرواية عن الأئمة (عليهم السلام)، ففي (الكافي) [5/ 535] عن علي (عليه السلام)، [عن النبي (صلى الله عليه وآله)]: (النساء عيٌّ وعورة). وفي (الفقيه) [3/ 247] ما يقرب منه. وفي (أمالي الشيخ) عن علي، عن النبي (صلى الله عليه وآله): (النساء عيّ وعورات، فداووا عيّهن بالسكوت، وعوراتهنّ بالبيوت). وفي (الكافي) [5/ 535] عن علي (عليه السلام): (لا تبدؤوا النساء بالسلام، ولا تدعوهنّ إلى الطعام، [فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: النساء عيّ وعورة فاستروا عيّهن بالسكوت] واستروا عوراتهنّ بالبيوت) ونحو هذه غيرها.

                                32- هنا لا ينبغي أن ينسى بكاء فاطمة الذي تأذى منه أهل المدينة [الخصال 1/273] الذي لولا مقارنته للصياح، لما أوجب قلق راحة شيوخ المدينة. ولا ينسى ما حدث لها في اليوم الثامن من وفاة أبيها، إذ خرجت وصرخت، فتبادرت النساء، وخرجت الولائد والولدان، وضج الناس، وجاءوا من كل مكان، وأطفئت المصابيح، لكي لا تبين صفحات النساء. [بحار الأنوار 43/175]. وكذ لا ينسى ما فعلته زينب العقيلة وسائر بنات علي (عليه السلام) عند وفاته (عليه السلام)، فقد روي أنها خرجت وجميع النساء، وقد شققن الجيوب، ولطمن الخدود، ووقعت الصيحة منهنّ، حتى جاء الناس يهرعون، وصاحوا صياحاً عظيماً ارتجت له الكوفة بأهلها. [بحار الأنوار 4/293].

                                33- في ص 3.

                                34- كما في صورة النظر إلى الأجنبية حال الصلاة، وكذا الحج لو نظر إليها فيه، أو وقع فيه ظلم أحد، أو سبّه، وهكذا الصوم والوضوء والغسل وسائر العبادات.

                                35- أي: الثامن من المنكرات التي ادعى السيد محسن الأمين دخولها في الشعائر الحسينية. م

                                36- نعم جاء في القرآن (اقصد في مشيك واغضض من صوتك) وهذا - لا شك - طلب أدب، لا تكليف. ومع ذلك وارد لبيان ما يقتضيه الصوت في حد ذاته مع قطع النظر عن عروض ما يوجب استحباب رفعه، كما في الأذان والتلبية والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله).

                                والحاصل: إن الكاتب في مقام إنكار المنكر، والآية في مقام بيان محاسن الأخلاق، وشتان بين الأمرين. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أنّ رفع الصوت بالصلاة على النبي يذهب النفاق [ثواب الأعمال /190]، وأنّ رفع الصوت بالأذان في المنزل ينفي الأمراض ويكثر الولد. روى ذلك الصدوق في (المقنع) [صفحة 27]، ويحيى بن سعد الحلي في (الجامع) [/73]، والراوندي في (الدعوات) [صفحة 116].

                                وروي أن أمير المؤمنين ليلة شهادته علا المئذنة، ووضع سبابتيه في أذنيه، ثم أذّن، وكان إذا أذّن لا يبقى في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته.

                                يتبع..............

                                تعليق

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, اليوم, 07:21 AM
                                ردود 2
                                12 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                                بواسطة ibrahim aly awaly
                                 
                                يعمل...
                                X