فهل يعقل عاقل بأن من أعتصرت ألمآ ونزفت دمآ من ضربت وأسقط جنينها وأحرق بابها وأغتصبت الإمامة من زوجها وبعد أيام تذهب لتطلب أمر دنيوي ( فدك ) ؟
فلاشك أن فدك كانت مصدراً مالياً عظيماً في ذلك الزمان، فأرباحها كانت تزيد على سبعين ألف دينار سنوياً، وهذا رقم عظيم جداً في ذلك الزمان. ولكن مهما كان الثمن عظيماً إلا أن الزهراء أعظم وأعظم وأعظم من أن تطالب بشيء مادي لماديته، فهي ممن لا تساوي الدنيا عندها بمقدار عفطة عنز، فلماذا طالبت بكل جهودها، هل كانت مطالبتها بفدك من منطلق مادي؟! من منطلق تلك الأرباح التي كانت تدر عليها؟!!.
الجواب كلا وألف كلا، الزهراء (سلام الله عليها) كانت في يدها فدك وكانت تبقى ثلاثة أيام جائعة!، الزهراء لا تسوى عندها فدك وغير فدك شيئاً.. وأهل البيت كلهم هكذا، فلماذا هذا الإلحاح والإصرار بالطلب؟!
!.
الجواب أن هناك جوانب عديدة في جانب المطالبة بفدك، ونورد بعضاً منها:
أولاً إن المطالبة بالحق مهما كان ذلك الحق صغيراً فإنه جيد، بل يصبح في بعض الأحيان ضرورياً، عندما تتجه جهة وتبدأ بمصادرة حقوق الناس، بغصب أموال الناس، هذه الجهة إن لم تصد وإن لم تمنع من هذه المسيرة الخطيرة فإنها ستستمر في ذلك، وتستمر بقوة وبسرعة، في المصادرات في الغصب، فإن سارق البيضة الصغيرة إن لم يمنع سيكون سارقاً لجمال ونياق، فيلزم أن يصد أمام المنحرف خصوصاً أن الانحراف بدأ بخطوة عظيمة جداً، حيث بدأ بمصادرة حق سيدة النساء (عليها السلام) والذي يصادر حق أطهر امرأة خلقها الله عز وجل فإنه لا يتوانى عن مصادرة أي حق، فيلزم هنا أن يصد أمام هذه الطريقة، وإلا فإنه سيسترسل، والزهراء (عليها السلام) قصدت ربما هذه النتيجة، أن تصد أمام هؤلاء من الاسترسال في انتهاك أحكام الله عز وجل، وفي انتهاك حق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذا أول
اً.
وثانياً موضوع فدك ليس هو المطلوب بذاته وإنما كانت فدك معبراً وطريقاً إلى الخلافة، المطالبة بفدك مقدمة للمطالبة بالخلافة الشرعية، لأن الخليفة الشرعي وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد اعترف بذلك بعض علماء العامة أيضاً، فراجعوا كتاب شرح النهج لأبي الحديد المعتزلي.
إن فدك كانت مقدمة للخلافة، فالمطالبة بفدك تنتهي بالمطالبة بالخلافة، هذا ثانيا
ً.
ثالثاً لصد هجمة الأعداء أمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، لاحظوا عندما يغتصب جماعة لخلافة، فأول ما تتوجه أنظارهم فإنها تتوجه نحو صاحب الحق الشرعي لها، وإذا كانت تلك الجهة الغاصبة مصرة على إبقاء ذلك الغصب، على الاستمرار في ذلك الغصب، فإنها توجه جميع سهامها أولاً إلى صاحب الحق الشرعي، وهؤلاء كانوا قد اغتصبوا الخلافة، وصاحب الحق الشرعي وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) بين أيديهم، فوجود أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يشكل خطراً على كيانهم، ورؤية الناس لأمير المؤمنين كانت تذكر الناس بتلك البيعة العظيمة، كانت تهز عروش أولئك، ولذلك بطبيعة حالهم كانوا أول ما يقصدونه هو أمير المؤمنين، وبالطبع قصدوه إلى داره، ولا شك أنهم كانوا يجبرون أمير المؤمنين على إحداث شيء ما، فإما أن يخضع لهم خضوعاً تاماً، وهذا كان يشكل فاجعة ما أعظمها من فاجعة لو خضع أمير المؤمنين فذلك يعني انتهاء الإسلام، أو يقتلونه وهذا أيضاً كان يشكل فاجعة عظيمة ما أفجعها من فاجعة، فلا شك أنه لو قتل لم نكن نسمع اسم الإسلام حالياً، فوجود أمير المؤمنين كان أهم شيء في ذلك الزمان، والزهراء (عليها السلام) بهذه المواقف العظيمة تصدت أمامهم ووقت أمير المؤمنين (عليه السلام) بنفسها، تصدت للسهام، ألقت نفسها في المصائب لكي لا يتوجه أولئك إلى أمير المؤمنين ولا يوجهون سهامهم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)
.
ولذلك الزهراء (عليها السلام) تأتي خلف الباب وتستقبل بنفسها كل الآلام، المسمار.. العصرة.. تلك الضربات التي بقي آثارها حتى بعد استشهادها، ففاطمة حينما ماتت وعلى عضدها كمثل الدملج.
لقد استقبلت كل هذه الآلام لكي تبعد أمير المؤمنين عن أنظارهم ثم ذهبت إلى المسجد وخطبت وهزت برؤوسهم ثم خطبت بين نساء المدينة، ثم بكت وبكت، ثم قاطعتهم مقاطعة كاملة، وصنعت ما صنعت لكي تتحمل هي بنفسها تلك السهام، وتلك المصائب ويبقى أمير المؤمنين (عليه السلام) حياً سالماً من هذه المصائب، ونجحت في ذلك أكبر نجاح، ولولا مواقفها العظيمة لقتلوا أمير المؤمنين قطعاً، كما صرحوا بذلك، وصرح كبيرهم بذلك (يا علي إما أن تبايع أو تقتل).
الزهراء (سلام الله عليها) بمطالبتها بفدك نفذت خطة إلهية رسمها الله عز وجل لها وبينها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما وردت في الأحاديث، ونجحت في إبعاد أمير المؤمنين عن السهام، فهي تحملت المشاكل والمصائب ليبقى أمير المؤمنين حياً، وليتمكن من استمرار مسيرة الإسلام، هذا ثالثا
ً.
رابعاً: عامل العاطفة عامل هام جداً في هداية الناس، لا أريد أن أتحدث في هذا الموضوع فهذا موضوع مستقل بحد ذاته، ولكن تحريك عواطف الناس تقربهم من الهداية بصورة سريعة جداً، تقربهم من الهداية إلى الصراط المستقيم، وقد استخدمت الزهراء (عليها السلام) هذا العامل في مطالبتها بفدك، إعلان المظلومية.. فهذا الأمر يجلب الناس ويجلب مشاعرهم إلى المظلوم، فالإنسان بطبيعته يدافع عن المظلوم، يحب المظلوم، فعندما يتوجه إلى المظلوم وحينما يتوجه إلى أمير المؤمنين سيد المظلومين فإنه يتمكن أن يهتدي بكل السبل، وقد قصدت الزهراء توجيه أنظار الأجيال إلى أمير المؤمنين ومظلوميته، هذا رابعاً
.
وخامساً كانت الزهراء (عليها السلام) تقصد من وراء مطالبتها بفدك أن تعرّي تلك القوة الحاكمة في ذلك الوقت من الشرعية لأنهم كانوا يدعون أنهم خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فالزهراء تريد أن تعريهم تفرغهم من الشرعية المزعومة، وهذا من أهم الدواعي والأسباب التي كانت تعمل من أجله، فعندما كانت تطالب بفدك كانت تهدف إلى تعريتهم من الشرعية والقدسية، وقد نجحت في ذلك أكبر نجاح أيضاً.
لاحظوا لماذا الزهراء (عليها السلام) لم تذهب - عندما طلب منها الشهود - إلى أبي ذر والمقداد وعمار، بل ذهبت إلى أمير المؤمنين والحسن والحسين، فقد كان بإمكانها أن تذهب إلى سلمان ولا شك أنها لو طلبت من سلمان ذلك لجاء إليها سلمان، ذهبت إلى أمير المؤمنين حتى يظنوا أنه يجر النار إلى قرصه، لماذا؟.
لأن الزهراء لا تريد فدك، بل تريد أن تعري هؤلاء من الشرعية، وتعرف أيضاً أنها لو ذهبت إلى سلمان وأبي ذر وغيرهما، لاشك أنهم سيشككون فيهم أيضاً إنهم لا يمانعون التشكيك في أي شخص آخر، هذا ما كانت الزهراء (عليها السلام) تعرفه جيداً، فإن كانت تذهب إلى سلمان وأبي ذر فإنهم كانوا سيشككون بهما، وهذا لن يضرهما، ولكنها ذهبت إلى علي (عليه السلام) الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (علي مع الحق والحق مع علي يدور الحق مع علي حيثما دار) فالتشكيك بعلي (عليه السلام) يعني التشكيك برسول الله (صلى الله عليه وآله) والتشكيك برسول الله يعني التشكيك بالله وهو الكفر، وقد خرج هذا الشخص من فرقة الإسلام، وهكذا بالنسبة إلى الإمام الحسن والحسين الذين قال فيهما رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) فتكذيب الحسن تكذيب لرسول الله وتكذيب رسول الله تكذيب لله عز وجل وهو الكفر.
وهكذا تمكنت الزهراء (عليها السلام) من تعريتهم من شرعيتهم المزعومة، فالزهراء لا تريد فدك، بل تريد أن تبين للأجيال إلى يوم القيامة أن هؤلاء حالهم حال كثير من الحكام الظالمين، ليست لهم شرعية إطلاقاً، لا يمثلون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا يمثلون القرآن الكريم وإنما يخالفون رسول الله ويخالفون القرآن الكريم، هذا ما كانت ترمي إليه الزهراء وقد نجحت في ذلك أكبر نجاح. ولهذا شواهد كثيرة جداً لا أريد أن أطيل عليكم
تعليق