بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
الحكماء المتألهون
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
1321 - 1402 هـ
اللهم صل على محمد وآل محمد
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
الحكماء المتألهون
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
1321 - 1402 هـ
يقول آية الله العظمى المحقق الشيخ جعفر السبحاني في ترجمته للسيد الطباطبائي اعلى الله مقامه الشريف في كتابه تذكرة الاعيان ص 431 :
من ملامح الشخصيات الكبيرة انّ كلَّ واحد منهم أُمّة، لما يقومون به من انجازات كبيرة و يخلفون من الآثار التي من شأنها أن تُنجزها أُمّة، و لأَجل ذلك نرى انّه سبحانه يصف إبراهيم عليه السلام بأنّه أُمّة، و يقول: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً و لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .
وما هذا إلّا لأَنّ رائد التوحيد منذ ريعان شبابه إلى أن لقي ربّه أوجد ثورة عارمة ضد الشرك، وقاد نهضة توحيديّة كبيرة، وترك آثاراً ومنجزات عظيمة في المجتمع الإِنساني، فعمله في الظاهر عمل فردي ولكنّه في الواقع عمل أُمّة كبيرة وهذه من سمات الشخصيات الكبيرة.
هكذا كان العلّامة الطباطبائي، فهو بحقّ أُمّة، لما أنجزه من الآثار العلمية والخدمات الجليلة التي تركت بصمات واضحة على التراث الشيعي.
فيوم نُعِيَ لموته، كأنّه نُعي لموت أُمّة كبيرة، والذكر الحكيم يعبِّر عن موت العالم و فقدانه بنقصان الأَرض ويقول: (أَولَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها و اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ و هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) .
وقد فسَّرت الآية بموت العالم، روى أمين الإِسلام الطبرسي، عن عدّة من المفسرين أنّ المراد من الانقاص، نقصها بذهاب علمائها وفقهائها وخيار أهلها [مجمع البيان:3 / 30] .
وثمّة نكتة جديرة بالذكر، وهي انّ النبوغ تارة يتجلى في فن واحد كنابغة النحو سيبويه (المتوفى حوالي عام 190) مؤَلف «الكتاب» الذي لم يكتب نظيره في النحو، وأُخرى يتجلى في أكثر من فن واحد فتكون شخصية ذات أبعاد مختلفة.
وهذا هو الشيخ الرئيس ابن سينا (384 - 427 هـ) الذي ضرب في كلّ فن بسهم و تجلّى فيه نبوغه، ففي مضمار الفلسفة فيلسوف مبدع بلغت الفلسفة المشائية على يده القمَّة، وفي مضمار الطب طبيب ماهر وحاذق ألّف كتاب «القانون» الذي لم يزل يُدرَّس في الجامعات العلمية عبْر قرون، كما أنّه أُستاذ الرياضيات والهيئة في عصره ولم يكن الشيخ الرئيس نسيج وحده في ذلك المجال بل لاحت أسماء شخصيات أُخرى في سماء العلم والنبوغ لا يسع المقال لذكرها.
وقد كان العلّامة الطباطبائي من تلك الثلة الذين تمتعوا بذهنية وقادة، ومنفتحة على أكثر العلوم، وارتشف من معينها ونبغ فيها، فهو في مجال التفسير مفسّر بارع يفسّر القرآن بالقرآن والآية بالآية، وفي مجال الفلسفة، مفكر إسلامي كبير مؤَسس لأُصول فلسفية، وفي العرفان وتهذيب النفس والتخلق بالمُثل العليا، عارف شامخ وأخلاقي مهذّب، ضمَّ العرفان النظري إلى العملي وبلغ شأواً عظيماً فخرق الحُجُب المادية بعيون برزخية، كما انّه في العلوم النقلية بلغ مرتبة الاجتهاد وكانت له أنظار في الفقه والأُصول إلى غير ذلك من الفضائل والمآثر التي يضرب بها المثل، (ذلك من فضل اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ و اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
لمحة من حياة السيد الطباطبائي
ولد قدَّس سرَّه في مدينة «تبريز» في التاسع و العشرين من شهر ذي الحجة الحرام من شهور عام 1321، وعاش ثمانين سنة وثمانية عشر يوماً، وخلّف تراثاً علمياً ضخماً، وربّى جيلًا كبيراً من المفكرين أوجد من خلالها تحولات عظيمة في العلوم الإِسلامية، ولقى ربّه بنفس مطمئنة يوم الأَحد الثامن عشر من محرم الحرام من شهور عام 1402 هـ ، وورِيَ جثمانه الطاهر في حرم السيدة فاطمة بنت الامام الكاظم عليهما السَّلام تجد صخرة قبره إلى جنب قبر السيد النقي الورع السيد أحمد الخونساري قدّس اللّه سرّهما فاقترن الكوكبان في مضجعهما كما كان بينهما أُلفة في حال حياتهما.نشأ الأُستاذ وترعرع في أُسرة عريقة بالعلم والثقافة ولها تاريخ وضّاح، يتصل نسبه إلى السيد الجليل مير عبد الوهاب الذي تقلَّد منصب «شيخ الإِسلام» في أذربيجان قبل ظهور السلسلة الصفوية، ولما اشتعل فتيل الحرب بين الدولتين: الصفوية والعثمانية، قام السيد بمساعي جميلة بغية إطفاء نيران الحرب واستتباب الأَمن والاستقرار بين البلدين الشقيقين، فغادر إيران عام 920 هـ لهذا الغرض وهبط آستانة حاضرة الدولة العثمانية إلّا أنّ محاولته باءت بالفشل فزُجَّ به في السجن وبقي فيه، إلى أن مضى السلطان سليم وقام مقامه ابنه السلطان سليمان، فأطلق سراحه وعامله بتكريم وتبجيل إلى أن وافته المنية عام 927 هـ، ودفن في جوار الصحابي الكبير «أبي أيّوب الأَنصاري» في آستانه، فالمترجم له وليد ذلك البيت العريق وثمرة تلك الشجرة الطيّبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فكم أنجبت علماء كباراً احتفل التاريخ بأسمائهم عبر قرون خمسة، ولا مجال لذكر أسمائهم فضلًا عن حياتهم، وكفانا عن إطناب الكلام في ذلك ما ألّفه نفس الأُستاذ في أنساب آل عبد الوهّاب و الرسالة بعدُ مخطوطة لم تر النور.
نشأ السيد الطباطبائي في حضن أبويه حتى وافتهما المنيّةُ ولم يتجاوز عمر السيد آن ذاك تسع سنين، وبعث إلى المدرسة وتعلم فيها القرآن والأَدب الفارسي والرياضيات فتهيأ إلى دخول الجامعة الإِسلامية في مدينة تبريز، وقرأ فيها الصرف والنحو والمعاني والبيان والفقه والأصول والكلام ولم يترك شيئاً من العلوم الرائجة يومذاك إلّا وقد انتهل منها حتى درس الخط واستغرق جميع ما درسه من الآداب والسطوح العالية تسع سنين ونال منها حظاً عظيماً.
وثمّة نكتة جديرة بالذكر، وهي انّ الأُستاذ كتب رسالة موجزة في حياته نقتبس منها فيما يرجع إلى تلك الحقبة من حياته.
يقول: كنت في بداية دراستي غير راغب في الاستمرار فيها، و كنت على هذا الحال سنين أربع إلى أن شملتني العناية الإِلهيّة و أوجدت تحولا جذرياً في نفسي، و أحسست بشوق منقطع النظير إلى الاستمرار فيها و عوّلت على استسهال الصعب، فأكببت على الدرس بعزم راسخ و نسيت كلّ شيء سواه، و اقتصرت من الدنيا باليسير، و سهرت الليالي منكباً على المطالعة و الدراسة، و كنت أُحضِّر المادة الدراسية قبل حضوري مجلس الدرس و أستوعبُ أكثر ما يلقيه الأُستاذ فيه، و كان جلّ سعي هو فهم المطالب و حل المشاكل العلمية التي أواجهها بالامعان و المطالعة دون أن استفسر عنها .
وقد مشى الأُستاذ على هذا المنوال إلى أن غادر مسقط رأسه إلى النجف الأَشرف عام 1344 هـ بغية إكمال دراساته العليا، فأخذ يختلف أنديه الدروس العالية لَاساتذة الوقت في الفقه والأُصول أعني السيد أبو الحسن الأصفهاني (1284 - 1365 هـ) والشيخ محمد حسين النائيني (1274 - 1355 هـ) والشيخ محمد حسين الأصفهاني (1296 - 1361 هـ) الذي نالت دروسه درجة كبيرة من الأَهمية عند السيد الطباطبائي، فكان يُثني عليه كثيراً ويسير على نهجه في أُصول الفقه.
وأمّا أساتذته في العلوم العقلية، فقد حضر درس العرفان عند السيد علي القاضي، كما حضر دروس الفيلسوف الكبير السيد حسين البادكوبي (1293 - 1358 هـ) الذي هو من تلاميذ السيد أبو الحسن المعروف بـ «جلوه» (1238 - 1314 هـ) وكان المترجم له يُثني كثيراً على أُستاذه البادكوبي ويذكره في المجالس والمحافل العلمية ويقول في رسالته: وقد حضرت دروس الحكيم البارع السيد حسين البادكوبي ست سنوات وقرأت عليه شرح «المنظومة» للسبزواري، و«الأسفار» لصدر المتألهين الشيرازي و«المشاعر» له أيضاً، وكتاب «الشفاء» لابن سينا، وكتاب «أثولوجيا» لأَرسطو، و«تمهيد القواعد» لابن تركة، و«طهارة الاعراق» لابن مسكويه.
وأضاف المترجم له في رسالته: أنّ السيد البادكوبي كانت له عناية خاصة بتعليمي وتربيتي وكان يصرَّ على تعلم الرياضيات العالية حتى أقف على كيفية إقامة البرهان على المسائل الفلسفية ولأَجل ذلك حضرت دروس الرياضي الكبير السيد أبو القاسم الخونساري فقرأت عليه دورة كاملة في الحساب والهندسة المسطحة والفضائية والجبر الاستدلالي.
وعلى الرغم من انّ السيد الطباطبائي كان مكبّاً على العلم والتعلم لكنّه لم ينس أبداً تهذيب النفس وتحليتها بالفضائل وتخليتها عن الرذائل وقد اقتدى في ذلك بأُستاذه العظيم السيد علي القاضي (1285 ـ 1365 هـ) الذي بلغ في تهذيب النفس مقاماً شامخاً حتى صار صاحب كرامات.
نقل العلّامة الطباطبائي عنه هذه الحكاية الطريفة:
حلّ السيّد القاضي ضيفاً عليّ و كانت بيننا و بينه صلة رحم و قرابة، و التفت إلى عقيلتي التي لم ترزق طفلًا إلّا و قد مات، مخاطباً إياها قائلًا: يا ابنة العم: هذا الذي يحتضنه رحمك يبقى و هو ذكر سمِّه «عبد الباقي»، قال ذلك و لم أكن أنا يومذاك مطلعاً على حملها.
ثمّ إنّه سبحانه تبارك و تعالى رزقنا ذكراً اسميناه عبد الباقي و هو الآن حيٌّ يرزق.
إنّ العلّامة الطباطبائي ضمّ إلى العرفان النظري، العرفان العملي ومن له أدنى إلمام بالعرفان النظري يقف على انّه بمجرده لا ينوّر الضمير ما لم ينضم إليه العرفان العملي، فللعارف جناحان أحدهما علمه و الآخر عمله بهما يُحلِّق في سماء الكمال.
ومن آثاره العلمية في ذلك الباب كتابه «المحاكمات» فقد حاكم فيها نظريتين إحداهما للعارف الطائر الصيت السيد أحمد الحائري (المتوفى عام 1332 هـ) والآخر لشيخه محمد حسين الأصفهاني، فقد اختلفا في تفسير بيتين منسوبين إلى العارف الكبير «العطار النيشابوري» أعني قوله:
دائماً او پادشاه مطلق است
در كمال عزّ خود مستغرق است
او به سر نايد ز خود آنجا كه اوست
كى رسد عقل وجود آنجا كه اوست
در كمال عزّ خود مستغرق است
او به سر نايد ز خود آنجا كه اوست
كى رسد عقل وجود آنجا كه اوست
فقد دارت بين العارفين، مراجعات في تفسير البيتين إلى أن صار كتاباً باسم «المكاتبات» ثمّ إنّ السيد الطباطبائي كتب رسالة حاكم فيها النظريتين وحقق ما هو اللائق بمقام العارف في تفسيرهما.
مغادرة الأُستاذ النجف الأَشرف
ظلّ الأُستاذ في جامعة النجف الأَشرف أحد عشر عاما غير انّ تدهور الأَوضاع الاقتصادية ألجأته إلى مغادرة النجف وأقفل عائداً إلى تبريز مسقط رأسه، وكان المترقب أن يشتغل بنشر المعارف وتعليم جيله لكن الأَوضاع السياسية السائدة آن ذاك عاقته عن نيل تلك الامنية، فألقى الرحل في قرية من قرى تبريز تُعرف بقرية «شادباد» و اشتغل فيها بالفلاحة لسدّ حاجته المادية ودام هذا الوضع عشر سنين، ويصف فيها تلك الفترة عن مضض و يقول: إنّ تلك الفترة من عمري كانت خسارة جسيمة لي، فقد اضطررت إلى الاشتغال بالفلاحة لسدّ عيلتي، وكانت تأخذ مني قسطاً وافراً من الوقت.ومهما يكن من أمر فقد ألف في تلك الفترة رسائل عرفانية و فلسفية، منها: «الإِنسان قبل الدنيا» و«الإِنسان في الدنيا» و«الإِنسان بعد الدنيا» والرسائل الأَربع، وغيرها من الرسائل، وطالع عامة أجزاء بحار الأَنوار، إلّا الأَجزاء الستة التي ترجع إلى الفقه ولم يغفل عن تهذيب النفس وسلوك مدارج الكمال لا سيما انّه كان منقطعاً عن معاشرة الناس شاغلًا بنفسه عن غيره.
كانت حياته تسير على ذلك المنوال إلى أن فُوجى باضطراب الأَوضاع السياسية في آذربيجان عقب استيلاء جيوش الحلفاء على إيران وجيوش الروس على آذربيجان، فلم ير بُدّاً من ترك مسقط رأسه متوجهاً إلى قم المقدسة وذلك عام 1364، وقد استخار اللّه تبارك وتعالى في هذه الهجرة وفتح القرآن فإذا بهذه الآية (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً و خَيْرٌ عُقْباً) .
وظل يعيش تحت ولايته سبحانه في مهبط العلم ما يقرب عن 35 سنة، وتخرج على يده جيل كبير من أكابر الحوزة وعلمائها وهم بين مفسّر لكتاب اللّه العزيز، وحكيم يشقِّق القواعد الفلسفية بحذاقته، وأخلاقي يعد أُسوة في المجتمع، وأُصولي له باع طويل إلى غير ذلك من البركات التي عمّت الحوزة عقب مجيئه.
هذه لمحة خاطفة عن حياته، وإليك نزراً من أبعاد شخصيته العلمية في مجالات مختلفة..
يتبع ان شاء الله تعالى
تعليق