فصل
مع أن متضمن الآية وفوائدها وما يتصل بها مما بعدها يقضي بتوجهها إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنه المعني بالمدحة فيها ، والمشار إليه في جهاد المرتدين دون من ظنوه بغير بصيرة وتوهموه . وذلك أن الله سبحانه توعد المرتدين عن دينه بالانتقام منهم بذي صفات مخصوصة بينها في كتابه ، وعرفها كافة عباده ، بما يوجب لهم العلم بحقائقها ، وكانت بالاعتبار الصحيح خاصة لامير المؤمنين عليه السلام دون المدعى له ذلك بما لا يمكن دفعه إلا بالعناد :
فأولها : وصفهم بأنهم يحبون الله تعالى ويحبهم الله . وقد علم كل من سمع الاخبار اختصاص أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الوصف من الرسول صلى الله عليه وآله ، وشهادته له به يوم خيبر حيث يقول : " لاعطين الرايد غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه " فأعطاها عليا عليه السلام ، ولم يرد خبر ولا جاء أثر بأنه صلى الله عليه وآله وصف أبا بكر ولا عمر ولا عثمان بمثل ذلك في حال من الاحوال ، بل مجئ هذا الخبر بوصف أمير المؤمنين عليه السلام بذلك عقيب ما كان من أبي بكر وعمر في ذلك اليوم من الانهزام ، وإتباعه بوصف الكرار دون الفرار ، موجب لسلب الرجلين معنى هذه المدحة كما سلبهما مدحة الكر ، وألزمهما ذم الفرار .
وثانيها : وصف المشار إليه في الآية باللين على المؤمنين والشدة على الكافرين ، حيث يقول جل اسمه : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } ( 1 ) . وهذا وصف لا يمكن أحدا دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن استحقاقه بظاهر ما كان عليه من شدته على الكافرين ، ونكايته في المشركين ، وغلظته على الفاسقين ، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين ، ورأفته بالمؤمنين ، ورحمته للصالحين . ولا يمكن أحدا ادعاؤه لابي بكر إلا بالعصبية ، أو الظن دون اليقين ، لانه لم يعرف له قتيل في الاسلام ، ولا بارز قرنا ، ولم ير له موقف عني فيه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله ، ولا نازل بطلا ، ولا سفك بيده لاحد المشركين دما ، ولا كان له فيهم جريح ، ولم يزل من قتالهم هاربا ، ومن حربهم ناكلا ، وكان على المؤمنين غليظا ، ولم يكن بهم رحيما .
ألا ترى ما فعله بفاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام وما أدخله من الذل على ولدها ، وما صنع بشيعتها ، وما كان من شدته على صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وعامله على الصدقات ، ومن كان في حيزه من المسلمين حتى سفك دماءهم بيد المنافق الرجيم ، واستباح حريمهم بما لا يوجب ذلك في الشرع والدين . فثبت أنه كان من الاوصاف على ضد ما أوجبه الله تعالى في حكمه لمن أخبر عن الانتقام به من المرتدين . ثم صرح تعالى فيما أوصله بالآية من الذكر الحكيم ينعت أمير المؤمنين عليه السلام ، وأقام البرهان الجلي على أنه عناه بذلك وأراده خاصة ، بما أشار به من صفاته التي تحقق بالانفراد بها من العالمين . فقال جل اسمه : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }. فصارت الآية متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه السلام بدلالة متضمنها ، وما اتصل بها على حسب ما شرحناه ، وسقط توهم المخالف فيما ادعاه لابي بكر على ما بيناه.
فصل
ويؤيد ذلك إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا بقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم من بعده ، حيث جاءه سهيل بن عمرو في جماعة منهم ، فقالوا : يا محمد ، إن أرقاءنا لحقوا بك فارددهم علينا . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : " لتنتهن - يا معشر قريش - أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضر بكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله " . فقال له بعض أصحابه : من هو - يارسول الله - أبو بكر ؟ ! فقال : " لا " فقال : فعمر ؟ ! فقال : " لا ، ولكنه خاصف النعل في الحجرة " وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى عليه وآله في الحجرة. وقوله صلى الله عليه وآله لامير المؤمنين عليه السلام : " تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين " ( 3 )
وقول الله عزوجل : { فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون } ( 1 ) . وهي في قراءة عبد الله بن مسعود : منهم بعلي منتقمون ( 2 ) وبذلك جاء التفسير عن علماء التأويل ( 3 ) . وإذا كان الامر على ما وصفناه ، ولم يجر لابي بكر وعمر في حياة النبي صلى الله عليه وآله ما ذكرناه ، فقد صح أن المراد بمن ذكرناه أمير المؤمنين عليه السلام خاصة على ما بيناه .
وقد صح أنه المراد بقوله تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ( 4 ) على ما فصلنا القول به من انتظام الكلام ودلالة معانيه ، وما في السنة مما بينا الغرض فيه وشرحناه . فصل على أنا متى حققنا النظر في متضمن هذه الآية ، ولم نتجاوز المستفاد من ظاهرها ، وتأويله على مقتضى اللسان إلى القرائن من الاخبار على نحو ما ذكرناه آنفا ، لم نجد في ( 5 ) ذلك أكثر من الاخبار بوجود بدل من ( 1 ) المرتدين في جهاد من فرض الله جهاده من الكافرين ، على غير تعيين لطائفة من مستحقي القتال ، ولا عموم الجماعة بما يوجب استغراق الجنس في المقال . ألا ترى لو أن حكيما أقبل على عبيد له ، وقال لهم : يا هؤلاء ، من يعصني منكم ويخرج عن طاعتي فسيغنيني الله عنه بغيره ممن يطيعني ، ويجاهد معي على الاخلاص في النصحية لي ، ولا يخالف أمري . لكان كلامه هذا مفهوما مفيدا لحث عبيده على طاعته ، وإخباره بغناه عنهم عند مخالفتهم ، ووجود من يقوم مقامهم في طاعته على أحسن من طريقتهم ، ولم يفد بظاهره ولا مقتضاه الاخبار بوجود من يجاهدهم أنفسهم على القطع ، وإن كان محتملا لوعيدهم بالجهاد على الجواز له دون الوجوب لموضع الاشارة بذكر الجهاد إلى مستحقه .
وهذا هو نظير الاية فيما انطوت عليه ، ومماثل ألفاظها فيما تفضي إليه ، ومن ادعى فيه خلاف ما ذكرناه لم يجد إليه سبيلا ، وإن رام فيه فصلا عجز عن ذلك ، ورجع بالخيبة حسيرا ، ومن الله نسأل التوفيق .
فصل
فإن قال : أفليس الله تعالى يقول في سورة الفتح : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه } ( 1 ) . وقد علمت الكافة أن أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب رسول الله صلى الله وعليه وآله ، ورؤساء من كان معه ، وإذا كانوا كذلك فهم أحق الخلق بما تضمنه القرآن من وصف أهل الايمان ، ومدحهم بالظاهر من البيان ، وذلك مانع من الحكم عليهم بالخطأ والعصيان ( 2 ) ؟ ! قيل لهم : إن أول ما نقول في هذا الباب أن أبا بكر وعمر وعثمان ومن تضيفه ( 3 ) الناصبة إليهم في الفضل كطلحة والزبير وسعد وسعيد وأبي عبيدة وعبد الرحمن لا يتخصصون من هده المدحة بما خرج عنه أبو هريرة وأبو الدرداء ، بل لا يتخصصون بشئ لا يعم عمرو بن العاص وأبا موسى الاشعري والمغيرة بن شعبة وأبا الاعور السلمي ويزيد و ( 1 ) معاوية بن أبي سفيان ، بل لا يختصون منه بشئ دون أبي سفيان صخر بن حرب وعبد الله بن أبي سرح والوليدبن عقبة بن أبي معيط والحكم بن أبي العاص ومروان بن الحكم وأشباههم من الناس ، لان كل شئ أوجب دخول من سميتهم في مدحة القرآن ، فهو موجب دخول من سميناه ، وعبد الله بن أبي سلول ومالك بن نويرة ( 2 ) وفلان وفلان . إذ أن جميع هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن كان معه ، ولاكثرهم من النصرة للاسلام والجهاد بين يدي النبي صلى الله عليه وآله والآثار الجميلة والمقامات المحمودة ما ليس لابي بكر وعمر وعثمان ، فأين موضع الحجة لخصومنا في فضل من ذكره على غيره من جملة من سميناه ، وما وجه دلالتهم منه على إمامتهم ، فإنا لا نتوهمه ، بل لا يصح أن يدعيه أحد من العقلاء ؟ !
فصل
ثم يقال لهم : خبرونا عما وصف الله تعالى به من كان مع نبيه صلى الله عليه وآله بما تضمنه القرآن ، أهو شامل لكل من كان معه عليه الصلاة والسلام في الزمان ، أم في الصقع والمكان ، أم في ظاهر الاسلام ، أم في ظاهره وباطنه على كل حال ، أم الوصف به علامة تخصيص مستحقه بالمدح دون من عداه ، أم لقسم آخر غير ما ذكرناه ؟ فإن قالوا : هو شامل لكل من كان مع النبي صلى الله عليه وآله في الزمان أو المكان أو ظاهر الاسلام ، ظهر سقوطهم وبان جهلهم وصرحوا بمدح الكفار وأهل النفاق ، وهذا ما لا يرتكبه عاقل . وإن قالوا : إنه يشمل كل من كان معه على ظاهر الديانة وباطنها معا دون من عددتموه من الاقسام . قيل لهم : فدلوا على أئمتكم وأصحابكم ، ومن تسمون من أوليائكم ، أنهم كانوا في باطنهم على مثل ما أظهروه من الايمان ، ثم ابنوا حينئذ على هذا الكلام ، وإلا فأنتم مدعون ومتحكمون بمالا تثبت معه حجة ، ولا لكم عليه دليل ، وهيهات أن تجدوا دليلا يقطع به على سلامة بواطن القوم من الضلال ، إذ ليس به قرآن ولاخبر عن النبي صلى الله عليه وآله ، ومن اعتمد فيه على غير هذين فإنما اعتمد على الظن والحسبان . وإن قالوا : إن متضمن القرآن من الصفات المخصوصة إنما هي علامة على مستحقي المدحة من جماعة مظهري الاسلام دون أن تكون منتظمة لسائرهم على ما ظنه الجهال . قيل لهم : فدلوا الآن على من سميتموه كان مستحقا لتلك الصفات ، لتتوجه إليه المدحة ويتم لكم فيه المراد ، وهذا ما لاسبيل إليه حتى يلج الجميل في سم الخياط . / صفحة 142 / فصل ثم يقال لهم : تأملوا معنى الآية ، وحصلوا فائدة لفظها ، وعلى أي وجه تخصص متضمنها من المدح ، وكيف مخرج القول فيها ؟ تجدوا أئمتكم أصفارا مما ادعيتموه لهم منها ، وتعلموا أنهم باستحقاق الذم وسلب الفضل بدلالتها منهم بالتعظيم والتبجيل من مفهومها ، وذلك أن الله تعالى ميز مثل قوم من أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله في كتبه الاولى ، وثبوت ضفاتهم بالخير والتقى ( 1 ) في صحف إبراهيم وموسى وعيسى عليه السلام ، ثم كشف عنهم بما ميزهم به من الصفات التي تفردوا بها من جملة المسلمين ، وبانوا بحقيقتها عن سائر المقربين . فقال سبحانه : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل } ( 2 ) . وكأن تقدير الكلام : إن الذبن بينت ( 3 ) أمثالهم في التوراة والانجيل من جملة أصحابك ومن معك - يا محمد - هم أشداء على الكفار ، والرحماء بينهم الذين تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا . وجرى هذا في الكلام مجرى من قال : زيد بن عبد الله إمام عدل ، والذين معه يطيعون الله ، ويجاهدون في سبيل الله ، ولا يرتكبون شيئا مما حرم الله وهم المؤمنون حقا دون من سواهم ، إذ هم أولياء الله الذين تجب مودتهم دون من معه ممن عداهم ، وإذا كان الامر على ما وصفناه ، فالواجب أن تستقرئ الجماعة في طلب هذه الصفات ، فمن كان عليها منهم فقد توجه إليه المدح وحصل له التعظيم ، ومن كان على خلافها فالقرآن إذن منبه على ذمه ، وكاشف عن نقصه ، ودال على موجب لومه ، ومخرج له عن منازل التعظيم . فنظرنا في ذلك واعتبرناه ، فوجدنا أمير المؤمنين عليه السلام وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعمار بن ياسر والمقداد بن الاسود وأبا دجانة - وهو سماك بن خرشة الانصاري ( 1 ) - وأمثالهم من المهاجرين والانصار رضي الله عنهم ، قد انتظموا صفات الممدوحين من الصحابة في متضمن القرآن . وذلك أنهم بارزوا من أعداء الملة الاقران ، وكافحوا منهما الشجعان ، وقتلوا منهم الابطال ، وسفكوا في طاعة الله سبحانه دماء الكفار ، وبنوا بسيوفهم قواعد الايمان ، وجلوا عن نبيهم صلى الله عليه وآله الكرب والاحزان ، وظهر بذلك شدتهم على الكفار ، كما وصفهم الله تعالى في محكم القرآن ، وكانوا من التواصل على أهل الاسلام والرحمة بينهم على ما ندبوا إليه ، فاستحقوا الوصف في الذكر والبيان . فأما إقامتهم الصلاة وابتغاؤهم من فضل الله تعالى القربات ، فلم يدفعهم عن علو الرتبة في ذلك أحد من الناس ، فثبت لهم حقيقة
المدح لحصول مثلهم فيما أخير الله تعالى عنهم في متقدم الكتب ، واستغنينا بما عرفنا لهم مما شرحناه في استقراء غيرهم ، ممن قد ارتفع في حاله الخلاف ، وسقط الغرض بطلبه على الاتفاق . ثم نظرنا فيما ادعاه الخصوم لاجل أئمتهم وأعظمهم قدرا عندهم من مشاركة من سميناه فيما ذكرنا من الصفات وبيناه ، فوجدنا هم على ما قدمناه من الخروج عنها واستحقاق أضدادها على ما رسمناه . وذلك أنه لم يكن لاحد منهم مقام في الجهاد ، ولاعرف لهم قتيل من الكفار ، ولاكلم كلاما في نصرة الاسلام ، بل ظهر منه الجزع في مواطن القتال ، وفر في يوم خيبر واحد وحنين ، وقد نهاهم الله تعالى عن الفرار ، وولوا الادبار مع الوعيد لهم على ذلك في جلي البيان ، وأسلموا النبي صلى الله عليه وآله للحتوف ( 1 ) في مقام بعد مقام ، فخرجوا بذلك عن الشدة على الكفار ، وهان أمرهم على أهل الشرك والضلال ، وبطل أن يكونوا من جملة المعنين ( 1 ) بالمدحة في القرآن ولو كانوا على سائر ما عدا ما ذكرناه من باقي الصفات ، وكيف وأنى يثبت لهم شئ منها بضرورة ولا استدلال ، لان المدح إنما توجه إلى من حصل له مجموع الخصال في الآية دون بعضها ، وفي خروج القوم من البعض بما ذكرناه ( 2 ) مما لا يمكن دفعه إلا بالعناد وجوب الحكم عليهم بالذم بما وصفناه ؟ ! وهذا بين جلي والحمد لله . فصل ثم يقال لهم : قد روى مخالفوكم عن علماء التفسير من آل محمد عليهم السلام أن هذه الآية إنما نزلت في أمير المؤمنين والحسن والحسين والائمة عليهم السلام من بعدهم خاصة دون سائر الناس ، وروايتهم لما ذكرنا عمن سمينا أولى بالحق والصواب مما ادعيتموه بالتأويل والظن الحسبان والرأي ، لاسنادهم مقالتهم في ذلك إلى من ندب النبي صلى الله عليه وآله إلى الرجوع إليه عند الاختلاف ، وأمر باتباعه في الدين ، وأمن متبعه من الضلال . ثم إن دليل القرآن يعضده البيان ، وذلك إن الله تعالى أخبر عمن ذكره بالشدة على الكفار ، والرحمة لاهل الايمان ، والصلاة له ، والاجتهاد في الطاعات ، بثبوت صفته في التوراة والانجيل ، وبالسجود لله تعالى وخلع الانداد ، ومحال وجود صفة ذلك لمن سجوده للاوثان ، وتقربه للات والعزى دون الله الواحد القهار ، لانه يوجب الكذب في المقال ، أو المدحة بما يوجب الذم من الكفر والعصيان . وقد اتفقت الكافة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا وأبا عبيدة وعبد الرحمن قد عبدوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله . الاصنام ، وكانوا دهرا طويلا يسجدون للاوثان من دون الله تعالى ، ويشركون به الانداد ، فبطل أن تكون أسماؤهم ثابتة في التوراة والانجيل بذكر السجود على ما نطق به القرآن . وثبت لامير المؤمنين والائمة من ذريته عليهم السلام ذلك ، للاتفاق على أنهم لم يعبدوا قط غير الله تعالى ، ولا سجدوا لاحد سواه ، وكان مثلهم في التوراة والانجيل واقعا موقعه على ما وصفناه ، مستحقا به المدحة قبل كونه لما فيه من الاخلاص لله سبحانه على ما بيناه . ووافق دليل ذلك برهان الخبر عمن ذكرناه من علماء آل محمد صلوات الله عليهم ، بما دل به النبي صلى الله عليه وآله من مقاله الذي اتفق العلماء عليه ، وهذا أيضا مما لا يمكن التخلص منه مع الانصاف . فصل على أنه يقال لهم : خبرونا عن طلحة والزبير ، أهما داخلان في جملة الممدوحين بقوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على / صفحة 147 / الكفار } ( 1 ) إلى آخره ، أم غير داخلين في ذلك ؟
فإن قالوا : لم يدخل طلحة والزبير ونحوهما في جملة القوم . خرجوا من مذاهبهم وقيل لهم : ما الذي أخرجهم من ذلك وأدخل أبا بكر وعمر وعثمان ، فكل شئ تدعونه في استحقاق الصفات ، فطلحة والزبير أشبه أن يكونا عليها منهم ، لما ظهر من مقاماتهم في الجهاد الذي لم يكن لابي بكر وعمر وعثمان فيه ذكر على جميع الاحوال ؟ ! فلا يجدون شيئا يعتمدون عليه في الفرق بين القوم أكثر من الدعوى الظاهرة الفساد . وإن قالوا : إن طلحة والزبير في جملة القوم الممدوحين بما في الآي . قيل لهم : فهلا عصمهما المدح الذي ادعيتموه لهم من دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه ، وإنكار إمامته ، واستحلال حربه ، وسفك دمه ، والتدين بعداوته على أي جهة شئتم : كان ذلك من تعمد ، أو خطأ ، أو شبهة ، أو عناد ، أو نظر ، أو اجتهاد !
فإن قالوا : إن مدح القرآن - على ما يزعمون - لم يعصمهما من ذلك ، ولا بد من الاعتراف بما ذكرناه ، لان منع دفعه جحد الاضطرار . قيل لهم : فبما تدفعون أن أبا بكر وعمر وعثمان قد دفعوا أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه ، وتقدموا عليه وكان أولى بالتقدم عليهم ، وأنكروا إمامته وقد كانت ثابتة ، و دفعوا النصوص عليه وهي له واجبة يعصم طلحة والزبير مما وصفناه ووقع منهم في إنكار حق أمير المؤمنين عليه السلام ، كما وقع من الرجلين المشاركين لهم فيما ادعيتموه من مدح القرآن وعلى الوجه الذي كان منهما ذلك من تعمد أو خطأ أو شبهة أو اجتهاد أو عناد ؟ وهذا ما لاسبيل لهم إلى دفعه ، وهو مبطل لتعلقهم بالآية ودفع أئمتهم عن الضلالة ، وإن سلم لهم منها ما تمنوه تسليم جدل للاستظهار . فصل ويؤكد ذلك أن الله تعالى مدح من وصف بالآية بما كان عليه في الحال ، ولم يقض بمدحه له على صلاح العواقب ، ولا أوجب العصمة له من الضلال ، ولا استدامة لما استحق به المدحة في الاستقبال . ألا ترى أنه سبحانه قد اشترط في المغفرة لهم والرضوان الايمان في الخاتمة ، ودل بالتخصيص لمن اشترط له ذلك ، على أن في جملتهم من يتغير حاله فيخرج عن المدح إلى الذم واستحقاق العقاب ، فقال تعالى فيما اتصل به من وصفهم ( 1 ) ومدحهم بما ذكرناه من مستحقهم في الحال : { كزرع أخرج شطئه فازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما }فبعضهم في الوعد ولم يعمهم به ، وجعل الاجر مشترطا لهم بالاعمال الصالحة ، ولم يقطع على الثبات ، ولو كان الوصف لهم بما تقدم موجبا لهم الثواب ، ومبينا لهم المغفرة والرضوان ، لاستحال الشرط فيهم بعده وتناقض الكلام ، وكان التخصيص لهم موجبا بعد العموم ظاهر التضاد ، وهذا ما لا يذهب إليه ناظر ، فبطل ما تعلق به الخصم من جميع الجهات ، وبان تهافته على اختلاف المذاهب في الاجوبة والاسقاطات ، والمنة لله .
مع أن متضمن الآية وفوائدها وما يتصل بها مما بعدها يقضي بتوجهها إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنه المعني بالمدحة فيها ، والمشار إليه في جهاد المرتدين دون من ظنوه بغير بصيرة وتوهموه . وذلك أن الله سبحانه توعد المرتدين عن دينه بالانتقام منهم بذي صفات مخصوصة بينها في كتابه ، وعرفها كافة عباده ، بما يوجب لهم العلم بحقائقها ، وكانت بالاعتبار الصحيح خاصة لامير المؤمنين عليه السلام دون المدعى له ذلك بما لا يمكن دفعه إلا بالعناد :
فأولها : وصفهم بأنهم يحبون الله تعالى ويحبهم الله . وقد علم كل من سمع الاخبار اختصاص أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الوصف من الرسول صلى الله عليه وآله ، وشهادته له به يوم خيبر حيث يقول : " لاعطين الرايد غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه " فأعطاها عليا عليه السلام ، ولم يرد خبر ولا جاء أثر بأنه صلى الله عليه وآله وصف أبا بكر ولا عمر ولا عثمان بمثل ذلك في حال من الاحوال ، بل مجئ هذا الخبر بوصف أمير المؤمنين عليه السلام بذلك عقيب ما كان من أبي بكر وعمر في ذلك اليوم من الانهزام ، وإتباعه بوصف الكرار دون الفرار ، موجب لسلب الرجلين معنى هذه المدحة كما سلبهما مدحة الكر ، وألزمهما ذم الفرار .
وثانيها : وصف المشار إليه في الآية باللين على المؤمنين والشدة على الكافرين ، حيث يقول جل اسمه : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } ( 1 ) . وهذا وصف لا يمكن أحدا دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن استحقاقه بظاهر ما كان عليه من شدته على الكافرين ، ونكايته في المشركين ، وغلظته على الفاسقين ، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين ، ورأفته بالمؤمنين ، ورحمته للصالحين . ولا يمكن أحدا ادعاؤه لابي بكر إلا بالعصبية ، أو الظن دون اليقين ، لانه لم يعرف له قتيل في الاسلام ، ولا بارز قرنا ، ولم ير له موقف عني فيه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله ، ولا نازل بطلا ، ولا سفك بيده لاحد المشركين دما ، ولا كان له فيهم جريح ، ولم يزل من قتالهم هاربا ، ومن حربهم ناكلا ، وكان على المؤمنين غليظا ، ولم يكن بهم رحيما .
ألا ترى ما فعله بفاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام وما أدخله من الذل على ولدها ، وما صنع بشيعتها ، وما كان من شدته على صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وعامله على الصدقات ، ومن كان في حيزه من المسلمين حتى سفك دماءهم بيد المنافق الرجيم ، واستباح حريمهم بما لا يوجب ذلك في الشرع والدين . فثبت أنه كان من الاوصاف على ضد ما أوجبه الله تعالى في حكمه لمن أخبر عن الانتقام به من المرتدين . ثم صرح تعالى فيما أوصله بالآية من الذكر الحكيم ينعت أمير المؤمنين عليه السلام ، وأقام البرهان الجلي على أنه عناه بذلك وأراده خاصة ، بما أشار به من صفاته التي تحقق بالانفراد بها من العالمين . فقال جل اسمه : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }. فصارت الآية متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه السلام بدلالة متضمنها ، وما اتصل بها على حسب ما شرحناه ، وسقط توهم المخالف فيما ادعاه لابي بكر على ما بيناه.
فصل
ويؤيد ذلك إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا بقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم من بعده ، حيث جاءه سهيل بن عمرو في جماعة منهم ، فقالوا : يا محمد ، إن أرقاءنا لحقوا بك فارددهم علينا . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : " لتنتهن - يا معشر قريش - أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضر بكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله " . فقال له بعض أصحابه : من هو - يارسول الله - أبو بكر ؟ ! فقال : " لا " فقال : فعمر ؟ ! فقال : " لا ، ولكنه خاصف النعل في الحجرة " وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى عليه وآله في الحجرة. وقوله صلى الله عليه وآله لامير المؤمنين عليه السلام : " تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين " ( 3 )
وقول الله عزوجل : { فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون } ( 1 ) . وهي في قراءة عبد الله بن مسعود : منهم بعلي منتقمون ( 2 ) وبذلك جاء التفسير عن علماء التأويل ( 3 ) . وإذا كان الامر على ما وصفناه ، ولم يجر لابي بكر وعمر في حياة النبي صلى الله عليه وآله ما ذكرناه ، فقد صح أن المراد بمن ذكرناه أمير المؤمنين عليه السلام خاصة على ما بيناه .
وقد صح أنه المراد بقوله تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ( 4 ) على ما فصلنا القول به من انتظام الكلام ودلالة معانيه ، وما في السنة مما بينا الغرض فيه وشرحناه . فصل على أنا متى حققنا النظر في متضمن هذه الآية ، ولم نتجاوز المستفاد من ظاهرها ، وتأويله على مقتضى اللسان إلى القرائن من الاخبار على نحو ما ذكرناه آنفا ، لم نجد في ( 5 ) ذلك أكثر من الاخبار بوجود بدل من ( 1 ) المرتدين في جهاد من فرض الله جهاده من الكافرين ، على غير تعيين لطائفة من مستحقي القتال ، ولا عموم الجماعة بما يوجب استغراق الجنس في المقال . ألا ترى لو أن حكيما أقبل على عبيد له ، وقال لهم : يا هؤلاء ، من يعصني منكم ويخرج عن طاعتي فسيغنيني الله عنه بغيره ممن يطيعني ، ويجاهد معي على الاخلاص في النصحية لي ، ولا يخالف أمري . لكان كلامه هذا مفهوما مفيدا لحث عبيده على طاعته ، وإخباره بغناه عنهم عند مخالفتهم ، ووجود من يقوم مقامهم في طاعته على أحسن من طريقتهم ، ولم يفد بظاهره ولا مقتضاه الاخبار بوجود من يجاهدهم أنفسهم على القطع ، وإن كان محتملا لوعيدهم بالجهاد على الجواز له دون الوجوب لموضع الاشارة بذكر الجهاد إلى مستحقه .
وهذا هو نظير الاية فيما انطوت عليه ، ومماثل ألفاظها فيما تفضي إليه ، ومن ادعى فيه خلاف ما ذكرناه لم يجد إليه سبيلا ، وإن رام فيه فصلا عجز عن ذلك ، ورجع بالخيبة حسيرا ، ومن الله نسأل التوفيق .
فصل
فإن قال : أفليس الله تعالى يقول في سورة الفتح : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه } ( 1 ) . وقد علمت الكافة أن أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب رسول الله صلى الله وعليه وآله ، ورؤساء من كان معه ، وإذا كانوا كذلك فهم أحق الخلق بما تضمنه القرآن من وصف أهل الايمان ، ومدحهم بالظاهر من البيان ، وذلك مانع من الحكم عليهم بالخطأ والعصيان ( 2 ) ؟ ! قيل لهم : إن أول ما نقول في هذا الباب أن أبا بكر وعمر وعثمان ومن تضيفه ( 3 ) الناصبة إليهم في الفضل كطلحة والزبير وسعد وسعيد وأبي عبيدة وعبد الرحمن لا يتخصصون من هده المدحة بما خرج عنه أبو هريرة وأبو الدرداء ، بل لا يتخصصون بشئ لا يعم عمرو بن العاص وأبا موسى الاشعري والمغيرة بن شعبة وأبا الاعور السلمي ويزيد و ( 1 ) معاوية بن أبي سفيان ، بل لا يختصون منه بشئ دون أبي سفيان صخر بن حرب وعبد الله بن أبي سرح والوليدبن عقبة بن أبي معيط والحكم بن أبي العاص ومروان بن الحكم وأشباههم من الناس ، لان كل شئ أوجب دخول من سميتهم في مدحة القرآن ، فهو موجب دخول من سميناه ، وعبد الله بن أبي سلول ومالك بن نويرة ( 2 ) وفلان وفلان . إذ أن جميع هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن كان معه ، ولاكثرهم من النصرة للاسلام والجهاد بين يدي النبي صلى الله عليه وآله والآثار الجميلة والمقامات المحمودة ما ليس لابي بكر وعمر وعثمان ، فأين موضع الحجة لخصومنا في فضل من ذكره على غيره من جملة من سميناه ، وما وجه دلالتهم منه على إمامتهم ، فإنا لا نتوهمه ، بل لا يصح أن يدعيه أحد من العقلاء ؟ !
فصل
ثم يقال لهم : خبرونا عما وصف الله تعالى به من كان مع نبيه صلى الله عليه وآله بما تضمنه القرآن ، أهو شامل لكل من كان معه عليه الصلاة والسلام في الزمان ، أم في الصقع والمكان ، أم في ظاهر الاسلام ، أم في ظاهره وباطنه على كل حال ، أم الوصف به علامة تخصيص مستحقه بالمدح دون من عداه ، أم لقسم آخر غير ما ذكرناه ؟ فإن قالوا : هو شامل لكل من كان مع النبي صلى الله عليه وآله في الزمان أو المكان أو ظاهر الاسلام ، ظهر سقوطهم وبان جهلهم وصرحوا بمدح الكفار وأهل النفاق ، وهذا ما لا يرتكبه عاقل . وإن قالوا : إنه يشمل كل من كان معه على ظاهر الديانة وباطنها معا دون من عددتموه من الاقسام . قيل لهم : فدلوا على أئمتكم وأصحابكم ، ومن تسمون من أوليائكم ، أنهم كانوا في باطنهم على مثل ما أظهروه من الايمان ، ثم ابنوا حينئذ على هذا الكلام ، وإلا فأنتم مدعون ومتحكمون بمالا تثبت معه حجة ، ولا لكم عليه دليل ، وهيهات أن تجدوا دليلا يقطع به على سلامة بواطن القوم من الضلال ، إذ ليس به قرآن ولاخبر عن النبي صلى الله عليه وآله ، ومن اعتمد فيه على غير هذين فإنما اعتمد على الظن والحسبان . وإن قالوا : إن متضمن القرآن من الصفات المخصوصة إنما هي علامة على مستحقي المدحة من جماعة مظهري الاسلام دون أن تكون منتظمة لسائرهم على ما ظنه الجهال . قيل لهم : فدلوا الآن على من سميتموه كان مستحقا لتلك الصفات ، لتتوجه إليه المدحة ويتم لكم فيه المراد ، وهذا ما لاسبيل إليه حتى يلج الجميل في سم الخياط . / صفحة 142 / فصل ثم يقال لهم : تأملوا معنى الآية ، وحصلوا فائدة لفظها ، وعلى أي وجه تخصص متضمنها من المدح ، وكيف مخرج القول فيها ؟ تجدوا أئمتكم أصفارا مما ادعيتموه لهم منها ، وتعلموا أنهم باستحقاق الذم وسلب الفضل بدلالتها منهم بالتعظيم والتبجيل من مفهومها ، وذلك أن الله تعالى ميز مثل قوم من أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله في كتبه الاولى ، وثبوت ضفاتهم بالخير والتقى ( 1 ) في صحف إبراهيم وموسى وعيسى عليه السلام ، ثم كشف عنهم بما ميزهم به من الصفات التي تفردوا بها من جملة المسلمين ، وبانوا بحقيقتها عن سائر المقربين . فقال سبحانه : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل } ( 2 ) . وكأن تقدير الكلام : إن الذبن بينت ( 3 ) أمثالهم في التوراة والانجيل من جملة أصحابك ومن معك - يا محمد - هم أشداء على الكفار ، والرحماء بينهم الذين تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا . وجرى هذا في الكلام مجرى من قال : زيد بن عبد الله إمام عدل ، والذين معه يطيعون الله ، ويجاهدون في سبيل الله ، ولا يرتكبون شيئا مما حرم الله وهم المؤمنون حقا دون من سواهم ، إذ هم أولياء الله الذين تجب مودتهم دون من معه ممن عداهم ، وإذا كان الامر على ما وصفناه ، فالواجب أن تستقرئ الجماعة في طلب هذه الصفات ، فمن كان عليها منهم فقد توجه إليه المدح وحصل له التعظيم ، ومن كان على خلافها فالقرآن إذن منبه على ذمه ، وكاشف عن نقصه ، ودال على موجب لومه ، ومخرج له عن منازل التعظيم . فنظرنا في ذلك واعتبرناه ، فوجدنا أمير المؤمنين عليه السلام وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعمار بن ياسر والمقداد بن الاسود وأبا دجانة - وهو سماك بن خرشة الانصاري ( 1 ) - وأمثالهم من المهاجرين والانصار رضي الله عنهم ، قد انتظموا صفات الممدوحين من الصحابة في متضمن القرآن . وذلك أنهم بارزوا من أعداء الملة الاقران ، وكافحوا منهما الشجعان ، وقتلوا منهم الابطال ، وسفكوا في طاعة الله سبحانه دماء الكفار ، وبنوا بسيوفهم قواعد الايمان ، وجلوا عن نبيهم صلى الله عليه وآله الكرب والاحزان ، وظهر بذلك شدتهم على الكفار ، كما وصفهم الله تعالى في محكم القرآن ، وكانوا من التواصل على أهل الاسلام والرحمة بينهم على ما ندبوا إليه ، فاستحقوا الوصف في الذكر والبيان . فأما إقامتهم الصلاة وابتغاؤهم من فضل الله تعالى القربات ، فلم يدفعهم عن علو الرتبة في ذلك أحد من الناس ، فثبت لهم حقيقة
المدح لحصول مثلهم فيما أخير الله تعالى عنهم في متقدم الكتب ، واستغنينا بما عرفنا لهم مما شرحناه في استقراء غيرهم ، ممن قد ارتفع في حاله الخلاف ، وسقط الغرض بطلبه على الاتفاق . ثم نظرنا فيما ادعاه الخصوم لاجل أئمتهم وأعظمهم قدرا عندهم من مشاركة من سميناه فيما ذكرنا من الصفات وبيناه ، فوجدنا هم على ما قدمناه من الخروج عنها واستحقاق أضدادها على ما رسمناه . وذلك أنه لم يكن لاحد منهم مقام في الجهاد ، ولاعرف لهم قتيل من الكفار ، ولاكلم كلاما في نصرة الاسلام ، بل ظهر منه الجزع في مواطن القتال ، وفر في يوم خيبر واحد وحنين ، وقد نهاهم الله تعالى عن الفرار ، وولوا الادبار مع الوعيد لهم على ذلك في جلي البيان ، وأسلموا النبي صلى الله عليه وآله للحتوف ( 1 ) في مقام بعد مقام ، فخرجوا بذلك عن الشدة على الكفار ، وهان أمرهم على أهل الشرك والضلال ، وبطل أن يكونوا من جملة المعنين ( 1 ) بالمدحة في القرآن ولو كانوا على سائر ما عدا ما ذكرناه من باقي الصفات ، وكيف وأنى يثبت لهم شئ منها بضرورة ولا استدلال ، لان المدح إنما توجه إلى من حصل له مجموع الخصال في الآية دون بعضها ، وفي خروج القوم من البعض بما ذكرناه ( 2 ) مما لا يمكن دفعه إلا بالعناد وجوب الحكم عليهم بالذم بما وصفناه ؟ ! وهذا بين جلي والحمد لله . فصل ثم يقال لهم : قد روى مخالفوكم عن علماء التفسير من آل محمد عليهم السلام أن هذه الآية إنما نزلت في أمير المؤمنين والحسن والحسين والائمة عليهم السلام من بعدهم خاصة دون سائر الناس ، وروايتهم لما ذكرنا عمن سمينا أولى بالحق والصواب مما ادعيتموه بالتأويل والظن الحسبان والرأي ، لاسنادهم مقالتهم في ذلك إلى من ندب النبي صلى الله عليه وآله إلى الرجوع إليه عند الاختلاف ، وأمر باتباعه في الدين ، وأمن متبعه من الضلال . ثم إن دليل القرآن يعضده البيان ، وذلك إن الله تعالى أخبر عمن ذكره بالشدة على الكفار ، والرحمة لاهل الايمان ، والصلاة له ، والاجتهاد في الطاعات ، بثبوت صفته في التوراة والانجيل ، وبالسجود لله تعالى وخلع الانداد ، ومحال وجود صفة ذلك لمن سجوده للاوثان ، وتقربه للات والعزى دون الله الواحد القهار ، لانه يوجب الكذب في المقال ، أو المدحة بما يوجب الذم من الكفر والعصيان . وقد اتفقت الكافة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا وأبا عبيدة وعبد الرحمن قد عبدوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله . الاصنام ، وكانوا دهرا طويلا يسجدون للاوثان من دون الله تعالى ، ويشركون به الانداد ، فبطل أن تكون أسماؤهم ثابتة في التوراة والانجيل بذكر السجود على ما نطق به القرآن . وثبت لامير المؤمنين والائمة من ذريته عليهم السلام ذلك ، للاتفاق على أنهم لم يعبدوا قط غير الله تعالى ، ولا سجدوا لاحد سواه ، وكان مثلهم في التوراة والانجيل واقعا موقعه على ما وصفناه ، مستحقا به المدحة قبل كونه لما فيه من الاخلاص لله سبحانه على ما بيناه . ووافق دليل ذلك برهان الخبر عمن ذكرناه من علماء آل محمد صلوات الله عليهم ، بما دل به النبي صلى الله عليه وآله من مقاله الذي اتفق العلماء عليه ، وهذا أيضا مما لا يمكن التخلص منه مع الانصاف . فصل على أنه يقال لهم : خبرونا عن طلحة والزبير ، أهما داخلان في جملة الممدوحين بقوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على / صفحة 147 / الكفار } ( 1 ) إلى آخره ، أم غير داخلين في ذلك ؟
فإن قالوا : لم يدخل طلحة والزبير ونحوهما في جملة القوم . خرجوا من مذاهبهم وقيل لهم : ما الذي أخرجهم من ذلك وأدخل أبا بكر وعمر وعثمان ، فكل شئ تدعونه في استحقاق الصفات ، فطلحة والزبير أشبه أن يكونا عليها منهم ، لما ظهر من مقاماتهم في الجهاد الذي لم يكن لابي بكر وعمر وعثمان فيه ذكر على جميع الاحوال ؟ ! فلا يجدون شيئا يعتمدون عليه في الفرق بين القوم أكثر من الدعوى الظاهرة الفساد . وإن قالوا : إن طلحة والزبير في جملة القوم الممدوحين بما في الآي . قيل لهم : فهلا عصمهما المدح الذي ادعيتموه لهم من دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه ، وإنكار إمامته ، واستحلال حربه ، وسفك دمه ، والتدين بعداوته على أي جهة شئتم : كان ذلك من تعمد ، أو خطأ ، أو شبهة ، أو عناد ، أو نظر ، أو اجتهاد !
فإن قالوا : إن مدح القرآن - على ما يزعمون - لم يعصمهما من ذلك ، ولا بد من الاعتراف بما ذكرناه ، لان منع دفعه جحد الاضطرار . قيل لهم : فبما تدفعون أن أبا بكر وعمر وعثمان قد دفعوا أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه ، وتقدموا عليه وكان أولى بالتقدم عليهم ، وأنكروا إمامته وقد كانت ثابتة ، و دفعوا النصوص عليه وهي له واجبة يعصم طلحة والزبير مما وصفناه ووقع منهم في إنكار حق أمير المؤمنين عليه السلام ، كما وقع من الرجلين المشاركين لهم فيما ادعيتموه من مدح القرآن وعلى الوجه الذي كان منهما ذلك من تعمد أو خطأ أو شبهة أو اجتهاد أو عناد ؟ وهذا ما لاسبيل لهم إلى دفعه ، وهو مبطل لتعلقهم بالآية ودفع أئمتهم عن الضلالة ، وإن سلم لهم منها ما تمنوه تسليم جدل للاستظهار . فصل ويؤكد ذلك أن الله تعالى مدح من وصف بالآية بما كان عليه في الحال ، ولم يقض بمدحه له على صلاح العواقب ، ولا أوجب العصمة له من الضلال ، ولا استدامة لما استحق به المدحة في الاستقبال . ألا ترى أنه سبحانه قد اشترط في المغفرة لهم والرضوان الايمان في الخاتمة ، ودل بالتخصيص لمن اشترط له ذلك ، على أن في جملتهم من يتغير حاله فيخرج عن المدح إلى الذم واستحقاق العقاب ، فقال تعالى فيما اتصل به من وصفهم ( 1 ) ومدحهم بما ذكرناه من مستحقهم في الحال : { كزرع أخرج شطئه فازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما }فبعضهم في الوعد ولم يعمهم به ، وجعل الاجر مشترطا لهم بالاعمال الصالحة ، ولم يقطع على الثبات ، ولو كان الوصف لهم بما تقدم موجبا لهم الثواب ، ومبينا لهم المغفرة والرضوان ، لاستحال الشرط فيهم بعده وتناقض الكلام ، وكان التخصيص لهم موجبا بعد العموم ظاهر التضاد ، وهذا ما لا يذهب إليه ناظر ، فبطل ما تعلق به الخصم من جميع الجهات ، وبان تهافته على اختلاف المذاهب في الاجوبة والاسقاطات ، والمنة لله .
تعليق