إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

أسرار قرانية في حقائق وأنوار محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بسم الله الرحمن الرحيم
    اللهم صلِ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها
    السلام عليكِ يا سيدتي ومولاتي يا فاطمة الزهراء وعلى أبيكِ وبعلكِ وبنيكِ

    وصلنا هذا التأمل النوراني من مؤمنة زهرائية



    عن يعقوب بن شعيب قال : سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول :

    قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :

    إن في ابن آدم ثلاثمائة وستين ( 360 ) عرقا ، منها مائة وثمانون ( 180 ) متحركة ، ومنها مائة وثمانون
    ( 180 ) ساكنة ، فلو سكن المتحرك لم ينم ، ولو تحرك الساكن لم ينم ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا أصبح قال : الحمد لله رب العالمين كثيرا على كل حال ثلاثمائة وستين ( 360 ) مرة ، وإذا أمسى مثل ذلك .


    كل الرموز العددية التي وردت في الرواية النبوية تحمل في مجموعها العدد ( 9 ) سلام على الزهراء الطاهره وسرها العظيم المكنون .
    لكم خالص دعائنا ونلتمسكم الدعاء

    تعليق


    • بسم الله الرحمن الرحيم
      اللهم صلِ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها
      السلام عليكِ يا سيدتي ومولاتي يا فاطمة الزهراء وعلى أبيكِ وبعلكِ وبنيكِ



      قال تعالى : "وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "


      إن صلاة العيد من السنن الإلهية العظيمة،وصلاة العيد ركعتان كصلاة الصبح،

      ولكن يضاف في صلاة العيد خمس تكبيرات في الركعة الأولى بعد القراءة ويفصل بين كل تكبيرة وأخرى القنوت التالي:

      "اللهم أهل الكبرياء والعظمة وأهل الجود والجبروت وأهل العفو والرحمة وأهل التقوى والمغفرة، أسألك بحقّ هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً ولمحمدٍ صلى الله عليه وآله ذخراً وشرفاً ومزيداً أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تدخلني في كل خيرٍ أدخلت فيه محمداً وآل محمد وأن تخرجني من كل سوء أخرجت منه محمداً وآل محمد صلواتك عليه وعليهم أجمعين، اللهم إني أسألك خير ما سألك عبادك الصالحون وأعوذ بك مما استعاذ منه عبادك الصالحون".

      ثم تكبِّر التكبيرة السادسة وتركع وتسجد كالمعتاد

      ثم تنهض للركعة الثانية وصورتها كالأولى، لكن التكبيرات فيها أربع بدل خمس، فإذا فرغت من التكبير والقنوت ركعت وسجدت وأتممت الصلاة كالمعتاد،

      ويستحب التعقيب بتسبيح مولاتنا الزهراء(عليها السلام)

      والمتأمل يجد أنه

      عدد القنوتات في صلاة العيد 5 في الركعة الأولى و4 في الركعة الثانية فإذا جمعناها نجد أن عددها 9 قنوتات .

      السلام على الطاهره والسر العظيم المستودع فيها .
      لكم خالص دعائنا ونلتمسكم الدعاء

      تعليق


      • بسم الله الرحمن الرحيم
        اللهم صلِ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها
        السلام عليكِ يا سيدتي ومولاتي يا فاطمة الزهراء وعلى أبيكِ وبعلكِ وبنيكِ

        وصلنا هذا التأمل من أحد إخواني المواليين الفاطميين

        ملف فلاشي ( فكرته أجنبية ) يستطيع معرفة الرقم الذي اخترته في فكرك ولا يخطئ أبدا في اكتشاف ماتراه بعينك ...أضغط على صورة الزهرة ....



        طريقة التعامل معه :

        * اختر رقم مكون من خانتين ( مثلا 72 )

        * اجمع الرقمين ( 2 + 7 = 9 )

        * اطرح الجواب من رقمك الأصلي ( 72- 9 = 63 )

        * الآن ركز بعينك على الشكل المرافق للرقم 63 في الجدول على يمينك ثم اضغط على البلورة ( قارئة الافكار ) في اليسار

        * النتيجة المذهلة أمامك !!! ولكن كيف ؟

        ان اعتماد فكرة هذا الملف الفلاشي كله على سر عجيب من أسرار العدد ( 9 ) الذي هو سيد الأرقام

        ( ووصف العدد ( 9 ) بسيد الارقام هو وصف أطلقه احد المدراء الأجانب عندما اطلعه احد المواليين على ان سر اللعبه هو في العدد (9) )

        كيف يكون ذلك ؟

        تعليق


        • اللهم صل على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها



          السر هنا :

          1)كل رقم نختاره فإن عملية جمع آحاده مع عشراته وطرح الناتج من العدد الاصلي سوف يكون مساويا لأحد مضاعفات العدد ( 9 ) !!!!!!

          2) وعلى هذا الاساس فإن كل ناتج نهائي سوف يكون من مضاعفات العدد ( 9 ) !!!!!!

          3) ولكي ينجح مصممين البرنامج في شد إنتباه المستخدمين له فهم يقومون بتغيير الأشكال المرسومة بجانب مضاعفات العدد ( 9 ) في كل مرة يقوم فيها المستخدمين بمحاولة جديدة .



          اللهم صل على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها
          لكم خالص دعائنا ونلتمسكم الدعاء

          تعليق


          • اللهم صل على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها

            من هنا الصورة للتوضيح




            بسم الله الرحمن الرحيم
            اللهم صل على من بأسرارها حارت العقول وتاهت وعلى آلها الأطهار وسلم تسليماً
            السلام عليك يا سيدي ومولاي يا من بظهورك المبارك ستتفجر ينابيع العلوم العلوية والأسرار الفاطمية ورحمة الله وبركاته


            أستاذتي الفاطمية الحبيبة عاشقه زينبيه
            السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
            تقبل الله أعمالكم أستاذتي بأحسن القبول بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر العظيم المستودع فيها


            أستاذتي كما هي عادتكم تهيجون حبنا للإستطلاع والإبحار في محيط أسرار الصديقة الطاهرة روحي فداه عند كل لقاء بكم
            وبصراحة فإن كلامكم عن الذهب وتأمل المؤمنة بعلاقته بالرقم تسعة خلق لدي فضولاً عظيماً لمعرفة خصائص الذهب ومميزاته وإليك القليل الذي توصلنا إليه


            1- يلقب الذهب بملك المعادن ، وقد اكتشف الحسن بن الهيثم محلولاً يقدر على إذابة الذهب يسمى "الماء الملكي"

            2- مجموع أرقام حروف كلمة "الذهب" =738 =18 =9

            3- والأروع أني وأنا أبحث عن أسرار الظهورات الفاطمية وجدت هذا الوصف
            للسيدة الزهراء روحي فداها:-

            رأى ولدان، مكسيمين (صبي 11 عام) وميلاني (فتاة 14 عام) لمعاناً من الضوء وظهرت منه فجأة سيدة متشحة بالبياض والذهب مع إكليل ورود على رأسها.

            بالإضافة إلى أن إحدى المؤمنات أخبرتنا بأن
            الذهب
            يمر بتسع مراحل حتى يصبح ذهباً مصفى

            البحث والتفكر والحديث عن كل ما يرتبط بأمنا ومولاتنا وشفيعتنا بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله في غاية الروعة والعظمة والجمال

            لنا عودة لموضوعك الفاطمي المميز أستاذتي الفاضلة

            لا تنسينا من دعائك الزهرائي

            تعليق


            • رواية لطيفة عظيمة رواية لطيفة عظيمة :

              فضائل الصحابة المؤلف : أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني الناشر : مؤسسة الرسالة – بيروت الطبعة الأولى ، 1403 – 1983 تحقيق : د. وصي الله محمد عباس رئيس كلية الشريعة جامعة أم القرى بمكة المكرمة عدد الأجزاء : 2 [ جزء 2 - صفحة 675 ] ح 1154( حدثنا أحمد بن إسرائيل قال رأيت في كتاب أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله بخط يده نا اسود بن عامر أبو عبد الرحمن قثنا الربيع بن منذر عن أبيه قال : كان حسين بن علي يقول من دمعتا عيناه فينا دمعة أو قطرت عيناه فينا قطرة اثواه الله عز وجل الجنة ).
              توثيقها من موقع سلفي معتمد :

              http://www.islammessage.com/booksww/...d=1213&id=1172

              نسألكم الدعاء

              تعليق


              • (7)
                أودّاء الله
                العشـق
                اعلم أنَّ المحبَّة والودّ و العشق و الشوق و الإرادة و الميل والابتهاج ونحوها تشير إلى معنى واحد ، ففي تعريف الحبِّ قالوا :
                { هو تعلُّقٌ خاص و انجذاب مخصوص بين المرء وكماله }
                وقالوا أيضاً:
                { ميل النفس إلى الشيء لكمالٍ أو جمالٍ أدركتْه فيه بحيث يحمله إلى التقرُّب إليه }
                والودُّ هو :
                { محبة الشيء وتمنِّي كونِه }
                أي أنَّه يصير ذلك الشيء بعينه والتمني هو :
                { تشهِّي حصول ما تودُّه }
                و في الدعاء :
                { يا منى المحبّين }
                والعشق هو :
                { المحبة المفرطة }
                قال العلاّمة المجلسي رضوان الله تعالى عليه :
                {عَشِقَ من باب تعب ، والاسم العِشق وهو الإفراط في المحبَّة أي أحبَّه حباً مفرطاً من حيث كونه وسيلةً إلى القرب الذي هو المطلوب الحقيقي}(بحار الأنوار ج 70 ص 253 رواية 10 باب 55)

                قال ابن عبّاد في محيط اللغة:
                { عشِق : كلِف }
                وقال في معنى كلِفَ :
                { و الكلَف ، الإيلاع }
                كلمة العشق في الشريعة
                وردت هذه الكلمة في الشريعة في مواردَ معدودة نشير إلى بعضها:
                ألف : في الحديث القدسي :
                {من عشقتُه فقد قتلتُه ، ومن قتلتُه فعليَّ ديتُه ، ومن عليَّ ديتُه فأنا ديتُه }( شرح الأسماء الحسنى ج1 ص 34)

                ب: و قد ورد في الحديث :
                { عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس عن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، و أحبَّها بقلبه ، و باشرها بجسده ، و تفرَّغ لها ، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا ، على عسر أم على يسر } (الكافي ج 2 ص 83 رواية 3)
                ج : عن كتاب الخرائج:
                {قال الباقر عليه السلام : خرج عليٌ عليه السلام يسير بالناس حتّى إذا كان بكربلاء على ميلَين أو ميل ، تقدَّم بين أيديهم حتّى طاف بمكانٍ يقال لها المقدفان ، فقال: قُتل فيها مائتا نبيٍّ و مائتا سبطٍ ،كلُّهم شهداء ، و مناخُ ركابٍ (أي محط الرحال يقال ناخ البعير في هذا الموضع أي لزمه) و مصارعُ عشّاقٍ ، شهداء لا يسبقُهم من كان قبلَهم و لا لحقهم مَن بعدهم }(بحار الأنوار ج 41 ص 295 رواية 18 باب 114)
                فكيف لم يستعمل الشرع هذه الكلمة كثيراً ؟
                فوجه ذلك ربّما هو لأجل تداول الكلمة على ألسنة أهل الدنيا التابعين للشيطان والهوى النفساني فاشتهر عندهم في المحبَّة الشهوية الزائلة فلو استعملته الشريعة فربَّما كانت تتداعى في الذهن تلك الأمور المقرِّبة إلى الشيطان والمبعدة عن الله ، وهذا نظير عدم ورود كلمة اللامس والشام والذائق في حق الله سبحانه و تعالى لئلا يتصوَّر البعض أنَّ اللهَ جسمٌ بخلاف السميع والبصير والمدرك .
                الفرق بين العشق و العلم
                العلم هو انعكاس صور الأشياء في ذهن الإنسان ،و هو يتبع المعلوم تمامًا ويطابقه عيناً فيعكسه انعكاساً كاملاً إن كان حسَناً فحسنٌ وإن كان قبيحاً فقبيحٌ ، و أمّا العشق فليس كذلك بل له بعد داخليٌ نفسانيٌّ أكثر وأعلى مستوىً من الجانب الخارجي الظاهري ، فميزان العشق لا يتبع الحُسن بل يتبع مستوى استعداد الإنسان ومستوى إمكانية العاشق وأرضيَّته النفسانيَّة واقتضائه الروحي ، وفى الحقيقة يبحث العاشق وراءَ مبرِّرٍ ، فبمجرد أن واجه موضوعاً ما يتناسب مع ما هو عليه من الروحيَّة ، انسجم معه من غير أن ينكشف لديه رمزُ هذا الانسجام وسرُّه ، ومن هنا قيل أنَّ العشق ليس له دليل ، بل القوة الكامنة في الإنسان هي التِّي تتجلَّى و تخلق الحسنَ بمقدار إمكانياتها واستعدادها الذاتي.
                يقول العلامَّة الخواجة نصير الدين الطوسي في شرح الإشارات لابن سينا :
                { والحبُّ النفساني هو الذي يكون مبدأه مشاكلة نفس العاشق لنفس المعشوق في الجوهر (أي الحقيقة واللب لا الظاهر والقشر) ويكون أكثرُ إعجابه بشمائل المعشوق لأنَّها آثارٌ صادرة عن نفسه وهو يجعل النفس ليِّنة شيِّقة ، ذاتَ وجدٍ ورقَّة منقطعة عن الشواغل الدنيويَّة}(شرح الإشارات)
                ولأجل هذه المشاكلة بين المحبوب والمحبّ حيث تنتقل صفات المحبوب إلى المحب نشاهد اهتمام الإسلام في انتخاب الصديق حيث أن الحبَّ يَخلق الجمال ويؤدى إلى الغفلة، وحيثما أشرق الحبّ سوف نُشاهد العيوب محاسناً والأشواك وروداً فيُعمى ويُصمّ كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم:
                {حبُّك للشيء يعمي ويصم}(بحار الأنوار ج77 ص166 رواية 2 باب 7)
                ومن هذا المنطلق نلاحظ أن كل إنسان يرى كمال نفسِه ورفعةَ عقلَه وجمالَ وَلَده ، فالعشق رغم أنه يدقِّق فهم الإنسان و يثير أحاسيسه، يؤطِّر نظرَه فيجعله مُنصبّاً في نقطة واحدة فقط فيَستر عيوب المعشوق بل يُظهر العيوبَ محاسناً والظلمات نوراً.
                ونفس الكلام يأتي في ضدِّ العشق والحب وهو البغض فهو أيضاً يُعمي ويُصم.
                العشق بالكمال المطلق فطريّ
                قال الإمام قدِّس سرُّه :
                {الفطرة التي فَطر اللهُ الناسَ عليها هي تلك الحالةُ والهيئةُ التي هي من لوازم وجود الناس ومن أسس بنائهم، وهي لطف من الله سبحانه للإنسان خاصَّة في قبال سائر الموجودات، ينبغي أن نعلمَ أنَّ كلَّ أمرٍ يتعلق بالفطرة لابدّ وأن لا يقع فيه أيُّ شَكل من الخلاف والاختلاف بل من اللازم أن يتَّفق الناس كلُّهم مع الحكم الفطري، العالم منهم والجاهل، المدنيُّ والبَدَويّ وحتّى الإنسان الذي يعيش مع الوحوش في الغابات والذي لم يشمَّ رائحة الحياة الاجتماعية. ومن ناحية أخرى إن اختلاف البلدان والأمكنة والأذواق والأهوية والآراء والعادات رغم تأثيرها على كلِّ شيء حتّى على الأحكام العقلية القطعية، يستحيل أن تؤثِّر وتغيِّر أحكام الفطرة قيد أنملة وأيضا الاختلاف في الأفهام من ضعف الإدراك وقوَّته لا يؤثِّر في أحكام الفطرة، وذلك حيث تقول الآية:
                { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(الروم/30) ثمَّ: إنّ من الأمور الفطرية التي جُبِل عليها جميعُ البشر من غير استثناء هو: (العشق للكمال) فمع التجوّل في الأدوار التي مرَّت بها البشرية، واستنطاق كلِّ فرد من أفرادهم وكلِّ طائفة من طوائفهم نجد أن هذا العشق والحبّ قد جُبل في طينته ونجد أن قلبَه متوجِّه نحو الكمال، بل جميع حركاته ومساعيه ليست هي إلاّ لأجل هذا الحب الكامن في ضميره فهو يريد الوصول إلى الكمال، ويطلب مشاهدة معشوقه ومحبوبه؟ وكلٌّ يجد معشوقه في شيء فيطلب ذلك الشيء و يتفانى في سبيله، فأهلُ الدنيا يحسبون الكمال في الثروة فيسعون للوصول إليها وأهل العلم في العلم وأهل الآخرة في العبادة وهكذا، فالناس جميعهم يسعَون نحو الكمال، فإذا تصوَّرُوه في موجودٍ أَو موهومٍ تعلَّقُوا به وعشقوه، ولكن على الرغم من ذلك فليس عشقُهم لهذا الذي ظنوه بأنه معشوقهم، وهذا الذي توهموه وتخيَّلوه ليس هو كعبة آمالهم إذ لو رجع الإنسان إلى فطرته لوجد أن قلبه في الوقت الذي يُظهر العشق لشيءٍ ما فإنَّه يتحوَّل عن هذا المعشوق إلى غيره إذا وجد الثاني أَكمل من الأول وهكذا، بل إن نيران عشقه لتزداد اشتعالاً فالإنسان يحبُّ الجمال فيصل إليه ولا يقتنع به بل يطلب أجمل منه وهكذا، ويعشق القدرة فيصل إليها ثم لا يستقر بل يتزايد حبُّه إليها ولا تخمد نار اشتياقه أصلاً.. بل تزداد لهيباً.. وهذه الحالة تشمل جميع البشرية من غير استثناء.
                ثمَّ إنَّ الإنسان إنَّما يعشقُ الكمال الذي لا عيب فيه لا كمال بعده، والعلم الذي لا جهل فيه والقدرة التي لا عجز فيها والحياة التي لا موت فيها أي الكمال المطلق }(الأربعون حديثاً)
                فعندما ينظر الإنسان إلى الوردة الجميلة مثلاً ويلذُّ، فهو في الواقع لا يلتذ من الوردة ولا يُريدها كَوردةٍ بل النفس تلتذ بالجمال وتحبُّ الجمال فلو فقدت الوردة جمالَها فلا تحبُّها النفس أصلاً، وهكذا بالنسبة إلى كلِّ هالك وآفل، فالمطلوب إذاً هو الجمال والكمال غير المحدود وغير المؤطَّر، وهو الله سبحانه.
                من هنا نشاهد شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل على نبيِّنا وآله وعليه السلام ينفي كلَّ آفل حتَّى يصل إلى الربّ :
                {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِــنْ الْمُوقِنِينَ * فلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}(الأنعام/77-79)

                الكمال المطلق هو الله
                ثمَّ استنتج الإمام قدِّس سرُّه و قال:
                { فهل هناك كمال مطلقٌ سوى الله سبحانه وتعالى؟ وهل هناك جمال مطلق وعلمٌ مطلق و قدرة مطلقة سواه تعالى؟ فإذاً الكلّ يطلبه سبحانه وهو أمل الآملين:
                {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ }(الأنعام/79)

                العشق فعلي حقيقي فالمعشوق فعلي حقيقي:
                وحيث إن العشق في الإنسان أمرٌ فعليٌ حقيقيٌّ وليس بموهوم أو متخيل إذ أنَّ كلَّ موهوم هو ناقص، والفطرة إنما تتوجَّه إلى الكامل، فإذاً هناك معشوقٌ فعليٌّ حقيقي وهو الكمال المطلق وهو الله سبحانه وهو موجود بالفعل: { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (إبراهيم/10)
                وهو واحد لا شريك له وأحدٌ غير مركَّب (ويعني بالتركيب أعم من التركيب في الخارج أو في الذهن والتصوُّر، لأنَّ المركب مهما كان يتكوَّن من أجزاء وكلُّ جزء يحتاج إلى الآخر كما أنَّ الكل يحتاج إلى أجزاءه، والله هو الغني المطلق) لأنَّ كلَّ كثير ومركب ناقص، لأنَّ الكثرة لا تكون دون محدودية والمحدودية نقص (لأنَّ المحدود يلازم المكان والزمان الخاص فإن كان هنا فهو ليس هناك وإن كان في هذا الزمان فهو ليس في ذاك الزمان فهو إذاً ليس بمطلق) ، وكلُّ ناقص مرغوب عنه من جانب الفطرة }
                الشيطان والتزيين
                من حيَل الشيطان هو تزيين القبيح كي يشتاق إليه الإنسان لأنَّ الإنسان لا يحبُّ إلاّ الجميل، فهذا إبليس يقول وبكلِّ جدٍ وعزم:
                { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(الحجر/39)
                وقال تعالى :
                {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}(آل عمران/14).
                والذي قد أغواه الشيطان سوف يصل إلى مستوى يقول عنه تعالى:
                { وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} (الرعد/26).
                ليس ذلك إلاّ لأنَّه يرى القبيح جميلا فيفرح به .
                وأيضاً من حِيَل الشيطان هو إظهار الفاني (ونعني بالفاني هو الزائل لا الفناء بمصطلحه العرفاني الذي يعني المحو والذوبان وإن كان بهذا المعنى أيضاً صحيح) وكأنَّه باقٍ لا فناء يعتريه ولا نقصٍ يواجهه وذلك لأجل أن يرغب فيه الإنسان المحبّ للمطلق، ومن هنا استطاع أن يغوي آدم وزوجته:
                {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى}(طه/120)
                ولأنَّ آدم كان يعشق الكمال المطلق فبطبيعته انجذب إلى الشجرة التي كان يظنُّها شجرةَ الخلد والملك الذي لا يبلى .
                وحيث زيَّن الشيطان ما أوتي قارون من أموال ، كان جماعة من قومه يتمنون أن يصلوا إلى ذلك مستواه قال تعالى :
                {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(القصص/79)
                ومن هذا المنطلق نشاهد الإنسان يسعى وراء كل ما يراه مشتملاً على الكمال فيعشقه .
                وجميع مصاديق العشق المجازي (وهو العشق الذي أطلق عليه اللفظ مجازاً من باب الإسناد إلى غير ما هو له كما تقول جرى الميزاب والماء هو الجاري أو مشى زيدٌ والسفينة التي هو راكبها قد مشت) ترجع إلى هذا الأمر حيث يرى العاشق محبوبه الحقيقي أعني المطلق في ذلك الموجود الخارجي فيحبَّه ويرغب إليه.
                يقول محيي الدين ابن العربي:
                {ما أحب أحدٌ غير خالقه ولكنَّه تعالى احتجب تحت اسم سعاد وهند وزينب}

                دور الأنبياء والأولياء
                ومن هنا يمكننا أن نعرف دور الأنبياء والأولياء فهم لم يُبعَثوا لإزالة ذلك العشق الفطري للكمال وتحطيمه ، بل بُعثوا لأجل تصحيح وجهة العشق وهدايته إلى الكمال المطلق الحقيقي الفعلي لا الكمال الموهوم.
                وبعبارة أخرى مهمَّةُ الأنبياء والأولياء هي إرجاع العباد إلى الله سبحانه وتعالى الذي هو أمنيتهم ومأمولهم الواقعي فلا يطلب العبد من ربِّه شيئاً سوى نفسَه فهو يريد كل البهاء(البهاء هو الحسن والمقصود من كل البهاء أي البهاء الذي لا حدَّ له وهو الله تعالى) وكل الجمال وكل الرحمة وكل النور وكل الأسماء فهو إذاً يطلب الله سبحانه ويريد أن يرجع إليه:
                {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}(العلق/8)
                ويلقاه ويسرَّ ويأنس به :
                {يا سرور العارفين يا منى المحبين يا أنيس المريدين يا حبيب التوابين يا رازق المقلين يا رجاء المذنبين يا قرة عين(وقرة العين رؤية ما تقر به العين يقال أقر الله عينيك أي صادف فؤادك ما يرضيك فتقر عينك حتى لا تطمح بالنظر إلى ما فوقه) العابدين(بحار الأنوارج94 ص389 رواية 3 باب 52) {يا سرور الأرواح ويا منتهى غاية الأفراح}(بحار الأنوار94 ص 111 رواية 16 باب 32)
                ولا دواء للنفوس إلاّ اسمه ولا شفاء للقلوب إلاّ ذكره:
                {يا من اسمه دواء وذكره شفاء}(دعاء كميل)

                هل الدين إلاّ الحب
                فاتَّضح مما تلونا عليك أنَّ الدين ليس هو الشريعة فحسب أعني القانون الصادر من الشرع المقدس المشتمل على الأحكام المختلفة من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة ! فليس الدين هو الصلاة ! والزكاة !وسائر العبادات وليس هو المعاملة كما تصوَّر البعض! بل كلُّ تلك الأمور هي ظاهر الدين وأمّا باطنه وروحه هو العشق بالله تعالى والتقرُّب إليه.
                وقد أكَّدت الأحاديث الكثيرة على ذلك نذكر بعضها ففي الكافي:
                {عن على عن أبيه عن حماد عن حريز عن فضيل بن يسار قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الحبّ و البغض أَمِنْ الإيمان هو؟ فقال : و هل الإيمان إلاّ الحبّ و البغض ! ثمَّ تلا هذه الآية { حبَّب إليكم الإيمان و زيَّنَه في قلوبكم وكرَّه إليكم الكفر و الفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون }(بحار الأنوار69 ص241 رواية 16 باب 36)
                وفي حديث آخر عن الحسين بن سيف قال:
                {سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لا يمحّض رجلٌ الإيمانَ بالله حتى يكون الله أحبَّ إليه من نفسه وأبيه وأمِّه وولده وأهله وماله ومن الناس كلّهم}(بحار الأنوار ج70 ص24 رواية 25 باب43).
                ومن هنا تعرف السر في أهميَّة النيَّة قربةً إلى الله في العبادات وحتى في المعاملات وأيضاً تعرف الدور التخريبي الفضيع للرياء والعُجب في العبادات وقد وردت أحاديث كثيرة في أثر داء الرياء ففي الكافي:
                {عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن عثمان بن عيسى عن علي بن سالم قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال الله عز و جلَّ أنا خير شريك من أشرك معي غيري في عملٍ عمِله لم أقبلْه إلاّ ما كان لي خالصا}(بحار الأنوارج72 ص288 رواية 9 باب 116)

                تهذيب النفــس
                إن القلب رغم صغر حجمه المادِّي لكنَّه هو المنشأ لجميع الخيرات أو الشرور، ومن الواضح أنَّنا لا نقصد من القلب حينئذٍ هو العضو الجسماني بل ننظر إلى الجانب الآخر منه وهو المرتبط بروح الإنسان، ونظراً إلى هذا الجانب قد وصفه القرآن الكريم بصفات حسنة وسيِّئة، فأهم الصفات الحسنة للقلب هي:
                {الربط (الربط على القلوب يراد به تشجيعها وتقويتها ووثوقها وتقييدها) والاطمئنان والوجل (الوجل استشعار القلوب) والإخبات (الإخبات الخشوع والخضوع للرب تعالى) والهداية واللين والسلامة والتآلف (التآلف ضد التفرق والمعاداة) والرغبة والطهارة والإيمان والرأفة والرحمة والخشوع والتقوى والحميَّة (الحمية الغيرة والأنفة) والسكينة (السكينة الهون والوقار) والفقه}
                كما أنَّ أهم الصفات السيِّئة له :
                {المرض والرين (قال الجوهري الرين الطبع والدنس يقال ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريوناً) والطبع (الختم الطبع) والغلّ (الغلّ الحقد والشحناء) والقساوة والكفر والفسوق والعصيان والكنان (كنان هو الغطاء الذي يكن فيه الشيء أي يستر وجمعه أكنة) والنفاق والقفل والاشمئزاز (الاشمئزاز الانقباض والنفرة والكراهة) والريب (الريب أقبح الشك) والعمى واللهو والغيظ (الغيظ شدّة الغضب) والختم والغلظة والحسرة والزيغ (الزيغ الميل عن استقامة) والإثم}
                ومن الطبيعي أن نتساءل ونقول:
                ما هي الوسيلة التِّي يمكننا من خلالها أن نُصلح أنفسنا و نُهذِّب قلوبنا من الأرجاس والأنجاس وأن نبعدها ونطهِّرها من الأقذار لتتلبَّس بالحسنات والخيرات ؟
                هناك طرق مختلفة لذلك أهمُّها:
                سبيل العقل
                وهي الطريقة السقراطية ، يقول أصحاب هذا الأسلوب:
                إنَّ الطريق الوحيد لتهذيب النفس هو الاعتماد على العقل والتدبير، فينبغي للإنسان أن يتعرف على فوائد التزكية ويؤمن بها وأيضاً يعرف مَضرّات إهمالها، ثم وبالاستعانة بالعقل يعثر على الصفات الذميمة فيبدأ في قلع جذورها واحدة تلو الأخرى إلى أن يتخلَّص منها تماماً.
                ومَثَله كمثل الزارع الذي يعثر على النبت غير الصالح والأعشاب المضرَّة فيقلعها من مزرعته أو كمن يَفصل ذرّات التراب من حبّات الحنطة ، فينبغي للإنسان أن يتأمَّل في نفسه ويبحث فيها لغرض العثور على المساوئ والمفاسد الخُلقية ثم يبدأ بقمعها وإزالتها واحدةً واحدةً حتَّى يتخلَّص منها جميعاً.
                تلاحظ أنَّ الفيلسوف يريد أن يحقق إصلاحَ النفس من خلال المعادلات العقلية ومعرفة الخير والشرّ فيقول مثلاً:
                إنَّ العفة والقناعة تؤديان إلى عزة الإنسان و بروز شخصيته لدى الناس والطمع يجرُّه إلى الذلِّ والهوان، أو أن العلم يورث القدرة في الإنسان وهو مصباح يميِّز به الطريق السويِّ من الطريق المعوج، أو أن الكبر من الأمراض الروحيَّة التِّي تنتج منه عواقب سيِّئة للفرد والمجتمع، والرياء يورث الشرك وهكذا بالنسبة إلى سائر الصفات الحسنة والسيئَّة، ثمَّ يبدأ بقمع الشرور وتثبيت الحسنات ، فَمثَل هذا الإنسان مَثَلُ من أراد فصلَ بُرادةِ الحديد المختلَط بالتراب وذلك بواسطة يديه، فكم ينبغي أن يعاني من تعبٍ ومشقَّة كي ينجح في إزالة جميع حُبيبات الحديد المتفرِّقة في التراب، وبالأخير سوف لن يتمكَّن من ذلك بل لا مُحالةَ سوف يتبقى شيء من البرادة في التراب قطعاً .
                فإذاً هذا الأسلوب يتطلَّب الصبر الجميل والاستقامة المتواصلة، ومن الصعب أن يُوَّفق الإنسان للوصول لذلك المستوى بحيث يمكنه تصفية نفسه من العيوب تمامًا فهو إذاً أسلوبٌ جيِّدٌ ولكن الكلام كلّ الكلام في مستوى جودته عندما نقايسه بالأسلوب الثاني.
                سبيل العشق و الحبّ
                وهو سبيل العرفاء وهذا الأسلوب هو الأسرعُ تأثيراً والأقلُّ خَطراً وهو سبيل الحبّ والعشق والذوبان في المعشوق من أجل تطهير النفس من العيوب.
                من نحبّ ؟
                قد اتَّضح لك أنَّ المحبوب بالأصالة هو الله سبحانه لا غيره فكلُّ ما يُطلَب من دون الله مهما كان مستواه فهو موهوم والتوجه إليه يورث الشرك بالله تعالى، وذلك لأنَّ القلب هو محلّ الحبّ ولا يمتلك الإنسان إلاّ قلباً واحداً قال تعالى:
                {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}(الأحزاب/4).
                وقال الصادق عليه السلام :
                {القلبُ حرم الله فلا تُسكن حرمَ الله غير الله}(بحار الأنوار ج70 ص25 رواية 27 باب 43)
                ولكن هل بإمكاننا أن نتعلَّق بالله سبحانه ونرتبط به بصورةٍ مباشرة؟ هذا ما سنجيب عنه فنقول:
                مشيئة الله سبحانه
                إنَّ الله سبحانه أراد فخلق، والمخلوقات ليست هي إلاّ فيوضات الله سبحانه وتعالى(الفيض غير المنفصل عن المفيض وغير متجافٍ عنه بل هو مظهر من مظاهره ونور من أنواره وتجل من تجلياته فهو فقير إليه كما أنَّ المفيض هو القيّوم عليه في حدوثه وبقائه كالشمس ونورها وكالبحر وأمواجه) ، فعندما أفاض الله الوجود على الأشياء صارت كلُّ واحدة منها مظهراً من إفاضاته وتجلِّياً من تجلِّياته، فبعضها مظهر الجمال وبعضها مظهر الكرم، وبعضها مظهر اللطف وهكذا.
                ولكن المهمّ أنَّ الله شاء فخلق فأوَّل مظهر من مظاهر الله هو المشيئة الإلهيَّة(راجع الكلمة العاشرة حول الولاية التكوينيَّة) التِّي يُطلق عليها الأمر حيث يقول:
                {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ }(الأعراف /54)
                فبالمشيئة خُلقت الأشياء ولأجلها سُمِّيَت الأشياءُ أشياءً ، فالرابط الأوَّل بين النور المطلق وسائر الأنوار هو النور الأوَّل ، والواسطة بين الله وسائر العقول هو العقل الأوَّل وهو نور محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ، ومن خلالهم خلقت الأشياء فهم أولوا الأمر وبهم فتح الله فجميع المخلوقات مستهلكة في المشيئة التي هي مقام التدلي :
                { دَنَا فَتَدَلَّى } (النجم/8)

                قال الإمام قدِّس سرُّه:
                { وهو المشيئة المطلقة المعبَّر عنها بالفيض المقدَّس و الرحمة الواسعة والاسم الأعظم والولاية المطلقة المحمدية أو المقام العلوي وهو اللواء الذي آدم عليه السلام ومن دونه تحته والمشار إليه بقوله ( كنت نبيا وآدم بين الماء والطين أو بين الجسد والروح) أي لا روح ولا جسد ليس شيء وهو العروة الوثقى والحبل الممدود بين سماء الإلهية وأراضي الخلقية وفي دعاء الندبة قوله عليه السلامأين باب الله الذي منه يؤتى أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء أين السبب المتصل بين الأرض والسماء)(شرح دعاء السحر)
                وتفصيل ذلك يُطلب في محلِّه.
                وعلى هذا الأساس ينقسم المحبُّون لله إلى طائفتين هما:
                1-المحبُّون غير المحبوبين
                فهؤلاء لا تخلو محبتهم عن شوب أَلم فقدٍ وحزنِ فراقٍ .

                2-المحبُّون المحبوبون
                وهم الذين وصلوا إلى محبوبهم فصاروا أحبّاء الله وهم محمَّد وآل محمَّد والمخلَصون من الأنبياء و الأولياء ولذلك ورد في زيارة الرسول صلى الله عليه وآله:
                {السلام عليك يا حبيب الله}(بحار الأنوار ج 86 ص 24 رواية 25 باب 38)
                ومن هنا يختلف سلوك الطائفة الأولى عن الطائفة الثانية ، فالمحبوبون قد وصلوا إليه تعالى من غير معلِّمٍ ومُرشدٍ بل العناية الأزلية(وهي مستوى أعلى من الهداية بمعنى إرائة السبيل الشاملة لجميع الناس، وهذه العناية الإلهية المسبقة لا تنافي اختيار الإنسان لأنَّه باختياره سوف ينتخب الطريق ولكن الله سبحانه لعلمه بذلك يجعله تحت عنايته الخاصة) والهداية الإلهيَّة قد شملتهم يقول سبحانه:
                {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}(الأنبياء/101)
                وفي قرب الإسناد:
                {عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى والسابقون السابقون أولئك المقربون قال نحن السابقون و نحن الآخرون}(بحار الأنوار ج 24 ص 4 رواية 11 باب 23)
                واليهم أشار بقوله تعالى :
                {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}(الإنسان/ 21)
                قال الحكيم السبزواري:
                {وفيهم قال أمير المؤمنين عليه السلام: (إنَّ للهِ تعالى شرابا لأوليائه إذا شربوا سكروا وإذا سكروا طابوا وإذا طابوا ذابوا وإذا ذابوا خلصوا وإذا خلصوا طلبوا وإذا طلبوا وجدوا وإذا وجدوا وصلوا وإذا وصلوا اتَّصلوا وإذا اتَّصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم) وهو إشارة إلى شراب المحبَّة بكاس الشوق والإرادة في عالم الأرواح قبل الأجساد حتى لا يبقى بينهم وبينه مغايرة ولا من إنِّيّاتهم (أي الأنا التي تحكي عن التعلُّق و الارتباط بعالم المُلك و الدنيا و التوَرُّط في سجن الطبيعة ، فينبغي الهجرة منها بحيث لا يُسمع أذانها و يخفى جدرانها) بقيَّة وتكون المحبة والمحبّ والمحبوب شيئاً واحداً}
                وأمّا المحبُّون فينبغي لهم أن يسلكوا الطريق بالترويض والمجاهدة وبالزهد والتقوى وهم أصحاب اليمين .

                العشق بمن يحبُّه الله هو العشق بالله
                فينبغي أن يتعرَّفَ الإنسانُ على وليِّ الله الأعظم و يُربِطُ نفسه به ويعقد قلبه بولائه ومن ثمَّ سوف يتمكَّن من تصفيةِ نفسه من جملة العيوب والشوائب من دون عناءٍ كبير.
                والسرُّ في ذلك أنَّ التصفية الروحيَّة ليست هي إلاّ ارتباط الإنسان بالله والتخلُّق بأخلاقه تعالى حيث أُمرنا أن نتخلَّق بأخلاق الله
                {قال عليه السلام تخلَّقوا بأخلاقِ الله}(بحار الأنوار ج 61 ص 129 باب 42)

                ومن هنا قال عرَّفوا الفلسفة بأنَّه عبارةٌ عن:
                {التشبُّهِ بالإله بقدر الطاقةِ البشريَّة}
                ويعنُون بذلك تقليل التعلُّقات وإضافة الخيرات والحسنات، فاكتساب الطهارة والكرم والجمال والعلم وغيرها من الصفات الإلهيَّة يعني الارتباط بالطهارة المطلقة والكرم والجمال والعلم المطلق، وكلُّ هذه الصفات بالمستوى الرفيع متوفِّرة في مظهر المشيئة الإلهيَّة وهم محمَّد وآل محمَّد عليهم السلام وهم الذين يحبُّهم الله ويحبُّونه حيث اتصافهم بصفات محبوب الله فإنّ الله:
                {يحبُّ المقسطين} {يحبُّ المتقين}{ يحبُّ المتوكلين} {يحبُّ المحسنين} {يحبُّ التوّابين ويحبُّ المتطهِّرين}{يحبُّ الصابرين} و{يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}(الصف/4)
                فهم مظهر هذه الصفات ومن يريد أن يكتسب حبَّ الله باتِّصافه بها ينبغي له أن يُربط نفسه بهم عليهم السلام فالله لا يحب المتطهرين إلاّ لذوبانهم في الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً .
                ومثَل هذا الأسلوب كمثل من يستعين بمغناطيسٍ قويٍ لجذب برادة الحديد المختلط بالتراب ، فبمجردِ امراره على التراب سوف تجتمع جميعُ ذرات الحديد حول المغناطيس من غير أن تتبقى حتَّى ذرَّة واحدة منها في فكم فرقاً بينه وبين الذي يخرج البرادة حبَّة حبَّة كما مرَّ.
                فقوةُ المحبَّة والإرادة بالكُمَّلين وهم محمَّد وآل محمَّد عليهم السلام هي المغناطيس الذي يجذب الصفات الرديئة ويعزلَها عن الصفات الحسنة فيهذِّب الأخلاق ويُصفِّيه من الشوائب الدخيلة ويبعد الروح عن كلِّ ما سوى الله تعالى.
                وعلى ضوئه يمكن الوصول إلى حقيقة ما في كثير من الكلمات المأثورة عنهم عليهم السلام كما في زيارة الجامعة الكبيرة :
                {وجعل صلواتنا عليكم وما خصَّنا به من ولايتكم طيباً لخلقنا وطهارةً لأنفسنا وتزكيةً لنا وكفارةً لذنوبنا}(بحار الأنوار ج 102 ص 129 رواية4 باب 8).
                وفي زيارة أخرى :
                {وجعل ما خصَّنا به من معرفتكم تطهيراً لذنوبنا وتزكيةً لأنفسنا}(بحار الأنوار ج 100 ص 345 رواية 33 باب 4).
                وقد ورد في الحديث :
                {عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: وينزِّلُ من السماء ماءً ليطهِّركم به ويُذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبِّت به الأقدام قال: وأمّا قوله ليطهِّركم به فذلك عليُّ بن أبي طالب عليه السلام يطهِّر الله به قلبَ من والاه و أمّا قوله: ويذهب عنكم رجز الشيطان فإنه يعني من والى عليّ بن أبي طالب أذهب الله عنه الرجس وقوّاه عليه}(بحار الأنوار ج)
                ولا يخفى أنَّ ما ذكره عليه السلام ليس بعيداً عن ظاهر الآية المباركة بل كلُّ من يتأمَّل فيها بعيداً عن العصبيَّة سوف يذعن بذلك، لأنَّه لا توجد مناسبة كبيرة بين الماء النازل من السماء (لو أريد منه الماء المادي ) و بين ذهاب رجز الشيطان وربط القلوب وتثبيت الأقدام التِّي هي أمور معنويَّة ، فما هو رجز الشيطان ؟ هل المقصود منه هو الوسخ أو الميكروب !! ولو فُسِّر الرجس بذلك فما هو المراد من ربط القلوب وتثبيت الأقدام ؟ وهل للماء هذان المفعولان ؟
                فلا محالة ينبغي أن نلتمس معنىً آخر للآية وهو ما ذكره الإمام الباقر عليه السلام الذي يمثِّل الثقل الكبير من الثقلين الذين أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في الحديث المتواتر عنه.
                وفي الكافي :
                {على بن محمد عن سهل بن زياد عن موسى بن القاسم بن معاوية البجلي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماءٍ مَعين قال: إذا غاب عنكم إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد}(الكافي ج 1 ص 339 رواية 14)
                فالالتجاء إلى من خصَّهم الله بالطهارة يؤدِّي إلى تطهير النفوس وتزكية القلوب من الأنجاس والأرجاس، ومحبَّتهم سوف تُسلِّطُ الضَوءَ على جميع أركانِ وجود المحبِّ وتَصبغُه صبغةَ المحبوب.
                فإذاً ينبغي لكل من هو بصدد إصلاح نفسه وتهذيبها أن يودَّ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، وهذا الوُّد مدرسةٌ متكاملةٌ وهو منشأ جميع الخيرات والصفات الحسنة كالصبر والإيثار والإخلاص والتواضع والسكينة والشجاعة وغيرها بل حتَّى العبادات العمليَّة .
                ومن هذا المنطلق ورد في الأحاديث أنَّ الدين ليس هو إلاّ الحبّ فكلُّ متهاون في عمل الخير بعد أن ينطلق من منطلق الحب والعشق سوف يكتسب نشاطاً لا مثيل له و سوف يكتسب عزماً يجعله قوياً ومُصراً على الاستباق في الخيرات.
                والتأريخ الإسلامي خير شاهد على ذلك ، نذكر نموذجاً من تلك المواقف العظيمة التي صدرت من أحد العشّاق وهو أبو ذرٍ الغفاري:
                {كان أبو ذر تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلَّم : في غزوه تبوك ثلاثة أيام و ذلك إن جَمَلَه كان أعجف(العجف بالتحريك الهزال و الاعجف المهزول و الانثى العجفاء و العجفاء يجمع على عجف كصماء على صم) فلحق بعد ثلاثة أيام و وقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه و حمل ثيابه على ظهره فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخصٍ مقبلٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلَّم : كأَنَّ أبا ذرٍ فقالوا: هو أبو ذر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: أدركوه بالماء فإنَّه عطشان فأدركوه بالماء ووافى أبو ذرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ومعه إداوة فيها ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : يا أبا ذر معك ماء وعطشت فقال نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمِّي انتهيت إلى صخرةٍ وعليها ماءُ السماء فذقتُه فإذا هو عذبٌ باردٌ فقلت لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يا أبا ذر رحمك الله تعيش وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك وتدخل الجنة وحدك يسعد بك قوم من أهل العراق يتولَّون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك}(بحار الأنوار ج 22 ص 429 رواية 37 باب 12)
                فاتبعوني يحببكم الله
                ثمَّ إنَّ التمسك بأهل البيت عليهم السلام هو تحقيق مصداقيَّة الحبّ في الخارج ، ومن أبرز مميَّزات المحبِّ هو تنسيق حركاته وسكناته مع محبوبه وهذا يعني تبعيَّته في جميع الأمور وجعلَه أسوة في اتخاذ المواقف إيجابياً وسلبياً قال تعالى:
                {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آل عمران / 31)
                فلا نتيجة عظيمة في حبِّ الإنسان لله بل لا بد أن يصل الحب إلى مستوى يكون الإنسان محبوباً لله أيضاً .
                وقد أكَّدت أحاديثنا على أنَّ التمسك بهم عليهم السلام لا يتحقق إلاّ من خلال العمل المستمر والسعي المتواصل :
                {عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة و أنا حبل الله المتين و أنا عروة (العروة ما يتمسك به من الحبل و غيره) الله الوثقى}(بحار الأنوار ج 4 ص 8 رواية 18 باب 1)
                يقول سبحانه و تعالى :
                {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ..}(آل عمران/ 112)
                فالآية الكريمة تشير إلى ذلك حيث أنَّ الحبل له طرفان طرَفٌ إلهيّ وطَرفٌ خَلقيّ:
                {عن المفضل قال سمعت مولاي الصادق عليه السلام يقول كان فيما ناجى الله عزَّ وجلّ به موسى بن عمران عليه السلام أن قال له: يا ابن عمران كذب من زعم أنه يحبُّني فإذا جنَّه الليل نام عنِّي أليس كلّ محبٍّ يحبّ خلوة حبيبه، ها أنا ذا يا ابن عمران مطلع على أحبائي إذا جنَّهم الليل حولت أبصارهم من قلوبهم ومثلت عقوبتي بين أعينهم يخاطبوني عن المشاهدة ويكلموني عن الحضور، يا ابن عمران هب لي من قلبك الخشوع ومن بدنك الخضوع و من عينيك الدموع في ظُلم الليل و ادعني فإنَّك تجدني قريباً مجيباً}(ج 13 ص 329 رواية 7 باب 11)
                ومن أهمِّ صفات المؤمن الذي يحبُّ الله ويحبُّه الله هو ما ورد في الآية الآتية:
                { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }(المائدة /54).
                فالتواضع للمؤمنين والتكبر على الكافرين والجهاد في سبيل الله هي أبرز مصاديقهم .
                ثمَّ: إنَّ من الجدير بالذكر ما ورد في دعاء الصباح:
                {أصبحت اللهم معتصما بذمامك (الذمام بالكسر الحق و الحرمة و العهد و الكفالة و الأمان)المنيع...بجدار حصين الإخلاص في الاعتراف بحقهم و التمسك بحبلهم جميعاً موقناً أنّ الحق لهم و معهم و فيهم و بهم أُوالي من والوا و أجانب من جانبوا فأعذني اللهم بهم من شرِّ كلّ ما اتقيه }(بحار الأنوار ج 59 ص 24 رواية 7 باب 15)
                فالاعتصام بذمام الله لا يتحقق إلاّ بالتمسك بحبلهم جميعاً.
                كتبه الشيخ إبراهيم الأنصاري
                www.al-kawthar.com

                ُوالي من والوا و أجانب من جانبوا فأعذني اللهم بهم من شرِّ كلّ ما اتقيه }(بحار الأنوار ج 59 ص 24 رواية 7 باب 15)
                فالاعتصام بذمام الله لا يتحقق إلاّ بالتمسك بحبلهم جميعاً.
                كتبه الشيخ إبراهيم الأنصاري
                www.al-kawthar.com

                تعليق


                • (4)
                  أوليـاء الله
                  إن الله سبحانه وتعالى هو الوجود المطلق بلا قيدٍ، فيشتمل على جميع الخيرات بنحو مطلق، فهو جمال مطلق، وعلم مطلق وقدرة مطلقة، وإرادة مطلقة بل هو الكمال المطلق بجميع ما تحمل الكلمة من معنى، فهو بجميع خصوصياته التي يدلُّ عليها الاسم الجامع وهو الله سبحانه وتعالى قد ظهر في الوجود، وتجلّى في الكون، فجميع الكون هو وجه الله ومظهره، فليس هناك جمال إلاّ الجمال الإلهي، وليست هناك إرادة إلاّ إرادة الله، والكل فقير إليه، وحقائق جميع الأشياء بيده سبحانه:
                  {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس/83)
                  ومن هنا يتبيّن المراد من قوله تعالى في سورة الرحمن حيث يقول:
                  {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} (الرحمن26،27)
                  وكذلك قوله تعالى في سورة القصص :
                  {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص/88)
                  يقول الشاعر الفارسي:
                  ((سيه روئي زممكن در دو عالم جدا هركز نشد والله أعلم))
                  أي سواد الوجه من ممكن الوجود وهو كلّ ما سوى الله تعالى لم ولن ينفصل عنه أصلاً، سواء تلبَّس بالوجود أم لم يتلبس به، حيث أنَّ ممكنَ الوجود طبيعتَه طبيعةٌ سوداء مظلمة لا نور لها وكما قيل:
                  ((كلُّ ما في الكون وهمٌ أو خيال *أو عكوس في المرايا أو ظَلال))
                  وظهور ممكن الوجود كله يرجع إلى الوجود، فلأجل وُجوده ظهر، فلولا الوجود لما ظهر الممكن أصلاً، فليس هناك شيء ظاهرٌ في الكون إلا الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى وليس هناك شيء باطن إلاّ الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى.
                  {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (سورة الحديد/3)
                  فلا أول قبل الوجود ولا آخر بعده، لأن الحق المطلق ليس أولاً له آخر، ولا هو آخرٌ له أوَّل بل كما قال أمير المؤمنين عليه السلام :
                  ((هو الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخرٍ يكون بعده))
                  فالأول هو والآخر هو، وجميع الموجودات مظاهره تعالى، ليس لها أي استقلال وأصالة أبداً، بل هي أمور اعتبارية محضة:
                  {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ ...} (النور/39)
                  فالغافل من يرى الأشياء فيحسبها مستقلة في الوجود ويعتبرها ذات قيمة، فيُقَيِّم الدنيا والآخرة والمال والجاه والجمال، فهو الأعمى حقاً:
                  {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَـى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (سورة الإسراء/72)
                  {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...} (النور/35)
                  فالآية صريحة في أنَّ الله تعالى نور السماوات والأرض وليس مُنوِّرها، فيا ترى ما هو المقصود من هذه الآية المباركة؟
                  إنها تريد القول بأنَّ الله نورٌ، والسماوات والأرض وهما إشارة إلى جميع الكون سواء المُنَور منه أو غير المنور، أعماق الأرض أو سطحها.
                  فالكواكب التي لا تصل إليها نور الشمس أيضاً ذات نور، ونورُها هو الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
                  فجميع الموجودات سواء كانت مظلمة في الظاهر أو مضيئة، حتى السُّرُج كالشمس بل وحتى نفس النور، كلها مظلمة في حدِّ ذاتها، حيث أنَّها معلولة فقيرة تحكمها الحدود والتعيُّنات والقابليات (سوف نشرح آية النور بالتفصيل، راجع الكلمة)، ولذا يمكن السؤال عنها بكيف وأين وكم وهل!
                  وأمّا الله فهو نور مطلق ليس له حدٌّ ولا يأيَّن بأين، وفي الكافي بإسناده عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور قال:
                  ((خطب أمير المؤمنين عليه السلام خطبة بعد العصر فعجب الناس من حسن صفته وما ذكره من تعظيم الله جلّ جلاله، قال أبو إسحاق، فقلت للحارث أ و ما حفظتَها قال: قد كتبتها، فأملاها علينا من كتابه: الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه ... ليست في أوَّليَّته نهاية، ولا لآخريته حدّ ولا غاية، الذي لم يسبقه وقتٌ، ولم يتقدَّمه زمان، ولا يتعاوره زيادة، ولا نقصان ولا يوصف بأين ولا بِمَ ولا مكان)) (الكافي ج1 ص141 روايه7)
                  وهو تعالى الذي جعل النور نوراً :
                  {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (سورة نوح/16)
                  فشعَّ النور المطلق ، فكلٌّ اكتسب النور على قدر استعداده وقابليته :
                  ((يا نور كل نور يا نور كلّ شيء))
                  فالله سبحانه وتعالى هو نور النور باعتبار أن النور لا يكون كذلك إلا إذا كان موجوداً فالوجود هو النور حقيقةً، وهو منور النور، وخالق النور ومدبر النور ومقدِّر النور، حيث أنَّ نورانية النور من الوجود، كما أنَّ جمال الجميل وقدرة القادر وإرادة المريد من الوجود، فهو نور فوق كل نور، ونور ليس كمثله نور.
                  ((وبنور وجهك الذي أضاء له كل شيء))
                  فالنور الحسي مهما بلغ من الشدة فله قَدَر محدود وسوف ينتهي أمده من ناحية الزمان وتنتهي شموليته من ناحية المكان، فمادام هو محدود فسوف يكون لها أفول وزوال، وهذا شأن كلِّ شيء ذات حدّ، لأنَّه متغير، وكل متغير حادث، أي لم يكن وكان، فوجوده ليس من نفسه بل هو من واجب الوجود أعني الله سبحانه وتعالى.
                  ومن المستحيل أن يخبو النور المطلق:
                  {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} (سورة التوبة/32)
                  وعلى ضوء ما ذكرنا يمكن أن نصل إلى مستوىً من عمق كلمات أئمتنا عليهم السلام في هذا الموضوع.
                  ففي دعاء عرفة للإمام الحسين عليه السلام:
                  ((أ لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهِر لك، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليلٍ يدلُّ عليك، أو متى بَعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيبا))
                  فليس هناك حجاب في قبال هذا النور ،لأنْ ليس وراء الحق المطلق شيء يحجبه:
                  ففي الكافي بإسناده :
                  ((عن محمد بن زيد قال: جئت إلى الرضا عليه السلام أسأله عن التوحيد، فأملى عليَّ: الحمد لله فاطر الأشياء إنشاءً، ومبتدعها ابتداعاً ...احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير رؤية ووصف بغير صورة، و نُعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال)) (الكافي ج1 ص105 روايه3)
                  روي مثله عن أبي إبراهيم الإمام موسى بن جعفر عليه السلام (البحار ج3 ص327 رواية27 باب14).
                  فكلّ شيء في عالم الملك والدنيا قد اكتسب الوجود من الفيّاض المطلق بمقدار الوعاء الخاص به والقدَر المعيَّن له:
                  {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه/50)
                  {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى/3)
                  {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقـَدَرٍ مَعْلـُومٍ} (الحجر/21)
                  ومن الطبيعي أنّ الموجودات كلّها قد أُحسن خلقها، فلا تتمنى أن تتبدل إلى غيرها:
                  {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة/7)
                  ومن هذا المنطلق ليس هناك تفاوت في خلق الرحمن ،كيف وهو ذو الرحمة الواسعة!
                  {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (الملك/3)
                  فلو نظرنا إلى نظام الخلق وتعمقنا فيه لعرفنا بأن هناك نظاماً طولياً يبدأ من الحق المطلق وينتهي إلى الجماد.
                  وكلُّ هذا الاختلاف لم ينشأ من الله سبحانه وتعالى، فهو ليس ببخيل بل هو الغني على الإطلاق، و الفيّاض المطلق، وهو دائم الفضل على البرية وباسط اليدين بالعطيّة، فلا يعقل أن يمنع الأشياء قسطها، كيف وهو القائل:
                  {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف/85)
                  {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (الإسراء/35)
                  {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن/7)
                  وفي سورة الرعد قد قرَّب سبحانه هذه الحقيقة بمثال رائع حيث قال :
                  {أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ} (الرعد/17)
                  فمن خلال هذه الآية المباركة نعرف :
                  أنَّ الماء الذي أنزله الله لم يكن محدوداً، بل كان كثيراً، ومن كثرته انقلب سيلاًً، وأمّا الأودية فكانت مختلفة من حيث القابليّة، فكلّ وادٍ منها كان يتحمّل الماء بمقدار سعته ووعائه، وبعد الفيضان حصل الباطل الذي يتمثّل في الزبد الرابي المتلوّن والمتشكل بأشكال مختلفة ذات المظهر الخلابّ المغري.
                  ولأنَّ الملائكة عقول محضة فلا يتصور فيها التكامل، وكذلك الجمادات والنباتات والحيوانات بطبيعتها محدودة الإطار بلا زيادة ولا نقصان، فلا تتكامل من ناحية القرب إلى الله أي التكامل الطولي، وإنّما يمكن تربيتها ونموّ استعدادها، وهذا ما يطلق عليه التوسع العَرضي.
                  ولمكان هذا التسلسل الطولي أصبح كلٌّ منها ولياً تكوينياً على الآخر، فالحيوان له الولاية التكوينية على النبات والنبات على الجماد.
                  وأماّ الإنسان فضلا عن أنه حيوان ونبات وجماد له الولاية التكوينيَّة (بما هو إنسان) عليها.
                  والنفس الإنسانية مضافاً إلى إمكان توسعتها عَرضاً، يمكن أن تتكامل في النظام الطولي، ففي الجانب العَرضي يتوسَّعُ الإنسان بالعلوم التجريبية كالطبّ والفيزياء والكيمياء وحتى الصناعات، فهذه العلوم بما هي علوم ليس لها أيُّ دور في تكامل الإنسان وتقربه إلى الله سبحانه.
                  نعـم : ربَّما تكون سبباً ووسيلةً لسلوك الإنسان في مراتبَ طوليَّةٍ تقرِّبُه إليه تعالى.
                  وأمّا العلوم الإنسانيَّة فبطبيعتها تصنع الإنسان وتبنيه فتوسِّع في أفقه وترفعه إلى مستويات عالية تقرِّبه إليه تعالى، ومن هنا تكون للإنسان الكامل ولاية تكوينيَّة على غيره من الموجودات، بل على الإنسان الذي دونه شأناً ومنزلةً (ومن منطلق هذه الولاية والكرامة الإلهية حيث أن "أكرمكم عند الله أتقاكم" يمكننا أن نتعرَّف على أسرار كثير من العبادات والمعاملات، فالإنسان الأتقى له الولاية على من دونه، حتى لو كان أباه، حيث أنَّ وجوده أكمل من غيره فيجب على الغير إطاعته وتبعيته وذلك يعني إطاعة الله، غير أنَّ الإطاعة بالنسبة إلى غير المعصوم محدودة، قال تعالى: "المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" كما أنَّه لا قوّامية للرجل الفاسق على المرأة المؤمنة إلاّ في مجال المسائل الزوجية، وأمّا في سائر الأمور الراجعة إلى الشريعة فلا ولاية له عليها. ومن هنا أيضاً تعرف السر في الإسترقاق، حيث أن الكافر المحارِب كالحيوان بل هو أضل سبيلاً، فيُتعامل معه تعاملَ حيوان فيباع ويُشترى، وكذلك بالنسبة إلى كثير من التشريعات فتأمَّل.)
                  وهذا هو مقام رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمَّة المعصومين عليهم السلام الذين هم خلفاء الله في الأرض ومظاهر صفاته وأسمائه، فجميع الموجودات تكون تحت ولايتهم التكوينيَّة، فلهم الولاية على جميع ذرات الكون.
                  فلا تظهر صفة من صفاته سبحانه حتَّى الإرادة في موجود من الموجودات إلاّ من خلال تلك الأنوار الطاهرة ، وهذه الولاية هي مرآة ولاية الله سبحانه.
                  ثمَّ إنَّ الله سبحانه هو منشأ الخيرات:
                  {بيده الخير}
                  ولكن حيث أنَّهم عليهم السلام أوَّل فيض من فيوضاته لأنَّ بهم فتح لله ، فلهذا و صلوا إلى مرتبة نخاطبهم :
                  ((إن ذكر الخير كنتم أوّله، وأصله، وفرعه، و معدنه، و مأواه، ومنتهاه)) (بحار الأنوار ج102 ص132 رواية4 باب8 وج102 ص155 رواية5 باب8)
                  فجميع ذرات الكون حتى الجمادات لا يمكن أن تصل إلى غاية كمالها إلاّ بهم ، فكما أنَّ القرآن الكريم يشتمل على جميع الحقائق:
                  {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (النمل/75)
                  {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (يونس/61)
                  فكذلك ولي الله الأعظم ، حيث أنَّ له الولاية التكوينيَّة ، فكلُّ شيءٍ تحت سلطانه و إرادته بإذن الله تعالى :
                  {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (يس/12)
                  وقال تعالى :
                  {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (السجدة/24)
                  والآية تشير إلى الهداية بالأمر التي هي الولاية التكوينيَّة، وقد تحدَّث العلامَّة الطباطبائي قدس سرُّه في الميزان حول الهداية بالأمر (الميزان ج14 ص304)
                  وفي الحديث :
                  ((محمد بن يحيى وغيره عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن محمد بن الفضيل قال: أخبرني شريس الواشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنَّ اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا، وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتّى تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، ونحن عندنا من الإسم الأعظم اثنان وسبعون حرفاً، وحرفٌ واحدٌ عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوه إلاّ بالله العلي العظيم)) (الكافي ج1 ص230 رواية1).

                  نا من الإسم الأعظم اثنان وسبعون حرفاً، وحرفٌ واحدٌ عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوه إلاّ بالله العلي العظيم)) (الكافي ج1 ص230 رواية1).

                  تعليق


                  • (‍‍1)
                    محـال مشـيئة الله
                    الخـلق
                    من جملة الأسئلة المطروحة في مجال الخلق هو السؤال التالي:
                    هل الله سبحانه بإرادته خلق الأشياء بإفاضة الوجود إليها، أم أن الفيض انتشر منه تعالى بنحو جبري من غير الإرادة كانبثاق النور من الشمس؟
                    أقـول : لا شكَّ أنَّ جميع الموجودات قد صدرت منه تعالى بالإرادة والقصد لا بالجبر والقهر. وهذا الأمر يحتاج إلى شرحٍ وإيضاح:
                    النـور
                    لا تَقلُّ أهميَّةُ النور في فهم وتنوير الحقائق المعنوية والمعارف الإلهيَّة عن أهميَّته في تنوير الأجسام والأجرام المادية (وهذا لا ينافي إطلاق الغيب على الله تعالى بل هو غيب الغيوب لأنَّ الأشياء الخفية ربَّما تكون خفية لشدة ظلمتها، وربما تكون خفية لشدَّة نورها وظهورها، فالشدة في كل من النور والظلمة تؤدِّي إلى خفاء الشيء ألا ترى أنَّك لا تشاهد الشيء إذا سُلِّط عليه نورٌ شديد، فالله سبحانه وتعالى اختفى وغاب فلشدة نوره فهو نور الأنوار يقول المحقق السبزواري (ره) يا من هو اختفى لفرط نوره الظاهر الباطن في ظهوره.) فالخلق ليس إلاّ إشعاع النور المطلق على الكيانات المكتومة والماهيات المظلمة (الماهية هي ما تقال في جواب ما هو؟ فهو مصدر صناعي ويطلق على شيئية الشيء في قبال وجوده.).
                    وهذا ما تُبيِّنه آية النور ذات المحتوى العرفاني العميق الذي من أجلها سمِّيت السورة بأجمعها بهذا الاسم (وهي السورة الوحيدة التي بدأت بكلمة (سورةٌ) ولا يخفى عليك السر في الابتداء بالنكرة الدال على العظمة ومن هنا قال تعالى : "أنزلناها" فهي مع علوِّ شأنها وسموِّ مرتبتها عندنا، أنزلناها فصارت ضمن المصحف).
                    قال تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... }(النور35)
                    وينبغي أن لا ننسى أنَّ هذا ليس هو إلاّ مثالٌ، فلا نظنّ بأن الله هو بالفعل نور بالمفهوم الذي نتصوره نحن بذهننا القاصر،كيف وهو خالق النور ومُنَور النور وربّ النور! كم من فرق بين الممثَّل الذي هو نور الوجود والمثال الذي هو النور الحسِّي. إليك بعض تلك الفروق:
                    الأوَّل: النور الحسي قائم بغيره ونور الوجود قائم بذاته
                    توضيح ذلك :
                    إن النور الحسي له ماهية ووجود، وحيث أنَّ الأصالة والحقيقة تعني الوجود (قد ثبت ذلك في الحكمة بأدلَّة قطعيَّة فراجع.) فالنور لا يتحقق بذاته أي مستقلا عن الوجود بل هو كغيره من الموجودات فقير إليه، وبفضل الوجود أصبح النور نوراً ومنوَّراً، فلا يمتاز النور على سائر الموجودات من هذه الناحية أعني الفقر الذاتي :
                    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيــدُ} (فاطر15).
                    بل المستوى الوجودي للنور أقل من سائر الموجودات حيث أنَّه ليس في أفق الإنسان ولا الحيوان ولا النبات ولعلَّه يعدُّ من الجمادات. والحاصل أنَّ النور الحسِّي هو مظهر من الوجود (النور المطلق) وقائم به، ولولا الفيض الدائم المستمر عليه لما كان له أي اعتبار وكيان، كما سيأتي زمانٌ تنعدم فيه الأنوار:
                    {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} (التكوير1، 2)
                    الثاني: أن النور الحسي تظهر به المبصرات فقط وأما المسموعات مثلاً فلا يكشفها النور الحسي، بل حتَّى المبصرات لا ترى من جميع زواياها وجوانبها من خلال النور الحسِّي بل يمكن رؤيتها على مستوى واحدٍ فقط، وهو سطح الأشياء وأمّا عمقها فليس للنور أيَّة سلطة عليها.
                    وأمّا نور الوجود فتظهر به المبصرات والمسموعات والمتذوقات والمشمومات والملموسات والمتخيلات والمعقولات وما وراء الحس والعقل. فالوجود هو الذي يُظهرها جميعاً وهو ظاهر بنفسه. فالمسموع لا يسمع إلا بالوجود، فلو لم يكن الصوت موجوداً لما سُمع، ولو لم يكن الطعم موجوداً لما تُذوِّق فكلُّ شيء -ببركة الوجود- يكون له أثرٌ وانعكاس، سواء الوجود العيني أو الوجود الذهني (وهذا التقسيم من أهم تقسيمات الوجود لدى الحكماء فالآثار الذهنية للشيء هي بعد ايجاد صورته في الذهن فالأثر إذا راجع إلى الوجود كما لو كان تخيل الإنسان شيئاً يؤَّدي إلى لذةٍ أو حزنٍ.).
                    الثالث: ما أشرنا إليه في الأمر السابق أنَّ الوجود مسيطر على كل شيء (باطنه وظاهره)، فماذا يبقى إذاً للشيء؟
                    بما أنَّ النور الحسِّي يسلط ضوءه على ظواهر الأشياء، فتبقى البواطن على حالها خارجة عن نطاق النور، ولكن إذا كان الوجود هو الذي أظهر جميع الأشياء سطوحها وبواطنها، فأيُّ شيء يبقى خارجاً عن مملكته وماذا بعد الحق (وهو الوجود المطلق) إلاّ الضلال المبين! هو الأوَّل والآخر والظاهر والباطن وهو معكم أينما كنتم وقيام كل شيء به تعالى :
                    {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (البقرة255)
                    فكلُّ شيءٍ ميِّت وهو الحي، وكلُّ شيء فقير وهو الغني القائم والشاهد والمحيط بكل شيء
                    (( وبنور وجهك الذي أضاء له كلُّ شيء)) (دعاء كميل، وقد وردت في هذا المجال آيات وأحاديث كثيرة راجع مضانها)
                    هذه أهمّ نقطة يجب أن نعرفها حقَّ المعرفة ونصل إليها بالشهود والعرفان حيث أنَّ لها الدور الرئيسي في حركاتنا وسكناتنا ومواقفنا وأعمالنا وأخلاقنا، فينبغي أن نُدرك حقيقة قوله تعالى :
                    {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة7)
                    والمعتقد بهذه الحقيقة لا يمكن أن يصدر منه أصغرّ الذنوب،كيف وهو يعلم بأنَّ الله له حضور تكويني في كلِّ ما هو موجود!
                    قال تعالى :
                    {أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (العلق13-14)
                    الرابع : إن النور الحسي لا شعور له ونور الوجود ذو شعور بل هو عين الشعور والإدراك، كيف والشعور لا يكون له أيُّ اعتبارٍ إلاّ بالوجود. ومن هنا نعرف السرّ في قوله تعالى :
                    {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الرعد15)
                    و قوله تعالى :
                    {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} (الجمعة1)
                    فكلمة "ما " تشمل كافة الموجودات حتَّى الجمادات. وأوضح من ذلك قوله تعالى :
                    {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَـهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء44)
                    فالأشياء جميعاً لا تسبِّح فحسب، بل تسبِّح حين الحمد فتنـزِّه وتحمد وتلاحظ الجلال والجمال الإلهي على مستوى واحد، وهذه حقيقة التوحيد.
                    السادس : إنَّ إشعاع النور ليس إرادياً بل هو جبري محض، فالشمس لا تَنشر النور وترسله إلى الأجرام بإرادتها، بل بما أنَّها شمس، فهي ذات إشعاع وذلك لأنَّ النور الحسي ليس من جملة الموجودات العالية كالإنسان والملائكة، بل شأنها شأن الجمادات التي لا إرادة لها، بل ربَّما يكون النور في مرحلة أدنى من الجمادات كما مرَّ. فلو أثبتنا أنَّه ليس بجسم، فهذا لا يعني أنَّه مُجرَّدٌ روحاني كيف ولا إرادة له!
                    فلو أثبت علماء الطبيعة أن النور لا يوزن وليس له مكان، فهذا لا يعني أنَّه مجردٌ! وأمّا الله فهو :
                    {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (النور35)
                    أي وجودهما فظهرت بالله السماوات والأرض ولكن بالمشيئة والإرادة. كيف لا يكون كذلك وهو خالق للإرادة، وخالق الإنسان المريد (وفاقد الشيء لا يُعطيه) فالإنسان يتصوَّر، فيُصدِّق، فيرغب، فيشتاق، فيطلب، فيريد، فيفعل. الإرادة إذاً هي مظهر من مظاهر الوجود، وكما أنَّه بالوجود أصبح الجمالُ جمـالاً والقدرةُ قدرةً والعلم علماً، فبالوجود أيضاً أصبحت الإرادةُ إرادةً، فالله سبحانه هو الجميل والقدير والعليم على الإطلاق وكل جمال وقدرة وعلم منه تعالى، وهو أيضاً المريد على الإطلاق، وكلُّ إرادة مهما كانت، هي مظهر من إرادته جلّ شأنه.
                    فهو تعالى أرادَ، فخلق الأشياء، وإرادتُه سبحانه وتعالى عينُ فعله :
                    {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس82)
                    ليس هناك فاصل زمني بين كنْ ويكون فمتى ما أراد الله أن يكون يتحقق الشيء أقل من طرفة عين.
                    إنَّ صدور الأشياء منه تعالى ليس قهريّاً بل هو اختياريٌّ، ولكنَّ الله تعالى بكرمه ولطفه وسعة رحمته لا يمنع الموجودات من فيضه، رغم تمكّنه من المنع :
                    ((يا من يعطي من سأله. يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنُّناً منه ورحمة))
                    السابع : إن النور الحسي له أفول وزوال وله ثانٍ، ونور الوجود لا أفول له ولا زوال ولا ثان له ولا مقابل، ووحدته ليست عددية، فهو ليس واحداً بل هو أحدٌ، والأحد لا يكون إلا الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. قال تعالى :
                    {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص1)
                    لماذا؟ لأنه هو :
                    {اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص2-4)
                    فمع اجتماع هذه الصفات يكون أحداً، فإذا استوعب كلَّ شيء بحيث لا يخلو منه شيء فلا يوجد مجال للثاني، وما هو الثاني في قبال الوجود المطلق؟ العدم! أم…!
                    أوَّل ما خلق الله المشيئة
                    على ضوء ما قلنا، يمكنك أن تتعرَّف على أوَّل ما خلق الله وأوَّل ما ظهر منه تعالى وهو المشيئة والإرادة، كما ورد في الحديث :
                    ((علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عُمَير عن عُمر بن أذينة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : خَلقَ الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة)) (الكافي ج1 ص110 الحديث4)
                    فهو شاء فخلق وإنَّما سمِّيت الأشياء أشياءً فلأنَّها مظاهر مشيئته تعالى وتجلِّي إرادته؟
                    عالم الأمر
                    وهاهنا سؤال يطرح نفسه وهو :
                    في ماذا تجلَّت وتتجلَّى (وذلك لأنَّ الخلق مستمرٌ غير متوقِّف فالله دائماً يريد فيخلق) المشيئةُ الإلهيَّة التي بها خلقَ الله الأشياء؟ ومن هُمْ محال مشيئته تعالى؟ هل المشيئة الأولى التي خلق الله بها الأشياء وأظهر به سائر الموجودات، مخلوقة كسائر المخلوقات بمعنى أنَّ المشيئة أيضاً ظهرت بالمشيئة؟
                    أقـول:
                    من الواضح أنَّ الذي هو مظهر نفس المشيئة، لا يكون شيئاً كسائر الأشياء بل له رتبة أعلى وأسمى منها حيث به خُلقت الأشياء وأصبح هو واسطة لانتقال فيض الوجود إلى الأشياء الأخرى، فهو رابط بين الأشياء وبين الله سبحانه وتعالى.
                    لأنَّه إن قلنا بأن المشيئة خلقت بالمشيئة، سوف ننقل الكلام إلى المشيئة الأولى ونقول: هل الله بمشيئته شاء أن يخلق؟ ولا تتوقَّف هذه السلسلة أصلاً والتسلسل باطل بالبداهة. (وقد ذكر الحكماء بطلان التسلسل أمور نشير إلى أثنين منها:- 1-لو فصلنا حلقاتٍ من السلسلة ثم قايَسناها مع السلسلة الأولى (الكاملة) فهل الناقصة تساوي الكاملة؟ فإن كانتا متساويتين فسوف تكون الناقصة ليست بناقصة والكاملة ليست بكاملة (وهذا هو التناقض المحال). وأمّا لو قلنا بأنَّهما حينئذٍ غير متساويين فسوف يثبت المطلوب وهو أنّ السلسلة من أوَّل الأمر لم تكن مستمرَّة إلى مالا نهاية بل كانت محدودة. 2-إنَّ وجود المعلول على أيٍّ مشروط بوجود العلَّة فلو استمرَّت المشروطية والربط بتسلسل العلل والمعلولات فسوف لن يتواجد حتَّى شيء واحد أصلاً، وذلك لأنَّ الرابط يفتقر في وجوده إلى غير الرابط فوجود الأشياء وتحقُّقها عيناً دليلٌ على عدم اشتراطها إلى ما لا نهاية.)
                    إذاً المشيئة لم تُخلق كسائر الأشياء، بل خَلَق الله الأشياء بالمشيئة وخلق المشيئة بنفسها والمشيئة من عالم الأمر الذي ورد في قوله تعالى :
                    {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (الأعراف54)
                    ((فى الخرائج والجرائح عن القائم عليه السلام حديث طويل فيه يقول لكامل بن ابراهيم المدين : وجئت تسأل من مقالة المفوِّضة، كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشية الله عزّ وجلَّ فإذا شاء شئنا والله يقول: وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله))
                    وقال الإمام قدَّس الله نفسَه في كتابه القيِّم مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية:
                    "مطلَعٌ : إن الأحاديث الواردة عن أصحاب الوحي والتنزيل في بدء خلقهم عليهم السلام وطينة أرواحهم وأنّ أول الخلق روح رسول الله وعليّ صلى الله عليهما وآلهما أو أرواحهم إشارة إلى تعين روحانيتهم التي هي المشيئة المطلقة والرحمة الواسعة تعيّناً عقليّاً لأنّه أوَّل الظهور هو أرواحهم عليهم السلام والتعبير بالخلق لا يناسب ذلك فإنَّ مقام المشيئة لم يكن من الخلق في شيءٍ بل هو الأمر المشار إليه بقوله تعالى :
                    (ألا له الخلق والأمر) وإن يُطلق عليه الخلق أيضا، كما ورد منهم "خلق الله الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها" وهذا الحديث الشريف أيضا من الأدلة على كون المشيئة المطلقة فوق التعينات الخلقية من العقل وما دونه" (الكافي ج1 ص441 الرواية9)
                    أقـول: ولعلَّ في قوله تعالى :
                    {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (السجدة24)
                    إشارة إلى ذلك، فهم عليهم السلام محال مشيئة الله، وهم باب الله الذي منه يُؤتى، والسبب المتصل بين الأرض والسماء، والنور الأوَّل الذي كان في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة والذي منَّ الله علينا بهم فجعلهم في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه. جاء في الحديث:
                    ((عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام يا ابن رسول الله لم سميت الزهراء زهراء فقال: لأنَّها تزهر لأمير المؤمنين عليه السلام في النهار ثلاث مرات بالنور… إلى أن قال: فلم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد الحسين عليه السلام فهو يتقلب في وجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمة منا أهل البيت إمام بعد إمام))) بحار الأنوار ج43 ص11 رواية2 باب2)
                    و قال قدِّس سرُّه :
                    " لو اتَّحد أفق الإنسان الكامل مع المشيئة المطلقة وأصبحت روحانيته عين مقام الظهور الفعلي للحق تعالى ففي هذا الحال سوف ينظر الحق تعالى به ويسمع به ويبطش به فهو الإرادة النافذة للحق والمشيئة الكاملة والعلم الفعلي وقد ورد في الحديث عليٌّ عين الله وسمع الله وجنب الله." (توحيد الصدوق ص164)
                    وقال الإمام قدِّس سرُّه في بيان شخصيَّة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله :
                    " وهو المشيئة المعبَّر عنها بالفيض المقدس والرحمة الواسعة والاسم الأعظم والولاية المطلقة المحمدية أو المقام العلوي، وهو اللواء الذي آدم ومن دونه تحته والمشار إليه بقوله: " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين أو بين الجسد والروح "أي لا روح ولا جسد، وهو العروة الوثقى والحبل الممدود بين سماء الإلهية وأراضي الخلقية، وفي دعاء الندبة قوله عليه السلام : "أين باب الله الذي منه يؤتى أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء، أين السبب المتصل بين الأرض والسماء" وفي الكافي عن المفضّل قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف كنتم حيث كنتم في الأظلّة فقال: يا مفضل كنّا عند ربّنا ليس عنده أحد غيرنا في ظُلّة خضراء نسبحه ونقدِّسه ونهلِّله ونمجِّده وما من ملكٍ مقرب ولا ذي روح غيرنا، حتى بدا له في خلق الأشياء فخلق ما شاء كيف شاء من الملائكة وغيرهم ثم أنهى علم ذلك إلينا". والأخبار من طريق أهل البيت عليهم السلام بهذا المضمون كثيرة" (شرح دعاء السحر ص10)
                    وهذه المعرفة هي عين التوحيد لأنَّه من خلالها يمكن ربط الأرض بالسماء والمخلوق بالخالق الواحد الأحد، ويتحقق التناسب والتسانخ والانسجام بين العلة والمعلول.
                    ثمَّ :
                    إنَّ أسمائهم هي الأسماء التي علَّمها الله لآدم حيث يقول:
                    {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة 31).
                    والمراد من الأسماء هي التي كانت لها علاقة بمقام الخلافة الإلهيّة وبطبيعة الحال هي المسميات المشار إليها في قوله:
                    {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} (البقرة 31)
                    أنظُر إلى هذا التعبير وتأمّل في كلمة (ثمَّ) فإنها قد فصَّلتْ بين جميعِ الأسماء وبين التّي عُرضَتْ على الملائكة وتأمَّل أيضاً في ضمير(هم) فالمقصود منه المسميات التِّي تمتلك التعقُّلَ وإلا لكان التعبير الصحيح هو (عَرضَها) لا (عَرضَهُم). وأصرح منه قوله تعالى:
                    {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة31).
                    ولا يخفى أنَّ كلمة هؤلاء تدلُّ على حضورهم بعينهم آنذاك وهم بعرشه محدقين. ولعلَّ قوله عليه السلام في الزيارة الجامعة الكبيرة وأسماؤكم في الأسماء إشارة إلى هذه الحقيقة حيث كانت أسماؤهم في الأسماء التِّي علَّمها الله آدم عليه السلام.
                    و قد ورد في الحديث :
                    ((لولاك لما خلقت الأفلاك وأيضاً لولاك لما خلقت آدم)) (بحار الأنوار ج16 ص406 الرواية1 الباب12).
                    و في زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم المنقول عن كلٍّ من الشيخ المفيد والسيد والشهيد:
                    ((أوَّل النبيين ميثاقا وآخرهم مبعثاً الذي غمسته في بحر الفضيلة والمنزلة الجليلة والدرجة الرفيعة والمرتبة الخطيرة فأودعته الأصلاب الطاهرة ونقلته منها إلى الأرحام المطهرة..)) (بحار الأنوار ج100 ص183 رواية11 باب2)
                    وقد أشبعنا هذا الموضوع بحثاً في كتابنا دولة المهدي المنتظر (دولة المهدي المنتظر من ص 13-45)

                    تعليق


                    • http://www.al-kawthar.com/ahl_bayt/bayt_dwn.htm

                      (2)
                      نـور على نـور
                      من الأبحاث التي تطرَّق إليها الحكماء، هو الحديث عن النظام الإلهي، وأنَّه هو النظام الأتم الأكمل الأحسن، وذلك لأنَّ فيضه سبحانه دائم، فمن المستحيل تصوّر النقصان في فيوضاته على العالمين. وهذا الأمر غير خاضع للزمان والمكان مطلقاً، فنظام الكون دائماً هو الأحسن، وعليه يكون أحسن ما خلق هو الأوَّل وهو الآخر، وبما أنَّ النبي الأكرم هو أحسن الخلق وهو الأفضل من جميع الأنبياء -كما ثبت في الأبحاث السابقة- فهو أوَّل ما خلق الله.
                      وجميع الأنوار إنّما هي إشعاع لذلك النور الأوَّل المنبثق من النور المطلق، فلا بد من نور شديد به تظهر سائر الأنوار، وإلا سوف ينقطع الفيض الإلهي، أعني كلّ صفات الجمال والكمال، فالجميل المطلق قد ظهر في أحسن موجود كما أن الكريم المطلق تجلى وظهر بكرمه والقدير المطلق ظهر بقدرته، فالذي هو مظهر لتلك الصفات هو وجه الله، ولابد أن يكون موجوداً في كلِّ زمان وهو حجَّة زمانه الذي ورد في الحديث عنه:
                      { لولا الحجة }
                      وقال تعالى :
                      {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَـلاَلِ وَالإِكْرَامِ} (الرحمن26،27)
                      والمقصود من الوجه هي الفيوضات التي تمثِّل الواجهة والمرآة الإلهية، فضمير في "ربِّك" إشارة إلى خصوص ربِّ الرسول صلى الله عليه وآله، ومن هنا اتُّصف بذي الجلال والإكرام.
                      وفي دعاء الندبة :
                      (( أين وجه الله الذي منه يُؤتى ))
                      ولتوضيح هذه الحقيقة نذكر مثالاً :
                      لو فرضنا أنَّ شلاّلا ينـزل من جبلٍ عالٍ، فمن الطبيعي أن يمرَّ من خلال البحر ثمَّ الشط ثمَّ الأنهار فالجداول، وكلّ واحدة منها هي واسطة الفيض إلى ما دونها.حينئذٍ نتساءل : هل بإمكان الإنسان أن يشرب الماء من غير التوسُّل بتلك الوسائط؟
                      لو حاول ذلك وهو غير قابل لهلك، لأنَّ الوعاء الذي يمتلكه لا يستوعب المـاء، فيبقى عطشاناً وهو يجاور الماء. فالحل الوحيد لمثل هذا الإنسان هو الإبتعاد من المصدر والتقرُّب إلى وسائط الفيض، جاء في الدعاء :
                      ((إنّا توجَّهنا واستشفعنا وتوسَّلنا بك إلى الله وقدَّمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله))
                      وهذه الحقيقة قد بيِّنت في قوله تعالى :
                      {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر21)
                      كيف والجبل مهما عظم فهو جماد لا يستوعب كلام الله تعالى، فأين التراب وربِّ الأرباب، ومن هنا يقول سبحانه :
                      {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر21)
                      قال صدر الحكماء المتألّهين وشيخ العرفاء الكاملين في الأسفار:
                      "إعلم أيّها المسكين، أنّ هذا القرآن أُنزل من الحق إلى الخلق مع ألف حجاب لأجل ضعفاء عيون القلوب وخفافيش أبصار البصائر، فلو فرض أنّ باء بسم اللّه مع عظمته التي كانت له في اللّوح نزل إلى العرش لذاب واضمحلّ، فكيف إلى السماء الدنيا. وفي قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر21) إشارة إلى هذا المعنى"
                      وتعليقاً على ذلك قال الإمام قدس سرُّه :
                      "و هذا الكلام صادر عن معدن المعرفة،مأخوذ عن مشكوة الوحي والنبوة"
                      أقـول:
                      ولهذا قال تعالى بعد ذلك :
                      {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر24:22)
                      و الجدير بالذكر أنَّها آيات ثلاثة وكلِّ واحدة منها تبدأ بـ "هو الله".
                      قال الإمام قدِّس سرُّه:
                      " الآية الشريفة الأولى مشيرة إلى أسماء الصفات، والآية
                      الثانية إلى أسماء الذات، والآية الثالثة إلى أسماء الأفعال."
                      هذا:
                      ولاحظ قوله تعالى :
                      {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ*قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً*نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً*أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل4:1)
                      كلُّ هذه العبادات لماذا؟ قال تعالى :
                      {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (المزمل5)
                      فهل بإمكاننا -نحن القُصَّر- أن نصل إلى شيء من مستوى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم!
                      ومن المناسب هنا الحديث عن آية النور ذات المحتوى العرفاني العميق،قال تعالى:
                      {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور35)
                      أقـول :
                      ظاهر المثال هو نوع من التشبيه لنور الله –جلّ شأنه- كمشكاة فيها مصباح وهو سراج والمصباح في قنديل من الزجاج وهو مضيء متلألئ كأنَّه كوكب درِّي، وهذا المصباح يتوقَّد من شجره مباركة هي شجرة الزيتون المتكاثر نفعها والشجرة لبركتها وردت مبهمة، كما أنَّ الزيتونة لفخامة شأنها جاءت بدلاً من الشجرة، وهي لا شرقية، ولا غربية، تسطع الشمس عليها بنحو متواصل من غير انقطاع، كالتي على قمَّة جبل، أو صحراء واسعة، فان ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى. أو أنَّهما إشارة إلى أرض الشام الواقعة في وسط المعمورة لا شرقها ولا غربها، فإن زيتونه أجود الزيتون أو أنَّه لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها ولا مقناة تغيب عنها دائماً فيتركها نياً وفي الحديث :
                      ((لا خير فى شجرة ولا فى نبات فى مقناة ولا خير فيها في مضحى))
                      يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وذلك لتلألئه وبياضه الشديد، فجميع تلك الأمور ضاعفت في النور ولم تنقص منه أصلاً، فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت والقنديل وضبط المشكاة، فهو نور على نور وإن كان النور حقيقة من المعدن، كما جاء في المناجاة الشعبانية:
                      ((إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك))
                      ولكن عند التأمل في الأحاديث الشريفة التي وردت في تفسير الآية المباركة والآية التي بعدها، وملاحظة القرائن المحيطة بها، نصل إلى النتيجة التالية :
                      عند ملاحظة سياق الآيات، نرى أنَّها تنوِّه إلى حقيقة واحدة وهي :
                      إنَّ الله هو نور السماوات والأرض، إنَّ هذا ليس هو إلاّ مثالٌ يشير إلى حقائق أخرى كما أشرنا سابقاً في بيان الفروق بين النور الحسِّي والحقيقي.
                      فالأحاديث على اختلافها الظاهري تؤكِّد على أنَّ المصباح هو المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقد جاء في الحديث التالي :
                      ((عن عبد الله بن جندب قال :كتبت إلى أبي الحسن الرضا صلوات الله عليه أسأله عن تفسير هذه الآية فكتب إلي الجـواب : أما بعد فان محمدا صلى الله عليه واله كان أمين الله فى خلقه فلما قبض النبي كنا أهل البيت ورثته فنحن أمناء الله فى أرضه… مثلنا في كتاب الله عزّ وجل "كمثل مشكوة "المشكوة في القنديل فنحن المشكوة "فيها مصباح " المصباح محمد صلى الله عليه واله)).
                      وكانوا عليهم السلام يستشهدون بآيات أخرى تعزيزاً لهذا المعنى، فقد ورد في تفسير قوله تعالى :
                      {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ} (البقرة17)
                      وقوله تعالى :
                      {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا...} (يونس5)
                      وقوله تعالى:
                      {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (يس37)
                      ((على بن محمد عن على بن العباس عن على بن حماد عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ...في حديث طويل. قال في تفسير الآية المباركة أضاءت الأرض بنور محمدٍ كما تضيء الشمس فضرب الله مثل محمد صلى الله عليه وآله الشمس ومثل الوصي القمر وهو قوله عزّ وجلّ جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقوله وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون)) (الكافى ج8 ص379 روايه574 باب8)
                      والجدير بالذكر ما ورد في تفسير الآيتين المباركتين وهما:
                      قوله تعالى :
                      {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف157)
                      {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (التغابن8)
                      ((علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام فى قول الله تعالى: "الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث...إلى قوله... فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" قال : النور فى هذا الموضع على أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام)) (الكافى ج1 ص194 روايه2)
                      ((أحمد بن مهران عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنى عن على بن اسباط والحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن أبي خالد الكابلي، قال :سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى فآمنوا باللّه ورسوله والنّور الّذي أنزلنا فقال : يا أبا خالد النور - والله- الأئمة عليهم السلام يا ابا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ويغشاهم بها)) (الكافي ج1 ص195 رواية4)
                      وقال تعالى في شأن رسوله صلوات الله عليه :
                      {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الاحزاب46)
                      وأمّا كلام القوم في تفسير النور :
                      وقال ابن عباس : من أن المقصود من الآية أنَّ "مثل نور الله الذي يهدي به المؤمن".
                      وقال الحسن : "مثل هذا القرآن فى القلب كمشكاة".
                      وقيل : مثل نوره وهو طاعته.
                      وقال سعيد بن جبير : "النور محمد كأنه قال مثل محمد رسول الله".
                      وقيل : هو مثل ضُرب لقلب المؤمن.
                      أقـول:
                      و لا تعارض بين الأحاديث والأقوال المختلفة في هذا المجال، بل يمكن الجمع بينها فنور الله ليس هو إلا رسوله وهو متَّحد مع القرآن.
                      ثمَّ :
                      عندما نتأمَّل في الوسائط التي بيَّنتها الآية المباركة، وهي المشكاة، والمصباح، والزجاجة، سوف نعرف أنَّها لا تمنع من إشعاع النور أصلاً، بل من خلالها يتمكَّن الإنسان من معرفة ذلك النور الوضّاء الذي نوَّر السماوات والأرض، نور الله المطلق، فلا مجال للإنسان أن يشاهد النور الإلهي من غير الانطلاق منها، فهل للخفاش أن يوصف الشمس المضيئة للعالم؟ فما هو الحلّ إذاً؟
                      الحلّ إنَّما هو التوسُّل بتلك الوسائط والتقرُّب إليها كما مرَّ.
                      ومما ينبغي ذكره أنَّه تعالى بعد ذكر تلك الوسائط قال :
                      {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (النور35)
                      فمعرفة الأنوار الإلهيَّة ليست من السهل لأيِّ إنسان، بل تفتقر إلى قابلية وتهيُّأ، وهذا لا يحصل إلا بمشيئته الله سبحانه.
                      ولعلَّ هذا المقطع من الآية إشارة إلى ذلك النور الإلهي الغائب بقيَّة الله في الأرضين الحجَّة بن الحسن المهدي عجَّل الله تعالى فرجه الشريف في خصوص عصر غيبته، حيث أنَّ النور في الآية أضيف إلى الضمير الغائب أعني "لِنُورِه" وأخفى إسم من أسماءه تعالى هو الهاء، كما أنَّ قوله تعالى :
                      {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا...} (الزمر69)
                      يشير إلى عصر ظهوره صلوات الله وسلامه عليه، حينما ينتشر ذلك النور فينوِّر الأرض، وقد ورد في هذا المجال حديث طويل، عن محمد بن أبي عبد الله عن جعفر بن محمد عن القاسم بن الربيع عن صباح المزني عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام (حين ظهور المهدي) :
                      ((يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزؤون بنور الإمام)) (البحار ج7 ص326 روايه1 باب17)
                      وفي الزيارة الجامعة الكبيرة :
                      ((وأشرقت الأرض بنوركم)) (البحار ج102 ص129 روايه4 باب8)
                      ولا يخفى لطافة التعبير في الآية حيث أضيف النور إلى الربّ، في قوله "بِنُورِ رَبِّهَا " وهو أجلى وأظهر أسمائه تعالى.
                      وفي حديث آخر :
                      ((الكوكب الدرِّي القائمُ المنتظر عليه السلام، الذي يملأ الأرض عدلاً)) (معجم أحاديث الإمام المهدي جلد5 صفحة273)
                      وعن ابن محبوب عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال :
                      (( قال لي: لا بدَّ من فتنة صماء صيلم، يسقط فيها كل بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي يبكى عليه أهل السماء وأهل الأرض وكلّ حريٍّ وحرّان وكلّ حزين لهفان، ثم قال : بأبي وأمي سميّ جدي وشبيهي وشبيه موسى بن عمران (عليه السلام)، عليه جيوبُ النور تتوقَّد بشعاع ضياء القدس)) (بحار الأنوار ج51 ص152 روايه2 باب8)‏
                      ونفس النص قد صدر عن أمير المؤمنين عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم (بحار الأنوار ج51 ص108 روايه42 باب1)‏
                      ثمَّ قال تعالى:
                      {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ*رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (النور36،37)
                      فتلك الأنوار إنَّما هي في بيوت، فما هي تلك البيوت التي احتملت الأنوار المعنويَّة؟
                      هذا ما يجيب عنه أئمتنا عليهم السلام معتمدين على الآية نفسها.
                      فالقرآن يشتمل على ظاهر وباطن وقد أشار سبحانه إلى باطنه بقوله:
                      {وما يعلم تأويله إلا الله} (آل عمران7)
                      فالظاهر ورود هذه الآية في المساجد. فالمسجد له الأهمية القصوى في الإسلام، لأنه مكان أداء أقدس الأعمال ألا وهو الصلاة.
                      فالمسجد في ظاهره ليس إلا عبارة عن بناء مكوَّن من التراب والصخر والحديد وكلّها جمادات، إلا أنها لإضافتها باسم الربّ تعالى، فإن شأن المسجد يختلف عن سائر البيوت في الدنيا والآخرة، كما تؤكِّد على ذلك الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة.
                      بيت النبوَّة والإمامة
                      ولله أيضاً بيوت ليست من الصخر والطين والحديد، بل إنها من العقل والروح والقلب فهي مختلفة عن سائر البيوت. إن المسجد بيتٌ لإقامة الصلاة، أما بيت العقل والروح والقلب فسكّانه المعرفة والعلم بالله.
                      وهذا البيت الروحاني هو المقصود الباطني لهذه الآية. فالقلب هو المسجد وبيت الله الحقيقي، وهو مسكن للمعرفة والتوحيد والأسماء الحسنى الإلهية.
                      ولذلك نعرف السرّ في أهميَّة مشاهد الرسول والأئمة عليهم السلام حيث يجري عليها أحكام المساجد.
                      ففي روضة الكافى عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل : "فى بيوت أذن الله أن ترفع" قال :
                      ((هي بيوت النبي صلى الله عليه وآله))
                      وأيضاً :
                      لما قدم قتادة -وكان فقيهاً عالماً لا يتزعزع أمام كبار العلماء- على الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، وقبل أن ينطق قال له الإمام عليه السلام :
                      (("ويحك يا قتاده، إن الله تعالى خلق خلقاً من خلقه فجعلهم حججاً على خلقه، وهم أوتادٌ في أرضه، قّوامٌ بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه، أظلّة عن يمين عرشه". قال : فسكت قتاده طويلاً، ثمّ قال : أصلحك الله، والله لقد جلستُ بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك! فقال أبو جعفر عليه السلام : "أتدري أين أنت؟ بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبِّح له فيها بالغدوّ والآصال رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ونحن أولئك". فقال قتادة : صدقت والله، جعلني الله فداك، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين!)) (بحار الأنوار ج10 ص155 والكافي ج6 ص265 ح1

                      تعليق


                      • (3)
                        كَلمـاتُ اللّـه
                        الكلمات التكوينيَّة والكلمات التدوينيَّة، هناك نوعان من الحروف والكلمات والجمل:
                        النـوع الأوَّل: التـكوينية.
                        النـوع الثاني: التـدوينية.
                        الكلمات التكوينية هي الأساس التِّي لها المصداقية العينيَّة وأمّا الكلمات التدوينيَّة فهي ليست على الحقيقة، بل إطلاق الكلمات عليها مجازاً، وسميت تدوينية باعتبار أنها تُدَون وتكتب وهي الألف والباء والجيم والدال.... تلك الحروف التي إن اجتمعت دلَّتْ على الحقائق العينيَّة الخارجيَّة .
                        فعندما نقول مثلاً "الباب" فهناك في عالم الخارج بابٌ هو مصداق للكلمة التي تلفظنا بها والكلمة تُمثِّل ذلك الباب العينيِّ الخارجيِّ، وكذلك كلمة "البحر" و"البرّ" و"السماء" و"الأرض" فالكلمة إذاً ليست هي حقيقة مستقلة في قبال الحقيقة الموجودة في الخارج، وعليه لا يمكن إطلاق الكلمة على الألفاظ، وإن أطلقت عليها فهو ليس إطلاقا حقيقيا بل هو على نحو المجاز.
                        والكلمات ليست هي إلاّ تَبْيين أو بالأحرى إيجاد الأشياء الخارجيَّة في ذهن السامع، فهناك شيء موجود في الخارج وهناك أمر آخر نحن تلفظنا به، ذلك كي نحقِّق صورةً من تلك الحقيقة في ذهن السامع.
                        فعندما سمينا الأرض بهذا الإسم أعني الهمزة والراء والضاد وسمينا البحر بالباء والحاء والراء والسماء بالسين والميم والألف والهمزة فلا نقصد بذلك إلا الوصول من خلال تلك الكلمات إلى واقع الأرض والبحر والسماء، ولنقل ذلك الواقع إلى أذهان الآخرين، كي يتصوَّروا ما تصوَّرناه فيعرفوه.
                        فلو كان هناك إنسانٌ يعيش في البر ولم يرَ البحر قطّ ونحن أردنا أن نبين له واقع البحر فأفضل وسيلة لذلك هي استعمال الكلمات، حيث أنَّ هذه الكلمات حينئذ سوف توجد صور ذهنية عندنا، شريطة أن نبيِّن الواقع بشكلٍ صحيح وصورةٍ واضحةٍ لا غموض فيها فلربَّ متكلِّمٍ لا يمكنه نقل كلّ ما في ذهنه إلى الآخرين وذلك لضعف بيانه وقلة ممتلكاته ومعرفته للكلمات التي يستخدمها حين الحديث أو عدم رعايته أدب تلك اللغة، فكميَّة الكلمات مضافاً إلى فهم أدب اللغة لهما دورٌ رئيسيٌّ في نقل المفاهيم إلى الآخرين .
                        الكلمات التكوينيَّة
                        وأمّا الكلمات التكوينيَّة فهي الأمور الخارجية والحقائق العينيَّة التِّي لها وجودٌ حقيقي، فواقع السماء والأرض والبرّ والبحر والجبال كلمات تكوينيَّة، سميت تكوينية لأن الله كوَّنها وأوجدها :
                        {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النحل/40)
                        فقول الله هو الإيجاد لا التكلُّم، وليس هناك فاصل زمني بين الإيجاد والوجود نعم هناك فاصل في الرتبة فقط فهو الذي أوجدَها فوُجدت وهذا شأن كلّ علةٍّ ومعلول كما هو ثابت في محلِّه.
                        فجميع الموجودات التِّي كوَّنها الله سبحانه وخلقها هي كلماته، وهي غير مختصَّة بعالم المُلك والدنيا بل تشمل عالم الملكوت والجبروت فالجنَّة وما فيها كلمات الله التكوينيَّة، ولكثرتها وعدم إمكان إحصائها قال تعالى :
                        {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (الكهف/109)
                        {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لقمان/27)
                        ومن الواضح أنَّه ليس المقصود من الآية هي الكلمات المكتوبة بل هي الكلمات الواقعيَّة العينيَّة .
                        ومن أبرز كلمات الله هم أصحاب الكساء الخمسة الذين بهم قبل الله توبةَ آدم عليه السلام كما قال تعالى :
                        {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(البقرة/37)
                        و في هذا المجال أحاديث كثيرة نكتفي بذكر حديث واحد :
                        ((عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزلت الخطيئة بآدم و أخرج من الجنَّة أتاه جبرئيل عليه السلام فقال يا آدم ادع ربك قال يا حبيبي جبرئيل ما أدعو؟ قال قل ربِّ أسألك بحق الخمسة الذين تخرجهم من صلبي آخر الزمان إلا تبت علي ورحمتني فقال له آدم يا جبرئيل سمِّهم لي، قال قل اللهم بحق محمد نبيك وبحق على وصي نبيك وبحق فاطمة بنت نبيك وبحق الحسن والحسين سبطي نبيك إلا تبت علي فارحمني فدعا بهن آدم فتاب الله عليه، وذلك قول الله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، وما من عبد مكروب يخلص النية ويدعو بهن إلا استجاب الله له)) (بحار الأنوارج26 ص333 الرواية15 باب7)
                        ولا تخفى عليك لطافة كلمة "فتلقَّى" فهي تدل على نوعٍ من الانسجام بين آدم وبين تلك الأنوار الطاهرة بحيث أنَّه بمجرد التلقِّي حصلت التوبة قهراً "فتاب عليه".
                        وقال تعالى:
                        {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (يونس/82)
                        وفي تفسير علي بن إبراهيم:
                        ((بالأئمة و القائم من آل محمد صلى الله عليه و آله)) (بحار الأنوار ج9 ص234 الرواية129 باب1)
                        كما أنَّ القرآن الكريم يطلق على النبي عيسى عليه السلام أنَّه كلمة من كلمات الله قال عزَّ شأنه :
                        {إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران/45)
                        نلاحظ في هذه الآية المباركة أنَّ المسيح عيسى ابن مريم اسم ذلك النبي الذي هو كلمة الله وهو حقيقة خارجية مقدَّسة، وقال تعالى:
                        {فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ} (آل عمران/39)
                        والكلمة التي صدَّق بها يحيى هو المسيح عيسى بن مريم كما يستفاد ذلك بانضمامها إلى الآية السابقة وذهب إليه أكثر المفسِّرين.
                        وربَّما أطلقت الكلمة على الحوادث التِّي لها بالغ الأهميَّة كما في قوله تعالى :
                        {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة/124)
                        فالآية تشير إلى الوقائع والحقائق الخارجية التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وهي تتمثَّل في قضية ذبح ابنه إسماعيل وإلقائه في النار ومواجهته لنمرود وغيرها ، فكلُّ هذه القضايا حقائق خارجية أطلقت عليها كلمات .
                        وقد ورد في التوقيع الصادر من الناحية المقدسة حرسها الله تعالى :
                        ((اللهم صل على محمد حجتك في أرضك وخليفتك في بلادك والداعي إلى سبيلك والقائم بقسطك والثائر بأمرك، ولي المؤمنين وبوار الكافرين، ومجلي الظلمة، ومنير الحق، والناطق بالحكمة والصدق، وكلمتك التامة في أرضك، المرتقب الخائف، والولي الناصح، سفينة النجاة، وعلم الهدى، ونور أبصار الورى، وخير من تقمص وارتدى)) (بحار الأنوارج94 ص2 الرواية4 باب28)
                        والأدعيَّة المأثورة عنهم عليهم السلام مليئة بذلك كدعاء السمات ودعاء جوشن الكبير وغيرهما.
                        وعلى ضوء ذلك يستنتج أنَّ الكلمات هي حقائق خارجيَّة قبل أن تكون ألفاظاً، وتلك الحقائق لايفرق فيها بين أن تكون أمور عينيَّة خارجيَّة أو وقائع وحوادث مهمَّة.
                        ثمَّ إنَّه ليس من الضروري مشاهدة جميع الكلمات التكوينيَّة حسّاً بل يمكن لنا أن ننظر إلى بعضها بأعيننا المُلكيَّة وأمّا البعض الاخر فتفتقر إلى عين ملكوتيَّة برزخيَّة (ما وراء الطبيعة).
                        ومن هنا نرى بان الله سبحانه و تعالى يقول:
                        {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} (الحاقة 38، 39)
                        فهناك أشياء و حقائق يمكن ان نُبصرها وهناك ما لا يمكن، ولكنّ كليهما تكوينيتان واضحتان، وإنَّما النقص و الضعف فينا نحن الضعفاء فيمكننا أن نبصر بعضها باعتبار أنَّها من عالم الملك ولا يمكننا ان نبصر البعض الآخر-مع وضوحها- لأنَّنا نحن لم نصل إلى مستوى الملكوت، فالملائكه وجودهم واضح وضوح الشمس إلاّ أنَّنا لا يمكننا رؤيتهم، كما أنَّ وجود الأرواح ولكن لا يمكننا أن نُبصرها، و سر ذلك أنَّنا لا نعيش ذلك العالم.
                        ولشدة وضوحها وفرط ظهورها قال (لا أُقسمُ) فهي لا تحتاج إلى قسم كقوله تعالى :
                        {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (الواقعة/75)
                        {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} (الإنشقاق/16-18)
                        {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} (البلد/1-3)
                        {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة1،2)
                        فاللاء النافية هاهنا ليست زائدة تأكيديَّة كما يتصوَّر الكثير من المفسِّرين، بل هي على حقيقتها، وإنَّما ذكرت لتبيِّن وضوح الشيء، ومن الطبيعي أنَّ هذه اللاء تنفي لتُثبِت، فنفيُ القسم ههنا يعادل سبعين قسماً وكأنَّه تعالى يقول: إن أردتم أن أقسم فسوف أُقسم كثيراً.
                        ورب إنسان لا يفهم الكلمات التكوينيَّة المُلكية ولا يبصرها مع أنَّه ينظر اليها بعينيه ! فهو يرى و لا يبصر ، كما ورد في القرآن الكريم عن الذين كانوا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله :
                        {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (الأعراف/198)
                        فليس كل مانراه نعرفه بل نحن لا نعرف حقيقة الاشياء أصلاً، فالبصر في عالم الدنيا أيضا يحتاج إلى دقَّة وإلى مستوى من الرقيِّ الروحي، فلا يتحقَّق البصرُ بمجرَّد النظر حيث أنَّ الحيوانات أيضاً تنظر لكنها لا تفهم، فإذن هناك ثلاثة احتمالات :
                        الأوَّلى : النظر والفهم .
                        الثانية : النظر وعدم الفهم .
                        الثالثة : عدم النظر وعدم الفهم .
                        هذا كلُّه بالنسبة إلى الكلام التكويني.
                        الكتاب التكويني والكتاب التدويني كتاب الله أيضاً ينقسم إلى قسمين:
                        الأوَّل : تكـويني .
                        الثاني : تـدويني .
                        جميع الحقائق الموجودة في الكتاب التكويني موجودة في الكتاب التدويني الذي هو كتاب الله، لأنَّ القرآن ليس هو إلاّ مظهراً للكتاب التكويني، فجميع الكتب مهما توسَّعت فهي لا تستوعب كلَّ الكتاب التكويني ولا تمثِّله، بل ينعكس فيها كمٌّ ضئيلٌ من الكتاب التكويني، فمثلاً كتب الطب أو البيئة أو العلوم الأخرى لاتمثِّل جميع التكوين بل تمثِّل قسماً من عالم التكوين، كلّ بحسبه.
                        الكتاب الوحيد الذي يمثل جميع ما في عالم التكوين هو القرآن الكريم حيث أنَّ الله سبحانه وتعالى بقدرته المطلقة قد جمع الكلام التكويني بما فيه من الخصوصيات، في كتابه العزيز.
                        فهو كتاب تدويني مشتمل على جميع الكلمات التكوينية لاشتماله على فصول وأبواب وحروف، فنفس الحقائق الموجوده في الخارج أصبحت حروفاً، فلو سمعتَ عن الإسم الأعظم، أوعلم من الكتاب، أوعلم الكتاب فلا تتوهم أنَّ المقصود من ذلك صرف الكلمات بل المراد الكلمات التي تمثل عالمَ العين والخارج، فهي في الحقيقة ليست إلاّ وقائع خارجية، ولكن ليس كلّ انسان يعرف ما في القرآن بل يحتاج ذلك إلى الجدّ والجهد، فكما أنه تعالى وبالنسبه إلى كتاب التكوين يقول :
                        {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور} (الملك/15)
                        فلابد للانسان من البحث للعثور على الرزق، فكذلك بالنسبة إلى القرآن لا بد من السير والفحص والدقّة حتى الوصول إلى كنوزه غير النافذة.
                        فاتحة الكتاب التكويني
                        قال الإمام الخميني قدِّس سرُّه:
                        (( ففاتحة الكتاب التكويني الإلهى الذي صنفه (تعالى جدّه) بيد قدرته الكامله بالوجود الجمعي الإلهي المنزّه عن الكثرة المقدّس عن الشَين والكدورة بوجهٍ هو عالم العقول المجردة والروحانيين من الملائكة والتعين الأوَّل للمشيئة وبوجهٍ عبارةٌ عن نفس المشيئة فإنِّها مفتاح غيب الوجود وفي الزيارة الجامعة: بكم فتح الله، لتوافق أفقهم عليهم السلام لأفق المشيئة كما قال الله تعالى حكاية عن هذا المعنى: ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، وهم عليهم السلام من جهة الولاية متحدون أوَّلنا محمّد، أوسطنا محمد، آخرنا محمد، كلّنا نور واحد، ولكون فاتحة الكتاب فيها كلّ الكتاب والفاتحة باعتبار الوجود الجمعى في بسم الله الرحمن الرحيم وهو في باء بسم الله وهو في نقطه تحت الباء قال علي عليه السلام: أنا النقطة وورد: بالباء ظهر الوجود وبالنقطة تميَّز العابد عن المعبود)) (شرح دعاء السحر ص64)
                        فكما أنَّ الكتاب التدويني يبدأ بسورة الفاتحة فالكتاب التكويني أيضاً كذلك ففاتحة الكتاب التدويني هو :
                        ((بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين...))
                        قال في مجمع البيان:
                        ((سمِّيت بذلك لافتتاح المصاحف بكتايتها، ولوجوب قرائتها في الصلوة، فهي فاتحة لما يتلوها من سور القرآن في الكتاب والقرآءة)) (تفسير مجمع البيان ج1 ص47).
                        وقد وردت أحاديث تؤكِّد أهميَّة هذه السورة منها ما ورد :
                        ((إن الله خص بسوره الفاتحه محمداً (صلى الله عليه وآله) وشرفَّه بها، ولم يشرك معه فيها أحداً من أنبيائه ما خلا سليمان عليه السلام، فإنَّه أعطاه منها بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تراه يحكي عن بلقيس حين قالت: إنِّي ألقي إليَّ كتاب كريم إنَّه من سليمان و إنَّه بسم الله الرحمن الرحيم)) (بحار الأنوار ج14 ص128 الرواية14 باب9)
                        وهي أوَّل سورة من الكتاب التدويني من حيث الافتتاح لا من حيث النزول، فكذلك للكتاب التكويني فاتحة وهي أوَّل سورة لها وهي أوَّل ما ظهر من العوالم بعد مرحلة الغيب المطلق أعني عالم الأحديَّة الذي لا سبيل للوصول إليه، فأوَّل ما ظهر هو التعيُّن الأوَّل، وهو عالم العقول المجردة أعني عالم الروحانية، وهو أوَّل مصداقٍ لمشيئته تعالى.
                        هذا ولو تأمَّلنا أكثر لعرفنا بأنَّ أوَّل ما ظهر إنَّما هو نفس المشيئة الإلهيَّة كما شرحنا هذا الأمر بالتفصيل فراجع.
                        وفي الحديث :
                        ((عن زيد الشحام قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام أيّما أفضل الحسن أم الحسين؟ فقال: إن فضل أوَّلنا يلحق بفضل آخرنا، وفضل آخرنا يلحق بفضل أوَّلنا، وكلُّ له فضل، قال: قلت له جعلت فداك وسِّع عليَّ في الجواب فإنِّي والله ما سالتك إلا مرتاداً، فقال: نحن من شجرة طيبة برانا الله من طينة واحدة، فضلُنا من الله، وعلمُنا من عند الله، ونحن أمناؤه على خلقه، والدُّعاة إلى دينه، والحجاب فيما بينه وبين خلقه، أزيدك يا زيد! قلت نعم، فقال: خلقُنا واحد، وعلمُنا واحدٌ، وفضلنا واحد، وكلُّنا واحدُ عند الله تعالى، فقال: أخبرني بعدَّتكم، فقال: نحن إثنا عشر هكذا حولَ عرش ربنا عزّ وجلّ في مبتدأ خلقنا أوَّلنا محمد، وأوسطنا محمد، وآخرنا محمد)) (بحار الأنوار ج25 ص363 الرواية23 باب12)
                        وفي حديث طويل قال عليٌّ عليه السلام مخاطباً أبا ذر وسلمان :
                        ((أنَّه لا يستكمل أحدٌ الايمانَ حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية ...ثمَّ قال: معرفتى بالنورانية معرفه الله عزّ وجلّ، ومعرفةُ الله عزّ وجلّ معرفتي بالنورانية، وهو الدين الخالص الذي قال الله تعالى وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين)) (بحار الأنوار ج26 ص16 الرواية2 باب14)
                        وفي حديث آخر عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال :
                        ((لا تعجبوا من قدرة ،الله أنا محمد ومحمد أنا)) (بحار الأنوار ج26 ص1 الرواية1 باب14)
                        و قال الإمام الباقر عليه السلام :
                        ((يا قوم لا تعجبوا من أمر الله، أنا عليٌّ، وعليٌّ أنا، وكلنا واحد من نور واحد، وروحنا من أمر الله، أوَّلنا محمَّد، وأوسطنا محمد، وآخرنا محمّد، وكلنا محمّد)) (بحار الأنوار ج26 ص1 الرواية1 باب14).
                        حـرف البـاء
                        إنَّ فاتحة الكتاب التي بها يفتتح الكتاب التدويني تبتدأ بالبسملة، وهذه البسملة مرتبطة بالفاتحة، وهي جزء من السورة، والباء هي التي ربطت بين "اسم الله الرحمن الرحيم" وبين "الحمد لله رب العالمين"، ومن هنا أصبحت الباء هي الرابط بين الإسم والحمد، في الحديث الشريف النقطة هي ولي الله الأعظم، فهو الرابط بين الخالق والمخلوق، حيث أنَّ المخلوق قد تجلى في "الحمد لله رب العالمين" لأن الحمد كلَّه لله حيث لا حمدَ إلاّ للجمال، والكمال، والقدرة، وكلُّها مظاهر الله سبحانه الظاهرة في أسمائه، فنحن نشاهد المحبوب في آياته وآثاره، فنمدحها لأنَّها مرآته تعالى:
                        ((ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه))
                        متعلق الجار و المجرور
                        ولا يخفى أنَّ الجار والمجرور يفتقران إلى متعلَّق فعلاً كان أو أسمَ فاعلٍ أو اسمَ مفعولٍ أو صفةً مشبّهة باسم الفاعل أو أفعل تفضيل أو مصدر، والسر في ذلك أنَّ الحرف ما هو إلا للربط، والرابط لا بدَّ أن يربط بين شيئين، فلو لم يكن هناك إلاّ شيءٌ واحدٌ، فلا ربط في البين وحيث لا ربط فلا مربوط.
                        وربَّما يحذف المتعلَّق عند وجود قرينة على الحذف، كما في قولك "زيدٌ في الدار" أي مستقرٌّ.
                        ولكن هذا الأمر لا يتأتَّى في البسملة، فعندما يقال "بسم الله الرحمن الرحيم" فمن الطبيعي أن يُسأل :
                        بإسم الله ماذا ؟ في الجواب قال الكثير من المفسرين :
                        باسم الله أستعين، وهذا رغم شهرته لا دليل عليه، فلقائل أن يقول باسم الله أتوكَّل أو أستغفر أو...، فكلُّ تلك الأفعال تفتقر إلى قرينة غير موجودة، فما هو الحلّ إذاً؟
                        إرتباط البسملة بالسورة
                        مادام أنَّ البسملة مرتبطة بالسورة فلماذا نلتجأ إلى خارج السورة للبحث على متعلق، فبالإمكان حصول المتعلَّق من نفس السورة وهو المتعيَّن.
                        أقـول:
                        إنَّ المتعلَّق للجار والمجرور في البسملة هو ما يأتي بعدها، وفي سورة الفاتحة هو "الحمد لله".
                        فيكون المعنى هكذا :
                        إنَّ جنس الحمد أي كلُّه لله تعالى، ذلك لأنَّه لا يتحقق حمدٌ إلاّ باسمه تعالى فمادام الحامد هو اسم الله والمحمود هو اسم الله، فالحمد لله، يكون بإسم الله.
                        وهذا لا يختص بسورة الفاتحة بل هو جارٍ في جميع السور، فبإسم الله الرحمن الرحيم إقرأ، وباسم الله الرحمن الرحيم قُلْ وهكذا، وان كانت دائرة الإسم في كلِّ سورة غير دائرته في سورة أخرى، كما أنَّ أوسع دائرة ونطاق لإسم الله هو نطاق الإسم الموجود في بسملة سورة الفاتحة، وذلك لسعة إطار الحمد لأنَّه لله ربِّ العالمين.
                        نعـم :
                        إنَّ سورة التوبة لا تبتدأ بإسم الله حيث البرائة والنفي وهي تعني الابتعاد والتنفُّر والانزجار، ولا يكون ذلك باسم الله، فالعدم الصرف والشرّ المحض لا يكون مظهراً من مظاهر الله تعالى، فهو جلَّ شأنه وتبارك اسمه وجودٌ مطلقٌ وخيرٌ محضٌ وكمالٌ صرف.
                        أهمية نقطة الباء
                        فمادام أنَّ الرابط بين اسم الله الرحمن الرحيم الراجع إلى الحق وبين الحمد لله رب العالمين الراجع إلى الخلق إنَّما هو الباء، فبطبيعة الحال أوَّلُ مظهَرٍ من مظاهر الله تعالى وأوَّل تجلِّي من تجلياته الذي هو أعلى مستوى من الخلق لتقدِّمه على الخلق، هو الباء وقد ورد:
                        ((بالباء ظهر الوجود وبالنقطة يتميز العابد عن المعبود))
                        ولا يخفى أنَّ النقطة هي الباء، لأنها تتميَّز بنقطتها الموحَّدة عن المثناة أي التاء والمثلَّثة أي الثاء، فبهذه النقطة قد تميَّز العابد عن المعبود وذلك باعتبار أنَّ أوَّل ما ظهر هو الباء، وهي المشيئة التي شرحناها سابقاً.
                        وقال علي عليه السلام :
                        ((أنا النقطة)) (بحار الأنوار ج40 ص156 الرواية 54 باب93)
                        وقد ورد في الزيارة الجامعة :
                        ((بكم فتح الله )) (بحار الأنوار ج101 ص153 الرواية3 باب18)
                        و قال تعالى :
                        {السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أوَّلئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (الواقعة/10-12)
                        ((وعن الصادق عليه السلام فى قوله تعالى والسابقون السابقون أوَّلئك المقربون قال: نحن السابقون...)) (بحار الأنوار ج24 ص4 روايه11 باب23)
                        القـلم
                        قال الإمام قدِّس سرُّه :
                        ((وفي بعض خطب أمير المؤمنين ومولى الموحدين سيدنا ومولانا علي بن أبي طالب صلوات اللّه وسلامه عليه: "أنا اللوح وأنا القلم، أنا العرش، أنا الكرسي، أنا السموات السبع، أنا نقطة باء بسم اللّه وهو سلام اللّه عليه بحسب مقام الروحانية يتحدُّ مع النبي صلى اللّه عليه وآله، كما قال صلى اللّه عليه وآله أنا وعلي من شجرة واحدة وقال: أنا وعليٌّ من نور واحد إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على اتحاد نورهما عليهما السلام وعلى آلهما)) (شرح دعاء السحر ص87)
                        أقـول وفي تفسير على بن إبراهيم :
                        ((عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أوَّل ما خلق الله القلم، فقال له اكتبْ، فكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة)) (بحار الأنوار ج57 ص366 روايه1 باب4).
                        وفي حديث آخر :
                        ((عن محمد العطار عن ابن أبان عن ابن أورمة عن النوفلى عن على بن داود اليعقوبى عن الحسن بن مقاتل عمن سمع زرارة يقول: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن بدء النسل من آدم على نبينا وآله وعليه السلام ...إن الله عز و جل أمر القلم فجرى على اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى يوم القيامة، قبل خلق آدم بألفي عام، وإنَّ كتب الله كلها فيما جرى فيه القلم)) (بحار الأنوار ج11 ص223 روايه2 باب5)
                        فنتسائل : ماذا يقصد بالقلم؟ و لم سمِّي بهذا الإسم؟ وما هو دور القلم؟
                        في الجواب نقول :
                        إنَّ دور القلم هو إظهار ما في الضمير على صفحة الورق، فالإنسان عندما يأخذ قلماً فهو إنَّما يظهرُ ما هو مكنون ومكتوب على صفحة نفسه وباطنه، ويكتب به على صحيفة حسِّية شهودية وهي الورق، فالقلم إذاً واسطة بين ما في الضمير "أعني الغيب" وبين الشهود، ووسيلة لظهور الفيض ونشره على الصحيفة الظاهرة، ومن هنا أُطلق القلم على أوَّل ما خُلق، لأنَّه تعالى كتب به بيديه الجلالية والجماليَّة، فالقلم واسطة بين الخالق والمخلوق.
                        والجدير بالذكر ما ورد في الحديث التالي عن ابن عبّاس قال :
                        ((إن أوَّل ما خلق الله من شيءٍ القلم، فأمره ان يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامه والكتاب عنده ثم قرأ: "وإنَّه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم")) (بحار الأنوار ج11 ص223 روايه2 باب5)
                        وفي كنز العمال عن الحسن بن أبى الحسن الديلمى بإسناده :
                        ((عن أبي عبد الله عليه السلام وقد سأله سائل عن قول الله عزّ وجلّ: وإنَّه في أمّ الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم، قال: هو أمير المؤمنين))(بحار الأنوار ج 23 ص 210 روايه 16 باب11)
                        وفي دعاء الغدير المنقول في التهذيب و المصباح :
                        (( فاشهدْ يا إلهى إن الإمام الهادي المرشد الرشيد علي بن أبي طالب عليه السلام أمير المؤمنين الذي ذكرتَه فى كتابك فقلت: وإنّه فى أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)) (بحار الأنوار ج 98 ص 304 روايه 2 باب4)
                        وعلى ضوء ما قلنا يمكنك الجمع بين الأحاديث المختلفة في هذا المجال ففي الحديث الذي يتحدَّث عن أسئلة الشامي من أمير المؤمنين عليه السلام، قال الشامي:
                        ((أخبرني عن أوَّل ما خلق الله تبارك وتعالى فقال: النور)) (بحار الأنوار ج 1 ص 96 روايه 2 باب2)
                        كما أنَّ هناك حديثاً آخر روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال:
                        ((أوَّل ما خلق الله نورى)) (بحار الأنوار ج 1 ص 97 روايه 7 باب2)
                        وهو صلى الله عليه وآله العقلُ الأوَّل الذي قد وردت أحاديث كثيرة في شأنه وأنَّ:
                        ((أوَّل ما خلق الله العقل)) (بحار الأنوار ج 1 ص 97 روايه 8 باب2)
                        الإمـام المبـين
                        من هنا يمكنك معرفة الآية المباركة التالية:
                        {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين}(يس 12)
                        فالإنسان الكامل يشتمل على كلِّ شيء وكل حادثة، وعليه نعتقد أنَّ أئمتنا عليهم السلام يعلمون ما كان وما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإذا عرف الإنسان خليفة الله فقد عرف الله، وذلك لأن خليفة الله هو باب معرفتة تعالى، وكل صفة من صفاته تجلٍ ومظهرٌ لصفة من صفات الله تعالى، فعلمه مظهر لعلم الله، وقدرته مظهر لقدرته، وحلمه مظهر لحلمه، ولطفه مظهر للطفه وهكذا سائر صفاته، وأفُقُه نفس أفق القرآن الكريم، فهو القرآن الناطق المشتمل على كلِّ شيء كما أنَّ القرآن الذي بين الدفتين في المصحف الشريف هو الكتاب الصامت الذي يقول عنه تعالى:
                        {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام/59)
                        ومن هنا قال تعالى :
                        {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
                        و في الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم :
                        ((من عرف نفسه فقد عرف ربه )) (بحار الأنوار ج2 ص32 روايه22 باب9)
                        وقد ذكر صدر المتألهين (قدِّس سرُّه) احتمالات أربعة لهذا الحديث ومن جملتها :
                        من عرف الانسان الكامل وهو النبّي الأكرم محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم فقد عرف ربَّه، إذ أنَّ الإنسان الكامل هو المثل الأعلى لله سبحانه وتعالى، فبمعرفته يعرف الإنسان ربَّه ، ولئِن كان النظر إلى سائر المخلوقات يوصل الإنسان إلى الربّ، فإنَّما يتعرَّف على ربِّها، لا ربِّ الناس، وبين الأمرين بونٌ بعيد، فلاحظْ دعاء الجوشن الكبير العظيم الشأن الذي رواه جماعة من متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم)، وهو من الأدعية المعروفة المروية عن الإمام السجاد زين العابدين عن أبيه عن جدِّه علي بن أبي طالب عن النبي الأكرم صلوات الله عليهم أجمعين:
                        ((يا رب النبيين والأبرار، يا رب الصدِّيقين والأخيار، يا ربّ الجنة والنار، يا ربّ الصغار والكبار، يا ربّ الحبوب والثمار، يا ربّ الأنهار والأشجار، يا ربّ الصحاري والقفار، يا رب البراري والبحار، يا ربّ الليل والنهار، يا ربّ الإعلان والإسرار)) (بحار الأنوار ج94 ص391 روايه3 باب52).
                        ثمَّ قارِنْ بينه وبين قوله تعالى :
                        {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس* مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس/6:1)
                        ومن هذا المنطلق يمكنك معرفة الحديث القدسي الذي يقول :
                        ((كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لكي أعرف)) (بحار الأنوار ج78 ص199 الرواية6 الباب12)
                        فكل من يتكلَّم فهو يحب أن يُظهر ما ضميره ويشتاق إلى إعلانه، فمنشأ التكلّم هو العشق، والقرآن الكريم هو إظهار للغيب المطلق الذي هو الكنز المخفي، وفي الحديث:
                        ((إنَّ الله تعالى تجلَّى في كتابه و لكن لا تبصرون))
                        ومن هنا صار النظر إلى الكتاب الإلهي كالنظر إلى الله سبحانه وتعالى، فكذلك الإنسان الكامل أعني الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم كالقرآن الكريم بالنظر إليه يعرف الله سبحانه وتعالى.
                        قال صدر المتألهين رضوان الله تعالى عليه :
                        ((قال تعالى: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" والمراد منها نفوس الكمَّل من الأنبياء والمرسلين، لأنَّ نفسَ كلِّ واحدٍ منهم كلمة تامة نازلة من عند رب العالمين "كتاب مرقوم يشهده المقرَّبون" مشتملٌ على آيات الملك والملكوت وأسرار قدرة الله والجبروت، ثم اصطفى من بينهم كلمةً جامعةً "أوتيت جوامع الكلم"، وأرسل إلينا رسولاً كريماً، ونوراً مبيناً، وقراناً حكيماً، وصراطاً مستقيماً، وتنزيلاً من العزيز الرحيم، فجعل نسخة وجوده نجاةَ الخلق من عذاب الجحيم، وكتابَه خلاصاً من ظلمات الشياطين، والقرآنَ النازل معه براءة العبد من سلاسل تعلُّقات النفس ووساوس إبليس اللعين)) (الحكمة المتعالية ج7 ص20)
                        ثمَّ يختم كلامه (ره) في الموعظة الحسنة نذكرها إتماماً للفائدة:
                        ((فاعرفه أيُّها السالك إلى الله‍! حتى تعرف ربَّك، قال تعالى : "من يطع الرسول فقد أطاع الله" وقال الرسول : "من رآني فقد رأى الحق" فصحِّحْ يا مسكين نسبتك إليه لأ انَّه الأصل في الوجود، والمؤمنون بالله واليوم الآخر تابعون له في المقام المحمود، والمؤمن من صحَّتْ له نسبة التابعية، كمرآةٍ وقعت فى محاذاة مرآةٍ حاذت الشمس فيتحدَّ معه فى النور "ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور" فافهم هذا)) (الحكمة المتعالية ج7 ص21)
                        و الحمد لله ربِّ العالمين و صلى الله على أفضل بريته محمد وآله الطاهرين الهداة المهديين و اللعن على مبغضيهم و منكري فضائلهم أجمعين.

                        تعليق


                        • (5)
                          مـرآةُ ولايـة الله

                          أسـماء الله جلّ جلاله
                          إن الله سبحانه وتعالى تجلّى بأسمائه وصفاته في الخلق كما تجلى بألوهيته في القرآن الكريم، حيث أنّ القرآن هو الجامع لجميع صفاته الكمالية وأسمائه الحسنى وفيه تبيان لكلّ شيء.
                          وكلما كانت الأسماء نابعة عن الذات، كان للتجليات والمظاهر الدوام والبقاء لأنَّ الله هو الباقي قال تعالى:
                          (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ)(الرحمن/26،27).
                          وقال تعالى:
                          (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(القصص/88).
                          ومن ناحية أخرى اسم الأعظم هو "الله" سبحانه وتعالى وهو الكلمة العليا المشتملة على رموزٍ وأسرار من ناحيتين، لفظيَّة ومعنويَّة، فمن البعد اللفظي هي كلمة دالَّة على تلك الذات المنزَّهة من جميع العيوب، والمتحلِّية بجميع المحاسن، والجدير بالذكر أنَّها باقية على ما عليها من المعنى مهما نقصت منها الحروف، فلو كانت كاملة فهي "الله".
                          قال تعالى:
                          (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)(البقرة/255).
                          ولو أخذت الألف منها صارت "لله" قال تعالى:
                          (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض)(آل عمران/189)
                          ولو نقصت الألف واللام الأولى صارت "له" قال تعالى:
                          (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(البقرة/116)
                          وفي صورة ما لو نقصت الألف واللاّمان صارت "هـ" أو "هو" قال تعالى:
                          (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(البقرة/37)
                          وقال جلَّ وعلا:
                          (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)(الإخلاص/1).
                          فلاحظ السرّ المكنون في هذا الإسم، فهو يدلّ على نفس المسمّى في جميع الحالات وكافة الاحتمالات.
                          وأما سائر الأسماء سواء أسماء الذات منها أو أسماء الفعل، كالملك والقدوس والسلام والمؤمن والمهيمن والعزيز والجبار والمتكبر والخالق والباريء والمصور وكالشافي والوافي والمعافي والغفور والرحيم فلكلُّ واحدة منها شأن ومنزلة رغم أنَّها جميعاً نابعة عن تلك الذات ومظاهر ذلك الواحد الأحد ولذلك نشاهد جملة
                          (هُوَ اللَّهُ)
                          في موارد ثلاثة قبل ذكر الصفات في قوله تعالى:
                          (هُوَ الله الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَــوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم)(الحشر24:22).
                          وكذلك في سائر الصفات كرِّرت كلمة "الله".
                          سورة التوحيد:
                          وعلم الأسماء من أهم العلوم وأعمقها، ومن خلاله يصل العارف إلى علومٍ لا حدَّ ولا حصر لها، فالكلام عن أسمائه تعالى بالتفصيل يتطلَّب بحثاً مستقلاً لسنا بصدد بيانه في هذا المختصر، فنقتصر بالحديث التالي المنقول في الكافي للمحدِّث الكليني رضوان الله تعالى عليه:
                          ((علي بن إبراهيم عن أبيه عن النضر بن سويد عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن أسماء الله واشتقاقها، الله مما هو مشتق قال: فقال لي: يا هشام: الله مشتق من إله والإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمَّى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد، أ فهمت يا هشام؟ قال: فقلت: زدني قال إن لله تسعة وتسعين اسماً، فلو كان الاسم هو المسمَّى لكان كلّ اسم منها إلهاً، ولكن الله معنىً يدل عليه بهذه الأسماء، وكلُّها غيره، يا هشام: الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم للمحرق أ فهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتخذين مع الله جلَّ وعزّ غيره قلت: نعم قال: فقال: نفعك الله به وثبتك يا هشام، قال هشام فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا))(الكافي ج1 ص87 روايه2).

                          الولـيّ إسم شامل
                          الولـيّ هو اسمٌ من أسماء الله الشامل لجميع الأزمنة، والمحيط على جميع الموجودات، وقد وصف الله نفسه بالولي في آيات كثيرة قال تعالى:
                          (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(آل عمران/68).
                          (وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(البقرة/286).
                          (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ)(التوبة/51).
                          (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(الأنفال/40).
                          بخلاف كلمة الرسول فهي ليست من أسماء الله، بل عندما يبعث سبحانه رسولاً إلى أمّة من الأمم، فحينئذٍ يتصف ذلك الشخص المرسَل بهذه الصفة. فالرسالة ليست من مظاهره سبحانه، تلك المظاهر التّي لها الاستمرارية والأبديّة.
                          ومن هذا المنطلق اختُتمت الرسالة دون الولاية، فهي أبدية، ولها الاستمرارية والبقاء.
                          ومن هذا المنظار تكون الولاية أعظم من الرسالة والنبوّة، وأشمل منهما، وبطبيعة الحال هي أفضل، وإنّما صار الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم هو الأفضل من سائر الأنبياء والأولياء فلأنَّه تحلَّى بكلا المقامين، فهو صلى الله عليه وآله وليٌّ مطلق ثمَّ رسول خاتم.

                          الولايـة والحكم لله
                          الولاية بالأصالة إنّما هي لله تعالى، حيث أنه هو الخالق الموجد للكون بإرادته الأزلية:
                          (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(يس/82)
                          ومن هذا المنطلق صارت الولاية لله:
                          (هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ...)(الكهف/44)
                          والحكم لله:
                          (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ)(الأنعام/57).
                          (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)(المائدة/47)
                          والعزَّة لله جميعاً:
                          (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)(فاطر/10)
                          وكل من يريد أن يتولى الآخرين لا بدَّ وأن يكتسب الشرعية منه تعالى، وإلا فلا اعتبار لولايته أصلا ، وحيث لا ولاية، فلا قدرة ولا قوة ولا عزَّة.
                          ولايـة الأنبـياء
                          هناك عدد خاص من الأنبياء قد اكتسبوا الولاية من الله عزَّ وجلَّ، وذلك في إطار خاص حسب مرتبة النبي لاختلاف مراتبهم:
                          (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ...)(البقرة/253).

                          داود عليه السلام خليفة الله
                          إنَّ الله سبحانه يخاطب داود النبي بقوله:
                          (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)(ص/26)
                          فكان هو نبياً لأنَّ الله خاطبه قبل أن يتحلَّى بمنصب الخلافة الإلهيّة، فلم يؤذن له أن يحكم بين الناس إلاّ بعد وصوله إلى هذه المرتبة، ومن هنا نشاهد أنّه سبحانه يُفرِّع الحكم على الخلافة بقوله:
                          (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)

                          إمامة إبراهيم عليه السلام
                          قال تعالى:
                          (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين)(البقرة/124).
                          ولم تكن هذه الابتلاءات هينة، بل كانت شاقة للغاية، فبعد إتمامها أصبحت نفس إبراهيم مهيأة لقبول تلك المرتبة السامية، أعني الإمامة والولاية.
                          إبراهيم محطم الأصنام
                          ولأهمية هذا الامتحان ينبغي لنا أن نتحدّث عنه شيئاً فنقول:
                          بعد أن أتى إبراهيم الخليل ربَّه بقلب سليم وفطرة صافية سأل قومه مستغرباً ومتعجباً:
                          (مَاذَا تَعْبُدُون)(الصافات/85).
                          وهذا النوع من الاستغراب أمر طبيعي، حيث أنَّ الشرك هو أمر غريب عن فطرة الإنسان وهو إفك وبهتان، ومن هنا قال:
                          (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُون فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(الصافات/86،87).

                          فكيف يواجههم ليُقنعهم؟‍‍!
                          لا توجد طريقة غير ترك الحوار والنقاش معهم فالحلّ الصحيح الإلهي يتطلب أن يخلّى ونفسه وأن يواجه بنفسه هذا الإفك المبين:
                          (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ)(الصافات/88،89).
                          فلا أقدر الخروج معكم والمشاركة في عيدكم، وربما استدلَّ بالنظر في النجوم على وقت حمى كانت تعتريه فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ وأراد من ذلك أنَّه قد حضر وقت السقم وقرب نوبة العلَّة، فكأنه قال إني سأسقم لا محالة وحان الوقت الذي يعتريني فيه الحمى، وقد يسمى المشارف للشيء باسم الداخل فيه، قال الله تعالى:
                          (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)(الزمر/30)
                          وشاهد ذلك أنَّ القوم كانوا يعتمدون على النجوم كثيراً، فقد ورد في شأنه:
                          (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ)(الأنعام/79:75).
                          فهو عليه السلام انطلق من نفس ما يعتقدونه ليجرُّهم إلى التوحيد (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) وخلَّفوه في المدينة وحيداً فاغتنم هذه الفرصة الذهبية (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ) وذلك بالغيظ والسخرية (فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ) وأراد منهم أن يأكلوا تلك الأطعمة والثمار التِّي عرضت عليهم من قِبل الجهلة، وجعلت أمامهم في أيام العيد (مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُون) وهاهنا يأتي دور الحركة والفعل بدلاً من القول (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِين فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي يسرعون الخطى، فجعل يصرخ في وجه هؤلاء المشركين ويخاطبهم ببيان فصيح لا غبار عليه (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) وهل يكون المصنوع المنحوت خالقاً ليكون ربًّا؟ (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) فكل وجودكم حتَّى أعمالكم التَّي هي من عوارض وجودكم ومن شؤونه مخلوقة لله تعالى (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) فهم عزموا على قتل إبراهيم ومحوه من البسيطة بالمرّة ليجعلوه من الأسفلين (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأسْفَلِينَ).

                          هذا بداية ما امتحن به إبراهيم عليه السلام، وهكذا استمرّت الامتحانات، و كان من أعظمها القرار الحاسم لذبح إسماعيل ابنه الذي كان عطاء الله له في الكبَر استجابة لدعائه، ثمَّ الهجرة إلى وادٍ غير ذي زرع ، وبناء البيت حيث يقول:
                          (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(إبراهيم/37).
                          فبعد نجاحه عليه السلام وإتمامه لجميع تلك الكلمات قال تعالى مخاطبا له:
                          (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين)(البقرة/124).
                          وفي حديث الكافي:
                          ((محمد بن سنان عن زيد الشحام قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنَّ الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عليه السلام عبداً قبل أن يتَّخذه نبيّاً، وإن الله اتخذه نبيّاً قبل أن يتَّخذه رسولا، وإن الله اتَّخذه رسولا قبل أن يتَّخذه خليلاً، وإن الله اتَّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء، قال: إنّي جاعلك للناس إماماً. قال عليه السلام: فمن عِظمها في عين إبراهيم قال: ومن ذرِّيتي! قال: لا ينال عهدي الظالمين)) (بحار الأنوار ج12 ص 12 رواية36 باب1).

                          عصمة الإمام
                          فكلّ من يصدر منه ذنب صغيراً كان أو كبيراً فهو ظالم لنفسه، هذا في غير الإمام أما لو كان إماماً فهو ظالم لنفسه ولغيره ممن يأتمّ به، بالإضافة إلى أنّ الأمّة سوف تفقد حينئذٍ الاطمئنان به، فلا يمكن أن يصدر من الإمام ذلك، لأن فيه نقضاً للغرض الذي من أجله نُصب الإمام، وهو محال في حقه تعالى.
                          وأيضاً لا يمكن أن يتصور صدور الذنب منه حتى في الخفاء، لأن الذنب ينقص من شأن الإنسان ويورث حزازة فيه، فلا تكون فيه الأرضية لتقبّل الوحي أو الإلهام أو الكرامة، فالإمامة ليست هي إلاّ انعكاس صفات الله الجمالية والجلالية في مرآة قلب الإنسان الكامل.
                          وكذلك بالنسبة إلى الأفعال الأخرى التي لم تصل إلى مرحلة الذنب فالميزان فيها هو الاطمئنان، فكلُّ أمر يوجب سلب اطمئنان الناس عنه فمن المحال صدوره من المعصوم، وأمّا ما لا يؤدِّي إلى سلب الاطمئنان فلا مانع من إتيانه، وإن كان ظاهره عملاً لا يُرغب فيه، وعلى ضوء ذلك صارت درجات الأنبياء متفاوتة.

                          محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليّ ورسول
                          وأمّا ولاية نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله فهي الولاية العظمى على جميع الخلق آدم فمن دونه حيث أنّ:
                          (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(الاحزاب/6).
                          فمادام هو ولياً على أنفس الناس، فولايته صلى الله عليه وآله على أموالهم وسائر شؤونهم بطريق أولى، قال تعالى:
                          (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا)(الاحزاب/36).
                          أنظر إلى شدَّة التعبير في الآية الكريمة، فلا خيرة للمؤمنين في قبال قضائه صلى الله عليه وآله وسلَّم، وعصيانه هو عصيان الله وهو الضلال المبين.
                          وقال:
                          (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(النساء/65).
                          وفي هذه الآية ثلاث مراحل مترتِّبة:
                          1 أن يكون الرسول هو الحَكم لا غيره.
                          2 أن يتقبَّل المؤمن بكلّ ما حَكم به الرسول من صميم قلبه وعمق ذاته.
                          3 أن يُسلّم أمره إلى الرسول ولا يتخطى عن أمره مثقال ذرّة.

                          وقال تعالى:
                          (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)(النساء/59)

                          عليٌّ عليه السلام هو الولي
                          مضافاً إلى النفس القدسية والصفاء المنقطع النظير، والأرضية المميّزة الكامنة في شخصيَّة أمير المؤمنين عليه السلام التّي تفضِّله على جميع الأنبياء والأوصياء ما عدا خاتمهم.
                          وهناك أدلّة نقلية كثيرة من الكتاب والسنة تثبت صحة ما نذهب إليه، فآية الولاية والإطاعة والبلاغ والسؤال ومئات من الآيات، وأيضاً حديث المنزلة والسفينة ومئات من الأحاديث هي من أعظم الأدلَّة على أنّه هو الوليّ المطلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله، ولوضوح دلالتها ومضمونها لم نتطرق إليها هاهنا، إلاّ أننا نحاول أن نتوسَّع شيئاً ما في خصوص حديث الغدير وبعض من الآيات التي نزلت في شأن تلك الواقعة العظيمة، وقد أفردنا له عنواناً خاصاً وهو النعيم الإلهي.
                          كتبه الشيخ إبراهيم الأنصاري
                          www.al-kawthar.com

                          تعليق


                          • (8)
                            المطهَّرون عنـد الله

                            في بداية الحديث ينبغي لنا أن نذكر نص الآيات المباركة الواردة قبل آية التطهير وبعدها ، وأيضاً عدداً من مئات الأحاديث الواردة في هذا المجال.
                            وأماّ الآيات:
                            { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا ، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا }(الأحزاب/ 28-34)
                            فآية التطهير هي من أهم الآيات الدالّة على الطهارة المطلقة والشاملة لأهل البيت عليهم السلام قال تعالى :
                            {إِنّـَمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْـسَ أَهْـلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }(الأحزاب/33).
                            نحن لا نريد أن نذكر ما تحدَّث عنه الآخرون حول هذه الآية ، ولكن نحاول أن نتطرّق إلى جوانب أخرى في هذه الآية المباركة أو بالأحرى في مقطع منها :
                            فقبل الغور في الحديث لا بأس بأن نشير إشارة خاطفة إلى بعض شئون هذه الآية فنقول:
                            شأن نزولها:
                            وقد وردت في شأن نزول هذه الآية روايات كثيرة تزيد على السبعين ، وما ورد منها من طرق أهل السنة أكثر مما ورد منها من طرقنا ، فقد أخرجوها بطرق كثيرة عن أم سلمة و عائشة و أبي سعيد الخدري و سعد و وائلة بن الأسقع و أبي الحمراء و ابن عباس و ثوبان مولى النبي و عبد الله بن جعفر و علي و الحسن بن علي عليهما السلام ، في قرابة من أربعين طريقاً.
                            و روتها الشيعة عن علي و السجاد و الباقر و الصادق و الرضا عليهم السلام و أيضاً أم سلمة و أبي ذر و أبي ليلى و أبي الأسود الدؤلي و عمرو بن ميمون الأودي و سعد بن أبي و قاص في بضع و ثلاثين طريقاً.
                            وإليك نصّ إحدى تلك الأحاديث الواردة عن طريقنا :
                            { أبو عمرو عن ابن عقدة عن أحمد بن يحيى عن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معين مولى أم سلمه عن أم سلمه زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إنها قالت : نزلت هذه الآية في بيتها إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا ، أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أن أرسل إلى علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام فلما أتوه اعتنق علياً بيمينه و الحسنَ بشماله و الحسينَ على بطنه و فاطمة عند رجليه ثم قال اللهم هؤلاء أهلي و عثرتي فاذهب عنهم الرجس و طهِّرهم تطهيراً ، قالها ثلاث مرات قلت: فأنا يا رسول الله فقال :إنَّك على خير إن شاء الله }(بحار الأنوار ج 35 ص 208 رواية 7 باب 5)
                            { و روي أبو سعيد الخدري قال : لمّا نزلت هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يأتي باب فاطمة و علي تسعة أشهر وقت كلّ صلاة فيقول : الصلاة يرحمكم الله إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس و يطهِّركم تطهيراً.. }(بحار الأنوار ج 25 ص 212 باب 7)
                            و في كنز العمال :
                            { محمد بن العباس عن احمد بن محمد بن سعيد عن الحسن بن على بن بزيع عن إسماعيل بن بشار الهاشمي عن قتيبة بن محمد الأعشى عن هاشم بن البريد عن زيد بن عليٍّ عن أبيه عن جدِّه عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله في بيت أمّ سلمه فأتى بحريرة فدعا علياً و فاطمة و الحسن والحسين عليه السلام فأكلوا منها ، ثم جلَّل عليهم كساءً خيبرياً ، ثم قال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيراً . فقالت أم سلمه و أنا معهم يا رسول الله ؟ قال : أنت إلى خير }(بحار الأنوار ج 25 ص 213 رواية 3 باب 7)
                            { عن ابن عيسى عن ابن فضال عن أبي جميلة عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عزّ و جل "ربّ اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمناً " يعني الولاية ، من دخل في الولاية دخل في بيت الأنبياء . و قوله "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيراً "يعنى الأئمة عليه السلام و ولايتهم ، من دخل فيها دخل في بيت النبي صلى الله عليه وآله}(بحار الأنوار ج 23 ص 330 رواية 12 باب 19)
                            قال العلاّمة الطباطبائي أعلى الله مقامه:
                            ((فإن قيل: إن الروايات إنما تدلُّ على شمول الآية لعلي و فاطمة والحسنين عليهم السلام و لا ينافي ذلك شمولها لأزواج النبي كما يفيده وقوع الآية في سياق خطابهن . قلنا: إن كثيراً من هذه الروايات و خاصّة ما روي عن أم سلمة - وفي بيتها نزلت الآية - تصرح باختصاصها بهم و عدم شمولها لأزواج النبي))
                            ثمّ قال :
                            ((فإن قيل: هذا مدفوع بنص الكتاب على شمولها لهن ، كوقوع الآية في سياق خطابهن . قلنا: إنما الشأن كلّ الشأن في اتصال الآية بما قبلها من الآيات فهذه الأحاديث على كثرتها البالغة ناصَّة في نزول الآية وحدها ، و لم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه الآية في ضمن آيات نساء النبي ، ولا ذكره أحد حتّى القائل باختصاص الآية بأزواج النبي كما ينسب إلى عكرمة و عروة ، فالآية لم تكن بحسب النزول جزء اً من آيات نساء النبي ولا متَّصلة بها و إنما وضعت بينها إمّا بأمرٍ من النبي أو عند التأليف بعد الرحلة ، و يؤيده أن آية {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}(الأحزاب/33) على انسجامها و اتصالها لو قدِّر ارتفاع آية التطهير من بين جُملها . فموقع آية التطهير من آية و قرن في بيوتكن كموقع آية اليوم يئس الذين كفروا من آية محرمات الأكل من سورة المائدة )).
                            أقول:
                            إنّ آية التطهير هي جزء من آية 33 من سورة الأحزاب وهي:
                            { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }(الأحزاب/33)
                            وهذا الأمر لا يفرق بين ما إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد أمر بوضعها بينها ، أو أنزلت كذلك وهو الأرجح.
                            فهناك ارتباط بين صدر الآية وذيلها لولاه لما ظهرت عظمة الآية (أعني آية التطهير) ، والارتباط لا ينحصر بالصدر مع الذيل فحسب، بل يبدأ من قوله تعالى :
                            {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ}(الأحزاب/59).
                            إلى أن ينتهي بقوله تعالى:
                            { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا}(الأحزاب/36).
                            ولإثبات هذا المدعى لابدّ من الحديث حول أحد المعاجز العظيمة القرآنيَّة:
                            فأقول:
                            إن الملاحظ في المجتمع وعلى مستوى القادة أو الشخصيات المطاعة، و الخطباء و الدعاة و الوعّاظ ، أنهَّم يتَّبعون أساليب تربوية مختلفةً تستهدف الوصول إلى مقاصد معيّنة ، وهذه الطرق غالباً ما تكون مباشرة بمعنى الأمر والنهي المباشر ، وربما يذكرون نماذجَ من قصص طريفةً أو أمثلة تمثّل شواهد على المدّعى .
                            وهذا النمط من البيان وإن كانت له إيجابيّاته شيئاً ما ، إلاّ أن سلبياته مضاعفةٌ وذلك لأنه يواجه الإنسان نفسَه مباشرةً ، والأغلبُ الأعمُّ من الناس أياً كان له تعلقٌ شديد وارتباط وثيق بنفسه ، و يصعب عليه تقبّل النصيحة من الآخرين .
                            والإسلام بدوره ، المدرسةٌ المستقلةُ والمتكاملة في كافة جوانبه قد اتَّبع أساليب مميَّزة في مجال الإرشاد والتبليغ ، وهنا لسنا بصدد الحديث عن تلك الأساليب سواء من زاوية الإسلام أو المدارس الأخرى(قد كتبنا في هذا المجال كتاباً سميناه معالم التبليغ) ، بل نريد بيان أحدِ الجوانب التربوية المميَّزة في القرآن الكريم الذي هو في الحقيقة أعظم معجزة من معاجزه ، ذلك لأنه يتعلق بأبرز غاية من غاياته ، ألا وهي الهداية (هدىً للمتقين ، هدىً للناس) التي هي موضوع هذا الكتاب السماوي والأساس لجميع أبحاثه .
                            فجميع توجيهات القرآن تنظر في هداية البشرية بأسلوب وآخر ، فجميع القصص والأمثال و... تنصبُّ في مجرى واحد وهي الهداية، بطريقه لا مثيل لها .
                            فالقرآن نراه يُربط قضيّةً بأخرى بحيث يتصور الإنسان أنه لا علاقة بينهما والحال أنّ العلاقة بينهما وثيقة إلى أبعد ممّا يتصوَّر .
                            فالإنسان يشرع في تلاوة قصة قرآنية فلا يري نفسه إلاّ وقد انغمر في وادي التربية والهداية وهذا الأمر غير منحصر بنوع واحد بل يشتمل على أنواعٍ شتّى لا تُعدّ ولا تحصى ، تفتقر إلى دراسة تفصيليّة ليس هنا محلّها . ولغرض توضيح ما نحن بصدده نذكر أمثلة ثلاثة:
                            المثال الأوّل :
                            قال تعالى في حديثه عن شئون الحياة الدنيوية :
                            {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(النحل/8)
                            فالأمر وإن كان يرتبط بالوسائل المادية التي يقصد بها السبيل ولكنَّه تعالى بأدنى مناسبة يقول :
                            { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}(النحل/9)
                            ومن الواضح أن السبيل هاهنا إشارة إلى السبيل المعنوي و الهداية النفسانية ، وهذا كقوله تعالى :
                            { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }(الأعراف/ 26)

                            المثال الثاني:
                            عند حكاية حالة إبراهيم مع قومه قال سبحانه :
                            {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ، وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ ، وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}(الشعراء/69-91)
                            وأنت تلاحظ أنّ بداية الحديث كان حول قضيّة خارجية تتعلّق بمواجهة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه، وقد استخدم إبراهيم الحكمة في هذا المجال، ولكن القوم توسّلوا في الجواب بأمرٍ موهوم. ثمّ إنه بدأ بمخاطبتهم ثانية بنحو آخر وذلك بتعريف ربّه سبحانه وتعالى، وفي هذه المرّة انقلب الخطاب إلى دعاء، وهكذا استمرّ إلى أن وصل إلى مستوىً آخر وهو التوجّه إلى الآخرة، وفي النهاية تمحّض الحديث في بيان وتوصيف الجنّة والنار.
                            المثال الثالث:
                            قال تعالى في بيان المستفسرين عن عدد أصحاب الكهف:
                            {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ، وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ، وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}(الكهف/22-25).
                            والحديث عن أصحاب الكهف حديثٌ جميل وشيِّق للغاية، خصوصاً في المرحلة الأخيرة من القصّة وهي مرحلة الاستنتاج، فالقارئ للقرآن الكريم وهو منغمر في القصّة بطبيعته يريد أن يعرف عدد أصحاب الكهف هل هم ثلاثة، أو خمسة، أو سبعة؟ لا يرى نفسه إلاّ وقد دخلَ في عالمٍ آخر يختلف تمامًا عن عالمه الأوَّل وهو عالم المعنى وتهذيب النفس، حيث يرشده ربّه بأن لا يقول لشيء إنّي فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله، هذا والحال أنَّ القصّة لم تنتهِ بعدُ بل هي مستمرّة. فالارتباط الموجود بين تلك القضيّة الأخلاقيّة وهذه القصّة ليس من نوع الارتباط المباشر، بل هو ارتباط غير مباشر يتعلَّق بالجانب الهدائي للقرآن الكريم، ومن الطبيعي أنّ هذا النمط من الطرح للمسائل الأخلاقيّة يكون أشد وقعاً في النفوس.
                            الإعلام الحديث
                            إنّ الملاحظ اليوم على مستوى الإعلام الحديث سيما النمط الغربي منه أنّه من خلال الأفلام المهيّجة وفي وتحديداً في المواقع الحسّاسة منها تُدرج مشاهد خاصة لا علاقة لها بالذي سبقها أصلاً، ولكنَّ لم تُعرض إلا لأجل أن يتأثَّر المشاهد بها حال انشغاله و انشداده بأمرٍ آخرَ انقادت إليه نفسُه، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك الإنشداد على ما أدرج مهما كان ذلك الشيء. فقد تبيَّن أنَّ هناك علاقة بين القضيتين ولو لم تكن بنحو مباشر، وربّما يكون الغرض المهم من العرض إنّما هو ذلك الأمر الطارئ ليس إلاّ وجميع الأمور المحيطة به مع كثرتها ما هي إلا ملابسات وتغطيات.
                            وهذا الأمر يسري في عرض الأخبار، فيا ترى ما هي العلاقة بين عرض الأخبار وبين الدعاية التّي تبثّ من خلالها؟‍‍‍ وهكذا الأمر بالنسبة إلى الإعلانات المنصوبة في ميادين الألعاب بل على صدور اللاعبين.
                            وهذا النوع من الإعلام له آثاره العظيمة سلبيّة كانت أو إيجابيّة لأنّ طبيعة النفس الإنسانيّة عندما تواجه حادثة ما، لا يمكن أن تنطبع فيها تلك الحادثة وحدها فحسب بل سوف ينطبع كلّ أمر له أقل المساس بتلك الحادثة وهذا الأمر هو الذي يسمّى "بتداعي المعاني" وهو من أهم المسائل المبيّنة في علم النفس .

                            الإنترنت والإعلام
                            وفي السنوات الأخيرة نلاحظ أنَّ شبكة الإنترنت قد ارتبطت بأكثر دول العالم عن طريق الحاسب الآلي، فنحن نلاحظ فيها هذا الأسلوب من الإعلام بشكل واضح، فالمستخدم الذي يريد البحث عن موضوع (البترول) مثلاً نراه يواجه مواضيع أخرى غير مقصودة بالذات، بل لم يكن يتصوَّر الورود فيها، فيرى نفسه ومن غير شعور وقعَ في عالم السيّارات وقرأ إعلاناً عنها وبمجرَّد أن ينتهي من القراءة أو في ضمنها، يواجه موضوعاً آخر متعلِّقا بأحد البرامج للحاسب الآلي وهكذا يخوض في مجالات متنوِّعة من غير قصدٍ وإرادة، بل ربَّما يكون المحور لجميع تلك القضايا أمرٌ واحدٌ هو المقصود بالذات للمشرفين على الشبكة. و غالباً ما يكون أمر سلبي يُستهدف منه انحراف المجتمع عن الله وإشغاله بأمور الدنيا لأجل استعماره ونهب ثرواته.
                            استغلال المناسبات
                            وأبرز من هذا النمط من الإعلام وألطف منه هو الاستفادة من المناسبات البسيطة لعرض ما هو الأهم كما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أنّه سُئل عن الخاتم قال:
                            (( العقيق فلا تعقّوا الوالدين ))
                            فما هي المناسبة بين العقيق الذي هو نوعٌ من الحجر و بين عقوق الوالدين الذي هو من المفاهيم الأخلاقية؟
                            الجواب:
                            أنَّه ليس بينهما أيُّة مناسبة من ناحية معنوية أصلا، إلاّ أن هناك تشابه لفظي قد استغله الرسول ليضرب على الوتر الحسّاس وينبِّه السائل إلى خطورة عقوق الوالدين، فانظر إلى لطافة الأسلوب لتعرف أن الإنسان الهادي يكون جميع كلامه منصباً في الهداية.
                            وهذه الظاهرة الجميلة كثيراً ما نشاهدها في كلمات المعصومين عليهم السلام خصوصا عندما يسأل عن حالهم "كيف أصبحت" أو "كيف أمسيت" والجواب الطبيعي لهذا السؤال هو بخير و الحمد لله ولكننا نشاهد أئمتنا لا يكتفون بذلك بل يستفيدون من السؤال لطرح مفاهيم أخرى أخلاقية أو اجتماعية أو غيرها ونحن في هذا البحث نذكر أمثلة مختصرة من مئات النماذج الموجودة في مصادرنا الروائية فنقول:
                            قيل لعيسى بن مريم عليه السلام كيف أصبحت يا روح الله قال أصبحت وربِّي تبارك وتعالى من فوقي والنار أمامي والموت في طلبي لا املك ما أرجو ولا أطيق دفع ما اكره فأيُّ فقير أفقر منِّي} (بحار الأنوار ج14 ص322 رواية 32 باب 21). { عن ابن عباس قال قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم كيف أصبحت قال بخير من قوم لم يشهدوا جنازة و لم يعودوا مريضا}(بحار الأنوار ج16 ص288 رواية 145 باب9). { دخلت أم سلمه على فاطمة عليها السلام فقالت لها كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلَّم” قالت أصبحت بين كمد و كرب فقد النبي و ظلم الوصي هتك و الله حجابه}(بحار الأنوار ج43 ص156 رواية 5 باب7). {قيل لفاطمة عليها السلام كيف أصبحت يا ابنة المصطفى قالت أصبحت عائفة لدنياكم قاليه لرجالكم لفظتهم بعد إن عجمتهم فأنا بين جهدو كرب}(بحار الأنوار ج76 ص15 رواية2 باب99). { وقال المنهال للإمام زين العابدين عليه السلام كيف أمسيت يا بن رسول الله قال أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءهم و يستحيون نساءهم }(بحار الأنوار ج45 ص143 رواية1 باب39).
                            وأمّا القرآن الكريم:
                            فقد أعجز البشرية في هذا الأمر، فمن المستحيل أن يُبيّن حوادث أو قضايا متسلسلة من غير أن تكون هناك علاقة وثيقة بينها، ولكن الشأن كلّ الشأن فهم تلك العلاقة أو العلاقات، وهذا ما يفتقر إلى الدقة والتأمّل ولا يصل إلى ذلك إلاّ من كان ذا حظ عظيم، رزقنا الله تعالى ذلك.
                            فمن الضروري لمن أراد أن يغور في عمق القرآن أن يلاحظ تسلسل الآيات من بعدها الهدائي بعين البصيرة كي يمكنه ربط المواضيع المختلفة بعضها ببعض.
                            النبـــــــي ينبأ و يحذِر!
                            بعد تقديم هذه المقدَّمة سوف نبدأ في بيان السرّ في وجود آية التطهير في ضمن آيات نساء النبي فنقول:
                            إنَّ هناك ارتباط بين نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وبين أهل البيت عليهم السلام:
                            فهناك مواجهة ستقع بين أم المؤمنين وبين من يمثّل أهل البيت أعني عليّاً عليه السلام، وهناك خروج من البيت بل من المدينة إلى البصرة على ولي أمر زمانها أمير المؤمنين عليه السلام وذلك لأجل القضاء على حكومته طبقاً لخطّة مركّزة بقيادتها ومعاضدة طلحة وزبير وجماعة آخرين من أهل النفاق، وهي فتنة مظلّة قد جرّت كثيراً من المسلمين السُذّج نحو الانحراف ولأهميتها وخطورتها نشاهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يخبر عنها ويحذّر عائشة من الوقوع فيها.(بحار الأنوار ج43 ص156 رواية 5 باب7)
                            ((ففي الحديث من كتاب الخرائج روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال : ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب فتنبحها كلاب الحوأب وروي أنه لما أقبلت عائشة مياه بنى عامر ليلاً نبحتها كلاب الحوأب فقالت : ما هذا الماء قالوا الحوأب قالت ما أظنني إلاّ راجعه ردوني إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لنا ذات يوم كيف بإحداكن إذا نبح عليها كلاب الحوأب))(بحار الأنوار ج18 ص113 رواية18 باب11).
                            ((الحسن بن محمد معنعنا عن أبي الطفيل- رضى الله عنه. قال: سمعت أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام- يقول:علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وعائشة بنت أبي بكر أن أصحاب الجمل وأصحاب النهران ملعونون على لسان النبي صلى الله عليه وآل ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط))(بحار الأنوار ج32 ص127 رواية104 باب1).
                            والجدير بالذكر ما ورد في حديث طويل بالنسبة إلى يوم الغدير:
                            ((...وأمر علياً عليه السلام أن يجلس فى خيمة له بإزائه... ثمَّ أمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه ويسلِّمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن...))(بحار الأنوار ج21 ص386 رواية 10 باب36)

                            القرآن يــــخبر عن الواقعة
                            والآن قد حان وقت الدخول في صلب الحديث أعني العلاقة بين آيات نساء النبي وآية التطهير فنقول:
                            أنّ الآية تبدأ بقوله تعالى:
                            {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى}(الأحزاب/33)
                            فالآية تخاطب نساء النبيّ وتريد منهنّ أن يقرن في بيوتهن ولا يخرجن من البيت في أي ظرفٍ من الظروف وليس القرّ بمعنى البقاء في البيت لأنّ هذا شأن كلّ امرأة ولا يختص بنساء النبي بل إنّما المراد الثبات المستمرّ كما تدلّ عليه الكلمة ، قال الإصفهاني في مفرداته:
                            ((قرّ في مكانه يقرّ قراراً، إذا ثبت ثبوتاً جامداً، وأصله من القُرّ وهو البرد، وهو يقتضي السكون، والحرّ يقتضي الحركة))
                            وقد فهمت أم سلمة ذلك حيث تخاطب عائشة:
                            (( الاختصاص... عن عبد الحكم القتيبي عن أبي كبسة ويزيد بن رومان قالا لما اجتمعت عائشة على الخروج إلى البصرة أتت أم سلمة رضى الله عنها وكانت بمكة فقالت يا ابنة أبي أميه كنت كبيرة أمهات المؤمنين و كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقمؤ في بيتك وكان يقسم لنا في بيتك ...إنك سده بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وبين أمته وحجابه مضروبة على حرمه وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه وسكنى عقيراك فلا تضحى فلا تفضحي بها الله من وراء هذه الأمة...إلى آخر الحديث ))(بحار الأنوار ج32 ص162 رواية 128 باب2).
                            ولتأكيد ذلك اتبعتها قوله تعالى ولا تبرجن وبالنسبة إلى هذه الكلمة أيضاً يقول صاحب المفرداتتبرّجت المرأة: ظهرت من برجها أي قصرها)
                            وهذا شأن من يتزوّجها النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لأنّها ليست كأحد من النساء في جوانب عديدة وذلك حيث أنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلَّم. لم يكن كأحدٍ من الرجال فهو رسول الله وخاتم النبيين، وما دام قد خضعت زوجة النبي لشروطه فلا بدّ لها من تحمّل جميع العواقب لها كما أنّه بإمكانها أن تكتسب جوانب روحيّة كبيرة من خلال معاشرتها مع النبي إن كان فيها الأرضية والشأنية كما كانت في خديجة الكبرى عليها السلام وفي غير هذه الصور فالأفضل لها أن تنفصل عن النبي فقد صرح الله تعالى بذلك
                            وقال:
                            {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً}(الأحزاب/28) .

                            وهذا شأن كلّ من تُحمَّل على عاتقه مسئوليّة الأمّة فتصرفاته وحالاته وارتباطاته ومعاملته مع الناس كلها تتّخذ صبغةً مميّزة وتتقيّد بقيودٍ وكلّ واحد أو شيءٍ له علاقة ما بتلك الشخصيّة يُتوقع منه نفس التوقُّعات المطلوبة من القائد.
                            هذا:
                            وكيف بالرسول الذي هو الأسوة الحسنة لجميع الأمّة بل لجميع المجتمعات على مرّ التاريخ فالأنظار كلّها متوجّهة إليه وكلّ حركاته وسكناته مترصّدة من قبل المجتمع عامّة والأعداء خاصة، وهذا الأمر يسرى بالنسبة إلى أزواجه أيضاً فهنّ لسن كأحدٍ من النساء. والجدير بالذكر أنّ الله سبحانه عندمّا يخاطب نبيّه بقوله: يا أيهّا النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الله....يقول: يا نساء النبي لستنّ.. ولا يخاطبهنّ الله بصورةٍ مباشرة بل يريد من نبيّه أن يخاطبهنَّ والمفروض أن يقول صلي الله عليه وآله مخاطباً لنسائه (يا نسائي)أو(يا أزواجي).
                            ولكنّه صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول يا نساء النبي وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على ما ذكرنا من أنّ الأمر يرجع إلى النبي كنبيٍّ وأزواجه كأزواج للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم. والحاصل أنّ هذه النصيحة بل هذا الأمر الواجب وهو(الاستقرار والجلوس الدائم في البيت) لم يُوجَّه إلى نساء النبي من غير دليل بل مضافاً إلى أنّ هذا الأمر ربّما كان مكراً إلهيّاً في قبال الماكرين الذين كانوا بصدد استغلال نساء النبي (خصوصاً اثنتان منهما) كذريعة للوصول إلى نواياهم وتوجيه أعمالهم، مضافاً على هذا، هناك أمرٌ أهمّ من ذلك سيقع في المستقبل وهو خروج أحد زوجات النبي أعني عائشة من البيت وهي تقود عسكراً لأجل محاربة وليّ أمر زمانها!
                            فكما أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم قد أنبأ عنها مشيراً إلى كلاب الجواب فالقرآن الكريم أيضاً أشار إلى خروجها وحذّرها كلّ التحذير وأتمّ الحجّة عليها بقوله
                            {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى}(الأحزاب/33).
                            والإخبار بالغيب -والغيب غير مختصّ بحوادث كونية (كزلزلة الساعة) أو عسكرية (كغلبة الروم) بل تشمل حالات فرديّة مصيريّة- أمرٌ متداولٌ في القرآن الكريم.
                            فنحن لو تأملنا في القرآن لاكتشفنا إنباءات غيبيّة كثيرة:
                            منها: ما تتعلّق بمتعة الحجّ:
                            {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
                            الْعِقَابِ}(الأحزاب/33).
                            فالآية تتعلق بحكم من الأحكام الفرعيّة المتعلقّة بالحج ولا علاقة لها بالعقيدة أصلاً ولكننا نشاهد أنّها تذيّلت بذيلٍ خطير وهو التنبيه على تقوى الله والتذكّر بعذاب الله الشديد، فيا ترى ما هي العلاقة بين الصدر والذيل؟ أقول:
                            ليست هناك علاقة من ناحيةٍ تركيبيّة بينهما أصلاً بل العلاقة المتواجدة من نمطٍ آخر ترجع إلى الجانب الهدائي للقرآن الكريم الذي شرحناه فيما مضى شرحاً وافياً ، فهناك من سوف يرقى منبر رسول الله في إمارته فينهى عن نوعين من المتعة ويعاقب عليهما!! وهما:
                            متعة النساء ومتعة الحج. وهذا تهديد مُسبق يستهدف الوقوف دون تلك الفتوى المخالفة للكتاب و في نفس الوقت إتماماً للحجّة ولئلا يكون للناس على الله حجّة.
                            والجدير بالذكر أنّ نفس الأسلوب قد ورد في آية الفيء وهو من الأمور التّي أنكرها مخالفون، قال تعالى:
                            {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}(الحشر/7).

                            ولنرجعْ إلى الحديث حول آية التطهير:
                            نساء النبي والتقرب إلى الله
                            فلربمّا يتوجّه هاهنا نوع من الاعتراض بالنسبة إلى نساء النبيّ ومسئوليّتهن قبال الله وكيفيّة تقربهنّ فلم يغفل القرآن عن هذا الأمر بل ركّز على ثلاث نماذج من العبادات يمكن الاكتفاء بها لشموليّتها ،ينبغي لنساء النبي ممارستها وهنّ مستقرات في بيوتهن:
                            1-ما تتركّز على نموّ الروح وكمال الفرد وهي: إقامة الصلوة:
                            {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ}(الأحزاب/33)
                            2-ما تشتمل على جانبين - فردي واجتماعي - مختلفين وهي: إيتاؤهنّ الزكاة {وَآتِينَ الزَّكَاةَ}(الأحزاب/33).
                            3-ما لها الشموليّة التامّة و تمثّل جميع العبادات وهي الإطاعة
                            {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(الأحزاب/33).
                            نساء النبي وأهل البيت:
                            وهاهنا سؤال يطرح نفسه وهو:
                            بمّا أنّ أهل البيت أيضاً لهم تعلّق برسول الله بل تعلّقهم أشدّ من غيرهم فمن المفروض أن تشملهم جميع الأحكام التّي فرضت على نساء النبيّ، فكيف بخروج الحوراء فاطمة عليها السلام على أبي بكر... فلأجل أن يندفع هذا التوهّم ولأجل أن يُميّز هؤلاء عليهم السلام عن غيرهم ولأجل أن تُثبت أحقّيتهم وبطلان معارضيهم وأعدائهم عند دوران الأمر بينهم وبين غيرهم لئلاّ تقع الأمّة في ورطة الشبهة والخلاف .. لأجل ذلك كلّه قال سبحانه مباشرةً:
                            {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب/33)
                            فهم على أيّ حال مطهّرون من الرجس بنحو مطلق قليلة وكثيرة مادّي ومعنويّ. فظهر الارتباط السياقيّ والتلاحم الهدائي بين صدر الآية وذيلها ويا لها من مُعجزة عظيمة لا يصل إليها إلاّ من له حظّ وافر في معرفة أساليب التربيّة وعلم النفس.
                            البيت لا بيوتكن !!
                            ومن الواضح أنّ كلمة (أهل البيت) هاهنا بنحو العطف لم يأت إلاّ لأجل أنْ يفرّق سبحانه بين من يعيش في بيت محدود بذلك الإطار المادي أعني الطين و الحجر والخشب وبين من هو نور في الأصلاب الشامخة والأنوار المطهّرة وإنّما نزل إلى هذه البيوت لهداية البشرية إلى الله .. فإذاً كم من فرق كبير بين البيت وبيوتكن، فأهل البيت هم أهل بيت النبوة والرسالة والوحي والرحمة والكرامة والعصمة وهم الذين قال تعالى في شأنهم
                            { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ، رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}(النور/ 36-37)

                            والتنكير هاهنا يدل على العظمة، وهناك رواية تؤكّد هذا الأمر إليك نصّها:
                            {عن عمر بن الخطاب عنه صلى الله عليه وآله : فاطمة وعلي والحسن والحسين في حظيرة القدس في قبة بيضاء سقفها عرش الرحمن عز وجلّ }(بحار الأنوار ج 43 ص 76 رواية 63 باب 3) ولا يخفى اللطفَ الكامن في توسيط البيت لبيوتكن في قوله تعالى: وقرن في بيوتكن...أهل البيت ...ما يتلى في بيوتكنّ.
                            فلا يمكن لأحدٍ أن يختلج في ذهنه أنّ البيت هو بيوتهن إلاّ المعاند المكابر وهو ليس من مخاطَبينا نحن .
                            وسدّ الأبواب إلاّ بابه
                            ومن الطبيعي أن لا يسدّ رسول الله باب هذا البيت لأنّه ليس من بيوت الدنيا و لا يترتب عليه أحكام تلك البيوت[1].
                            { تفسير الإمام روى عليه السلام عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث سد الأبواب أنه قال: لا ينبغي لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر يبيت في هذا المسجد جنبا إلاّ محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام والمنتجبون من آلهم الطيبون من أولادهم}(بحار الأنوار ج 81 ص 62 رواية 37 باب 3)

                            الحصر بإنّما !!
                            ولا يخفى أيضاً في هذا الحصر من الإشارة إلى الوقوف في قبال كلّ من يريد أن يتجاوز هذا الحدّ ومنهم نساء النبي فالآية تقول بأنّ الإذهاب من الرجس بمعنى الكلمة والتطهير الكامل الموصل إلى العبودية المطلقة لله تعالى غير متوفر في أحدٍ مهما بلغ من المرتبة غير أهل البيت وقسم من الأنبياء
                            {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}(البقرة/253)
                            وأمّا سائر الناس فيقول عنهم تبارك وتعالى
                            {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(يوسف/106)
                            فكيف بهذا المقام السامي الذي وصلوا إليه.

                            وفي زيارة الجامعة الكبيرة:
                            {موالي لا أحصي ثناءكم ولا أبلغ من المدح كنهكم ومن الوصف قدركم وأنتم نور الأخيار وهداة الأبرار وحجج الجبار}
                            الضمير المذكّر " كُمْ " !
                            ينقل العلاّمّة المجلسي كلمةً عن الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه إليك نصّه:
                            {لا خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم وجمع المؤنث بالنون أن الفصل بينهما بهاتين العلامتين ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة المؤنث على المذكر ولا وضع علامة المذكر على المؤنث ولا استعملوا ذلك في الحقيقة ولا المجاز ولما وجدنا الله سبحانه قد بدا في هذه الآية بخطاب النساء وأورد علامة جمعهن من النون في خطابهن فقال: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض إلى قوله وأطعن الله ورسوله ثم عدل بالكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر فقال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فلما جاء بالميم وأسقط النون علمنا أنه لم يتوجه هذا القول إلى المذكور الأول بما بيناه من أصل العربية وحقيقتها ثم رجع بعد ذلك إلى الأزواج فقال واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إنَّ الله كان لطيفاً خبيراً فدل بذلك على أفراد من ذكرناه من آل محمد عليهم السلام بما علقه عليهم من حكم الطهارة الموجبة للعصمة و جليل الفضيلة و ليس يمكنكم معشر المخالفين أن تدعوا أنه كان في الأزواج مذكوراً رجل غير النساء أو ذكر ليس برجل فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذ كان في الجمع ذكر إذا لم يمكن ادعاء ذلك و بطل أن يتوجه إلى الأزواج فلا غير لهن توجهت إليه إلاّ من ذكرناه ممن جاء فيه الأثر على ما بيناه}(بحار الأنوار ج 10 ص 426 رواية 9 باب 26)

                            أقول: إنّ قضيّة نساء النبي تبدأ من قوله تعالى
                            {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ}(الأحزاب/28)
                            والأمور الراجعة إليهن سواء بصريح العبارة أو بضمير الغائب أو المخاطب تبلغ ثمانيةَ وعشرين مورداً ، ستّةٌ وعشرون منها قبل آية التطهير واثنان بعدها.
                            الإرادة التكوينيّة لا التشريعية:
                            من المعلوم أنّ الله إذا أراد شيئاً فمجرد تعلّق الإرادة بذلك الشيء يساوي تحقّقه ووقوعه من دون أي فاصلٍ في البين، وأراد الله ليذهب الرجس عن أهل البيت وقد تحقّق ذلك وهذا لا يتناسب مع التعبيرات الواردة بالنسبة إلى نساء النبي حيث اشتمالها على النصيحة .
                            والتحريض وأحياناً التهديد كما في قوله تعالى:
                            { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}(الأحزاب/30)

                            وهذه الإرادة هي الإرادة التكوينيّة في قبال الإرادة التشريعيّة كقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(البقرة/ 185)
                            ولو كانت الإرادة هاهنا تعني التشريعيّةَ منها و كان المراد من الرجس هي الأمور التّي مرت قبل هذه الآية فلا معنى إذاً لحصرها بنساء النبي. فالحصر لا يتلاءم إلاّ مع العصمة بمستواها الرفيع المنحصرة بهم عليهم السلام فالله هو الذي طهّرهم تطهيراً حيث سقاهم ربّهم شراباً طهوراً.
                            ماذا كان يتلى في بيوتهنّ:
                            ولم ينتهِ الحديث عن نساء النبي بعدُ بل هناك أمر آخر يجب التوجّه إليه وهو
                            {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}(الأحزاب/34)
                            فما هي الآيات التّي كانت تُتلى عليهن وما هي الحكمة، القدر المتيقنّ هي آية التطهير التّي جاءت قبل هذه الآية وقد كان يتلوها رسول الله في بيوتهنّ حيث أنّ بيوتهنّ كانت متصلةً ببيت فاطمة ، ولعلّ الرسول كان قاصداً إسماعهنّ للآيات عندما كان يتلو آية التطهير كما مرّ الحديث الدال على ذلك وقد أشار الحديث إلى نقاطٍ يمكن الاعتماد عليها كدليل لإثبات المدّعى وهي:
                            { في رواية أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يأتي باب فاطمة و على تسعة أشهر وقت كل صلاة فيقول الصلاة يرحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس و يطهركم تطهيراً}(بحار الأنوار ج 25 ص 212 باب 7).
                            فلم يكن رسول الله يدخل البيت بل كان يقف أمام الباب سواء الباب الذي كان ينتهي إلى بيت نسائه أو الباب الذي كان ينفتح على المسجد ومن الطبيعي أنّ الناس كانوا يسمعون كلامه عليه السلام ونساء النبي كنّ يسمعن ذلك بطريق أولى ، خصوصاً أنّ هذا الأمر كان مستمرّاً طوال تسعة أشهر في كلّ يوم وقت الصلوة . وقد كان صلى الله عليه وآله وسلَّم يريد أن يبيّن منزلتهم عليهم السلام كما دلّ عليه الحديث الصادر عن الإمام الباقر عليه السلام .
                            اللطيف الخبير
                            ثمّ لماذا تذيّلت الآية الأخيرة بهاتين الصفتين ؟!
                            الظاهر أنّ التأكيد على اللطيف خاصّة لأجل أنّ بيان تلك الآيات مع ما فيها من النصائح والمواعظ وآية التطهير نابعٌ من مصدر اللطف الإلهي بنساء النبي فربّما يتفاعلن مع الجانبين : الجانب الراجع إلى أنفسهنّ والجانب الراجع إلى أهل البيت عليهم السلام .
                            وأمّا بيان الخبير فلربّما هو إشارة لما سيحدث من المشاكل والمنازعات بينهنّ وبين النبيّ وأيضاً بينهنّ وأهل البيت ، خاصّة ما سيحدث في المستقبل من الحرب بين إحدى النساء وبين أمير المؤمنين عليه السلام .

                            المطهرّون هم مفسرو مكنون القرآن:
                            وختاماً ينبغي لنا أن نشير إلى مسألة أخرى كحسن الختام وهي:
                            في سورة الواقعة { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ، لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ }(الواقعة/ 77-79)
                            وهاهنا قد حصر سبحانه المطهّرين بتفسير القرآن الكريم الذي هو في كتاب مكنون. ولو جمعنا هذه الآية مع آية التطهير لوصلنا إلى النتيجة التاليّة وهي: إنّ مسّ الكتاب المكنون من شئون المطهرين ليس إلاّ .
                            جعلنا الله من المتمسكين بهم والسائرين على نهجهم والمهتدين بهداهم إنّه وليّ المؤمنين والحمد لله ربّ العالمين .
                            وقد أكملت هذا البحث في يوم الأربعاء 14 جمادي الثانية 1416
                            كتبه الشيخ إبراهيم الأنصاري
                            www.al-kawthar.com

                            تعليق


                            • (6)
                              النّعيـم الإلهـي

                              إنَّ حديث الغدير، متواتر بين العامّة والخاصة قد نُقل بأسانيد كثيرة جداً حتَّى صارت واقعة الغدير كبعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم من ناحية الأهمِّية والوضوح. وقد ورد الحديث في أكثر كتب العامَّة (راجع برنامج موسوعة الحديث الشريف في الحاسب الآلي1991-1995 عند البحث في من كنت مولاه) ، نكتفي بما يلي:
                              في مسند الإمام أحمد بن حنبل:
                              ((حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: كنّا مع رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم في سفر، فنزلنا بغدير خمٍ فنودي فينا الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين، فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضي الله تعالى عنه فقال: ألستم تعلمون أنِّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه، قالوا: بلى، قال: فأخذ بيد عليٍّ، فقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه: قال: فلقيه عمر بعد ذلك، فقال: هنيئًا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة))(مسند أحمد بن حنبل الحديث17749).
                              وفي سنن ابن ماجة:
                              ((عن سعد بن أبى وقاص قال: قدم معاوية في بعض حجّاته فدخل عليه سعد، فذكروا عليا فنال منه، فغضب سعد وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من كنت مولاه فعلي مولاه" وسمعته يقول: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى". وسمعته يقول : "لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله"))(سنن ابن ماجة جلد:1 ص45).
                              وفي سنن الترمذي بإسناده:
                              ((عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن، فقال: كأنِّي قد دعيت فأجبت إنِّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله تعالى وعترتي فانظروا كيف تخلِّفوني فيهما فإنَّهما لن يتفرقا حتّى يردا عليَّ الحوض. ثمَّ قال: إن الله عز وجل مولايَّ وأنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد علي رضى الله عنه فقال من كنت مولاه فهذا وليُّه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه))(مستدرك الحاكم جلد:3 ص109).
                              وذكر الحديث بطوله.
                              ولم يقتصر صدور هذا النصّ من الرسول في غدير خم، بل صدر منه في مواقع عديدة نكتفي بواحدٍ منها من طرق غيرنا.
                              ففي مستدرك الحاكم:
                              ((حدّثنا الفضل بن دكين حدّثنا ابن أبي غنيّة عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن بريدة قال: غزوت مع عليّ اليمن، فرأيت منه جفوة، فلمّا قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكرت عليّا فتنقّصته فرأيت وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتغيّر، فقال: يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قلت: بلى يا رسول اللّه، قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه))(مسند أحمد الحديث رقم21867).

                              ثم إن الخطيب البغدادي قال في تاريخه:
                              أنبأنا عبدالله بن محمد بن بشران، أنبأنا علي بن عمر الحافظ، حدثنا أبو نصر حبشون بن موسى الخلال، حدثنا علي بن سعيد الرملي، حدثنا ضمرة بن ربيعة القرشي، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة ، قال:
                              ((من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خم، لما أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فأنزل الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم)).
                              وقال: أخبرنيه الأزهري، حدثنا محمد بن عبد الله بن أخي ميمي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن أحمد بن العباس بن سالم بن مهران المعروف بابن النيري -إملاء- حدثنا علي بن سعيد الشامي، حدثنا ضمرة بن ربيعة القرشي، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة، وذكر الخبر مثل ما تقدم أو نحوه. وأخرجه الحافظ ابن عساكر بطريقه إلى أبي بكر الخطيب، وأخرجه بالإسناد عن أبي بكر الخطيب ابن الجوزي في العلل الواهية، حيث قال: أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت...الخ.(العلل الواهية ج1 ص226 ح356). والحافظ الحسكاني في شواهد التنزيل والعاصمي في زين الفتى والمرشد بالله الشجري في الأمالي من طريقين والخطيب الخوارزمي في مناقبه والحافظ الجويني في فرائد السمطين والحافظ ابن المغازلي في المناقب، والحافظ أبو الحسين عبد الوهاب الكلابي المعروف بابن أخي تبوك في مسنده، والبلاذري في أنساب الأشراف والحافظ ابن عدي الجرجاني في كامله، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب، والحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الأوسط والصغير.
                              وأخرجه الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف قال:
                              حدثنا شريك، عن أبي يزيد الأودي، عن أبيه، قال: دخل أبو هريرة المسجد، فاجتمعنا إليه، فقام إليه شاب، فقال: أنشدك بالله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
                              ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه؟ قال: نعم، فقال له الشاب: أنا منك بريء، أشهد أنك قد عاديت من والاه، وواليت من عاداه. قال فحصبه الناس بالحصا)).
                              وفي الأمالي للمرشد بالله الشجري:
                              (( فقال له الناس(أي للفتى) أسكتْ أسكتْ))
                              وذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة الخبر مع بعض الاختلاف في التعبير.
                              ألسـت بربِّـكم
                              فلنسلط الضوء على واحد من أهم مفردات الحديث وهو قوله صلى الله عليه وآله :
                              ((ألست أولى بكم من أنفسكم))
                              أو ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم))
                              وأنت إذا تأملت فستلاحظ أنَّ لسان هذا المقطع المهم من الحديث يساوق لسان الآية الكريمة التالية:
                              (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)(الأعراف/172).
                              إنَّ الله سبحانه وتعالى ومن منطلق ربوبيته للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم (ربك)، طلب من بني آدم الاعتراف بربوبيته والتسليم له، وأشهدهم على أنفسهم كي لا يُنكروا هذه الحقيقة، ومن الطبيعي أن يقرَّ العبد بالعبودية لربِّه.
                              ومن المعلوم أنَّ الرسول لا ينطق عن الهوى، فكل ما يصدر منه إنَّما هو طبقاً لما يوحى إليه حتى استخدامه للكلمات وأسلوب تكلمه وسياق خطبه ووصاياه.
                              فإنّنا نشاهد نفس المضمون قد صدر منه صلى الله عليه وآله وسلم في الغدير، فبعد أن أخذ الاعتراف والإقرار من الناس بالنسبة إلى نبوَّته وأولويته من أنفسهم، قال: لا بدَّ من قبولكم ولاية عليٍّ عليه السلام الذِّي خلَّفتْه السماء عليكم من بعدي، وكان يؤكِّد على كلمة (اللهم اشهد) إتماماً للحجة وإيضاحاً للمحجَّة.
                              فالقضيَّة إذاً ليست مما يمكن التغاضي عنها وجعلها في طيِّ النسيان، بل هي تتعلَّق بأصل خلق الإنسان وفلسفته الوجوديَّة، حيث أنَّ الوصاية ما هي إلا استمرارٌ للنبوَّة التي هي مظهر حاكميّة الله على الإطلاق.
                              ولو أردنا أن نصل إلى عمق هذه الحادثة فينبغي لنا أن نتأمَّل في الآيات النازلة بشأنها فهي:
                              (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة/67).
                              يا أيَّـها الرسـول
                              إنَّ نبيَّنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلَّم قد نودي في الذكر في تسعة عشر مورداً، وذلك بتعبيرات أربعة، والملاحظ أنَّ الله سبحانه لم يخاطبه باسمه كما خاطب سائر الأنبياء بل في ثلاثة عشر مورداً يخاطبه بقوله: (يا أيها النبي) وفي موردين يخاطبه (يا أيُّها الرسول) وهناك خطابات أخر مثل (يا أيُّها المُزَّمل) (يا أيُّها المدَّثر) وقوله (طه) (يس) على ما في أحاديثنا.
                              فبالنسبة إلى النداءات التِّي تخاطب النبي (يا أيُّها النبيّ) فإنها تتمحَّض في سور "الأنفال والتوبة والأحزاب والممتحنة والتحريم" وتنحصر في أمرين:
                              ألف: ما يتعلق بالجهاد في سبيل الله.
                              ب : الأمور المتعلقة بنساء النبيّ.
                              والجدير بالذكر هو أنَّ الموردين اللذين قد خاطب الله فيهما نبيَّنا بقوله (يا أيُّها الرسول) كليهما متعلقان بالولاية والإمامة.
                              والآيتان في سياق واحد من حيث أنَّ هناك من يحارب الولاية ويقف دون تحقّقها في المجتمع، فالله سبحانه لأجل ذلك يواسي رسولَه ويسليه كي يحقق الهدف السّامي الذي بُعث لأجله.
                              فأمّا قوله سبحانه وتعالى :
                              (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ) (المائدة/67)
                              فهو يتعلَّق بواقعة الغدير المتواترة لدى الفريقين.
                              وأمّا قوله سبحانه
                              { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ }(المائدة/41)
                              فهناك حديث دالٌّ على أنَّها تختصُّ بالولاية ، وهذا نصُّه :
                              ((عن تفسير علي بن إبراهيم القمِّي عن الإصفهاني ، عن المنقري ، عن شريك عن جابر ، قال: قال رجلٌ عند أبي جعفر عليه السلام ، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً و باطنةً ، قال : أمّا النعمة الظاهرة فهي النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم و ما جاء به من معرفة الله عزّ و جلّ و توحيده ، و أمّا النعمة الباطنة ولايتُنا أهل البيت ، و عقد مودتنا فاعتقد والله قوم هذه النعمة الظاهرة و الباطنة ، و اعتقدها قوم ظاهرة ولم يعتقدوها باطنه فأنزل الله ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (المائدة/41) ففرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عند نزولها إذ لم يقبل الله تبارك وتعالى إيمانهم إلاّ بعقد ولايتنا ومحبتنا)) (بحار الأنوار ج42 ص25 رواية7 باب92).
                              ومن الواضح أنَّ الخطاب بقوله(يا أيُّها الرسول ) في الآيتين بدلاً عن سائر الصفات هو دليل على أنَّ الرسالة هي التِّي لها هذا الاقتضاء وأنَّ تبيين الولاية هي أهم أهداف الرسالة .
                              وفي خصوص آية التبليغ قد صرَّح سبحانه بقوله :
                              {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}المائدة 67
                              وأما الرسالة فهي شأن آخر لها جانبان :
                              1-جانب ربوبي .
                              2-جانب خلقي .
                              فربُّ العالمين يربِّي الأمَّة على مرِّ الزمن بواسطة الرسول بما هو رسول و يهديهم تشريعاً وتكويناً أعني الهداية بالأمر الذي مرَّ تفصيلها.
                              وعلماً بأنّه كان خاتم الأنبياء و المرسلين فلو لم يبلِّغ رسالته بتنصيب الإمام لم يتحقَّق الغرض من رسالته، كيف والولاية هي من صميمها.
                              ومن هنا نعرف السرَّ في تعبير القرآن بقوله “لقد منَّ” بصيغة الفعل الماضي الدال على المُضي و الانقضاء ، حيث أنَّ الرسالة قد ختمت به صلوات الله عليه وآله :
                              {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ }(آل عمران 164)
                              وأمّا بالنسبة إلى الإمامة فهي مستمرَّة لا نهاية لها ولا انقضاء إلى يوم القيامة ، حيث أنَّها تتمثَّل في الإنسان الكامل الذّي هو النور الصِرف الذي لا زوال له ولا اضمحلال ، لأنَّه مظهر النور المطلق وهو الله سبحانه وتعالى ولهذا جاء كلمة المنَّة بنحو الفعل المضارع الدال على الاستمرار و الدوام في قوله :
                              {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ}(القصص5)
                              فمن أولويات شئون الرسالة هو تعريف الإمام و تنصيبه للناس ، الذي من خلاله تنزل الفيوضات الإلهيَّة وسوف يبقى الوحي من ربِّ العالمين مستمرّاً.
                              ولهذا نشاهد العلاقة الوثيقة بين الإمامة والرسالة المحمَّدية كما دلت عليها أحاديث كثيرة فالإمام هو :
                              ((سليل الرسالة-معدن الرسالة-موضع الرسالة-مفاض الرسالة-محكم الرسالة-محطّ الرسالة -رواسي الرسالة-أهل بيت الرسالة -فيهم نزلت الرسالة-أحق الخلق- بسلطان الرسالة-مودتهم أجر الرسالة))
                              فيستفاد من الآية الكريمة الأمور التالية:
                              1-إنّ من وظائف الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم هو إبلاغ الوحي الإلهي في جميع جوانبه وزواياه .
                              2-إنَّ هناك رسالة مميَّزة قد أُمر رسول الله بإبلاغها للناس ، وليس المقصود الشريعة بأجمعها لأنَّ لا معنى حينئذٍ لقوله فإن لم تفعل فما بلغت رسالته .
                              3-إنَّ تلك الرسالة الخاصَّة تُضاهي جميع الأمور الأخرى التِّي بيَّنها الرسول خلال حياته بل هي الرسالة بعينها.
                              4-إنَّ تنصيب عليٍّ عليه السلام إماماً للمؤمنين هو الحكم الإلهي النازل على الرسول في ذلك اليوم .
                              5-إنَّ عدم تبيين تلك الرسالة تعني عدم تبليغ الرسالة من الأساس .
                              6-ينبغي للرسول أن يتَّخذ خطَّة عمليَّة من خلالها يتمكَّن من ابلاغ الرسالة الخاصَّة وذلك لمكان قوله تعالى : “فإن لم تفعل”و لهذا لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بالإبلاغ فحسب بل طلبَ من الناس رجالاً و نساءً أن يُبايعوا علياً عملاً وفي الحديث :
                              ((...و أمر علياً عليه السلام أن يجلس فى خيمة له بإزائه ، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنؤه بالمقام و يسلِّموا عليه بإمرة المؤمنين ففعل الناس ذلك كلّهم ، ثمَّ أمر أزواجه و سائر نساء المؤمنين معه ان يدخلن عليه و يسلمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن...))(بحار الأنوار ج 21 ص 386 روايه 10 باب 36)
                              7-كانت هناك مؤامرة تواجه الرسول من قِبَل بعض الناس إزاء تبليغ هذه الرسالة المميَّزة ، فأخبره الله سبحانه بأنَّه هو المتكفِّل للقضاء على هذه المؤامرة الخطيرة حيث يقول “والله يعصمك من الناس”.
                              8-هؤلاء المتآمرون بوقوفهم ضد رسالة الرسول و إنكارهم الولاية جُعلوا في عداد الكفّار بدليل “والله لا يهدي القوم الكافرين” فكلّ من يقف ضدّ الولاية فقد دخل في زمرة الكفّار وابتلي بالعذاب الأليم.
                              لا تقيّةَ بعد نزول الآية:
                              إنَّ الظاهر من الآية المباركة أنّه صلى الله عليه وآله كان يعيش التقيَّة في أمر الولاية قبل نزولها وأمّا بعد نزولها فانتفت التقيَّة ، ويشهد لذلك الحديث التالي :
                              ((الحسين بن أحمد البيهقي عن محمد بن يحيى الصولي عن سهل بن القاسم النوشجاني قال : قال رجل للرضا عليه السلام يا بن رسول الله أنه يروى عن عروة بن زبير أنَّه قال : توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم و هو في تقيةٍ ؟ فقال: أما بعد قول الله عز و جل “يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس” فإنَّه أزال كلَّ تقيةٍ بضمان الله عزَّ و جلَّ له و بيّن أمر الله))(بحار الأنوار ج 16 ص 221 رواية 16 باب 9)
                              ومن اللازم هاهنا أن نجيب على السؤال التالي وهو :
                              ما هو الضرر الذي كان يواجه الأمّة لولا التبليغ ؟ وهل كان رسول الله يحافظ على نفسه كي يخاطبه الله بقوله “والله يعصمك من الناس”؟
                              كيف وهو الذي وهو المخاطب بقوله :
                              {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً}(النساء 84)
                              ويقول أمير المؤمنين عليه السلام :
                              (( كنّا إذا احمر البأس إتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم يكن أحدٌ منّا أقربَ إلى العدوِّ منه))(بحار الأنوار ج 19 ص 191 رواية 44 باب 8).
                              كلُّ ذلك كان قبل فتح مكّة وأمّا بعد الفتح، فقد اتَّسعت قدرة الإسلام وقويت شوكته ، فلا خوف من الناحية العسكرية ، فممَّ كان الخوف؟
                              نقول في الجواب :
                              إنَّ الخوف كان من جانب آخر أهمّ و هو الجانب السياسي ذلك لأنَّ موضوع الولاية كان مهماً و حسّاساً للغاية، حيث يثير الأحقاد القبلية، والضغائن البدرية والخيبرية الكامنة في صدور القوم، وحيث التخطيط الدقيق المركَّز لتصاحب الخلافة بعد الرسول، و التسلُّط على رقاب المسلمين، وهذا هو من أهم المخاطر التي كانت تواجه الإسلام، ولكنَّ القوم فوجئوا بالغدير فيَئسوا من نجاح خطَّتهم الإسلام، كما يشهد بذلك التأرخ وهذا ما يستفاد من الحديث التالي:
                              ((عن المفضَّل بن صالح ، عن بعض أصحابه عن أحدهما عليه السلام أنَّه قال : لما نزلت هذه الآية “إنما وليكم الله و رسوله والذين آمنوا” شقَّ ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وخشي أن يكذَّبه قريش، فأنزل الله “ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية” فقام بذلك يوم غدير خم))(بحار الأنوار ج 35 ص 188 رواية10باب4).

                              أهميَّـة هذا التبـليغ:
                              إنَّ أهمِّية هذا الأمر قد وصل إلى مستوى بحيث ورد في الحديث عن أبي جعفر محمد بن على عليه السلام في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وآله مخاطباً لعليٍّ عليه السلام قال:
                              ((لقد أنزل الله فيك “يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربِّك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته “فلو لم أبلِّغ ما أُمرتُ به لحبط عملي)) (بحار الأنوار ج 36ص139رواية99باب39)

                              ولا يخفى أنَّه من المستحيل أن يخالف الرسول ربَّه في هذا الأمر، ولكن يدلُّ ذلك على الأهميَّة الكبيرة لتبليغ ما أنزِل إليه من ربِّه، وهو تعيين أمير المؤمنين عليه السلام خليفةً على المسلمين .
                              وتأييداً لذلك نذكر حديثاً في هذا المجال :
                              ((على بن إبراهيم عن أبيه عن الحكم بن بهلول عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى “وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ” (الزمر/65)، قال يعنى إن أشركت في الولاية غيره، بل الله فاعبد و كن من الشاكرين يعنى بل الله فاعبد بالطاعة و كن من الشاكرين إن عضدتك بأخيك وابن عمك))(الكافي ج1ص427رواية76).
                              والجدير بالذكر أنَّ سورة محمَّد صلى الله عليه وآله قد بيَّنت بصورة صريحة النتائج السلبيَّة التِّي تترتَّب إنكار الولاية أو كراهتها ، حيث يقول سبحانه وتعالى:
                              {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ...إلى أن قال.. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}(محمد9،26).
                              ونذكر هاهنا حديثاً يتعلَّق بالآية الأولى :
                              ((عن أحمد بن القاسم، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: قوله تعالى: “ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله “ في عليٍّ عليه السلام فأحبط أعمالهم))(بحار الأنوار ج23ص385رواية87باب21)
                              ومن أراد أن يتوسَّع في هذا المجال فليراجع كتاب كنز العمّال.
                              ثمَّ إنَّه ومن خلال هذا البحث سوف نواجه قضيَّة أخرى نجعلها تحت عنوان:
                              ما أُنـزل إليـك
                              عندما التأمُّل في الآية 66 من سورة المائدة التِّي جاء ت قبل آية التبليغ، ينفتح أمامنا زاويةً يمكن من خلالها أن نعرف مدى خطورة أمر الولاية ودورها في حياة المجتمع معنويةً ومادِّيةً حيث يقول سبحانه:
                              {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالآنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ...." (المائدة/66)
                              فهناك ارتباط وثيق بين إقامة ما أنزل من ربِّ العالمين وبين نزول البركات السماوية والأرضيَّة على الأمَّة .
                              ومن هنا نعرف السرّ في استشهاد الصديقة فاطمة عليها السلام بهذه الآية عند بيانها الاعوجاج الذي حدث في الإسلام حيث قالت:
                              وفي الحديث :
                              ((عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: ولو أنَّهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، قال: الولاية))(الكافي ج1ص413رواية6).
                              وفي تفسير قوله تعالى:
                              وأيضاً وردت أحاديث كثيرة في تفسير قوله تعالى:
                              {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}(الجن/16).
                              ((عن أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني،عن موسى بن محمد، عن يونس بن يعقوب، عمن ذكره، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: “وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً “ قال: يعنى لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، والأوصياء من ولده عليهم السلام، وقبلوا طاعتَهم في أمرهم، ونهيهم لأسقيناهم ماءاً غدقاً، يقول: لأشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة هي الإيمان بولاية علي والأوصياء))(الكافي ج8 ص58 رواية19).
                              وفي قبال ذلك نشاهد أنَّ أساس الفساد بدأ من اللحظة التِّي توفّي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم كما في الحديث التالي:
                              ((عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن على بن النعمان، عن ابن مسكان عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، في قوله عزّ و جلّ : “ظَهَرَ الفَسَادَ فِي البرِّ و البَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي الناس” قال: ذاك و الله حين قالت الأنصار منّا أميرٌ ومنكم أميرٌ)) .
                              وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نعرف السرّ في آية إكمال الدين وإتمام النعمة وهي:
                              {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ}(المائدة/3).
                              موقع الآية في المصحف :
                              {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(المائدة/3).
                              والمقطع المتعلِّق بحادثة الغدير غير منسجم مع الآية من ناحية المعنى أصلاً، وهذا لا يعني أنَّه قد وُضع في غير موضعه، حيث أنَّ هناك الكثير من الآيات في القرآن الكريم من هذا القبيل، وسوف نطرَّق إلى هذا الأمر فيما بعد . وخلاصة الأمر ترجع إلى الجانب الفنِّي في القرآن الكريم، حيث أنَّه كتابٌ لهداية الناس بأفضل الأساليب والطرق، وهاهنا نقول:
                              حفاظاً على النصوص الواردة في حقِّهم عليهم السلام لكثرة المؤامرات والخطط ضدّ كلّ أمرٍ يمتًّ إليهم بصلة ، نشاهد أنَّه قد وردت هذه النصوص في مواضعها حين نزول القرآن أو أدرجها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم بأمر الحكيم جلَّ وعلا، ضمن آيات بعيدة كل البعد عن تلك الأمور ، والمتدبِّر في تلك الآيات سوف يعرف المقصود من غير شبهة ، وأمّا الذين في قلوبهم مرض فيغض النظر عن التفكير في إزالتها فيحاول تحريف محتواها بزعم وجود قرائن مقالية محيطة بها كما فعل القوم، ومن تلك الآيات هي آية الغدير التِّي هي مورد بحثنا.
                              وهناك شواهد كثيرة تدلُّ على أنَّ الآية غير متعلِّقة بالمحرَّمات نذكر بعضَها:
                              1-سياق الآية حيث نشاهد أنَّها غير كاملة إلاّ بمجيء المقطع الأخير منها وهي قوله “فمن اضطرّ” ، والدليل على ذلك وجود آيتين متشابهتين أحدهما في سورة البقرة ، والثانية في سورة النحل:
                              {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(البقرة/173).
                              {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النحل/115).
                              وأيضاً الآية الـتالية:
                              {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(الأنعام/145)
                              وهذا دليل على أنّ ذلك المقطع ، قد أُدرج ضمن الآية .
                              2-إنَّ الآية تقول (اليوم يئس الذين كفروا عن دينكم....) ولو كان اليأس لأجل تلك الأحكام الخاصة ، أعني تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها فهي غير مختصَّة بهذا اليوم الذي نُزلت فيه الآية بل تلك الأحكام وردت في آيات أخرى أيضاً ، وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّما يدل على أنَّ يأس الذين كفروا عن الدين إنَّما هو لأجل أمر آخر أهم ( وهو إعلام الولاية وتبليغها بنحو علنيٍّ ).
                              وفي الحديث
                              (( قال أبو عبد الله جعفر الصادق عليه السلام: أنزل الله عز و جلّ على نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم بكراع الغميم “يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي و إن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس” فذكر قيام رسول الله بالولاية بغدير خم قال: ونزل جبرئيل بقول الله عز وجل اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً بعلي أمير المؤمنين في هذا اليوم أكمل لكم معاشر المهاجرين والأنصار دينكم وأتم عليكم نعمته ورضى لكم الإسلام دينا فاسمعوا له وأطيعوا تفوزوا وتغنموا))(بحار الأنوار ج37 ص 137 رواية 26 باب52)
                              قال في النهاية .. كراع الغميم كغراب موضع على ثلاثة أميال من عسفان و ذكره الفيروز آبادى .
                              قال : الراغب الإصفهاني في المفردات :
                              (( كمل: كمال الشيء حصول ما فيه الغرض منه ، فإذا قيل كمل ذلك فمعناه حصل ما هو الغرض منه ))
                              ((تمام : تمام الشيء انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شئ خارج عنه والناقص ما يحتاج إلى شيء خارج عنه... قال تعالى { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ }(الأنعام/115).{ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ }(الصف/8).{ وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} (الأعراف/142)))

                              قال إمام الأمَّة (قدِّس سرُّه):
                              ((كمال الشيء ما به تمامه و انجبر به نقصانه ...فالصورة كمال الهيولى ، والفصل كمال الجنس ، ولهذا عرّفت النفس بأنّها كمال أول لجسم طبيعي آلي، إذ بها كمال الهيولى باعتبار وكمال الجنس باعتبار. ولهذا كانت الولاية العلوية أدامنا اللّه عليها كمال الدين وتمام النعمة، لقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}(المائدة/3) وقال أبو جعفر عليه السلام في ضمن الرواية المفصلة في الكافي: ثم نزلت الولاية. وإنّما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة أنزل اللّه تعالى: {اليومُ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب، انتهى. فسائر العبادات بل العقايد والملكات بمنزلة الهيولى والولاية صورتها وبمنزلة الظاهر وهي باطنها ، ولهذا من مات ولم يكن له إمام فميتته ، ميتة الجاهلية وميتة كفر و نفاق و ضلال ، كما في رواية الكافي ، فإن المادة والهيولى لا وجود لهما إلاّ بالصورة و الفعلية ، بل لا وجود لهما في النشأة الآخرة أصلاً ، فإن الدار الآخرة لهي الحيوان، وهي دار الحصا، والدنيا مزرعة الآخرة.))

                              أهميَّـة الولايـة:
                              في تفسير فرات الكوفي:
                              قال : حدثني جعفر بن محمد الفزاري معنعنا : عن أبي الجارود قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : حين أنزل الله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) قال : فكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام .
                              إن الله سبحانه و تعالى حين خلق الكون بإرادته المطلقة (إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون) أوجد الأشياء فصارت جميع الأشياء فقيرة إليه تعالى في ذاتها و هو الغني المطلق و صار سبحانه حاكما تكوينيا عليها جميعا.. فظهرت أسماؤه الحسنى في الكون. الولاية ليست هي مسألة قلبية فحسب بل هي أمر عملي خارجي له دور مهم في تطبيق سائر الأحكام الإلهية ، و بدونها يبقى الدين له جانبان جانب متعلق بالله و هو الجانب التشريعي و جانب يرجع إلى الناس و هو الجانب التنفيذي فالتشريع مهما كان متقنا و مهما كان مقدسا إلاّ أنه يبقى في عالمه (أعنى عالم التشريع) مادام لم يصل إلى مرحلة العينية والمصداقية، فمن الضروري أن تتنزل الشريعة في المجتمع وتنطبق كي يكون المجتمع مظهرا لاسم الله أعنى الحاكم وحينئذ سوف يتحقق الغرض من التشريع الإلهي وهو حاكمية الله على إرادة الناس الذي يستتبع حاكميته على كل شيء بقي أمر واحد وهو إرادة الإنسان فهي من ناحية تكوينية مظهر من مظاهر ذاته سبحانه حيث أن من أسماء ذاته تعالى (المريد) ولكن لأن طبيعة الإرادة طبيعة مميزة حيث بها يختار الإنسان الخير والشر فأراد الله سبحانه من الإنسان أن يختار الخير ويجتنب عن الشرّ وباختياره هذا يترقى في مدارج الكمال، فشرع الشريعة و بين الأحكام.. فها هنا يأتي دور الإنسان حيث يلزمه تطبيق الشريعة في المجتمع ويأتي دور الإمام حيث ينبغي له الإشراف على تطبيق الشريعة.. فإذاً دور الإمام دور حيوي وهو ركن مهم كالشريعة نفسها بل لو نظرنا إليه من منظاره الخاص صار أهم من ذلك لأنه بدونه لا جدوى للشريعة الإلهية. ومن هنا نعرف عمق ما بيّنه مولانا علي عليه السلام في كلمته حيث قال:
                              وقال عليٌّ عليه السلام (.. ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمه فإن انقطع النظام تفرق و ذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً...)(نهج البلاغة لابن أبي حديد ج9 باب146ص95)
                              فالإسلام يمثِّل المسباح والعبادات كلُّها من الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد وغيرها وكذا المعاملات ليست هي إلاّ كالخَرز لذلك المسباح، ثمَّ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله تمكَّن من تجهيز الخرَز طوال 23 سنة وتثقيبها بأكملها فلم تكمل بعدُ ما دام لم يمرُّ من خلالها الخيط حيث أن قوام المسبح بالخيط والولاية تُمثِّل ذلك الخيط القويّ الذي يجمع شمل العبادات والمعاملات وسائر أبعاد وزوايا الإسلام فبالولاية قد كمُل الإسلام (اليوم أكملت لكم دينكم) بعد أن كان ناقصاً لا فائدة فيه وتمَّت النعمة (وأتممت عليكم نعمتي) بعد أن كانت غير تامَّة حيث كان يُخاف على زوالها بارتحال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.
                              ومن الواضح أنه لا ضمان لبقاء الخرز من غير الخيط (النظام على حدّ تعبير أمير المؤمنين) فلا ضمان لبقاء الصلاة و الصوم و... من غير الولاية ومن هنا نعرف معنى قوله تعالى “اليوم أكملت لكم دينكم...“ حيث أنه بالفعل قد كمل الدين في يوم الغدير و تمت النعمة التي هي الولاية و قد ورد في تفسير قوله تعالى:
                              {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ}(التكاثر/8)

                              (عدةٌ من أصحابنا عن احمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن القاسم بن محمد الجوهري عن الحارث بن حريز عن سدير الصيرفي عن أبي خالد الكابلى قال دخلت على أبي جعفر عليه السلام فدعا بالغداء فأكلت معه طعاما ما أكلت طعاما قط انظف منه ولا أطيب فلما فرغنا من الطعام قال يا أبا خالد كيف رأيت طعامك أو قال طعامنا قلت جعلت فداك ما رأيت أطيب منه ولا أنظف قط و لكنى ذكرت الآية التي في كتاب الله عز وجلّ لتسئلن يومئذ عن النعيم قال أبو جعفر عليه السلام لا إنَّما تسألون عما أنتم عليه من الحق ) (الكافي ج 6 ص 280 رواية 5)

                              وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نصل إلى عُمق الحديث التالي:
                              (عن على بن إبراهيم عن أبيه و عبد الله بن الصلت جميعاً عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال بنى الإسلام على خمسة أشياء على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية قال زرارة فقلت وأيُّ شيءٍ من ذلك أفضل فقال الولاية أفضل لأنَّها مفتاحُهن والوالي هو الدليل عليهن.. ثمَّ قال: قال ذروه الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضى الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته..)(وسائل الشيعة ج1 باب29 ص119 رواية298 وأيضاً ج1 باب1 ص13 رواية2)
                              والولاية هاهنا لا يقصد منها الحب بل هي كالصلوة والصوم والزكاة .. وهي عبادات عمليَّة وليست أموراً قلبيَّة بحتة و أيضاً قوله عليه السلام والوالي هو الدليل عليهن حيث اشتقاق اسم الفاعل من الكلمة دليلٌ على أن الولاية هاهنا إنَّما تعني الجانب العملي التِّي هي الإطاعة والتبعيَّة المطلقة ومن هنا قال عليه السلام : (قال ذروة الأمر .. الطاعةُ للإمام)
                              الوحي التسديدي:
                              إنَّ أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام ليسوا كمبلغين للرسالة فحسب بل هذا هو دور العلماء أيضا حيث قال تعالى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}(الأحزاب/39).
                              فالعلماء ليس لهم دور إلاّ الدفاع عن الشريعة ببيان النصوص القرآنية وما صدر عن المعصومين عليهم السلام.
                              ولكن أهل البيت عليهم السلام مضافاً إلى دفاعهم عن الشريعة فهم كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أصحاب الدعوى و شركاء رسول الله في أمر النبوة و لهذا ورد في زيارة الحجة عجل الله تعالى فرجه “ السلام عليك يا شريك القرآن “ والدليل على ذلك آية المباهلة:
                              {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(آل عمران/61)
                              أقول:
                              ومن الواضح أن الكاذب لا يطلق على المتفرِّج فهو ليس بكاذب و لا صادق.. بل الكاذب و الصادق من الصفات التي تطلق على من لديه ادعاءٌ ما ، فهو (أعنى المدَّعي) إما صادقٌ في ادعائه أو كاذب فقوله تعالى “فنجعل لعنت الله على الكاذبين “ دليلٌ على أن كل من كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في يوم المباهلة كرسول الله كان صاحب ادِّعاء حيث ارتباطه بعالم الغيب وهذا ما يطلق عليه “ الوحي التسديدي “ في قبال الوحي التشريعي.
                              الإشـراك في الأمـر:
                              وأيضاً حديث المنزلة دليل آخر حيث صارت منزلة عليٍّ عليه السلام بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله كمنزلة هارون من موسى و هذا يعنى أنه تعالى أشركَ علياً مع محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم في أمرِ الرسالة التِّي طلبها موسى من الله لأخيه هارون (وأشركه في أمري) وإن كان هناك فرقٌ كبير بين هارون وبين عليٍ عليهما السلام وذلك لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَم حيث اختتمت به النبوَّة فهو أفضل الأنبياء كما أنَّ وصيَّه هو أفضل الأوصياء والسرُّ في ذلك هو ما ذكره الإمام قدَّس الله نفسَه الزكيَّة في بيان حقيقة الإنسان الكامل حيث قال:
                              {إن كانت عينه الثابتة تابعة للاسم الأعظم لاختتمت به دائرة النبوة كما اختتمت بالنبي المعظم الخاتم صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولم يوجد شخص آخر من الأولين والآخرين ومن الأنبياء والمرسلين ، تكون عينه الثابتة، تابعة للإسم الأعظم ولم يكن ظهور ذاته بجميع الشئون ولهذا حصل له صلى اللّه عليه وآله وسلم ظهور بجميع الشئون وحصلت الغاية من الظهور في الهداية، وتم الكشف الكلي واختتمت النبوة بوجوده المقدس}
                              ثم قال :
                              {وإذا فرضنا أن شخصاً من أولياء اللّه تبعاً لذات النبي المقدّس وهدايته سبحانه بلغ نفس المقام المقدَّس، لكان كشفه عين النبي، إذ لا يجوز التكرار في التشريع}
                              ومن هنا صار أمير المؤمنين عليه السلام نفس رسول الله صلى الله عليه وآله فهو إذاً أعلى من جميع الأنبياء عليهم السلام إلاّ خاتمهم وذلك لأنَّه خليفة للكشف التام ومن هنا قال صلى الله عليه وآله
                              {إلاّ أنَّه لا نبيَّ بعدي}
                              فهذه العبارة لا تُقلِّل من مرتبة أمير المؤمنين عليه السلام بل تُضاعفه وتجعل عليّاً أعظم من هارون لأنَّ هناك أنبياءً بعد موسى عليه السلام فلم تكن نبوَّته تامَّة دون النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فهو خاتم النبيين وهو الذي وضع اللبنة الأخيرة وكملت به الدائرة، والذين يأتون من بعده هم الهداة بالأمر فيهدون الناس إلى الشريعة الكاملة وهذا المستوى أعني الهداية بالأمر أفضل من مستوى جميع الأنبياء.
                              يأس العدو من الدين:
                              وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نعرف أهمية هذا النصب في غدير خم حيث أن العدوّ كان يتصور أنه بعد ارتحال رسول الله ليس هناك من يتولى أمر الرسالة وكان يتوقَّع باستئصال الإسلام من أساسه حيث لا حيوية للدين على زعمهم بعد ارتحاله صلى الله عليه وآله وسلَّم و من يأتي بعده ليس له دور رسالي بل هو مبلِّغ للوحي ليس إلاّ
                              {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ* قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ} (الطور/30،31)
                              فواقعة الغدير قد قضت على جميع تلك المخطَّطات و أفشلت كافةَ المؤامرات.
                              والجدير أن قضية الغدير استمرت بعد ارتحال عليٍّ عليه السلام حيث انتقلت الولاية إلى الحسن عليه السلام و الحسين عليه السلام و هكذا.. إلى أن انتهت المسألة إلى عصر الغيبة الكبرى لولي العصر الحجة بن الحسن المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف فانتقلت الولاية إلى الفقيه الجامع للشرائط لا للعالم فحسب بل لمن كان صائناً لنفسه حافظاً على دينه مخالفاً لهواه مطيعا لأمر مولاه.. فاليوم ليس هو يوم 18 ذي حجة فحسب بل هو كل يوم يعيش فيه الإنسان تحت ظل الولاية.
                              {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(المائدة/3)
                              عليٌ عليه السلام كفؤٌ للزهراء سلام الله عليها:
                              فكما أن الكوثر (وهي الزهراء) كانت سبباً لاستمرار النبوة وعند ولادة الزهراء قال تعالى
                              {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ}(الكوثر/3)
                              فكذلك عند تتويج علي عليه السلام الخلافةَ يوم الغدير يئس العدوّ “الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ “ فاستمرت الرسالة المحمدية.

                              هذا و نختم الحديث بذكر أروع قصيدة ذكرت في شأن الغدير وهي قصيدة السيد الحميرى (ره):
                              لام عـمرو باللوي مربـع طـامسة أعـلامها بلقـع
                              تـروع عنها الطير وحشية والوحش من خيفته تفزع
                              رقش يخاف الموت من نقشها والسم في أنيابها منقع
                              برسـم دار ما بها مونس الاصـلال في الثرى وقـع
                              لما وقفت العيس في رسمها والعين من عرفانه تدمع
                              ذكرت من قد كنت ألهو به فبـت والقلب شج موجـع
                              كأن بالنـار لما شـفني من حب أروى كبدي لـدع
                              عجـبت من قوم أتوا أحمـدا بخطة ليس لها موضع
                              قالوا له : لو شـئت أعلمتنا إلى من الغاية والمفزع
                              إذا توفيـت وفارقتـنا وفيهم في المـلك من يطـمع
                              فقال : لو أعلمتكم مفزعا كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا
                              صنيع أهل العجل إذا فارقوا هارون فالترك له أوسع
                              وفي الذي قال بيـان لمن كان إذا يعـقل أو يسـمع
                              ثـم أتـته بعد ذا عزمة من ربـه ليس لها مدفـع
                              بلّـغ وإلا لم تكن مبـلغا والله منهم عاصـم يمنـع
                              فعنـدها قام النـبي الذي كان بما يأمر به يصـدع
                              يخطـب مأمـورا وفي كـفه كف علي ظاهر تلمـع
                              رافـعها أكرم بكف الذي يرفع والكف الذي تـرفع
                              يقول والأمـلاك من حوله والله فيهم شاهد يسـمع
                              من كنت مـولاه فهذا له مولى فلم يرضوا ولم يقنع
                              فاتهمـوه وحنت فيهم على خلاف الصادق الأضـلع
                              وضل قوم غاضـهم فعـله كأنـما آنافـهم تجـدع
                              حتى إذا واروه في لحده وانصرفوا عن دفنه ضيعوا
                              ما قال بالأمس وأوصي به واشتروا الضر بما ينفع
                              فالناس يوم البعث راياتهم خمس فمنها هالك أربـع
                              قائـدها العجل وفرعونهم وسامري الأمة المفظـع
                              ومـارق من ديـنه مخرج أسود عبد لكـع أوكـع
                              وراية قائـدها وجـهه كأنـه الشـمس إذا تطـلع

                              [الحمد لله الذي جعل كمال دينه و تمام نعمته بولاية أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام]

                              انتهيت من كتابة هذا البحث في اليوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة1416
                              كتبه الشيخ إبراهيم الأنصاري
                              www.al-kawthar.com

                              تعليق


                              • (8)
                                الوسـيلة إلى الله

                                لا شكَّ أنَّ نظام الكون يحكمه قانون العليَّة ، أي أنَّ كلَّ معلول لا بدَّ وأن تكون له علَّة وسبب ، فأبى الله أن يُجري الأمور إلاّ بأسبابها، وهذا الحكم يجري على جميع الحوادث الطبيعيَّة ، فهناك تأثير وتأثُّر في الحوادث ، والاعتقاد بمثل هذه القدرة العادية المتعارفة ليس من الشرك أصلاً ، بل ينسجم مع الروح التوحيديَّة ، و هو من صميم الإيمان بالله تعالى .
                                ويبقى سؤال في هذا المجال وهو:
                                الاعتقاد بما فوق الطبيعة
                                أفهل الاعتقاد بقدرة ما فوق الطبيعة و ما وراء القوانين العادية كالقدرة عند بعض الملائكة أو الناس ، كالنبي صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام ، يعدُّ من الشرك بالله ؟
                                ثمَّ ، هل الاعتقاد بقدرة الإنسان المتوفى ، و تأثيره على الأشياء يسوق إلى الشرك ، مهما كانت هذه العقيدة ؟ وذلك لأنَّ الميت جمادٌ يفتقد الشعور القدرة والإرادة ، و بالنتيجة فالاعتقاد بأن الميت يُدرك ويسمع ويرى وأيضاً السلام عليه ، واحترامه ، وتعظيمه ، ونداؤه ، والتوسل إليه ، وطلب الحاجة منه ،كل ذلك شركٌ بالله تعالى ! لأنَّه يستلزم الاعتقاد بقوة ما وراء الطبيعة لغير الله تعالى ؟
                                وأيضاً:
                                هل الاعتقاد بتأثير تراب ما كتراب قبر سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في شفاء المريض ، أو تأثير مكان خاص كحرم الرسول صلى الله عليه وآله ، في استجابة الدعاء ،كلُّ ذلك من الشرك بالله تعالى ؟ وهل هناك دليلٌ شرعيٌّ من الكتاب والسنَّة يمنع من هذه الأمور ؟
                                أقول:
                                إن القائل بأن تلك الأمور من الشرك ، متورِّط في أخس مظاهر الشرك !
                                وذلك لأنَّ الذي يعتقد بأنَّ العلل الطبيعيَّة لها التأثير في معلولاتها وقع (ومن حيث لا يشعر) في ظلمات الشرك وتورَّط في الانحراف حيث اعتقد بأنَّ الأشياء الطبيعيَّة لها استقلالها الذاتي وهذا يعنى أنه شكَّل قطباً مستقلاً في قبال الله تعالى وقدرةً منعزلة عن قدرته تعالى !
                                بإذن الله؟
                                فالموجود المرتبط به تعالى بجميع هويته الذي ليس له حيثية وهويَّة مستقلةٌ ، فتأثيره غير الطبيعي كتأثيره الطبيعي لا يُستند إلى نفسه بل كل ما يصدر منه فهو مستند إلى الحق تعالى وليس له دور ومهمَّةٌ مستقلَّة إلاّ أنَّه يكون مجرىً لمرور فيوضات الحق إلى الأشياء الأخرى وشأنه شأن الملائكة في أداء مهمَّتهم ؟ فهل الاعتقاد بأنَّ جبرئيل واسطة فيض الوحي والعلم و ميكائيل واسطة الرزق واسرافيل واسطة الأحياء وعزرائيل واسطة قبض الأرواح هو شرك بالله تعالى؟

                                الوهَّابيَّة والشرك بالله تعالى:
                                إنَّ عقيدة الوهابية هي المشتملة على أقبح أنواع الشرك وذلك حيث أنَّهم قد قسَّموا الأعمال بين الخالق وبين المخلوق ، فالأمور التي هي ما وراء الطبيعة خصَّصوها بالله تعالى والأمور الطبيعية جعلوها للمخلوقات!
                                فكون المخلوقات لها نطاقٌ معيَّنٌ من الأفعال غير النطاق الإلهي هو نوع من الشرك في الفاعلية !!
                                فما يتوهمه هؤلاء لا يعارض أصل الإمامة فحسب بل هو يعادى ويتعارض مع أصل التوحيد و الإنسان.
                                أمّا تعارضه مع أصل التوحيد فلأنَّهم قد قسَّموا الأعمال بين الخالق وبين المخلوق حيث اعتقدوا أنَّ هناك من المخلوقات (وهي الموجودات الطبيعية) ما لها التأثير المباشر والمستقل في أعمالها وآثارها .
                                وأما تعارضه مع الإنسان فحيث أنَّهم قد نزَّلوا من مستوى الاستعداد الذاتي للإنسان فأوصلوه إلى حضيض الحيوانيَّة.. علماً بأنَّ الإنسان هو خليفة الله في الأرض وقد نفخ الله سبحانه فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له فهو أفضل من جميع الملائكة.
                                مضافا إلى أن التفكيك بين الميت والحي و توهُّم الفرق بينهما يعني أن كلَّ شخصية الإنسان هو بدنه الذي ينقلب إلى جماد وهي فكرة مادية بحتة تعارض المعتقدات الإلهية.
                                ومن هنا نصل إلى عمق كلام رسول الله صلى الله عليه وآله كما في الحديث التالي:
                                { قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم : إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانه سوداء في ليله ظلماء }(بحار الأنوار ج 1 ص 158 باب 1).

                                ما هو الميزان في التوحيد والشرك؟
                                ثم ينبغي أن يعلم أن الميزان في التوحيد والشرك هو:
                                إنّا لله:
                                1-أنَّه لو اعتقدنا أن الموجودات في ذاتها وصفاتها وأفعالها هي من الله (إنا لله) فنحن قد عرفناها من منظار التوحيد الحقيقي سواء كان ذلك الشيء له أثرٌ أو آثارٌ أو لم يكن كذلك وسواء كانت الآثار طبيعيةً أو كانت ما فوق الطبيعة ، فالله هو ليس إله الملكوت والجبروت فحسب بل هو إله العالمين فهو قريب إلى الطبيعة بنفس المقدار (إن صحَّ التعبير) الذي هو قريب إلى ما وراءها وله معيَّةٌ قيوميَّةٌ على الطبيعة وعلى ما وراء الطبيعة قال تعالى
                                { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي }(المائدة/ 110) فهذا هو التعلق المحض وحقيقة "إنا لله" حيث لا استقلالية لأعمال الأنبياء ما وراء إرادة الله تعالى فالاعتقاد بموجود ليس راجعاً إليه تعالى هو الشرك الحقيقي كما أن الاعتقاد بتأثير موجود من غير إرادته تعالى أيضاً فهو من الشرك سواء كان الأثر أثرا طبيعياً أم كان ما فوق الطبيعة فلا فرق بين خلق السماوات والأرض وبين حركة ورق الشجر فكلُّها بإذن الله تعالى ومن هنا نشاهد التأكيد في كثير من الآيات على هذه الحقيقة، قال تعالى:
                                {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(إبراهيم/25)
                                {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}(الأعراف/ 58)
                                وقال تعالى:
                                {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ[1]}(آل عمران/ 166)
                                وقال تعالى:
                                { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }(الأنفال/66)
                                وقال تعالى:
                                {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}(الرعد 38)

                                وإنّا إليه راجعون:
                                2-وأيضا من حدود التوحيد والشرك هو "إنا إليه راجعون" فلو نظرنا إلى موجود ما أعم من النظر الظاهري أو النظر المعنوي وكان نظرنا لأجل أن يكون ذلك الشيء وسيلةً للوصول إلى الله تعالى لا انه هو المقصد والغاية فهذا هو عين التوجه إلى الله تعالى.
                                فالأئمة المعصومون عليهم السلام هم السبيل إليه وقد ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة:
                                { أنتم السبيل الأعظم و الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء والرحمة الموصولة والآية المخزونة والأمانة المحفوظة والباب المبتلى به الناس من أتاكم فقد نجى ومن لم يأتكم فقد هلك إلى الله تدعون وعليه تدلُّون}(بحار الأنوار ج 102 ص 129 رواية 4 باب 8) وهم علامات للمسير إلى الله {ومنارا في بلاده وأعلاما لعباده}(بحار الأنوار ج 102 ص 17 رواية 10 باب 2) {السلام على الأدلاء على الله}(بحار الأنوار ج 102 ص 8 رواية 1 باب 2) وهم الهداة والدعاة إلى الله {السلام على الدعاة إلى الله } (بحار الأنوار ج 102 ص 8 رواية1 باب 2)
                                النتيجة: إن التوسل بهم عليهم السلام وزيارتهم واستصراخهم والإستشفاع بهم والتوقُّع منهم الكرامات التي هي أمور ما وراء الطبيعة ليس من الشرك في شيء بل هي عين التوحيد.
                                وذلك:
                                أوَّلاً: إنَّه ينبغي أن نعلم بأنَّ الأنبياء والأولياء قد وصلوا إلى مستوى من القرب الإلهي بحيث أن الله تعالى قد خصَّهم بهذه الموهبة الربانية؟ كما يدلُّ على ذلك القرآن الكريم
                                وبالنسبة إلى أهل البيت عليه السلام قال تعالى:
                                {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}(الإنسان/ 6)

                                حيث أنَّ الآية تدلُّ على قدرتهم الإلهية المعنوية حيث أنَّهم وبإرادتهم قد فجَّروا العين وذلك لوصولهم إلى مستوى من العبودية لله والتحرر من جميع القيود حيث
                                {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}(الإنسان/ 21)
                                قال في مجمع البيان: {يطهرهم عن كلِّ شيءٍ سوى الله ، إذ لا طاهر من تدنَّس بشيءٍ من الأكوان ، إلاّ الله رووه عن جعفر بن محمَّد عليه السلام}(تفسير مجمع البيان ج10 ص 223)
                                ثانيا: إنَّ الذين يتوسلون بهم ويطلبون منهم قضاء حوائجهم إنَّما ينطلقون من الرؤية التوحيدية أي من منطلق "إنا لله" فلاشك أنَّهم لا يتوسلون بهم إلاّ وهو موحدُّون فالتوسُّل بهم عليهم السلام هو من شئون التوحيد وطاعة الله تعالى ، فهم الحبل المتصل بين الأرض والسماء وهم العروة الوثقى التي لا انفصام لها وفي دعاء الندبة:
                                {أين باب الله الذي منه يؤتى أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء أين السبب المتصل بين الأرض و السماء} (بحار الأنوار ج 102 ص 107 رواية 2 باب 7)
                                وقال تعالى:
                                { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(المائدة/ 35)

                                وفي تفسير علي بن إبراهيم القمِّي :
                                { تقربوا إليه بالإمام }(بحار الأنوار ج 70 ص 271 باب 56)
                                فمن تأمَّل في حقيقة التوسُّل عرف أنَّه هو المنطبق مع النظام الكوني وفطرة الإنسان ، فالذي ينكره إنما هو في ضلال بعيد ومنحرف عن الصراط المستقيم ومن هنا نشاهد بني إسرائيل يقولون
                                { يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا }(البقرة /61)

                                فيطلبون من موسى أن يدع لهم وكذلك أولاد يعقوب عليه السلام يطلبون من أبيهم أن يستغفر لهم
                                { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(يوسف 97-98)

                                وفي خصوص الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم قال تعالى:
                                { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا }(النساء/64)

                                فالرسول له دورٌ رئيسي في قبول توبة العباد لوجاهته عند الله تعالى وقربه المعنويِّ وهذا لا يختص بحال حياته بل يشمل حال مماته أيضاً بل في هذه الحال يكون المجيء إليه آكد ، فلا فرق بين حضوره وغيبته وفي زيارته صلى الله عليه وآله
                                { اللهم و إني اعتقد حرمه نبيك في غيبته كما اعتقد في حضرته واعلم إن رسلك و خلفاءك أحياء عندك يرزقون يرون مكاني في وقتي هذا و زماني و يسمعون كلامي في وقتي هذا و يردون على سلامي و انك حجبت عن سمعي كلامهم و فتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم }(بحار الأنوار ج 100 ص 160 رواية 41 باب 2) فالمشكلة راجعة إلينا نحن المحجوبون لا إليهم عليهم السلام.
                                وأمّا بالنسبة إلى الاعتقاد بتأثير تراب قبر سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في شفاء المريض ، أو تأثير مكان خاص كحرم الرسول صلى الله عليه وآله في استجابة الدعاء فالحديث عنه يتطلب بحثاً آخر إلاّ أننا نشير إلى ذلك بإيجاز فنقول:
                                إنَّه ليس للتراب كتراب هذا التأثير ولا القبر كقبر بل الأثر كل الأثر يرجع إلى صاحبهما وليسا هما إلاّ وسيلة للتقرُّب إلى من يرتبط بهما وهذا يعني التقرب إلى الله الشافي الذي الفاض هذا الاسم في أوليائه فصاروا وجهاً له ومرآةً ينعكس فيها ذلك الاسم.
                                وما أحسن ما قيل: هنيئاً لمن زارَ خير الورى وحطَّ عن النفس أوزارها فإن السعادة مضمونةٌ لمن حلَّ طيبة أو زارَها . وما أحسن ما قيل: أمرُّ على الديار ديار ليلى اقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سَكن الديارا .
                                والحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمَّدٍ وآله .
                                الكويت 9-3-1997 29 شوال 1417.
                                إنتهيت من كتابة هذه الكلمة في يوم 2ربيع الأوَّل 1418




                                الهداة إلى الله
                                قال الإمام قدِّس سرُّه حول شخصية عليٍّ عليه السلام:
                                { هل عليٌ عليه السلام هو إنسان مُلكي ودنيويٌّ حتّى يتحدّث عنه المُلكيّون أم أنّه موجود ملكوتيّ كي يُقيِّمه الملكوتيون . فكلُّ من تحدّث عنه إنّما تحدّث عنه من منظاره الخاص وقيّمه من منطلق نفسانيّته المحدودة ، وأمير المؤمنين غير ذلك }

                                عليٌّ عليه السلام عبدُ الله
                                { فالأولى أن نجتاز هذا الوادي ونقول أنّ الإمام علي عليه السلام إنّما هو عبدٌ من عباد الله وهذه أبرز مميزاته عليه السلام ، وأيضاً أنّه قد تربّى على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وهذا من مفاخره العُظمى }
                                وقال قدِّس سرُّه في التعريف على شخصيَّة الزهراء عليها السلام:
                                { لم تكن الزهراء امرأة عاديَّة، بل كانت امرأة روحانيَّة ، امرأة ملكوتيَّة ، إنساناً بكلِّ ما للإنسان من معنى ، إنَّها موجود ملكوتي ظهر في عالمنا على صورة إنسان ، بل موجود إلهي جبروتي ظهر بصورة امرأة }
                                أقـــول
                                حيث أنَّ هذه الكلمة جديرة بالدِّقة والتأمُّل من ناحية ، ومن ناحية أخرى لها دور كبير في عقيدة الإنسان المؤمن في مجال فهم الإمام عليه السلام بل الإمامة بنحو عام بل المعصومين عليهم السلام فنرى من اللازم أن نفصِّل في الحديث حول الإنسان الملكوتي بل الجبروتي وصفاته المميَّزة عن الإنسان المُلكي الناسوتي .

                                السموات والأرض وغيبهما
                                إنَّ الله سبحانه وتعالى بعد أن أنبأ آدم بأسمائهم وهم المعصومون الأربعة عشر و قد أثبتنا هذا الأمر في محلِّه(راجع كتابنا ثمَّ الرجوع إلى جنة آدم) خاطب الملائكة :
                                { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون}
                                والظاهر أنَّ غيب السموات والأرض المذكور هنا هو نفس العلم الذي جاء في قوله تعالى :
                                {إنِّي أَعَلمُ مَا لا تَعْلَمُونْ }
                                ومن هنا يُعلم أنَّ الأسماء هي أمور غيبية عن عالم السماوات والأرض .
                                و الظاهر أن غيب السموات والأرض هي أرواح أئمتنا الأطهار عليهم السلام حيث أنَّها فوق السموات والأرض وفوق جميع الموجودات حيث أنَّ جميع الموجودات تُعدُّ من عالم الخلق وهي من عالم الأمر والمشيئة وتفصيله في كلمتنا حول المشيئة(راجع أهل البيت مظهر مشيئة الله)
                                هبوط آدم وبنيه إنّ آدم وحواء عليهما السلام عندما خلقهما الله سبحانه جعلهما في الجنَّة يعيشان فيها حيث شاءا رغداً قال تعالى :
                                {فَكُلا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمَا رَغَدَاً}
                                وكان المفروض أن يعيش الإنسان في تلك الجنَّة لا يخرج منها أبداً، وكانت تلك الجنة لها مميّزات غير متوفرة في هذه الدنيا على رغم أنها لم تكن من جنّات الآخرة ، ومن تلك المميزات ما ذكرها سبحانه:
                                {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى}(طه/118).

                                ومن الطبيعي أنه لم يكن الإنسان هناك مكلفاً بتكاليف من نوع تكاليفنا حيث لم يكن بحاجة إلى مثل هذه التكاليف ما دام هو يعيش في جوار ربّه إنسانا نورانياً لا يفتقر حتى إلى اللباس حيث لم تبدُ عورته ليسترها وشأن الإنسان النوراني يختلف عن شأن الإنسان الجسماني بادي البَشرة خَشِن الأعضاء والبُنْية ، فلا تزاحم في عالم النور ولا تضارب ولا تصادم بين الأنوار ومع عدم التضارب لا حاجة إلى القانون والنظام بنحو السالبة بانتفاء الموضوع .
                                الشيطان وإغواء آدم
                                النجاح الأوَّل للشيطان في إغواء آدم وإن لم يكُن بمثابة سائر إغوائاته لبني آدم و لكن الوسوسة الأولى أعني تحريض آدم عليه السلام على الأكل من الشجرة كانت هي أساس لسائر وساوسه الشرِّيرة وتزيينا ته و تسويلاته ، بل لم يكن يخرج آدم من الجنَّة لولا إطاعته للشيطان في وسوسته الأولى ، فبعد خروجه من تلك الدار النورانيَّة انبسطت أيادي الشيطان في عالم المُلك والدنيا ، فتضاعفت التكاليف الإلهيَّة وتنوَّعت لأجل الخلاص من شرِّه و العروج إلى جوار الله سبحانه و تعالى .
                                فإذاً التكاليف بما لها من السعة إنما نشأت بعد خروج آدم عليه السلام من الجنة و بعد هبوط بَنِيه منها : {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا}
                                وهذا الوضع أعنى العيش في الدنيا هو وضع طارئ على بنى آدم لم يكن ضمن المخطَّط الإلهي الأوَّل و إن كان هو معلوماً للّه سبحانه، ولا منافاة بينهما لأن العلم أمرٌ و الإرادة أمرٌ آخر وتوضيح ذلك موكول إلى محله.
                                المسلِّمون أمرهم إلى الله
                                هناك تساؤلات كثيرة تدور في الأذهان وتتداول بين الألسن حول موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قبال أولئك الذين تقمَّصوا الخلافة بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله .
                                وهى تتلخص في:
                                1-عليٌّ عليه السلام ذلك الرجل الذي قتل أبطال العرب و ناوش ذؤبانهم ، هو الذي قدَّ مرحباً وعمرو بن عبد وُدّ وهو صاحب الضربات الوتر ، كيف يمكننا أن نتصور استسلامه للغاصبين ومن ثم إخراجه من البيت قهراً ، وتهديده بالقتل؟
                                2-هل يمكننا أن نتصور أن الزهراء و هي بنت رسول الله و فِلذة كبده و بضعته أن تُضربَ و يُكسرَ ضِلعُها ويُسقط جنينها بمرأى ومنظر من زوجها أمير المؤمنين عليٍ عليه السلام ؟ من غير أن تكون هناك أيّةُ ردَّة فعل منه عليه السلام في قبال هذه الجريمة الكبرى ؟
                                ثم إن المسلمين عامَّةً هم الذين انتخبوا علياً خليفةً عليهم فلِم أكبُّوا بعد ذلك على مخالفته فخالفُوه وقاتلوه ثمَّ قتلوه في محرابه ظلماً؟
                                4-وأخيراً ما هي حصيلةُ السنوات الخمس التِّي استلم فيها عليٌّ إمرةَ المسلمين من الزاويتين العملية و النظرية ؟
                                5-وما هو سرُّ سكوت الإمام المجتبى عليه السلام وصلحه مع معاوية من ناحيةٍ وصراخِ الإمام الحسين عليه السلام وخروجه على حكومة يزيد من ناحية أخرى ؟ وكذا مواقف سائر أئمَّتنا عليهم السلام السلميَّةِ ظاهراً.
                                وأيضاً: عشرات من الأسئلة في هذا المجال التي تخطر بالبال ؟
                                ومن الطبيعي أنَّ حلَّ هذه الشبهات له الدور الحيويّ المهمّ في مسيرة الإنسان المؤمن ومواقفه الرساليَّة ..فهل يمكننا الإجابة عليها وعلى غيرها من الأسئلة التي تدور حول نفس المحور؟
                                أقول:
                                إنَّ الغرض من كتابةِ هذه الكلمة المتواضعة هو الوصول إلى حلٍّ مناسب بالنسبة إلى مثل هذه الشبهات ودفعها منطقيّاً كي نكون على بصيرة في ديننا ومذهبنا فنعانقه من دون أيّ تزلزل وتشكيك .
                                فأقول:
                                قبل الورود في البحث ينبغي تقديم مقدمات:
                                الأولى:
                                الإسلام مدرسة متكاملة و مترابطة
                                الإسلام أطروحة متكاملة تتركَّز على أسس و تشتمل على قوانين إلهية ثابتة لا يمكن أن يعتريها أيُّ خلل و ترديد ، والهدف من الإسلام هو نفس الهدف من خلق الإنسان أعني العبودية والرجوع إلى الله سبحانه وهو إيصال الإنسان إلى الكمال المطلوب أعني القرب من الكمال المطلق وهو الله سبحانه. فالإسلام ليس هو إلاّ تجلٍّ من تجليات الحق المطلق جلَّ وعلا فلا بدَّ أن يظهر على جميع أصعدته وزواياه وهذا من لوازمه غير المنفكة عنه.
                                الثانية:
                                أبعاد الإ نسان الثلا ثة
                                وحيث أن للإنسان أبعاداً ثلاثة البعد العقلي والبعد النفسي (الجوانحي) والبعد العملي (الجوارحي) فالإسلام أيضاً قد ركَّز في توجيهاته على هذه الجهات الثلاث في الإنسان و لاحظها بعين الاعتبار فطرح لها أطروحات وبرمج لكل واحدة منها برنامجاً يتناسب معه وهي:
                                عقائد الإسلام التِّي تعالج الجانب العقلي للإنسان.
                                الأخلاق وهي ما تتعلق بشئون النفس الإنسانيَّة.
                                الأحكام العمليَّة وهي القوانين المختصة بجوارح الإنسان وما يصدر منه من خير و شر.
                                ولا يخفى على من له أدنى معرفة و اطِّلاع على الإسلام أنَّ هناك ترابطاً قوياً وعلاقةً موثقة بين هذه الجوانب الثلاثة بحيث يستحيل التحلِّي بجانب مع غضِّ النظر عن الجانب الآخر.
                                مثال:
                                إعطاء الزكاة كواجب عملي يتوقَّف على قصد التقرب إليه تعالى كعقيدة وفي أسلوب العطاء والأخذ لا بدّ من التوجُّه إلى الجانب الروحي للمعطي والمعطى إليه (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها).
                                وعلى هذا الأساس نقول إنه لابد وأن يُطبَّق الإسلام بحذافيره وبأكمله من دون فصلٍ بين الأبعاد الثلاثةِ أصلاً ومن يُفكِّر في تطبيق جانبٍ واحدٍ من الإسلام مع غضِّ النظر عن الجوانب الأخرى فتفكيره شطط ليس له أساس قويمٌ بل يبتني على الوهم والخيال.
                                وبعبارة أخرى: (الإسلام وَحدَةٌ شاملة ومتكاملة ومتكاتفة ومنسجمة لن تتفرق ولن تتفكك أبداً ،وتفكُّكها يعني فناءها بالمرَّة وتغيُّر ماهيتها إلى ماهيَّة أخري بل لو اختلفت الكمِّية والكيفيَّة في قبول أو ردّ معالمه لتغيَّرت الماهية أيضاً فلا بد من مراعاة الكميَّة والكيفيَّة في تلك الأبعاد الثلاثة لئلاّ ينجرّ الأمر إلى تضخَّم جانبٍ و ضعف جانب آخر).
                                وذلك كالأوكسجين والهيدروجين فمن الضروري أن يتحدا معاً ليُشكِّلا الماء كما أنّه لا بدَّ من رعاية النسبة بينهما كمّاً وكيفاً حصولاً على النتيجة فمع بروز أدنى اختلاف بين العنصرين سوف لا يبقى شيءٌ يُطلق عليه اسم الماء.
                                ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ على الإيمان بالكلِّ لا بالبعض سواء الكتاب أو الرسل أو أيّ شيء يرتبط بالدين
                                قال تعالى:
                                { أَ فَتؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }(البقرة 85)
                                وقال تعالى:
                                { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ، أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }(النساء 150-151)
                                الثالثة:
                                الدولة الإسلاميَّة العالميَّة مضافاً إلى أنه لا بدَّ من وجود دولة مقتدرة بأجهزتها القويَّة ورجالها المؤمنين، تستهدف التنسيق بين هذه الجوانب الثلاثة من الإسلام كي تُركِّز هذه الشجرة الطيِّبة جذورها فيرتفع أساسها فتتوزَّع وتنتشر أغصانها فتثمر فيأكل من ثمرها. فإذا يستحيل أن نطبق الإسلام في حياتنا بمعنى الكلمة إلاّ مع تأسيس دولة عالميَّة تستوعب أو بالأحرى تتسلَّط على جميع أرجاء البسيطة من غير استثناءٍ لمنطقة دون أخرى فكلُّ الأرض تكون تحت سلطة الإسلام وهذا لا ينافي وجود كفّار فيها مادام الحكم للإسلام . فلا معنى لطرح دولة إسلامية في هذا المكان وذاك كدولة مستقلة تستهدف تطبيق بعض أو كلِّ جوانب الإسلام عملاً ولا تحمل إيدولوجية الإسلام العالمي أو تجعل هذه الغاية في المراحل المتأخرة من أفكارها . بل لو نظرنا نظرة شاملة إلى الكون وعرفنا خالقه لوصلنا إلى حقيقة أخرى وهي أنَّ الإسلام لا ينظر إلى البشرية منحصرة بل يستوعب ويُخيِّم على كلَّ زوايا الكون وجميع العوالم من الإنس والجن حتى عالم الجمادات والنباتات والحيوانات وحتى في الكواكب الأخرى حيث أنّ كلّ تلك العوالم لها نوعٌ من العلاقة بالإنسان.
                                { الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم و دولة إسلاميّة عالميَّة }
                                ومن هذا المنطلق شرع رسولنا محمد صلى الله عليه و آله في تأسيس دولة إسلامية من البداية تستهدف تطبيق الإسلام بجميع جوانبه و أبعاده وإزالة جميع الظواهر الزائفة الموروثة من الجاهليَّة فكتب إلى ملكي الفرس و الروم آن ذاك كتباً لأجل أن يهتديا وقومهما إلى الدين الإسلامي ويتحررا من عبودية غير الله . وقد استطاع الرسول صلى الله عليه وآله -بسعيه المتواصل ودعمٍ من أخيه ووزيره عليٍّ عليه السلام وعدد قليل من الصحابة المخلصين - أن يكتسب النجاح في المدَّة القليلة على رغم كلّ ما عاناه من مصاعبَ ومشاكل وأذى (ما أوذي نبيٌّ بمثل ما أوذيت) سواء من الكفّار الملحدين أو من المنافقين الحاقدين. فقد انبثق نور الإسلام وانتشر صيتُه وتوسعت دولته إلى أقصى العالم حتى دخل الفرس والروم والحبشة وذلك لا على مستوى عامّة الناس فحسب بل شمل حتّى رجال الدولة وأصحاب المناصب المختلفة.
                                { الإسلام كان غريباً غير مألوف }
                                بعد ما كان الإسلام غريباً وذلك لأنَّ القيَم الإسلامية بطبيعتها لا تنسجم مع الوضع الذي كان يسود الجاهلية وذلك لاشتمال الإسلام على الجانب التعبدي الذي لا يلائم تلك الذهنيات التّي لم تترسخ فيها سوى الدنيا وسوى المادة وما يحوم حول المادة ، فقد انتشر الإسلام المحمَّدي في أنحاء البلاد وأخذت الأفكار الإسلامية تتمركز في الأذهان وتعثر على مكانتها في المجتمع وأخذ المسلمون يستأنسون بالإسلام شيئاً فشيئاً حتّى صار تنفيذ حكم الله في مجتمعهم أمراً مألوفاّ وصار المسلمون يتعاملون مع الإسلام تعاملاً طبيعياً بعد ما كان غريباً عندهم غير مأنوس به .
                                { المفروض والواقع }
                                المفروض أن يستلم الخلافة عليٌّ عليه السلام ويسير على نفس الأسلوب الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وينتقل الحكم من إمامٍ إلى إمام حتَّى يأتي دور المهدي المنتظر عجلَّ الله تعالى فرجه الشريف فيملأ الله به الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً. ولكن الواقع كان خلاف ذلك حيث تسلَّم زمام الأمر من لا يليق به ولا أهليَّة له.
                                { البداية المظلمة } فبعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم و استيلاء أول الخلفاء على الدولة الإسلامية الفتيَّة وفي أوائل خلافته كان الوضع نوعاً ما كسابقه ولكن بمجرد أن رُسخت قواعد تلك الخلافة اللاشرعيَّة بدأ الوضع يتغيّر شيئاً فشيئاً وبدأت المعادلات تنعكس وتتغير واستمرَّ الوضع الجديد إلى أن وصل إلى مرحلة خطيرة حيث أخذ حكُّام المسلمين الثلاثة ينسقون أفكارهم وأعمالهم مع الحضارات الدخيلة وعلى رأسها الروم والفرس فحاول الخلفاء تكييفَ أنفسهم مع المجتمعات المحاطة بهم وأخذوا في تنسيق برامجهم طبقاً لتلك الحضارات المزيّفة ، وذلك في جميع أبعادها حتى العقائديّة والأخلاقية !! (والناس على دين ملوكهم ) وهؤلاء الثلاثة نسَوا أو تغافَلوا عن أن للإسلام حضارةً و إيدئولوجية مميزة تنبثق من الوحي والغيب وترتبط بالله الواحد القهار. وتدريجياً انقلب الإسلام الغريب عند المِلل غير المسلمة ، المأنوس لدى المسلمين إلى إسلام مأنوسٍ لدى الكلّ ، حتى الكفار والمنافقون لا يستوحش منهم أحد إلاّ المسلمُ الحقيقيّ!!
                                والحاصل أن الجــوّ الــعام الذي أوجده الخلفاء بين المسلمين كان مصبوغاً بصبغةٍ خاصَّــة تتلاءم والواقعَ المعاش آن ذاك وذلك بقيمة تضحية الإسلام ومسخه تماماً بل قلبه وجهاً على عقب وحينئذٍ تحققت مصداقيَّة قوله تعالى :
                                { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }(آل عمران/ 144).
                                فانحرف الإسلام وتغيَّرت السنن وقلبت القيم ومن ثَمَّ خَسِر المسلمون تلك الفرصة الذهبية التي أوجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وضحّى من أجلها بأبرز أنصاره وكانت هي الخسارة العظمى التي جرَّت العالم الإسلامي إلى الخسارات المتوالية.
                                والتأريخ الإسلاميّ خير دليل على ما ندعيه فمن أراد أن يتطلَّع على جزئيّات الأمر فليراجع التأريخ .
                                السقيفة وآثارها
                                فهاهنا وقعت الجريمة العظمى وهي جريمة الانحراف والإغفال ومن ثَمّ إحراف المُغفَلين وإغوائهم من زاوية وغرس شجرة النفاق ورعرعتها من زاوية أخرى ..ويالها من جريمة غبراء قاسية !! تلك الفجيعة الفظيعة التي نشأت من السقيفة السخيفة كانت مبدأ كلِّ عثرة وزلّة حدثت بعدها ، فجميع الفروع الخبيثة ليست هي إلاّ من تلك الشجرة المشؤومة.
                                البناء المعوج
                                يقول أحد الشعراء الفرسخِشت أول جون نهاد معمار كج تا ثريّا ميرود بنيان كج) أي أنَّ البنّاء حيث وضع الأساس للبناء وضعاً معوجّاً فسوف يعوج البناء مهما يُرتفع إلى الثريا) ومن الواضح أنَّ الذنب والعتاب كلُّه يُوجَّه إلى أوَّل من أسس أساس الظلم والجور ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ في الأحاديث(كالأحاديث التِّي تتحدَّث حول يوم الاثنين وأنَّه يوم نحس قبض الله عز و جل فيه نبيه وما أصيب آل محمد إلاّ في يوم الاثنين فيتشاءم أئمتنا عليهم السلام به و تتبرك به عدوُّهم) وأيضاً الزيارات خصوصاً زيارة عاشوراء، وأشعار كبار شعراء الإماميّة كدعبل الخزاعي وكبار العلماء كالعلامَّة الشيخ محمَّد حسين الإصفهاني قدس سرُّه بل حتّى بعض علماء العامَّة على هذه الحقيقة وتفصيل هذا الأمر سوف نذكره في موضع آخر.
                                أمير المؤمنين عليه السلام والخلافة
                                وهذا الوضع أو بالأحرى الجريمة استمرت ربع قرن -وليس بقليل-إلى أن استلم الحكم ، وبعد اللتيا والتي ، أميرُ المؤمنين علي عليه السلام . استلمها بعد ماذا؟؟ بعد أن تغيرت جميع القيم والأسس التي بناها الإسلام .
                                فماذا يصنع عليُّ إذاً ؟؟
                                غير أن يصرخ في وجه المسلمين الذين أرادوا أن يبايعوه:
                                {دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت و اعلموا إني أن أجبتكم ركبت بكم ما اعلم و لم أَصغَ إلى قول القائل و عتب العاتب و إن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلى أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم و إنا لكم وزيرا خير لكم منى أميرا}(نهج البلاغة ابن ابي الحديد ج 7 باب 91 ص 33)
                                قال ابن أبي الحديد:
                                ومعنى قوله: الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت ان الشبهة قد استولت على العقول و القلوب و جهل أكثر الناس محجة الحق أين هي فأنا لكم وزيراً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أفتى فيكم بشريعته و أحكامه خير لكم منى أميراً محجوراً عليه مدبراً بتدبيركم فإني اعلم انه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيره رسول الله صلي الله عليه وآله في أصحابه مستقلاً بالتدبير لفساد أحوالكم وتعذر صلاحكم
                                أقول:
                                بقيت تلك الجذور الخبيثة متركّزة رغم محاولات أمير المؤمنين في أيام خلافته، وحيث قد عوّدوا المسلمين على نمطٍ خاص من العيشة فلم يمكنهم أن ينسِّقوا معيشتهم وأفكارهم مع ما أراده أمير المؤمنين بل لم يكونوا يستوعبون أسلوب عليٍ في الحكم ، الذي كان هو أسلوب رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يتقبلوا عدالة عليٍ وقسطه وكما قال أحدهم عدلُ عليٍّ قتله .
                                التكليف المزدوج بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم (السكوت والصراخ)
                                مثال:
                                لو وقعت سرقه كبيرة في بيت فيه أطفال و فيه أموال كثيرة تهمُّ السارقين لأنهم قد خطَّطوا تخطيطاً مستقبلياً شاملاً لبناء مشروع يبتنى على هذه الأموال.. ولا يمكنهم الغضّ والتغافل عنها أبداً ، ومن ناحية أخرى تلك الأموال لها أهمية لصاحبها وتشكل العصب الرئيسي في حياتهم مضافا إلى الأشياء الأثرية الثمينة التي لا يمكنهم التخلِّي عنها.
                                فيدور الأمر بين حالات ثلاثة لها نتائج مختلفة:
                                الصراخ وإخبار الناس عن السرقة من أهل البيت جميعاً وبالنتيجة حرق البيت ومن فيه وما فيه. التزام السكوت والهدوء من جميع العائلة وإسكات الآخرين وأيضا خلق جو إعلامي يؤكِّد للناس أن البيت وما فيه لم يسرق بل قد بِيع على هؤلاء في مقابل ثمن فالبيت إذا هو حقُّهم الشرعي و القانوني و ليس لصاحبه الأول المطالبة به أصلا.
                                التزام الهدوء من صاحب البيت و تحريض الأولاد على السكوت حفاظاً على البيت علماً بأن هناك من يُعلن عن السارقين (وهي الأم) و يصرخ في وجههم لأجل أخذ وثائق البيت ليس إلاّ.. (والمفروض أنَّ الوثائق مسجله باسمها).
                                فهاهنا نواجه ازدواجية المواقف موقف الوالد والأولاد و موقف الأم و المفروض على الوالد أن يُهدِّئ الكل ولكن الأم لا تسكتُ حيث تطالب بحقِّها وهي الوثائق والمستندات ولن تسمح بأن يسجَّل البيت باسم الغاصبين و إن أدَّى ذلك إلى موتها حيث يترجَّح ذلك الأهم على هذا المهمّ ، حيث أنَّه من الطبيعي أن يرجع البيت بالأخير إلى صاحبه و إن طال الأمد عليه.
                                الحفاظ على الولاية
                                مادام الخلافة قد انحرفت عن المسير الأساسي الذي أكد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في مواطن كثيرة ومادام قد اغتصبت بطريقة شيطانية محتالة فلا يمكن إرجاعها بالسكوت والتسليم لما حدث لأن العدو سوف يكتسب هذا السكوت لصالحه إعلامياً وسوف يدَّعي أن هذا السكوت دليل على الرضا ومن ثم سوف يكون الغاصب وكأنَّه هو المالك الحقيقي ومن ثم يكتسب الشرعية في الوسط المسلم لا هو فحسب بل كل من يسير على خطاه إلى يوم القيامة!! وهذا هو التدمير الواقعي للإسلام أصلاً وفرعاً ولكن باسم الإسلام وإمرة المسلمين ، ومن ناحية أخرى هناك خطورة ثانية لأصل الإسلام وهذا يتطلب السكوت والهدوء والتساير وفي نفس الوقت الإشراف والتطلع على ما سيحدث ومحاولة دفع الانحرافات الأساسية التي ترجع إلى أصل الإسلام بدقة ، تلك الانحرافات التي يخطط لها النظام الحاكم بين آونة وأخرى.. من غير مساس وتعرض للجهاز الحاكم.. لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ، وذلك حفاظا على الإسلام ولا بدَّ له من السكوت والتساير الظاهري معهم مادام الإسلام في أمان من شرهم.
                                اللهم إلاّ إذا اشتد الخطر وصعب فحينئذ سوف يتطلب الشدة نوعا ما..
                                صعوبة الموقف و حسّاسيته
                                عند ملاحظة جوانب الشخصيتين ، شخصيَّة الصدِّيقة الزهراء سلام الله عليها وشخصيَّة أمير المؤمنين عليه السلام وأيضاً عند ملاحظة مدى الارتباط و التعلق بينهما نعرف شدة البلاء الذي ابتليا به وعظمة الامتحان الإلهي ومستوى التكليف السماوي الموجه إليهما.
                                فلو أرادا أن يتحقق الهدف الذي هو الحفاظ على ظاهر الإسلام (وهو تكليف علي عليه السلام) والحفاظ على واقع الولاية (وهو تكليف الزهراء عليها السلام) فلا بد وأن تتوفر أمورٌ كثيرةٌ لو اختل أحدها سوف لن يتحقق الهدف
                                فمن ناحية أمير المؤمنين لا بد من:
                                خلق جو إعلامي واضح ينادى بصريح القول أن عليا ليس من المعارضين و إن كان فهو من المسالمين الذين يبتعدون عن تعكير الجو و تزعزع الرأي.. و هذا يتطلب:
                                التزام الهدوء والسكوت الكامل وعدم التعرض للحكم أصلا.
                                التساير والتنسيق مع الخليفة وربما يقتضي ذلك الصلاة خلفه والجلوس في مجلسه.
                                ومن ناحية الزهراء عليها السلام ينبغي لها:
                                أن تخلق جواً مناقضاً تماماً لما أوجده علي عليه السلام.. فتصرخ في وجه الطغاة وتقف أمامهم وتفضحهم وتبين مثالبهم وتكشف عن جريمتهم العظيمة وفى نفس الوقت تدافع عن علي عليه السلام كخليفةٍ للمسلمين فتُبيِّن للناس فضائله ومناقبه ومواقفه وذلك من غير أن يكون ذلك أعني ولاية عليٍّ هو الأساس في قضيَّتها ظاهراً (وهو الأساس بالفعل) ولكن يبقى هنا أمرٌ مهمّ ينبغي أن تراعيه الزهراء عليها السلام وهو عدم إثارة عليٍّ أصلاً لأنَّ ذلك سوف يؤدِّي إلى فشل عليٍّ في موقفه ومن ثمَّ انتصار العدوّ ونجاحه وذلك سوف يؤدِّي إلى الرجوع إلى الجاهليَّة الأولى أعاذنا الله من شرِّها.
                                والوصول إلى ذلك إذاً صعبٌ يتطلَّب أموراً:
                                الخروج من البيت و لا مانع مادام هي من المطهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس.
                                2-خلق أجواء مثيرة للأحاسيس (بكاؤها وأنينها راجع الخطبة).
                                3-كتمان ما تواجهه من الضرب وكسر الضلع وسقط الجنين وغيره عن عليٍّ عليه السلام .
                                4-أن لا يشترك العدو المتظاهر بالإسلام في تشييع جنازتها ودفن الجنازة سراً .
                                5-أن تكون مجهولة القدر والقبر.
                                المعاناة:
                                وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فهل يمكنه أن يتغافل عمّا سيحدث على بضعة الرسول الزهراء عليها السلام ؟ وهل يمكن للإنسان أن يتصور شدة المعاناة التي كان يعانيه أمير المؤمنين عليٌ عليه السلام و كذلك مستوى صبره عليه السلام ؟ كيف وهو يرى تراثه المنهوب! ويعرف عن ضلع زوجه المكسور؟
                                يقول سلام الله عليه:
                                { أما و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة و انه ليعلم إن محلى منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل و لا يرقى إلى الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجا أرى تراثي نهبا}(نهج البلاغة لابن أبي حديد ج 1 باب 3 ص 151)

                                ويقول في موضع آخر:
                                {فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذاب و لا مساعد إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن المنية فأغضيت على القذى و جرعت ريقي على الشجى و صبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم و آلم للقلب من وخز الشفار}(نهج البلاغة لابن أبي حديد ج 11 باب 211 ص 109)
                                الكفـؤ:
                                أعتقد أن التكافؤ بين الزهراء عليها السلام وعليٍّ سلام الله عليه الوارد في الأحاديث الكثيرة كالحديث التالي:
                                {عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفؤ على الأرض}(بحار الأنوار ج 43 ص 97 رواية 6 باب 5)

                                إن الحديث لا يعنى التكافؤ في الحيوة الزوجية فحسب و لا يعني أيضاً أنهما مجمع النورين و البحرين بعد تفرقهما في عبد الله وأبي طالب حيث ورد في تفسير قوله تعالى:
                                (كنز العمّال محمد بن العباس عن محمد بن احمد عن محفوظ بن بشر عن ابن شمر عن جابر عن أبي عبد الله قال عليه السلام في قوله عز و جل مرج البحرين يلتقيان قال على و فاطمة.. )(بحار الأنوار ج 24 ص 97 رواية 1باب 36) وهناك أحاديث كثيرة في هذا المجال راجع مضانِّها.
                                بل هناك أمر أهم من ذلك و أرفع مستوى و هو التكافؤ في أداء التكليف الإلهي بحيث كل يكمل الآخر.. و كل يؤدى تكليفه المتناقض مع تكليف الآخر ظاهراً و المطابق معه واقعا فهو تكليف واحد ولكن قد تجلّى وظهر في موقفين متضادين تماماً. و من هنا نعرف السر في الحديث القدسي حيث يقول: ( لو لا علي لما خلقت فاطمة الخ..)

                                فدك هو المبرر لهذا الموقف
                                و مبرِّر ثورتها هي فدك وهذه فدك لها بعدان رئيسيّان:
                                أحدهما: أنَّها قرية في الحجاز، بينها و بين المدينة يومان، و قيل ثلاثة و هي أرض يهودية ، و كان يسكنها طائفة من اليهود، و لم يزالوا على ذلك حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها فصالحوا رسول الله (صلى الله عليه و آله) على النصف من فدك، و روي أنه صالحهم عليها كلها. و ابتدأ بذلك تاريخها الإسلامي، فكانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، لأنها مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، ثم قدمها لابنته الزهراء، وبقيت عندها حتى توفى أبوها (صلى الله عليه و آله) فانتزعها الخليفة الأول و أصبحت من مصادر المالية العامة و موارد ثروة الدولة يوم ذاك حتى تولى عمر الخلافة)
                                ثانيهما : أنَّها هي الولاية بعينها أو من لوازمها التي قد تجسَّدت في ذلك اليوم وهى عصب حياة الخلافة الإسلامية لا يمكن الاستقرار على منصة الحكم بدونها.. ومن حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أنه منح فدك لابنته الزهراء وذلك حين نزل قوله تعالى (وآت ذا القربى حقَّه)
                                {مصباح الأنوار عن عطية قال لما نزلت و آت ذا القربى حقه دعا رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة فأعطاها فدك}
                                { عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أعطى فاطمة فدك قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وقفها فانزل الله و آت ذا القربى حقه فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم حقها قلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أعطاها قال بل الله تبارك و تعالى أعطاها}(نهج البلاغة ج 16 باب 45 ص 213)
                                فلو لم يفعل رسول الله ذلك ماذا ترى سيحدث بعد ارتحاله ؟
                                كان الحاكم هو الذي يصطحبها و ذلك على مبرر شرعي لا غبار عليه و هو أنَّ فدك من بيت مال المسلمين الذي هو تحت تصرف الخليفة المنصوب من قبلهم فليس لأحد أن يطالب بها أصلا ،وحينئذ لم يتواجد أيُّ مبرر لصراخ الزهراء و مواجهتها الحكم إلاّ دفاعاً عن زوجها و هذا يعنى أن موقف زوجها هو موقفها لا فرق بينهما أصلاً وحينئذ يمكن للخليفة أن يسكتها و يرغمها بحجة أنها امرأة لا حق لها أن تتدخل في شئون الحكم أو يجبر علياً على إسكاتها و تهدئتها وإلاّ سوف يتخِّذ أيَّ قرار أراد ضدّ عليٍّ وضدّ فاطمة، وعلى فرض ما لو طلب منها عليٌّ السكوت والتراجع فلا بد لها إذاً أن تهدأ لأنه حسب الفرض أنَّ صاحبَ الحق قد تراجع عن حقه فلا معنى للصراخ و المجابهة منها بعد ذلك ، و إن أصرت على ذلك فيمكن التعامل معها بالشدة و سوف لا يثير ذلك أحاسيس المسلمين لأن هذا التعامل له مبرر شرعي و هو الحفاظ على الوحدة الإسلامية والوقوف دون شق عصا المسلمين.
                                وهل بإمكان الخليفة إعطائها فدك؟ كلا؟ لأن ذلك يعنى نجاح عليٍّ عليه السلام ولقد عرف أبو بكر هذا الأمر ولهذا لما سمع خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر و قال أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قاله أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إلاّ من سمع فليقل و من شهد فليتكلم إنما هو ثعالة شهيدة ذنبه مرب لكل فتنه هو الذي يقول كروها جذعه بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة و يستنصرون بالنساء..)(نهج البلاغة ج 16 باب 45 ص 213)
                                أقول:
                                أما الرعة بالتخفيف أي الاستماع والإصغاء والقالة القول وثعالة اسم الثعلب.
                                ولكن:
                                كل ذلك يتعاكس مع الفرض الآخر و هو مطالبة فدك (وهو المطالبة للولاية في لباس آخر) فإرجاع فدك إليها يعنى التخلي عن الولاية والخلافة وهو المطلوب الأول..
                                وعدم إرجاعها إليها يعنى أنهم غصبوا حقها المسلم والواضح عند كل المسلمين أنَّ الغاصب لا يليق بالحكم فكيف لو كان من ابنة رسول الله
                                أخلست الزهراء !
                                إنَّ الكلمة الآتية كلمة عليٌّ عليه السلام عند دفنه الزهراء عليها السلام.
                                ويظهر للمتأمِّل فيها أمورٌ كثيرةٌ وحوادث جليلة وكأنَّه عليه السلام أراد بيانها ضمن السلام لتبقى مدى الدهر. ونحن ننقل النصّ الذي نقله المحدِّث الكليني رضوان الله تعالى عليه حيث يقول:
                                (احمد بن مهران رحمه الله رفعه و احمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار لشيباني قال حدثني القاسم بن محمد الرازي قال حدثنا على بن محمد الهرمزاني عن أبي عبد الله الحسين بن على عليه السلام قال لما قبضت فاطمة عليها السلام دفنها أمير المؤمنين سراً وعفا على موضع قبرها ثم قام فحول وجهه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال السلام عليك يا رسول الله عنِّي وعن ابنتك و زائرتك... إلى أن قال:
                                قد استرجعت الوديعة وأُخذت الرهينةُ وأُخلست الزهراء فما اقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله أمّا حزني فسرمد وأما ليلى فمسهد وهم لا يبرح من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم كمد مقيح وهم مهيج سرعان ما فرق بيننا وإلى الله أشكو وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال واستخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين سلام مودع لا قال ولا سئم فان انصرف فلا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين واه واها والصبر ايمن واجمل ولو لا غلبه المستولين لجعلت المقام واللبث لزاما معكوفا ولأعولت اعوال الثكلى على جليل الرزية فبعين الله تدفن ابنتك سرا وتهضم حقها وتمنع ارثها ولم يتباعد العهد ولم يخلق منك الذكر وإلى الله يا رسول الله المشتكى وفيك يا رسول الله احسن العزاء صلى الله عليك وعليها السلام والرضوان)(الكافي ج 1 ص 458 رواية 3)
                                { مرضت فاطمة عليها السلام مرضا شديدا و مكثت أربعين ليله في مرضها إلى أن توفيت صلوات الله عليها فلما نعيت إليها نفسها دعت أم ايمن وأسماء بنت عميس ووجهت خلف على وأحضرته فقالت يا ابن عم انه قد نعيت إلى نفسي وإني لا أرى ما بي إلاّ إنني لاحق بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي قال لها على عليه السلام أوصيني بما أحببت يا بنت}(بحار الأنوار ج 43 ص 191 رواية 20 باب 7)
                                مفـاجـأة:
                                فما هي الحيلة التي ينبغي أن يتخذها الخليفة لإسكات بنت رسول الله ليس هناك حل إلاّ الضرب والجرح والحرق ومن ثم القتل ولشهادة وهذا الأمر هو الذي سوف يفضح الخليفة ومن تبعه وشايعه كما فضحهم بين الأشهاد حين مارسوا ذلك فضيحة لا خلاص منها إلى يوم القيامة.
                                {الهدف= السكوت + الصراخ}
                                وبالفعل قد تحقق الهدف المطلوب من هذا السكوت وذلك الصراخ فبقي الإسلام والقرآن كأطروحة حديثة في صون من شر الجاهلية الثانية وانكشفت جرائم من أراد بالإسلام سوءا ، وذلك بعد استشهاد بنت الرسول على أيديهم وهي مبغضة لهم غير راضية عنهم بصريح الأحاديث الكثيرة التّي نقلها الجمهور منها:
                                {حدثني محمد بن رافع أخبرنا حجين حدثنا ليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك قال فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها علي الخ}(صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير الحديث 3304)

                                بقيت أطروحة الولاية ثابتة كأطروحة ليس إلاّ ، وأخذ الخلَّص من الموالين لأهل البيت يترصدون الفرصة المناسبة لتنفيذ تلك الأطروحة المباركة أعنى الولاية ، وبدأ مفهوم الانتظار يترسخ في قلوب الشيعة المخلصين حتى صار أفضل عبادة . وكان هو المطلوب
                                هذا: وقد استمرت غربة الإسلام المحمدي الأصيل أي إسلام الغدير قروناً متوالية ومرّت على المؤمنين وفي طليعتهم أئمة الشيعة عليهم السلام ظروفٌ صعبة للغاية، وضحّوا ما ضحّوا من الأموال والأنفس الطاهرة ،كل ذلك لأجل الحفاظ على أصالة الإسلام المحمدي (الذي هو إسلام الرفض) ومن منطلقه تبلورت مدرسة الانتظار والترقب، تلك المدرسة التي تمتلك روحية الانتقام وأخذ الثأر إلى أن يأتي صاحبه ولي العصر عليه السلام.
                                ومن الواضح أنَّ أئمتنا عليهم السلام كلهم كانوا يعيشون منتظرين للفرج ويحرضون أصحابهم أيضاً على ذلك وهم مع ذلك كانوا يسعون عملا للتمهيد لتلك الدولة المباركة المأمولة أعني دولة المهدي الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف . ولأجل تثبيت هذه النظرية الإسلامية في ضمائر المؤمنين كنظرية يجب الاعتقاد بها ويجب الترصدّ لها حتَّى يخرج من يُحقِّقها ويجتني ثمارها ،مرّت على المؤمنين ظروفٌ صعبة للغاية.
                                وقد حقق أئمتنا عليهم السلام ذلك الهدف ضمن مجالين :
                                الأول: تربية نخبة من المؤمنين الخُلّص في كل عصر لا أعني من الخُلَّص ما يستنبطه البعض من الكلمة بل أعني أولئك الذين قد فهموا الإسلام- بمعنى الكلمة -حقّاً فهم بطبيعة الحال الغرباء بين الصديق والعدوّ وهم الحجة علي الآخرين وإن كان عددهم لا يتعدّى أصابع اليد في أكثر الأزمنة ، والجدير أن التأريخ يذكرهم بأسمائهم وأوصافهم
                                الثاني: تثبيت الإسلام الخالص صريحا أو إيماء اً ضمن التراث العظيم من الأحاديث الذي حافظ عليها السلف الصالح بقدر الإمكان حرفاً بحرف وحيث لم يكن بإمكانهم فهمها فضلاً عن العمل بها لربما غفلوا عن محتواها أو فسروها تفسيرا غير مرضيٍّ.
                                هذا واستمرَّ هذا الوضع إلى أن انتهى عصر الغيبة الصغرى للمهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وبدأت الغيبة الكبرى وهو عصر اليُتم وانتظار فرج آل محمَّد عليهم السلام.
                                نبتهل إلى الله سبحانه أن يجعلنا من المنتظرين الحقيقيين لوليِّه المهدي المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
                                انتهيت من كتابة هذه الكلمة في ليلة الأربعاء 8ربيع الأوَّل 1417ليلة الإمام الحسن العسكري عليه أفضل الصلاة والسلام .


                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 09:44 PM
                                استجابة 1
                                11 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                                بواسطة ibrahim aly awaly
                                 
                                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 07:21 AM
                                ردود 2
                                12 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                                بواسطة ibrahim aly awaly
                                 
                                يعمل...
                                X