إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

سيرة الإمام الصدر

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سيرة الأمام الصدر (بحث 1 ) جزء 1

    الموضوع : بحث ـ ضرورة تقيد أساليب التربية بأصول الدين.
    المكـان : القاهرة ـ 23/10/1977
    المناسبـة : انعقاد المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية.
    المقدمـة : المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية أنعقد في القاهرة بدعوة من الأزهر بحضور ممثلين من 56 بلداً من القارات الخمس بالإضافة إلى ممثلين عن جميع الدول العربية والإسلامية. وكان في وفد بريطاني، نمساوي، يوغسلافي، يوناني، قبرصي، سوفياتي، تنزاني، موريشس، صومالي، نيجيري، توغالي، سنغالي، سيلاني، هندي، ماليزي، إندونيسي، جزر القمر. وكان المؤتمر برئاسة شيخ الأزهر يساعده أمين عام مجمع البحوث الدكتور عبد الجليل الشلبي.
    جدول أعمال المؤتمر وأبحاثه تنحصر في: مشكلات العالم الإسلامي إمكانية تطبيق الإسلام لمعالجة مشكلات العصر، قضايا تربوية معاصرة، موقف الإسلام من التيارات السياسية والعقدية المعاصرة.
    بدأ المؤتمر عمله بإقامة صلاة الجمعة في جامع الأزهر، ثم استمرت طوال الأسبوع يوم الجمعة أيضاً.
    تتألف الوثيقة من:
    1 ـ مقدمة استهل سماحة الإمام محاضرته.
    2 ـ نص المحاضرة.
    ـ الــنـــص ـ
    1ـ مقدمة المحاضرة: إسرائيل انتقمت من العرب في لبنان:
    سماحة الإمام السيد موسى الصدر استهل كلمته في المؤتمر بقوله:
    يختلف المؤتمر الثامن عن المؤتمر السابع بأمور عديدة. منها أننا فقدنا خلال هذه المدة، أي منذ 1972 حتى 1977 مجموعة من زملائنا : الشيخ محمد أبو زهرة، الشيخ عبد الله غوشه، الأستاذ صالح بويصير والأستاذ مالك بني يني نترحم عليهم.
    ومنها أن المؤتمر السابع كان في أجواء احتلال القنال وسيناء، وكنا نزور مدينة السويس ولا نجد فيها موجوداً حياً، عدا الجنود والضباط والذين كنا نلتقي بهم في مسجد الشهداء، وكان كالقلعة الراسخة في وجه العدو محفوفاً بأكياس الرمل.
    أما اليوم فإن القنال وقسماً من سيناء قد تحرر، وكذلك قسماً من الجولان، ومدينة السويس عادت إلى طبيعتها.
    لم يكن هذا هو النصر الوحيد للعرب والمسلمين، بل كان بداية انتصارات لهم وهزائم للعدو الإسرائيلي، سياسية، دبلوماسية، بترولية، واقتصادية.
    وكان آخرها ثقافية إيديولوجية حيث طردت إسرائيل من منظمة الأونيسكو واعتبرت الأمم المتحدة الصهيونية نوعاً من العنصرية، وهذه بداية النهاية لإسرائيل حيث أن العالم لفظها واعتبرها غريبة عن العائلة البشرية التي ترفض التصنيف العنصري.
    ولذلك فإن إسرائيل انتقمت من العرب في لبنان، حيث شنّت عليه حرباً غير مباشرة وأصابت العرب ولبنان بخسائر بشرية ومادية تفوق جميع ما أصيب به الجانبان في جميع الحروب العربية الإسرائيلية.
    وأضاف الإمام: ولا تزال الحرب مستعرة في جنوب لبنان حيث تريد إسرائيل فرض التعامل على أبناء الجنوب وتطمع في مياه الجنوب وتريد خلق حزام أمني لها في وجه الفلسطينيين، ولكن أبناء الجنوب صامدون يفضلون التشريد والخسائر والموت على ذلك.
    وقد أصابت إسرائيل العرب بخسائر معنوية أهمها خلق فتنة طائفية وإيجاد اهتزاز في الوحدة الوطنية الأمر الذي يشكل خطراً على العرب ويؤكد الوجود العنصري لها، ولم تزل إسرائيل بالمرصاد للعرب وللمسلمين وللمسيحيين بالمرصاد، حيث أنها تستعمل أنواعاً من الحرب المتنوعة ضدهم جميعاً، وهي الآن تدعي حماية المسيحيين في الجنوب وهي الخطر الأكبر لهم، وهي تحرض وتفتن وتخلق مشاكل وتيارات حضارية وثقافية، ولذلك فإن القيادة الإسلامية تعيش اليوم أخطر مراحل حياتها. وهذه تستدعي اليقظة "الحذر والارتفاع بمستوى العصر".
    ثم بدأ الإمام موسى الصدر محاضرته عن قسم المشاكل التربوية المعاصرة وحلولها وقدم المقترحات.
    2ـ نص المحاضرة:
    قد يبدو في الوهلة الأولى أن أساليب التربية بعيدة عن أصول الدين حيث أن الفقه الإسلامي يبحث في قسم الآداب والسنن وفي مسائل الولادة من كتاب النكاح عن تربية الطفل مثلاً، بينما الأصول هي الجذور العقيدية والثقافية للإسلام وهي الأوليات والبدايات فيه.
    ولكن المزيد من التأمل يكشف أن القرآن الكريم نفسه يعتمد في تربية المسلمين أفراداً وجماعات، أسلوب التقيد بالأصول كما نشاهد خلال هذه الدراسة، كما تثبت أن فصل الأساليب التربوية من الأصول هو جزء من المأساة الكبرى لاستيعاب الإسلام وللدعوة إليه.
    إن هذه الدراسة تعرض أولاً أساليب التربية المختلفة ثم تحاول اكتشاف الأسلوب القرآني وهو الترابط المتين بين الأسلوب التربوي وبين الأصول وهنا تلقي الدراسة أضواء على طريقة القرآن لعرض الإسلام والدعوة إليه، وهي طريقة تختلف كلياً عن الطريقة الأكاديمية. وتقسيم الإسلام إلى مسائل العقيدة والشريعة وتفصيل الشريعة إلى الفقه والأخلاق. ثم تقسيم الفقه إلى كتب في العبادات والمعاملات.. والسياسات والأحكام وهكذا.
    وفي نهاية الدراسة نبحث عن الضرورات التربوية الحادة المعاصرة وعن بعض المقترحات لمواجهتها.
    أولاً: الأساليب التربوية والأسلوب القرآني:
    إن الأسلوب البدائي للتربية هو توجيه الأمر والنهي إلى موضوع التربية (المربي) ولا شك أن له تأثير محدوداً ومضاعفات سلبية أحياناً سيما عندما يستعمل العنف في سبيله وعندما لا يؤخذ وضع المربي النفسي بعين الاعتبار.
    أما الأسلوب الثالث الذي يعتز به أصحاب المدارس الاجتماعية الحديثة فهو التوجه أولاً إلى البيئة بالمربي فرداً كان أو جماعة، لتصبح مناخا للهدف التربوي وليتكون تيار نحوه يسهل على المربي العمل والإقناع.
    والقرآن الكريم يستعمل هذه الأساليب الثلاثة في آن معاً ويضيف أسلوباً رابعاً هو من اختصاصاته ويعتبر أنه من معجزات الإسلام تحاول المدارس الإصلاحية والثورية المتأخرة أن تقتبس منه.
    إن القرآن الكريم يأمر وينهى بمختلف التعابير والوسائل، ويذكر الدليل ويعتمد على الفطرة وعلى المرتكزات الراسخة عند الشعوب وعلى العبر التي يمكن استخلاصها من الأمم السالفة ويستعمل ألفاظاً تشبه الأدلة، مثل كلمات "الطيبات والخبائث" ويذكر دائماً برحمة الله ومحبته ونعمه وعلمه بمصالح الناس كل ذلك، حتى يكون القناعة المقترنة بالمشاعر نحو الوظائف (الأسلوب الثاني).
    ولقد أعلن الرسول الأعظم في خطبة الوداع "أيها الناس ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة إلاّ وقد نهيتكم عنه".
    أما اهتمام الإسلام بتكوين البيئة الصالحة فيبدو من تعاليمه القاطعة حول وجوب إقامة المجتمع الإسلامي ومن توجيه التام من أجل مناخات ملائمة كالجماعة والجمعة والحج وشهر رمضان والأعياد ورفض التحجب عن الناس وعدم اعتزال الجماعة والمنع عن عشرة المفسدين والفسقة والعصاة إلاّ لإصلاحهم وهكذا.
    ومع ذلك كله يستعمل القرآن الكريم أسلوبه الخاص الذي يمكن أن نسميه ثورة في المفاهيم أو تحولاً عميقاً في الرؤية العامة للكون والحياة وارتباط الهدف التربوي.
    وعندما يرسم القرآن الكريم صورة الخلق والموجودات والحياة من خلال العقائد ومن خلال المعلومات التي تضيفها آياته البينات إلينا، فإنه يحاول خلق مناخ كوني عام في ذهن الإنسان يحس معه بأن البقاء والنجاح والخلود في الالتزام بالتوجيهات الإسلامية وان الوجود ينبذ كل فرد وكل جماعة لا تنسجم مع هذه القواعد وان الفناء والنسيان مصيرها.
    في سورة الرحمن وفي آية منها نتلو: { وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن:7ـ9). نلاحظ الربط بين عدم الطغيان في الميزان وإقامة الوزن بالقسط وبين رفع السماء ووضع الميزان الذي هو تعبير عن الحساب والنظام والعدالة الكونية.
    وفي سورة آل عمران وبعد الآية {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} (آل عمران:18). والتأكيد على قائمية الله بالقسط نجد آيات أخرى كنتيجة للآية الأولى وأوضحها {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (سورة آل عمران:21). حيث أن الإدانة لمعادي القسط ولخصوم العدالة معللة بقائمية الله بالقسط وثمرة من ثمارها.
    وفي سورة الأنبياء آية 16 نقرأ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} وفي الآية 18 نصل إلى بعض نتائج هذا المبدأ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (آل عمران:21) .
    وفي بعض المقامات ترد النتائج قبل المبادئ ومنها الآيات 26 آية 32 {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ . وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ . مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ . وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. حيث أن فناء الذين يتركون الجنات والعيون دون أي رد فعل لأن قوم تبع كانوا أقوى منهم وأنهم يتنكرون للبعث والحساب، أقول أن فناء هؤلاء أثر طبيعي لخلق السموات والأرض مبنية على الحق.
    الآيات التي تؤكد أن الخلق كان في ستة أيام وأنه كان خلال أجل مسمى مع وضوح معنى الأيام في المصطلح القرآني وأن المقصود منها في المراحل والعهود كما يتضح ذلك في مقدمة سورة فصلت. أقول أن التأكيد على كون الخلق خلال أجل مسمى، ستة أيام، تمهيد للنتائج المهمة التربوية التي تنتج عنها وهي حسب الوصف القرآني انهزام الروم بعد غلبتهم وأنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا (سورة الروم) وضرورة التوجه إلى الله ودعائه تضرعاً وخفية وخوفاً وطمعاً (سورة الأعراف) وتشجيع المؤمنين العالمين بالقسط والملتزمين بالسنن والحساب والمتفكرين في اختلاف الليل والنهار والظواهر الكونية الأخرى (سورةيونس) والاختبار في العمل السباق نحو الصالحات (سورة هود).
    وأخيراً وليس آخراً للتوكل على الله وتسبيحه وذكره والصبر على ما يقولون استهزاء وشماتة وافتراء (سورة الفرقان وق).
    ومجمل القول أن التربية القرآنية تعتمد على توفير الوسائل التربوية المعتمدة بالإضافة إلى التقيد بأصول الدين وما تعكسه أصول هذه من القواعد العامة للخلق وتأسيسه على الحق والعدل والأجل المسمى وغير ذلك من الأساسات التي يعلنها القرآن ويربط بينها وبين المطالب التربوية وتوجيه حياة الإنسان الذي يريد النجاح نحو المسلك القائم على العدل والحق والمنطبق على صفات الله وتعليمه باعتماد خطة عمل قائم على أساس جدول زمني لا متنكراً للزمن ولا مهملاً للتحديد كما هو الحال في الخلق.
    = يتبع =

    تعليق


    • سيرة الأمام الصدر (بحث 1 ) جزء 2

      ثانياً: نتائج هذا الأسلوب:
      أولهما: تمتد أبعاد العمل المطلوب في تصور المربي وفي الواقع إلى البعيد فتصل إلى الأزل والأبد وإلى الأرض والسماء وإلى أساس الخلق.
      وهذا الإحساس يضمن تأثير التربية كما يصون استمرارها.
      ثانيهما: إن الإنسان إمام هذا الأسلوب يشعر بالمواكبة العالمية وان الموجودات كلها ترافقه ولا يحس أبداً بالغربة حتى ولو كان سلوكه مخالفاً أو متناقضاً أو محارباً مع سلوك الآخرين ويلمس معنى الحديث الشريف "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله".
      وهذه الميزة بالذات واردة في القرآن الكريم عندما يؤكد سجود الشمس والقمر والنجوم والأشجار والبحار والرعد والدواب ويكرر أنها كلها ساجدة لله مصلية له والإنسان بفطرته وبجسمه أيضاً يمشي في هذا الركب الكوني الكبير وهذه المواكبة تسهل جداً على الإنسان أن يطيع الأمر والنهي وأن يسجد ويسبح ويصلي ويعمل الصالحات.
      وثالثها: تلاقي كافة طاقات الفرد في جميع أحواله وأزماته وتلاقي طاقات الجماعة بمختلف الفئات والمستويات، ذلك لأن المنطق واحد والخط واحد والأسلوب واحد وبذلك تتكون قوة كبيرة من الطاقات لا تعجز عن تحقيق أي هدف مهما كان صعباً ومستعصياً. إن طاقات الفرد كثيرة جداً ولكنها تتشتت، وطاقات الجماعة تفوق درجة التصور ولكنها تتناقص ويصطدم بعضها ببعض ومع توجيه هذه الطاقات وتنسيقها وتجنيدها فإن القوة الذاتية للأمة لا تهزم.
      ثالثا: طريقة القرآن لعرض الإسلام والدعوة إليه:
      وبعد أن نستوعب هذا الأسلوب القرآني المعجز للتربية نصل إلى نقطة أساسية أخرى قد تكون كبرى لبحثنا التربوي الا وهي الإسلام مع العلم أن الإسلام لدى المسلمين وحتى لدى العلماء والباحثين ولأسباب تعليمية ينقسم إلى أقسام عديدة: علم العقائد والعلوم المتعلقة به كالفلسفة الإلهية وعلم الكلام وعلم الفقه بأقسامه العديدة عبادات ومعاملات وسياسات وأحكام مع الكتب المتعددة في كل قسم وأخيراً علم الأخلاق.
      ونشاهد أيضاً تقسيم الإسلام إلى أصول يحتاج إلى أيمان ودليل قاطع وإلى فروع وهكذا.
      إن هذه التفصيلات التي حصلت بدواع علمية وعلى أساس درجة الأهمية أحياناً خلقت نوعاً من الضعف التربوي وكثيراً من الاستهتار حتى بلغ الأمر ببعض المسلمين أن يعتزوا بإسلامهم في قلوبهم من المسلمين مسائل الحياة الاجتماعية والسياسية.
      ويعود السبب في جميع ذلك إلى هذا التقسيم الأكاديمي للإسلام.. أما القرآن الكريم فإنه يقرن المسائل العقائدية بالمسائل العلمية ويربط بينهما وبين الأخلاق كما شاهدنا ذلك في أسلوبه التربوي.
      ففي بدايات سورة البقرة يصف المتقين بصفات خمس: ثلاث منها عقائدية وهي الإيمان بالغيب والإيمان بما أنزل إلى النبي وإلى الأنبياء واليقين بالآخرة واثنتان منها من المسائل العلمية وهما الصلوة والزكوة تستحق الويل (سورة الماعون).
      وقلًّ ما يرد في القرآن ذكر العقيدة دون ذكر العمل الصالح مع أنهما في حسابات التقسيم الفقهي من مقولتين مختلفتين.
      وفي دراسة دقيقة للأحكام الإسلامية نلاحظ التفاعل الواضح بينها وان ممارسات العملية هي ذات تأثير واسع على الإيمان والإيمان قاعدة للأخلاق ويتأثر بها أيضاً. كما وان المسائل العقائدية ترسم الخطة العامة للقضايا الاجتماعية ورؤاها.
      وهذه التفاعلات يشير إليها القرآن الكريم في أماكن متعددة منها {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون} (الروم:10). {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ . يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} (القيامة:5ـ6). الآيات هذه تؤكد تأثير الأعمال على العقيدة.
      والأحاديث عندما تحرم الكبر تعتبره نوعاً من الشرك والتشبه بسلطان الله عز وجل والكثيرون من الكفار وكبيرهم إبليس استكبروا فكفروا {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
      أما تأثير أصول الدين سيما التوحيد على العبادات وعلى ترويض الإنسان وإصلاحه لكي يصبح متعاوناً متفائلاً يعامل أخاه الإنسان بانفتاح وحسن ظن وتكافؤ دون أن يتخذ منه إلها أو شيطاناً أو عبداً وكذلك تأثير المعاد على دقة الإنسان في سلوكه ومحاسبته لنفسه وإحساسه بالمسؤولية وغير ذلك من التفاعلات والتأثير فهي تفوق إمكانية البحث والحصر.
      إن الدراسات الإسلامية تحتاج إلى مادة خاصة بوحدة الإسلام واعتباره كلا لا يتجزأ والمتحدث فيها عن ترابط الأحكام ولا بد من اعتبار هذه المادة ضرورية لجميع الدارسين والدعاة.
      رابعاً: في المسائل التربوية الحادة المعاصرة:
      يمتاز عصرنا بأنه عصر الاختصاصات ولا يمكن تصنيف الناس إلى عالم وجاهل بل أكثر الناس أصبحوا علماء كل في اختصاصه وهذا بحد ذاته يجعل الدعوة والتربية مما كانت سابقاً.
      ومن جهة تتبنى عقائد وآراء فلسفية تدعو أليها بجميع الوسائل وهي مزودة بطبيعة مروجيها وهي المؤسسات العالمية التي تؤيدها بأحدث الأسباب وأدق الأجهزة وأغنى الوسائل.
      وهذه المدارس التي تحارب الأديان، تتبنى في نفس الوقت طرق الدعوة الدينية وتطلب الإيمان بمبادئها وتقف بقوة وبخطط مدروسة ضد دعوتنا الإسلامية ولا تتورع عن استعمال جميع الطرق للقضاء عليها.
      وليس التهجم على المؤسسات الدينية وعلى العلماء هو الوسيلة الوحيدة لديها، بل تخلق الانقسامات والخلافات الداخلية وتجند عناصر، بعلمها أو بدون علمها، للتصدي للقادة الروحيين ولتحديهم واثبات عجزهم عن تحمل المسؤولية.
      إذاً علينا أن ندرك أن مجتمعاتنا أصبحت ساحة الصراع العقيدي متعدد الأطراف مع عدم التكافؤ في الوسائل والأسباب.
      ومن جهة ثالثة وبسبب اعتماد السياسات على واجهات عقيدية فإن تعدد السياسات الحاكمة في بلاد الإسلام جعل التشتت الفكري بين البلاد وداخلها أمراً محتوماً.
      ثم أن الوضع المؤلم وتصاعد التشكيك في القيادات يدفعان بالكثير من الأفراد والجماعات لأن يتصدوا للمشكلة رغم عدم كفاءاتهم وبسبب الآلام النفسية، وهذا الوضع بدوره يدفعهم إلى معالجات خاطئة متطرفة أحياناً ومسايرة مايعة أحياناً أحياناً أخرى.
      ولكل من الطريقتين ردود فعلهما وتفاعلاتهما الاجتماعية، ومن جملتها التعرض للأقليات التي هي بدورها مصابة بمثل هذه الأمراض فيضعها في جو الدفاع أو يعطي المستعمر ذريعة تجعل الأقليات في أجواء الدفاع عن النفس وتزداد الصعوبات وهكذا.
      كل هذه المحن ولا نزال نتحدث عن الأرضية التربوية الموجودة في عالمنا الإسلامي دون أن نذكر إسرائيل وشرورها وسمومها ووسائلها المتنوعة الخطرة ودون أن نتحدث عن الإستعمار وقدرته وحبائله وثقافاته وتبشيره. فإذا أردنا استعراض الوضع مع هذه العناصر الأساسية وحاولنا دراسة المشكلة بجميع أبعادها فإن الأفق يبدو حالكاً والمستقبل مظلماً والعواصف الهوجاء تعصف بنا من كل جانب.
      هل المحنة القاسية تدعونا إلى اليأس؟ كلا. أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولكن الاستهتار بالمشكلة وعدم الاستعداد لمواجهتها لا يجتمعان مع روح المسؤولية، فالمبدأ الذي ترفض به اليأس يأتي بعد قول يعقوب: "يا بني أذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه".
      خامساً: بعض المقترحات:
      إن من عنايات الله وجودنا الآن في مؤتمر يضم علماء المسلمين من أقطار العالم وهو المؤتمر الثامن. يعني أن أمامه مجموعة من التجارب تمكنه من تقييم الأمر.
      ووجود مجمع البحوث الإسلامية دليل على عزم الأزهر الشريف على مواجهة المشكلات بروح المسؤولية التامة.
      ولست هنا لاقترح مزيداً من الأعباء والتكاليف على الأزهر دون أن أدعو نفسي ورفاقي في المؤتمر لأجل تحمل مسؤولية المرحلة المعاصرة.
      فالمقترحات للدرس والمناقشة ولكي يقوم كل من بدروه.. أن القيادة المسؤولة عن الإسلام بحاجة إلى عناصر ثلاثة:
      أولاً: تكثيف الجانب الروحي والتهذيب النفسي للدعاة. فالعالم رغم تقدمه المادي، بل بسبب هذا التقدم متشوق إلى الصفاء الروحي والتنزه عن الماديات ولا بد من الاعتراف بأن مظاهر الكثير من علماء الدين لا توحي بهذا.
      لا أقول أن العالم الديني والداعية يجب أن يترك متعة الحياة الدنيا فأن الإسلام يرفض الرهبانية وعلي عليه السلام يقول "ليس الزهد الا تملك شيئاً بل الزهد الا يملكك شيء".
      بل أقول أن نمو الوضع المادي المحيط بالإنسان يجب أن يرافقه النمو في الجانب الروحي لكي لا ينحرف وهذا ما نطالبه بإلحاح.
      إن ذرة من الروحانية لا تزال تتغلب على الكثير من الأسباب المادية وتجاربنا في أقطار العالم، حتى في البلاد المتقدمة جداً تثبت ذلك.
      ثانياً: وضوح الاهتمام بوضع المعذبين وعد الرضا بسلوك الظالمين والسعي الدائم للتخفيف من آلام الناس والغضب على من يحرمهم حقم.
      لماذا يأمرنا الرسول الكريم بأن ننكر المنكر بيدنا أو بلساننا أو بقلبنا وعلى جميع الافتراضات فانه غير راضٍ حتماً عن مسايرة الظالمين والركون إليهم.
      إن الإنسان المعاصر معذب. يشعر مهما بلغ بدرجة من الحرمان ويحمل الأنظمة والأشخاص مسؤولية حرمانه وعدم توفير الفرص المتناسبة له. وهو ينتظر أن يحس في الداعي أو العالم المسلم حرارة النضال وصرخة الحق.
      ثالثاً: تطوير الشكل وتحديثه يعني الاستعانة بالوسائل المتطورة والأساليب الحديثة لعرض الأفكار والأحكام ولتنظيم المؤسسات الدينية بحيث تصبح من حيث الشكل ووسائل العمل بمستوى المؤسسات العالمية.
      أن إحصاءاً دقيقاً ومتجدداً عن المسلمين في العالم وعن شؤونهم التربوية، وعن قادتهم الروحيين وعن مؤسساتهم الدينية والثقافية وعن كتبهم وجرائدهم وحصصهم في الإذاعة المسموعة والمرئية وعن إمكانياتهم، من أوليات التطوير المؤسس علماً بأن أولى المؤسسات بهذا الأمر الذي لا تتحقق الرعاية بدونه هي الأزهر الشريف.
      إن بعض المسلمين في العالم في الفليبين وارتيريا والحبشة معروفة ولكن المعلومات المتفرقة تؤكد وجود مآس أخرى لا تقل عن مأساة هؤلاء في تايلاند وسيام والمجر وغيرها.
      وفي حدود مشاهداتي لم يكن موقف المسلمين العرب وغيرهم تجاه محنة المسلمين في لبنان يتناسب مع عظمة المحنة وكان هذا ناتجاً عن عدم معرفتهم بواقع الأحداث التي جرت في لبنان وتجري حتى الآن في جنوبه.
      إن وضع المذاهب الإسلامية في أقطار العالم يجب أن تعالج بسماحة وجدية كبيرتين سيما بالنسبة إلى أولئك الذين انحرفوا عن أركان الإسلام بسبب بعدهم عن الفهم الصحيح وظهور مبتدعين بينهم.
      إنني لا أعرف حتى الآن اهتماماً بالمستوى المطلوب بهؤلاء الناس أبداً، أقلهم إلا طرد البعض لهم وقبول الآخرين دون علاج لأمرهم رغم تعطشهم الكبير بتصحيح أفكارهم والشوق إلى التلاقي مع أخوتهم في الدين.
      إن المؤسسات المعنية بشؤون المسلمين من مؤتمرات ومراكز ثقافية وغيرها أصبحت كثيرة وهناك نشاطات واسعة يقوم بها الأفراد. ولقد آن الأوان لأن يصبح مجمع البحوث هو الهيئة القيادية العليا تتمثل فيها المؤسسات والمؤتمرات الإسلامية.
      وهذا الأمر يتطلب تخصيص هيئة من كبار علماء المسلمين ومن أعضاء المجمع أو المؤتمر أو من غيرهم وبتكليف من المجمع للقضايا العلمية وتفرغ المجمع وأمانته العامة للقيام بمهمة رعاية المسلمين في العالم ودرس أحوالهم وتتبعها، وعند ذلك يصبح المؤتمر هذا هيئة عامة والمجمع المتفرع أمانة عامة دائمة.
      وغني عن القول أن المجمع حسب هذا الطرح يبقى على صلة دائمة بأعضاء المؤتمر وبغيرهم لادخار المعلومات التي ترده بانتظام وبتبويبها وإرسال تقارير بشأنها.
      ومن أهم الأعمال المطلوبة من مثل هذه الهيئة القيادية هو تنسيق النشاطات التي تصدر في العالم لكي لا يطبع كتاب أو يترجم مرات مختلفة بل يزود المجمع سائر المؤسسات في العالم بذلك توفيراً للطاقات وتوجيهاً نحو الفراغات.
      وحول المؤتمر وقراراته لابد من وقفة جريئة مخلصة ومن السعي لعدم إصدار قرار أي قرار أكثر من مرة ومن البحث حول الأسباب التي منعت تنفيذ القرارات التي صدرت مراراً منذ المؤتمر الأول ومن الامتناع عن إصدار أية قرارات دون توفير شروط تنفيذها وإلا فليكتف المؤتمر بإصدار لفتوى أو توصية.
      تعليقات على المحاضرة:
      وعلق رئيس المؤتمر على المحاضرة بأنها محاضرة قيمة نطبعها ونوزعها ونشكل لجنة لدرس المقترحات الواردة فيها.
      وكذلك كان أكثر المحاضرين يعلقون على الأبحاث الواردة فيها.

      تعليق


      • سيرة الأمام الصدر (مقال 5 )

        الموضوع : مقال صحفي ـ أن النصر المطلق في يوم العبور كان يعني عدم استحالة الانتصار على إسرائيل.
        المكـان : بيروت ـ 8/10/1977
        المناسبـة : كتب سماحة الإمام السيد موسى الصدر هذا المقال في العدد الخاص المشترك الذي أصدرته جريدة "النهار العربي والدولي" اللبنانية وجريدة "تشرين" السورية، 8/10/1977 بمناسبة الذكرى الرابعة لحرب تشرين.
        ـ الــنـــص ـ
        لقد أطلق القرآن الكريم يوم الفرقان على يوم بدر الكبرى، وهي حرب وقعت بسبب هجوم المشركين من قريش في مكة على المجتمع الإسلامي الناشئ في المدينة، وقد انتهت بهزيمة قريش وانتصار المسلمين.
        والفرقان في رأي الاختصاصيين من رجال الحديث والتفسير هو التمييز الذي برز، في مقابلة الحق والباطل، بين التعدي والعدالة، بين غرور قريش وخيلائها حسب الوصف المشهور آنذاك وبين الانكسار الذي منيت به أمام المستضعفين من أهل المدينة، وكان ذلك تحولا في معادلات الحجاز بل الجزيرة كلها.
        كما أن يوم بدر كان فرقانا بين الضعف المعبري والبداوة والارتجال وبين التعبئة النفسية التي قام بها الرسول في المعركة الى جانب التخطيط الدقيق الذي أدى الى انتصار أصحابه، برغم قلة السلاح والعتاد والعدد والعدة، وبرغم الإحساس الكامن لديهم من عدم التكافؤ بينهم وبين قريش الذي يشير إليه القرآن الكريم بقوله: {وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} (الأنفال:42)، وهذا التحول بدوره كان بداية لصناعة التاريخ الجديد.
        وهنا يبدو السبب في اهتمام المسلمين بهذه الحرب ورجالها وشهدائهم حتى كادت أن تصبح "بدر" منعطفاً أو بداية لتاريخهم.
        وجاءت حرب تشرين وكانت في شهر رمضان المبارك، شهر واقعة بدر بالذات وكانت في يوم الغفران أهم أعياد اليهود، وعبرت القوات المسلحة العربية القناة وخط بارليف من سيناء، كما عبرت المواقع المحصنة في الجولان، وإذا اقتربت من نهر الأردن، كما اعترف بذلك "شارون" أخيراً.
        وتحولت كبرياء إسرائيل وقدرتها الأسطورية ومناعة مجتمعها وقناعة العالم بأنها وجدت لتبقى وثقة شعبها واليهود في العالم بحكومتها تحولت كل ذلك الى صورة مهزوزة مفككة تحتاج في بقائها أيضا إلى دعم مستمر والى جسر جوي ينقل قوة الولايات المتحدة إليها. وتحولت معها ثقة الشعب الى شكوك واتهامات. مما أدى الى تصاعد الهجرة المعاكسة.
        وعادت عند العرب ثقتهم وتجلت أمامهم قدراتهم المادية والمعنوية وأزيحت الغشاوة عن عيون العالم الذي بدأت فيه كل دولة بتعديل أو تغيير في المواقع السياسية والدبلوماسية. وبلغ الأمر حدا أسقطت التنظيمات الدولية الثقافية منها والاجتماعية، إسرائيل من العائلة البشرية معتبرةً الصهيونية، وهي قاعدة إسرائيل الأساس، نوعا من العنصرية التي يرفضها العصر رفضا مطلقا.
        وسميت أيام هذه الحرب، يوم العبور، وهي عبارة أخرى عن معنى كلمة الفرقان ولعلها تعبير دقيق عن مفهوم يوم الغفران بمعناه الفلسفي.
        إن النصر الشامل في يوم العبور كان نصرا مطلقا، برغم استعادة إسرائيل لأنفاسها ولأسلحتها ولتفوقها العسكري وبرغم انتقامها المرير من لبنان ومن العرب في لبنان بعدما منعتها الولايات المتحدة من شن حرب عسكرية خاطفة على العرب في سنة 1974 حسب اعترافات رابين في جلسة الكنيست السرية.
        إن هذا النصر المطلق كان يعني عدم استحالة الانتصار على إسرائيل. وهذا المفهوم سيبقى حتى لو انتصرت إسرائيل في لبنان وفي جولات أخرى، تماما مثل الانتصار القرشي في واقعة أُحد على المسلمين انتقاماً لهزيمة "بدر"، والتفسير الفلسفي من هذا المبدأ هو التعبير الأوضح والادق وهو:
        "أنه أتى لا يتخلف ولا يختلف"
        وأمام هذه الظاهرة التاريخية التي تكررت مرارا في تاريخ العرب في تاريخ المؤمنين بالله جميعا، مسلمين ومسيحيين، أجد مسؤوليتي، عندما أشارك في تعظيم ذكرى حرب تشرين بهذا المستوى الرفيع.
        أقول: أمام هذه الظاهرة أجد مسؤوليتي أن أتحدث عن العنصر الأساس لهذا النوع من الانتصارات والمنعطفات التاريخية، وأن أشير الى تلك القوة الكامنة في الشعوب والتي لو كانت متجلية بالشكل الصحيح وبأبعادها الكاملة لما انقرض شعب ولا انهزم، بل كان دائماً متجدد القوى عزيزا كريما فاعلا في صناعة التاريخ والحضارة شاهدا على الشعوب والأمم كما أراد الله تعالى.
        إن هذه القوة هي الإيمان بالله، ذلك الإيمان الذي نشاهده في العادة راكدا غائبا عن التفاعلات أو متحولا الى عصبيات دميمة حتى إذا عادت صافية فاعلة منفتحة بأبعادها السماوية والإنسانية ونتائجها العلمية والعملية وبشموليتها لاستنفار كل طاقات الفرد والمجتمع وبعدالتها التي ترفض الانحراف في الهدف وفي الوسيلة معا، عند ذلك تجعل الإنسان يزيل الغبار ويقوم الانحراف ويجند القوى ويوحد الشعب فيصبح تاريخا جديدا ويدخل في التاريخ من جديد.
        إن نظرة سريعة الى معالم المعركة تكشف عن اعتمادها التام على سلاح الإيمان بمعناه الصحيح، لا بمفهومه التجريدي أو الطقسي أو الاتكالي أو المنغلق التعصبي العنصري:
        ـ كلمة السر كانت لفظة بدر تعبيرا عن عدالة المعركة ودقة تخطيطها وتعبيراً عن التعبئة التامة المستمدة من التجربة الناجحة وتذكيراً بالآية القرآنية الكريمة {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ . وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} صدق الله العظيم (الأنفال:59-60).
        ـ شعار المعركة كان "الله أكبر".
        ـ اعتمدت السرية المطلقة في المعركة، حتى أن الحرب كانت مفاجأة للاستخبارات الأمريكية برغم وسائلها وأقمارها الصناعية، وقد أكد ذلك تقرير كورت فالدهايم للأمم المتحدة.
        ـ نجد في السنة التي سبقت الحرب دعوة العرب وللعالم وللأمم المتحدة وللدول جميعاً أن يحولوا دون الحرب وأن يسرعوا الى إحقاق حق العرب السليب كما نجد إصرار العرب على عكس موقفهم سنة 1967.
        ـ في خطابات قادة الحرب، خاصة في خطاب الرئيس الأسد، نجد فقرات مدهشة حول عدالة الحرب وعدم الرغبة في القتال والاعتداء وعدم القبول بالاعتداء على أحد.
        ـ الالتزام بصدق الإعلام وعدم المبالغة عكس الإعلام الإسرائيلي في هذه الحرب وبعكس إعلامهم في حرب سنة 1967.
        ـ التخطيط الدقيق للمعركة، حتى محاسبة الجزر والمد والساعة والحالات النفسية للعدو، بالإضافة الى التجارب المتكررة للمرور تحت الماء في القناة وحاسب هبوب الرياح في تلال الجولان وغير ذلك.
        ـ مشاركة المسلمين والمسيحيين في مستوى الجنود والقيادات العسكرية وفي المساندة الشعبية والتوجه نحو المساجد والكنائس وفي دعوات جميع رجال الدين من أجل تعبئة الناس جميعا.
        ـ الابتعاد عن المزايدة وعدم تحمل الناس والدول دوراً يفوق قدرتهم، ففي مساندة السعودية والخليج وفي نوعية المهمة التي كلف بها الأردن وفي مواقف لبنان الرسمي وفي مشاركات المساندين شواهد واضحة على هذا التنويع العادل والمحتسب للأدوار.
        ـ إن المراقب لأجواء دمشق والقاهرة أيام حرب تشرين كان يرى بوضوح ذلك المناخ الروحي الرافع الذي يجند كل طاقة ويمنع كل انحراف، فالأسلحة كانت في يد الناس بكثرة، والمواد الغذائية بقيت ضمن الأسعار المحددة وكان الناس يعيشون في عالم آخر بعيد عن المصالح المادية والذاتية مع استعداد للتضحية حتى الاستشهاد.
        ـ لقد كانت طاقات الفرد والأمة مجندة موجهة نحو المعركة، والإيمان الصحيح كان العنصر الأساس في هذا التجنيد.
        والآن وفي الذكرى الرابعة لحرب تشرين المجيدة، وفي يوم المحاسبة وتقويم الظاهرة ونتائجها السياسية والاجتماعية والمعنوية.
        وبعدما انتقمت إسرائيل من لبنان ومن العرب في لبنان ومن جنوب لبنان خاصة، وبعدما مرت تجربة فاعلية الإيمان بصوره المتنوعة، الإيمان الطقسي الإيمان الوراثي الراكد، الإيمان العنصري المنغلق، الإيمان الاتكالي وغيره.
        بعد هذه الملاحظات لا نجد صعوبة في اختيار طريقنا في معاركنا العامة مع العدو وفي معركتنا اللبنانية القادمة، معركة الوفاق، معركة البناء السياسي، والاجتماعي والإنمائي والنفسي، معركة اللحاق بالركب الإنساني المتحضر، معركة تصحيح الصورة المشوهة للعالم الذي ينظر إلينا بإشفاق ومرارة.
        إن طريقنا في لبنان لا يمكن أن يمر إلا على القاعدة الإنمائية المتكاملة، فاعلية الإيمان: انفتاحه، أثره على الدراسة والتخطيط، واختياره للوسائل المتجانسة مع الأهداف الصحيحة وأخيراً، وهذا هو المهم، الاحتفاظ بالبعد الإنساني للإيمان. فمن لا يحب الإنسان ولا يخدمه لا يؤمن بالله عز وجل.

        تعليق


        • سيرة الأمام الصدر (رسالة 3 )

          الموضوع :رسالة إلى اللبنانيين ـ اللقاء كان تاريخيا محتوماً بين الإسلام والمسيحية، والصهيونية تلعب بتراث المسيحية والإسلام معاً .
          المكـان : المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ـ 21/12/1977
          المناسبـة : في ذكرى العاشر من محرم 1387 هجرية وجه الإمام الصدر هذه الرسالة التي نشرتها الصحف اللبنانية بتاريخ 22/12/1977
          ـ الــنـــص ـ
          "أيها اللبنانيون،
          في هذا الوقت من السنة الحادية والستين للهجرة، أي قبل ألف وثلاثماية وسبعة عشرة عاما، كان الحسين بن علي وفاطمة وسبط الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قتيلاً مع جميع أهله وأصحابه. وكانت أجسادهم المحطمة على أرض كربلاء، عرضة لهبوب الرياح الساخنات، مكشوفة لإشعاعات الشمس المحرقة ولجولات الرمال المتحركة، بينما كانت عائلته وعائلة كل من كان معه تستعد للسبي والرحيل في أقسى الظروف الى البلاد النائية.
          وفي هذا الوقت، وفي المكان نفسه كانت تنبت رايات الثورة العاتية، التي ترعرعت ثم عصفت بحكم الطغاة وزلزلت عروشهم فاجتثّت آثارهم الأرض والتاريخ.
          لم تكن هذه الثورة التي انطلقت من كربلاء وعمت الأنفس وانتقلت الى الآفاق القريبة والبعيدة، إلا بعض آثار استشهاد الحسين، وإلا شعلة محددة من المشعل الحسيني الذي انتصب بعد منتصف القرن الهجري الأول.
          إن الساحة الحقيقية التي ولدت فيها معركة عاشوراء، هي ساحة القيَم الإنسانية التي لا تنفصل عن الإيمان. أما أبعادها فتمتد مع الإنسان ومع حياته أينما كان ومتى يكون، تحطم جدران سجن ذاته وتربط بينه وبين بني نوعه وتخلق منه وجوداً كبيراً يفوق حدوده الزمانية والمكانية ويتجاوز قدراته وكفاياته.
          والحسين باستشهاده صان القيم، وبموته أحياها، وبدمه أبرزها ورسمها على جبين الدهر، ثم أدخلها في أعماق القلوب والعقول، بعدما هزها وفجرها بالفاجعة.
          إن الإنسان المعاصر للحسين، كان يعيش أقصى درجات الانحراف العام، الذي بدأ بانحراف الحكم ثم امتد الى كل قطاعات المجتمع وانتقل أخيرا الى النفوس وهزم الضمائر أو سخرها أو اشتراها أو سيطر عليها واجتر ضلعها.
          الخلافة المسؤولة، أصبحت الملك الموروث الذي يحكم بما يشاء ويفعل ما يريد. والجهاد الذي كان بابا من أبواب الجنة، تحول الى مغامرة تجلب الأرزاق والى باب للارتزاق.
          الأموال العامة، انتقلت من بيوت المال الى خزائن السلطان. والمراكز تحولت من الأكفياء الأتقياء الى أزلامه. لا قيمة للإنسان ولحريته ولحياته عندما يغضب عليه الحاكم وقد يقتل في مرج عذراء أو ينفى الى الربذة أو يتعرض لحملة حديث مختلق ومن مرتزق أدرك العصور الأولى.
          تجري هذه الأحداث والمنكرات والبدع وتتكرر ولا تجد أمامها معارضا أو معترضا أو متسائلا على الأقل.
          أما في هذه السنة وفي لبنان، فإن الذكرى تأخذ أبعادا جديدة أخرى، هي من طبيعة التفاعل بين التاريخ والجغرافيا في القضايا التي ترتبط بحياة الإنسان العامة. فبعد المحنة الداخلية التي استشهدت فيها القيم، وهي التي أحياها استشهاد الحسين كيف يمكن معايشة الذكرى ومعانيها والاقتباس منها؟
          وتقابل هذه الناحية السلبية، نقطة إيجابية وهي لبنانية أيضا وعلى رغم بعدها العالمي. فقد اقتربت ذكرى استشهاد الحسين من يوم ميلاد الفادي المسيح عليه السلام اليوم الذي يدفع القيم الروحية السامية على رغم الحدود العادية ذلك اليوم المليء بمعاني السلام بل يوم السلام نفسه، ومن جهة ثالثة تقع هاتان المناسبتان بين بداية السنة الهجرية والسنة الميلادية وكأن البداية اللبنانية لتاريخه الجديد والتي تضمخت بدماء الشهداء قد تمخضت عن ولادة السلام والمجد الإلهي.
          هذا المناخ يبعد عنا التشاؤم مهما ألح علينا بسبب القيم التي تساقطت في أرضنا العزيزة الى جانب أجساد الأبرياء الأعزاء.
          التطورات المثيرة الحديثة في منطقتنا، والتي تشير إلى إرهاصات واضحة لصراع الكبار ولانفجار الحرب الباردة بينهم في هذا الجزء من الأرض.
          ثم أن المواجهة في معركة غير متكافئة، في السلاح والعتاد وفي المسلك والانسجام والتي كان أحد آثارها الخلافات الداخلية تملأ الساحة العربية لتمكن الحرب الباردة تلك من تحقيق أغراضها.
          ها نحن عشية الذكرى وكأنها التذكير الخاص من الله خالق الأنام ومدبرها ومرسل الرسل وشرائعهم، تذكير لنا في لبنان يعلمنا كيف نعالج محنتنا، نضمد جروحنا، نوحد صفوفنا، ونجبه أحداث المنطقة.
          إن العناية الإلهية ترسم لنا الخطة بالذات بندا بندا: التضحية بالآراء، بالمواقف، بنتائج الأحداث وحتى بالمصالح الذاتية والفئوية لنحيي القيم، فهي وحدها تجمع وتوحد وتوسع وجود الإنسان وتخلده. ومع التوجه الى حياة القيم يولد السلام في الآفاق والأنفس، في السماء والأرض والناس.
          والسلام هذا لقاء تاريخي محتوم بين المسيحيين والمسلمين لأن اللقاء كان تاريخيا محتوما بين الإسلام والمسيحية، وعندما تظهر الصهيونية في الأفق تكشف عن أنيابها وتمد أصابعها، لا لكي تسعر نار الطائفية في بلدنا وفي منطقتنا فحسب فتحولها الى مخازن التفجير ومواطن الدويلات الطائفية. ولا لكي تشوه، هذه الصهيونية، دينها السماوي الذي نحترمه ونقدس رسوله الأمين فحسب، بل لكي تلعب بتراث المسيحية والإسلام معا وبتاريخهما وحضارتهما وثقافتهما وقيمهما مرة أخرى.
          مع فارق الكبير هذه المرة، أن التلاعب الذي قامت به في تاريخها الطويل وفي تاريخنا الطويل كان صادرا عن أفراد ومؤسسات: أما هذه المرة فإن المتلاعب دولة تستقطب جميع الأفراد والمؤسسات وتستعمل كل التجارب السابقة، وتستعين بالمضللين في العالم وهم الكثرة الساحقة من البشر.
          إن ذكرياتنا هذه السنة وفي لبنان على الأخص، تحمل إلينا البشارة الإلهية وتتلو علينا الآيات الكريمة التي تؤكد أن أقرب الناس الى المسلمين هم المسيحيون وأن اليهود الصهاينة والمشركين هم الأبعد، وتأمرنا بالتضحية ليولد السلام والحب والقيم وبالتضامن الوطني التام لنصون وطننا وجنوبنا الحبيب المهدد وكل ما نملك أمام الأخطار المحدقة بنا، ولنحمي ظهر أشقائنا الذين أبوا إلا أن يأخذوا السلام العادل الشريف، لا أن يعطوا السلم الإسرائيلي المشبوه.
          ولكي نوجه أخيرا إخواننا الذين يتصدون لتحرير الأرض والقضية العادلة، نوجههم في العصيب هذا الى التفرغ لتحرير الأرض والقضية العادلة، فنقدم لهم عند ذلك حبّات قلوبنا وثمرات عقولنا وجهدنا ودعائنا.
          فيا أيها الاخوة، الى التضحيات، الى السلام، الى الوفاق الوطني، الى القيامة اللبنانية والتصدي لكل ما يحول دونها أو يشوهها أو يخنقها.

          تعليق


          • سيرة الأمام الصدر ( خطاب 14 )

            الموضوع : خطبة الجمعة ـ نرفض مشاريع التوطين والوفاق الوطني وحده يسد الثغرات ويصد العواصف التي تهدد باقتلاع الوطن.
            المكـان : مسجد الصفا الكلية العاملية بيروت ـ 6/1/1978
            المناسبـة : يوم الجمعة وذكرى الأمام علي بن الحسين (ع).
            المقدمـة : في مستهل خطبته الدينية اعتبر سماحة الإمام الصدر ان المصادفة في مقارنة ذكرى الإمام علي بن الحسين عليها السلام مع يوم الجمعة وما في حياة الإمام من عبر ومواقف تلائم وضع لبنان ما بعد المحنة. وجاء في خطبته.
            ـ الــنـــص ـ
            إن هذه المصادفة تجعل هذا اليوم بداية فصل جديد من حياة المؤمنين ومسؤولياتهم، بل وفي حياة جميع المواطنين، فصل يمتاز بطابع خاص مارسه الإمام زين العابدين في جميع حياته بعد واقعة كربلاء.
            عبادة الإمام علي بن الحسين كانت في خطين. خط العبادة لله من محراب المسجد وخط عبادة الله من محراب المجتمع لخدمة المعذبين، إذ إن علي بن الحسين عندما حصلت ثورة الناس في المدينة حمى بنفسه نساءهم وأطفالهم وأخرجهم من المدينة سالمين.
            الإمام لم يتراجع عن الأهداف التي أستشهد الحسين من أجلها، ولكنه أختار وسيلة أخرى تتناسب مع مرحلة حياته لتحقيق الأهداف نفسها والوسائل هذه كانت تتخلص في الأمور الروحية والتربوية والتعامل المعنوي السامي مع الناس بأساليب هادئة ومعبرة ومثيرة ولذلك كان بكاؤه احتجاجاً وأدعيته مجموعة من المعارف والتوجيه الإجتماعي والأخلاقي وبكلمة مختصرة كان الإمام يتابع نضال الحسين وجهاد آبائه بأسلوب سلمي.
            أيها الأخوة المؤمنون،
            تذكروا كربلاء لبنان، كانت في سنتي 1975 و 1976. آلام لبنان الدامية كانت في تلك الفصول. والآن نحن نعيش لبنان ما بعد المحنة، لبنان ما بعد كربلائه، وهنا نقتبس من سيرة الأمام علي بن الحسين عليهما السلام سلوكاً. نشعر بأن التشنج يضرنا، بأن السلاح يضر الوطن، لماذا؟ لأن الوطن لا يطيق. لأن لعبة الأمم ولعبة الكبار على قدم وساق. من كل ثغرة صغيرة كانت أم كبيرة في جسم هذا الوطن تفوت الأعاصير التي لا تخدم وطننا وليست لمصلحة شعبنا.
            مع كل اهتزاز في جسم هذا الوطن يستفيد الآخرون، يستفيد الأعداء. وأن تشنج، الانتقام، الوسائل الساخنة الحادة، الحرب، السلاح، هذه الأمور ليست لفائدتنا اليوم. اليوم سلوكنا في تغيير الأسلوب لا تغيير الهدف. الظلم دائماً قبيح ولا يمكن ان نقول اليوم ان الظلم جيد وحسن. الحق دائماً حسن فقد خلق الله السماوات والأرض وما بينهما بالحق. لكن الكلام في الوسيلة المستعملة، لا يمكن أن نقول اليوم أن أسلوب الوصول إلى الحق، أسلوب رفع الظلم، هو السلاح.
            السلاح الذي يستعمل داخل لبنان، مائة في المائة تستفيد منه إسرائيل. أي طلقة تطلق في لبنان كأنها تطلق من جبهة إسرائيل على جسمه.
            ألسنا في وضع يشبه وضع الإمام زين العابدين عليه السلام الذي اعتمد أسلوب الدعاء والابتهال وأسلوب الاحتجاجات الناعمة الهادئة أمام الباطل؟ أسلوب الاحتجاج الذي لا يصطدم ولا يتنافى مع الوحدة الوطنية. لأن الوحدة الوطنية، لأن المصالحة الوطنية، لأن الوفاق الوطني وحده في هذا اليوم يكفل سد الثغرات. لأن أي ثغرة، تضرنا وتضر الجميع وتضر الوطن.
            فبصراحة من اليوم فما بعده، كل يوم يمر على لبنان ولا يتم الوفاق الوطني ولا يتم حل للمشاكل والصعوبات وإزالة آثار الأحداث، كل يوم يمر فهو يوم ينقص من عمر وطننا ومن عمر المواطنين فيه. لأن العواصف تهوج في هذه المنطقة، لأن الكبار يلعبون، لأننا لا نتمكن من ان نقدم من جسم وطننا ومن جسمنا ومن ممتلكاتنا ومن حياتنا، أكثر مما قدمنا للعبة الأمم.
            وقعنا في اللعبة من دون سبب، وقد مرت المحنة والحمد الله، واليوم أما الفصل الآخر أمامنا سد الثغرات وإلا إذا بقيت الثغرات أقول لكم في هذا المسجد الطاهر، وأقول لمن يسمعني من المصلين في أقطار العالم ومن المستمعين في كل مكان: كل يوم، كل ثغرة، كل خلاف، كل مشكلة، تبقى في الجسم اللبناني ستستغل من قبل العدو ولا سمح الله إذا نحن لم نعرف كيف نتصرف. لأن اللعبة، لأن المؤامرة، لأن التسوية في هذه المنطقة يجب ان تتم، فإذا وجدوا المشكلة تتم بأن يأخذوا شيئاً من لبنان لا يتورعون عن ذلك. إذا وجدوا ان طريق الإصلاح قتل مجموعات من لبنان، لا أحد يتورع. إذا وجدوا ان إضعاف سوريا مثلاً بخلق مشاكل في لبنان لا يتورع العدو أبداً. إذا وجدوا ان مشكلة الفلسطينيين لا تحل إلا بقطع جزء من لبنان لا يتورع الكبار والأعداء الكبار أبداً. على رغم هذا ليس لمصلحتنا ولا لمصلحة الفلسطينيين ولا لمصلحة أحد.
            إذن، في هذا اليوم يجب التماسك، يجب تأجيل الخلافات، يجب تغيير أساليب الاحتجاج والمطالبة، يجب خلق المناخ الوطني والكلمة الموحدة التي تقال في وجه العدو والصديق، وفي وجه الرفيق والشقيق، وفي وجه الكبير والصغير من القوى الكونية، من القوى السياسية المتفاعلة في هذه المنطقة. وأعتقد أن هذا هو رأي العقلاء وكبار المسؤولين في هذا الوطن.
            فنحن نستلهم محاسن يوم الجمعة ونستلهم سيرة علي بن الحسين عليهما السلام ونقول في المكان الذي اعتصمنا فيه قبل سنتين في هذا المسجد، الاعتصام كان أسلوباً من الاحتجاج والرفض على القتل والدمار والهدم للبيوت وللناس. نقول ونخاطب جميع المخلصين في هذا الوطن ان ينتبهوا إلى العواصف التي تهب في هذه المنطقة. عدونا إسرائيل، تشترك في تحريك هذه العواصف، لأن لها في الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وأوروبا والسوق الأوروبية المشتركة، في اللجنة الثلاثية، في آسيا، وفي كل عناصر تخلق خللاً في الكمبيوترات وتضع نصائح للتخطيطات والمخططات وكل ذلك.
            إسرائيل تشترك في المؤامرة، ولكن نحن لا نقدر أن نشترك في المؤامرة. نريد حفظ رأسنا، نريد المحافظة على وطننا، على كرامتنا، على عزتنا، على طموح أبنائنا، على تاريخنا. كل هذه الأمور تتجسد في هذا الوطن. إذن في إمكاننا في هذه الفترة، لا أقول أن نغير الخط أبداً، بل نغير الوسيلة، واليوم الوسيلة هي الوفاق الوطني. اليوم الوسيلة ان نسد الثغرات الموجودة في جسم هذا الوطن حتى لا تهب عبرها العواصف التي تقلع جذور هذا الوطن. هكذا نتبرك بالذكرى ونتعلم منها ونقر ان أئمتنا ليسوا قادة في الصلاة والوضوء والعبادة والدعاء فحسب، بل هم الطريق الأفضل إلى الله، والطريق إلى الله يمر عبر الناس.
            عبادة الله لا تنفصل عن خدمة الناس، والإيمان بالله لا ينفصل عن الاهتمام بشؤون المعذبين.
            لا يكفي ان نوجه قولنا وتمنياتنا ومطالبتنا نحو المسؤولية، بل علينا أيضاً ان نوجه أفكارنا، آرائنا، محاسبتنا، نحو أنفسنا أيضاً. عندما نفكر بأنفسنا نجد أننا بالنسبة إلى اللبنانيين وبالنسبة إلى أبناء المنطقة أكثرهم عذاباً وأشدهم تعرضاً للخطر. الظروف تشكل الخطر من دون شك. بالنسبة إلينا، نحن نعلم أن الخطر الذي نقول أن لبنان مهدد به هو الجنوب.
            إذا قلنا ان المشكلة في المنطقة قد تحل على حساب لبنان، إذا لم يتفق اللبنانيون بعضهم مع بعض، وإذا لم يلتق العرب والمحبون والمخلصون من قادته بعضهم مع بعض، فنحن نعني أن الخطر هو على الجنوب. نحن نعرف الخطر على الجنوب وآلام الجنوب، نحن نعرف اعتداءات الأعداء على الجنوب. نحن نعرف تجاوزات إسرائيل يومياً وبوسائل مختلفة على الجنوب.
            نحن نعرف ما يدبر للجنوب من مؤامرات ومن أخطار. مؤامرات قد لا تكون موضع رضى وقبول الناس الذين ينفذون هذه المؤامرة، لكن المؤامرة عندما تأتي تجعل من الإنسان آلة لتنفيذها إذا لم يكن منتبها لها. نحن أمام الوضع في الجنوب في إمكاننا، بوعينا وانتباهنا ألا نتورط في المؤامرة التي يخطط لها العدو.
            إشاعات، كما سمعنا، بأن هناك محاولات لإعطاء الجنوب لغير اللبنانيين، المسؤولون في لبنان رفضوا، وسبب رفضهم واضح لأن إسرائيل تطمح في تحجيم الوطن الفلسطيني المرتقب العتيد، الضفة الغربية وقطاع غزة. إسرائيل تريد تحجيم هذا الوطن وتحجيمه عن طريق منع دخول أبناء هذا الوطن إليه، ولذلك تتمسك بالمراكز العسكرية والمراقبة لكي تمنع دخول العدو الذي لا تريده لأنه مشروع بيغن رئيس وزراء العدو. وتفاصيل هذا المشروع تكشف رغبة إسرائيل في تحديد عدد الفلسطينيين في الضفة. وذلك لكي تتمكن من هضمهم وإذابتهم في الكيان الصهيوني، وهذا يعني إبقاء الفلسطينيين في أماكن تواجدهم الحالية وخلق متاعب لهم بسبب الخيبة والانتكاسة واتهامات متبادلة فيما بينهم مما سيؤدي إلى صراعات دموية بينهم. بالإضافة إلى أن الأمر سيكون مصدر صعوبات ديموغرافية: أمنية واجتماعية وسياسية للبلاد المجاورة لإسرائيل. وبالنتيجة فإن هذا يعني أن إسرائيل تخطط للقضاء على الفلسطينيين وفلسطين لإذابة الوطن الفلسطيني في الجسم الإسرائيلي، ولتشتيت الفلسطينيين في العالم وربما لخلق الوطن البديل عنه.
            نحن نعرف ان المخلصين من قادة الفلسطينيين لم يكونوا يوما ليقبلوا بالوطن البديل. فقد عرضت عليهم أماكن عربية وغير عربية فرفضوا، فالذي يقبل بالوطن البديل، فقد خان قضيته، تنازل عن وطنه وأرضه لذلك ليس وارداً لدى العقلاء والمخلصين والمناضلين من إخواننا أن يقبلوا الوطن البديل لكن طرح هذا الموضوع وخلق القلق في النفوس وخلق المشاكل بين الناس وارتكاب الأعمال الشاذة المستنكرة بين وآخر من عناصر المشبوهة. هذه الأمور تهدد بالانفجار، فعندما نوجه نداءنا إلى أنفسنا ونفكر في مسؤولياتنا علينا أن ننتبه بأن مؤامرة مستمرة، لم تزل تهب لخلق الفتن والمشاكل والصدامات في الجنوب.
            وكما قلت لكم أي طلقة تطلق اليوم في لبنان، فكأنها أطلقت من الجهة الإسرائيلية على الجسم اللبناني أي ثغرة قد تستغل، لذل لا بد من الانتباه. ونحن وكل مخلص للقضية الفلسطينية، وقبل كل شيء إخلاصنا لوطننا، يتطلب رفض الاستيطان وضرورة تنظيم العلاقات اللبنانية الفلسطينية، ضرورة تنظيم الوجود المسلح الفلسطيني ضمن الاتفاقات الموجودة، وبسط السيادة اللبنانية على الجنوب ووصول الجيش إلى الحدود وانتقال المهجرين إلى قراهم وبداية ممارستهم للأعمال الطبيعية لأن هذه النقاط هي المنطلق للوفاق الوطني. ليست من الحياة الكريمة، طريقة عيش المهجرين اليوم في مواسم الشتاء والبرد والأمطار، بعدهم عن أعمالهم وأراضيهم حتى ولو قدمت لهم المساعدات، ليست من الكرامة. ولا يمكن لمسؤول ان يقبل بهذا للإنسان اللبناني الذي كان يعلم العالم الثقافة والحضارة والتجارة والعمل. فالذي يذهب إلى أفريقيا وإلى أميركا الجنوبية يرى أن اللبنانيين في وسط الغابات وحدهم يخوضون المجاهل ويؤسسون الحياة الكريمة ويرفعون طموحات الأبناء إلى المناطق المهجورة ولا يكتفون بثمار الأحراج والغابات، كيف يمكن أن نقبل لهم بأن يتصدق عليهم أو أن يكونوا بعيدين عن أعمالهم وعن أرضهم وعن شؤونهم؟
            بطبيعة الحال، في الخطوة الأولى، يجب أن نأخذ نحن زمام الموقف. المطلوب منا كأبناء الجنوب أن نرفض الاستيطان، أن نرفض التآمر الذي يقصد خلق المحن والتشنجات والصدامات في الجنوب. ان نرفض الأعمال الشاذة. وان نطالب بتنظيم العلاقات والوجود الفلسطيني وببسط السيادة اللبنانية، وعلينا قبل كل شيء أن نوحد صفوفنا. أن نؤجل، كما ذكرت، خلافاتنا المحلية والقروية والمنطقية وألا نسمع الإشارات الآتية من الخارج.
            أيها الأخوة الأعزاء، أنا ابدأ بنفسي وأقول لجميع الإخوان: كل من يرفض اليوم الوفاق الوطني فهو يخدم العدو، أعداء لبنان، وهو عنصر في يد القوى الكبرى الدولية التي تعالج مشكلة الشرق الأوسط. كل من يرفض الاتفاقات في القرية، في المدينة، في المنطقة، يخدم المخطط الخارجي. اليوم يوم الوفاق، يوم اللقاء، يوم الهدوء، يوم معالجة الأمور بأسلوب علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، فنسأل الله ان نهتدي وأن نتبرك وأن نستلهم من يومنا هذا، فنضع خطاً لأسبوعنا القادم ولأسابيعنا القادمة بإذن الله في هذا السلوك والله سبحانه وتعالى هو الموفق والمعين.

            تعليق


            • سيرة ألأمام الصدر (حوار 18 ) جزء 1

              الموضوع : حوار صحفي ـ لبنان مهدد بالسقوط ولا ينقذه إلا الوفاق.
              المكـان : مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الحازمية ـ 16/1/1978
              المناسبـة : توتر الأوضاع في الجنوب.
              المقدمـة : كتب جوزف قصيفي.
              سماحة الإمام موسى الصدر ظاهرة قائمة في لبنان، أدخلت على حياته العامة نسقا جديداً لم نعهدها من قبل رجل دين. والسياسة في اعتقاد رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لا تقل أهمية وشأناً عن الدين، وربما إنها الوجه الزمني له، وهي بالتالي كالصلاة والتعبد. فعل ممارسة ومشاركة وجدانية ومادية في هموم الناس وآلامهم.
              وكان الإمام الزعيم الديني الذي امتدت أصابعه إلى الدنيويات فاختطف وهج الزعامة وبريقها من كثيرين وراح يرسم طريق الخلاص لم أخلهم "نادي الحرمان"، فأحرز السبق وأحدث الدوي.
              قالوا الكثير الكثير في تفسير الظاهرة التي اسمها موسى الصدر، إلا يبقى الإمام الصدر في مطلق الأحوال ظاهرة قائمة في لبنان، ورئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى، يطوف كالسندباد على بلاد العرب والعجم يباحث رؤساءها وملوكها وحكامها في الأمور السياسية ذات الأبعاد الدولية الإقليمية والمحلية، ويتداول معهم في الحلول المطروحة والممكنة لأزمة المنطقة. في مكتبه بالمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كان لقائي معه. وعلى "كركرة نارجيلة عامرة بالتنباك العجمي"، كان حديث طويل حول مختلف المواضيع الراهنة من محلية وعربية، أكد فيه الإمام ان الظروف الدولية الراهنة تمر بأخطر مراحلها، وأن لبنان مهدد أكثر من أي وقت مضى بالسقوط أو بتعبير أدق "بالتشظي" وأن الوفاق هو سبيل النجاة على ان يكون وفاقاً كاملاً دون شروط.
              وقال أن المطلوب هو إقناع الفرقاء بتأجيل كل شيء عدا بقاء لبنان، وفي توقعي أن الرؤيا أصبحت واضحة لدى الجميع وهذا ما يدعو إلى التفاؤل على رغم قسوة الظروف.
              وقال بعد ما أعلن رفضه لتوطين الفلسطينيين في لبنان وطالب ببسط سلطة الدولة على جميع الأراضي اللبنانية: ان عظمة الأخطار التي تهدد لبنان لا تقف أمام عظمة الإرادة اللبنانية الموحدة.
              وقال أنه يتعهد باسمه وباسم رفاقه أن يمد إلى جميع رجالات لبنان وخصوصاً إلى القيادات الجنوبية والشيعية... لكي نلتقي ونعمل دون قيد أو شرط لعلنا بذلك نلبي حاجة المتألمين من أبنائنا وإخواننا.
              وقال ان نتائج مبادرة السادات كان لها مردود عكسي، وانه كان نصح الرئيس المصري بعدم القيام بهذه المبادرة لو طلب رأيه فيها. وقال أن أقصى ما يتمناه هو أن يتراجع الرئيس السادات عن خطوته لأن المساعي القائمة لرأب الصدع العربي لن تصل إلى نتيجة سريعة.
              هذه أبرز عناوين الحديث الذي جرى مع الإمام الصدر. وقد جاء حديثه رداً على الأسئلة التالية:
              ـ الــنـــص ـ
              س ـ سماحة الإمام، مسؤول كبير وصف الحالة في المنطقة العربية بأنها "تخبيص بتخبيص"، وان الرؤيا داكنة والخيوط متشعبة، وان حالة الركود التي يعيشها لبنان لن تكون لمصلحته أبدا، فهل لنا أن نعرف موقع لبنان من التطورات الحاصلة، وما مقدار انفعاله بها؟
              ج ـ لاشك في الظروف الدولية تمر في أخطر مراحلها أيام السلم لأن الحرب الباردة بين القوتين الكبيرتين في الشرق الأوسط أولا وفي القرن الأفريقي ثانيا، وفي بقية المناطق قائمة على قدم وساق، ولا شك في أن وراء هذه الصراعات مساومات على القمح وعلى البترول وعلى السلاح الإستراتيجي وعلى يالطة جديدة متطورة في العالم وغير ذلك. ويبدو ان المخاض لولادة هذه الصفقة الدولية عسير جدا هذه المرة، والى ان ينتهي الصراع هذا، كل نقطة في العالم عامة، والمناطق الحساسة التي ذكرناها خاصة، معرضة للصعوبات المختلفة. أما الوضع العربي فاعتقد انه بدوره أيضا يمر بأقسى الفترات خصوصاً أن إسرائيل أيضاً داخلة بصورة مباشرة في الصراع وتستعمل كل وسائلها لذلك. أما لبنان فمهما كان من خلاف أو تفاوت في وجهات النظر بين مواطنيه، فان نقاط الوفاق وضرورة الانتباه إلى المصير المشترك المهدد بالإضافة إلى تاريخ وحضارة وتجربة مميزة وطويلة، عناصر تسمو باللبنانيين وتهيب بهم لكي يرتفعوا فوق خلافاتهم. أما المشكلة اللبنانية الكبرى فهي ان لبنان مهدد بأن يدفع ثمناً لصراع بين العرب أنفسهم أو بينهم وبين إسرائيل، أو بين القوى الكبرى في العالم، والسبب في ذلك وجود الثغرات التي ما زالت باقية في جسم الوطن وفي نفوس المواطنين، فمع وجودها يخشى أن خلافاً، أي خلاف، ومن أية قوة صغيرة كانت أم كبيرة، يتسرب إلى لبنان، عبر هذه الثغرات. وهنا ننتبه إلى حقيقة مرة على رغم هدوء الأوضاع نسبياً وهذه الحقيقة هي ان وطننا مهدد أكثر من أي وقت مضى بالسقوط أو بتعبير أدق "بالتشظي" وأمام هذا الواقع المخيف لا نجد طريقاً إلا سد هذه الثغرات والطريق إلى هذا الأمر هو الوفاق الوطني، وفاقاً مطلقاً وكاملاً دون شروط ودون توقع مكاسب الحرب ودون الوقوف أمام الشعارات التي سبق للأطراف المتنازعة ان طرحتها، ومكاشفة الناس بخطورة المرحلة التي تمر وإقناعهم بتأجيل كل شيء عدا بقاء لبنان. وفي توقعي أن هذه الرؤيا أصبحت واضحة عند الجميع أو أنها تعيش في ضمائر الجميع بصورة عفوية، وهذا مما يدعو إلى التفاوض على رغم قسوة الظروف.
              س ـ ما هي صحة الأخبار التي شاعت في الفترة الأخيرة عن توطين الفلسطينيين في لبنان وهل يمكن أن يشكل رفض التوطين قاسما مشتركا بين جميع اللبنانيين يكون منطلقا للمباشرة في علمية الوفاق خصوصا بعد موقف رئيس الجمهورية من هذا الوضع؟
              ج ـ في نفس الوقت الذي كان يتحدث فخامة الرئيس أمام السلك الدبلوماسي كنت في خطبة الجمعة أي في أخلص أوقات العبادة واصدق تعبيرات المؤمن، كنت أتحدث بنفس المنطق وأكرر ما يقول الرئيس سركيس، فالتوطين في رأيي مؤامرة مدمرة على الفلسطينيين أنفسهم، لأنه يعني الوطن البديل وإنهاء وجودهم كشعب.
              وأضفت في خطبة الجمعة ضرورة تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح بموجب الاتفاقات، وبسط سيادة الشرعية اللبنانية على جميع المناطق حتى الحدود الجنوبية. وهنا لا بد من ان أوضح مصدر تفاؤلي، حيث أن هذه النقاط كانت في الأسابيع الأخيرة تبدو منطلقاً للوفاق الوطني ولذلك فإن عظمة الأخطار التي تهدد لبنان لا تقف أمام عظمة الإرادة اللبنانية الموحدة.
              ومن جهة أخرى فإن مشروع الاستيطان في الأساس هو مشروع بيغن رئيس وزراء إسرائيل، حيث أن تفاصيل مشروعه تكشف عن رغبة إسرائيل في تحديد عدد الفلسطينيين في الضفة، ذلك لكي تتمكن من هضمهم وإذا بتهم في الكيان الصهيوني وهذا يعني إبقاء الفلسطينيين في أماكنهم الحالية وخلق متاعب لهم بسبب الخيبة والانتكاسة وبما سوف يحدث من اتهامات متبادلة تؤدي إلى صراعات دموية فيما بينهم. بالإضافة إلى أن هذا الأمر سيكون مصدر صعوبات ديموغرافية أمنية اجتماعية وسياسية للبلاد المجاورة لإسرائيل، وهنا نضيف إلى مصدر تفاؤلنا أن القيادات الحقيقة للشعب الفلسطيني والثوار الحقيقيين يرفضون حتماً هذا المشروع.
              = يتبع =

              تعليق


              • سيرة الأمام الصدر (حوار 18 ) جزء 2

                س ـ لقد اصبح الوفاق إطاراً مطلبياً يتمحور حوله أكثر من فريق، ولكن هل يكفي أن يرفع كشعار؟ ألم يحن الوقت ليوضع موضع التنفيذ العملي؟
                ج ـ في الواقع ان جميع الأطراف ينتظرون موقف الرئيس سركيس باعتبار أن الوفاق الذي يطرحه مزود بقوة الشرعية، معتمد على دراسات مخلصة ومحايدة بالإضافة إلى أن الوفاق سيكون مسنودا بالقوة الدولية والرغبة العربية وربما يفضل الرئيس ان تحصل مبادرة في المكان أو الزمان أو الأطرف، وعند ذلك سيكلف أو يلوح به، وما عدا ذلك فأني لا أرى مانعاً في الأفق الوطني يعيق أو يمنع ذلك.
                س ـ الشيعة كانوا اكثر اللبنانيين تأثراً بالأحداث ودفعوا ضريبة الدم غالياً في الجنوب وغير الجنوب، ومع ذلك فإن نار الخلافات مستعرة بين رجالاتهم وزعاماتهم مما يزيد في آلامهم وتشتتهم، أما حان الوقت ليلتقي زعماء الشيعة ويتناسوا خلافاتهم فينقذوا الجنوب من الاحتلال ويساهموا في عودة أبنائه إليه؟
                ج ـ إن المشكلة المتفجرة في الجنوب هي خلاصة المشكلة اللبنانية العامة، وهي بدورها نتيجة عوامل عربية ودولية انفجرت على الساحة اللبنانية التي جرى التحضير لها بسبب الثغرات المفتوحة فيها. وقد اصبح واضحا للجميع ان بعض أهداف المحنة اللبنانية كانت تحضير المنطقة كلها نفسياً ومادياً لفرض أنواع السلام، ولذلك فإن تصوري أن المشكلة في الجنوب ومشكلة الشيعة بشكل عام أولئك الذين أرادوا على رغم ضعف إمكاناتهم أن يحافظوا على وطنهم في المنطقة، بالإضافة إلى أنهم كانوا يرفضون المزايدات والوسائل، أقول أن الشيعة أرادوا ان يجمعوا في هذه المحنة بين شرف الأهداف والوسيلة فمشكلتهم ومشكلة الجنوب كانت مشكلة التاريخ لهم وما دفعوه من ثمن يعتبرونه مسؤولياتهم التاريخية لأنهم كانوا أمام الامتحان العسير، وبكلمة كانت المشكلة كبيرة جدا ولا أتصور انه كان الخلاف بين رجالاتهم، أحد عناصر الأزمة، ومع ذلك فإنني بدوري عن نفسي وعن رفاقي تعهدت وأتعهد الآن وعلى صفحات "البيرق" و"لا ريفي دي ليبان"، وخصوصاً إلى القيادات الجنوبية والشيعية لكي نلتقي ونعمل دون قيد أو شرط لعلنا بذلك نلبي حاجة المتألمين من إخواننا وأبنائنا.
                س ـ في بداية الأحداث التي اندلعت في لبنان كنتم المحاور المقبول والوسيط الناجح بين "الجبهة اللبنانية" والفريق الآخر ثم أصبحت العلاقات بينكم وبين الجبهة فيما بعد تحتاج هي نفسها إلى وسيط. فما هي الأسباب، وهل من مساع لتصويب هذه العلاقات؟
                ج ـ قبل كل شيء لا بد من الوقفة أمام مبدأ عام، وهو تعرضي أنا بالذات لأقسى حملات التشكيك والتجريح في الإعلام اللبناني اليساري منه واليميني، وفي الإعلام العربي والدولي أيضاً، وذلك لسبب واضح، هو ان الهدف الأول من المؤامرة كان ضرب صيغة التعايش اللبناني واثبات صحة النظرية الصهيونية من استحالة التعايش بين الأديان في الشرق الأوسط. فإذا كان هذا هدف المؤامرة الأول فمن الطبيعي أن توجه عناصر المؤامرة والإعلام همها ضد رموز الوحدة الوطنية لتحطيمها وإخراجها عن ساحة التحدي. وأسمح لي هنا أن أقول بالصراحة وأن لا أتواضع فأعلن أني كنت أحد أبرز رموز التعايش الإسلامي ـ المسيحي وأحد أوتاد الوحدة اللبنانية، فهل نسيت عظة الصيام في كنيسة الكبوشيين، تلك اللوحة التي لم يشهد العالم مثلها.
                وأعود لكي أقول لقد كنت من بداية الأحداث حتى النهاية في موقف واحد منفتح ومرن أمام أخطار تهدد الوطن أو وحدته أو كرامته، ولكن ماذا نعمل أمام الإعلام الطاغي والتضليل الذي يحرف الكلمة عن مواضعها فهل سمعتم بحادث القاع؟ وقد وجهت اكثر خطاباتي إثارة لصيانة هذه البلد الوادعة والكادحة وبعثت بوفود، ثم خرجت عن الاعتصام وذهبت لمنع الاعتداء أو لوقف الاعتداء عليهم، ودخلت القاع في اليوم التالي وطمأنت الناس وخطبت في الكنيسة وعزيت المصابين وقد كان قتل سبعة من أبناء البلدة، ثم استمعت إلى شكواهم ودفعت مبلغا لتنظيف طريق الماء الذي كان يروي أشجارهم، وغير ذلك وعدت لكي اقرأ في بعض الصحف اتهامي بتدبير الحملة على القاع. أن هذه القصة نموذج عن كل ما جرى وكان يجري لتحطيم الجسور ولخلق الانفصام وكأن هذه المهمة حلقة أخرى من سلسلة بدأت بـ "عزل الكتائب" وأثمرت عبر الهجمات المركزة على اجتماعات الـ 77 ثم استمرت عبر اصطناع المشاكل الطائفية وكان ما كان مما لست اذكره. إذن لم يتغير في نفسي وفي سلوكي وفي رؤيتي شيء عدا الآلام المبرحة والأحزان المتراكمة ليس بينها حزني على نفسي أو خسارتي لأصدقائي ما دمت قد صرفت كل ما أملك بما في ذلك هذا الرصيد لخدمة الوطن والإنسان.
                س ـ هناك من يرد الحملة التي تعرضتم لها إلى أسباب، يعود البعض منها إلى الاعتقاد بأن الحركة المطلبية التي تزعمتم مهدت للإنفجار لما لخلقته من تشنجات وشعور رافض في صدور فئة واسعة من المواطنين، وهناك من يعتبر أنكم أخفقتم في استيعاب الرفض اليساري و"التكويع" عليه من خلال حركتكم وبالتالي فإنكم وقعتم فريسة المخطط الشيوعي فهل هذا صحيح؟
                ج ـ إن الخيال المجرد، خصوصاً عند اللبنانيين واسع جداً ولا يمكن وضع حد له إلا المطالبة بالأرقام، فليذكر وليتذكر السائلون أم المتسائلون أن المهرجان الكبير الذي أقيم في صور وكان المقرر بعده ان يقام مهرجان أكبر في العاصمة يليه اعتصام إذا لم تنفذ الدولة مطالب الناس ثم كان حفل إفطار في عشقوت كسروان، وظهر بوضوح أن أجهزة الدولة تحاول ان تخلق مخاوف و تشنجات شعبية وتنقل التوتر والنضال الديمقراطي بين المعارض وبين السلطة إلى صراع طائفي بين الناس. وقد حول هذا الحفل الذي أقيم بعد مرور خمسين يوماً على مهرجان صور، حول موقف قيادة الحركة إلى الانصراف عن إقامة مهرجانات والتصعيد ثم حصلت اتصالات عبر الندوة اللبنانية بالمثقفين من جميع الطوائف وصدر بيانهم بتوقيع 190 مثقفاً الملتزم في خدمة المحرومين وشكلت الدولة بوساطة قائد الجيش العماد أسكندر غانم لجاناً مشتركة درست الأوضاع، وأقرت المطالب ورفعت التقارير إلى الرئيس فرنجية، ثم زار المجلس مؤكداً عزم الدولة على تحقيق المطالب ثم استقالت حكومة الرئيس تقي الدين الصلح والتزم لرئيس رشيد الصلح في بيانه الوزاري بمطالب الحركة، وطوقت آثار المهرجانات ومضت فترة تتجاوز سبعة أشهر، وكان الانفجار الذي بدأ بمقتل معروف سعد في تظاهرة صيادي الأسماك وتلاها حادث عين الرمانة وتعاقبت الأحداث.
                ويمكنني أن أؤكد بعدما اتضح ان لا علاقة بين المهرجانات وبين الانفجار، أقول يمكنني أن أؤكد أن تلبية مطالب الناس لو تمت في سنة 1974 أو وضعت بوادرها لتحولت عند ذاك جماهير المهرجانات إلى سياج قاطع ومتين يحمي السلام.

                تعليق


                • سيرة الأمام الصدر (خطاب 15 )

                  الموضوع : خطبة الجمعة ـ إن سماح إسرائيل للفلسطينيين بإنزال الأسلحة في مرفأ صور معناه أنها تريد أن تقول للعالم أن هذه البقعة هي جزيرة سوفيتية مسلحة على حدودها.
                  المكـان : مسجد الصفا الكلية العاملية، بيروت ـ 3/2/1978
                  المناسبـة : خطبة صلاة يوم الجمعة.
                  ـ الــنـــص ـ
                  دعا سماحة الإمام السيد موسى الصدر إلى معالجة الوضع في الجنوب بالسرعة اللازمة محذراً من الاصطدام المسلح في المنطقة ودعا جميع الأطراف إلى تسهيل دخول الجيش مطالباً الفلسطينيين بالانضباط.. وإلا كانوا هم الخاسرين.
                  وقال:" إن قضية الجنوب أصبحت قضية دولية، وإن إسرائيل التي هي أخطر عدو في الدنيا تريد إبقاءها سلاحاً في يدها كي تلعب بالعرب كيفما شاءت".
                  وأضاف:" أنه لم يعد أمام الفلسطينيين أي مجال، وأن من يطالب بطردهم من الجنوب في هذا الظرف إنما يهيئ لمجازر هناك. ولكن في المقابل على الفلسطينيين أن ينضبطوا وإلاً فهم الخاسرون. وعليهم أن يسهلوا دخول الجيش إلى الجنوب لئلا يتحملوا هم مسؤولية ما يجري. ويجب ان نستعمل نحن كل ضغوطنا لتنظيمهم، ونوقفهم عن حدودهم بالاتفاقات والمعاهدات. أما الاصطدام المسلح فلا يجوز، وخلفياته كثيرة، وإسرائيل هي التي تريد ذلك".
                  وطالب الصدر بعض الأطراف اللبنانية الموجودة في الجنوب"بأن تترك معالجة الوضع للشرعية وألا تعرقل هي الأخرى دخول الجيش مناطق الحدود". ودعاها إلى تسهيل "مهمة الرئيس سركيس التاريخية من أجل تحقيق الوفاق الوطني".
                  وأوضح:"إن سماح إسرائيل بوصول الأسلحة إلى صور معناه أنها تريد أن تقول للعالم ان هذه البقعة هي جزيرة سوفيتية مسلحة على حدودها، وهذا الشيء يعرض لمجازر واحتلال لفرض شروط عدوانية على لبنان".
                  وختم قائلاً:"يجب أن تلتقي القيادات الجنوبية وتضع خطة وتقف أمام مسؤولياتها حيال ذلك، ويجب معالجة الوضع في السرعة اللازمة".

                  تعليق


                  • سيرة الأمام الصدر ( حوار 19 )

                    الموضوع : حوار صحفي ـ الجنوبيون بلغوا درجة اليأس من التجاوزات الفلسطينية والصراعات العربية تهدد بتفجير الوضع في لبنان.
                    المكـان : باريس ـ 5/3/1978
                    المناسبـة : أثناء وجود سماحة الإمام الصدر في باريس مجلة "لو نوفال أبسرفاتور" حواراً صحفياً مع سماحته.
                    المقدمـة : كتبت دنيز مراد.
                    "بالتأكيد لن نخرج منها" رغم مرور خمسة عشر شهراً على نهاية المعارك فإن اللبناني التعيس يشعر أنه مرة أخرى منجذب إلى دائرة الحرب الأهلية. لماذا؟ لأن وصول القوات السورية إذا كان قد نشر الهدوء في البلاد إلا أنه لم يحل المشكلة في العمق.
                    سؤالان كبيران باقيان:
                    ـ في لبنان، يسيطر عليه الوجود السوري ما هو وضع المسيحيين؟ ما سيكون عليه وضع الفلسطينيين؟
                    هذان السؤالان يطرحان بحشرية في هذا الوقت الأول في الشمال والآخر في جنوب البلاد.
                    في الشمال، وتحديداً في بيروت عدة مواجهات عنيفة وقعت بين المسيحيين والسوريين حلفاء الأمس. بلحظة عنيفة وقعت بين المسيحيين والسوريين حلفاء الأمس. بلحظة يخشى المسيحيون ان يروا أنفسهم معزولين بشكل مأساوي. هل من حسن السياسة بالنسبة للسوريين أن يدفعوهم إلى اليأس؟ من المحتمل لا. ولكن من الأكثر خطورة على المسيحيين أن يتوجهوا نحو إسرائيل، الحليف الأبعد والأخطر، لذلك لا بد من وجود حلّ.
                    في الجنوب الوضع يختلف تماماً. منذ أشهر يتخندق المسيحيون في قراهم تحت حماية المدفعية الإسرائيلية والفلسطينيون يخيمون في مواقعهم. هناك عنصر جديد الآن أنهم القرويون المسلمون الشيعة والذين يتصدون للفلسطينيين. لماذا هذا التصدع في التضامن الإسلامي الذي لم يحصل في أحرج الظروف؟ ولماذا في هذا الوقت؟.
                    الإمام موسى الصدر الزعيم الروحي للشيعة شرح نظريته في المقابلة التي منحها لدنيز مراد وأعترف بنفسه أن سلطته على مناصريه لم تعد كما كانت تماماً. في الواقع يظهر أن ردة الفعل العنيفة للشيعة ليست سوى ردة فعل دفاعي تجاه تمركز الفلسطينيين المتزايد والمندفع في كل لبنان الجنوبي. أنه تمركز ليس عسكرياً فقط ولكنه "مدني" أيضاً. الفلسطينيون يشترون الأراضي. لقد نشرت "الرفاي" البيروتية صوراً عن عقود البيع هذه.
                    هل يعني هذا أن هناك محاولة فلسطينية للتجذر في منطقة حيث يتجمع معظم المقاتلين الفلسطينيين ولها، إضافة إلى ذلك منفذ على البحر لأن مرفأ صور حالياً تحت سيطرتهم التامة؟ أم انه يعني بكل بساطة ان الفلسطينيين يفكرون بإيجاد حرية مناورة في "فتح لاند" لم يعطوها في مناطق أخرى من العالم العربي؟ في مختلف الحالات ان القرويين الشيعة في جنوب لبنان لا يوافقون على هذا. بالتأكيد أنهم ليسوا كثيري العدد وسلاحهم لا يمكن مقارنته بالسلاح الفلسطيني ولكن عندهم خيارات أخرى: إسرائيل القريبة والمستعدة للتحالف معهم ضد الفلسطينيين. إن شاه إيران الذي يلعب دور ساعي البريد الشريف هو مستعد للتحالف معهم وتزويدهم بالسلاح بإسم التضامن الشيعي كما يقول الإمام الصدر. أخيراً وليس مهم فقد حافظ شيعة لبنان وعلويو سوريا على صلات جيدة. كما تفعل الاقليات الشيعية الغارقة في أكثريات سنية. وهذا لا ينساه حافظ الأسد ويعلم أنه علوي. وكما نرى فإنه في لبنان لا شيء يسير نحو السهل بل إلى العكس.
                    ـ النص تعريب الدكتور أحمد زين الدين ـ
                    س ـ المواجهات الأخيرة بين الجيش اللبناني والجيش السوري في بيروت، هل تبدو لكم ناتجة عن احتقان محلي أم أنها، كما قيل، موجهة من الخارج لإحراج الحكومة السورية؟
                    ج ـ العنصران لعبا دوراً، قوات الردع العربية جمدتً الحرب الأهلية ولكنها لم تحمل حلاً. يجب نزع سلاح المواطنين. ولكن من المستحيل سحب السلاح الثقيل من أيدي اللبنانيين قبل سحبه من الفلسطينيين أولاً. وهؤلاء لا يريدون التخلي عنه بعد سنتين من الحرب بأي ثمن كان. يخشون أن يذبحوا ليس من اليمين اللبناني فحسب، وإنما من قبل الإسرائيليين في جنوب لبنان. لقد حاول السوريون إقناعهم مؤكدين لهم استعدادهم لحمايتهم من دون جدوى. بعد كل ما لاقوه، لم يعد الفلسطينيون يثقون إلا بأنفسهم. في هذا الجو المتفجر، يمكن للعبة الكبار وللنزاعات العربية إشعال الحرب من جديد في أي وقت. من الواضح ان اليمين اللبناني، مدفوعاً من قبل قوى خارجية، يحاول إضعاف ليس الفلسطينيين فحسب ولكن أيضاً سورياً وعبرها كامل جبهة التصدي التي برزت في طرابلس والجزائر. وقد هدد الرئيس السادات سوريا علناً بإثارة قلاقل دموية في لبنان لزعزعة نظام حافظ الأسد. ان المصلحة المؤكدة للأميركيين والمصريين والسعودية الدول "المعتدلة" الأخرى، تكمن في كسر جبهة الجزائر وإقامة تمثيل جديد للفلسطينيين يتألف من العناصر الأكثر اعتدالاً في منظمة التحرير ووجهاء الأراضي المحتلة.
                    س ـ في حال اشتعلت الحرب مجدداً في لبنان، يعتقد من جنوب البلاد حيث يدور صراع مقنع بين الفلسطينيين والقوى المحافظة التي يدعمها الإسرائيليون. ولكن يبدو أن توتراً يتطور بين الفلسطينيين والسكان المسلمين الذين كانوا يدعمونهم حتى وقت قريب؟
                    ج ـ إن جنوب لبنان، على الحدود الشمالية لإسرائيل، يشكل فعلاً النقطة الأكثر تفجراً. حتى أنه يقع تحت مراقبة قوات الردع العربية، خلافاً لباقي مناطق البلاد، لأن إسرائيل رفضت وجود قوات سورية على مقربة من حدودها. لم يعد هناك إدارة أو شرطة لبنانيتين، باعتبار ان السلطة المركزية تركتنا منذ العام 1974، منذ بداية الحرب. وهكذا ظهر الفلسطينيون، المسلحون الوحيدون في المنطقة، كضمانة لأمن المسلمين ضد إسرائيل في البداية، وفي النهاية أصبحوا السلطة الوحيدة. ولكن، سريعاً، حصلت مصادمات خصوصاً أن بعض الفدائيين ارتكبوا ممارسات خطرة في حق السكان.
                    س ـ حتى أنتم، كموجه أعلى للشيعة، تعانون من مشاكل في داخل طائفتكم لأنكم تواصلون الدفاع عن الفلسطينيين؟
                    ج ـ ليس من السهل خط الدفاع. أحاول ان أشرح لأبناء طائفتي ان تلك الممارسات ليست من فعل الفلسطينيين وإنما فقط من بضع مجموعات متطرفة، مخترقة من قبل عناصر استفزازية. الاستخبارات الإسرائيلية معروفة بأنها الأقوى في العالم. وأفضل وسيلة لنزع اعتبار القضية الفلسطينية وتبرير التعنت الإسرائيلي تتمثل في دفع بعض المجموعات لارتكاب أعمال إرهابية. حالياً، أفضل حليف موضوعي لإسرائيل ليس المعتدلين وإنما بالتأكيد المتطرفين.
                    س ـ هل تخشون من الوصول إلى وقت تفقدون فيه السيطرة على عدم الرضى الشعبي؟
                    ج ـ نحن المسلمون الشيعة مرتبطون كثيراً بالفلسطينيين، من دون شك لأننا عشنا دائماً معاً في الجنوب وفي ضواحي بيروت وأيضاً نشكل الفئتين الأكثر حرماناً في لبنان. كثيراً ما ننسى أن الجنوبيين تصرفوا كالأبطال منذ العام 1948. ورفضوا دائماً أي تعاون إقتصادي مع الإسرائيليين مع أن الحكومة أهملت المنطقة إهمالاً تاماً. ومنذ العام 1965، برهنوا عن تعاضدهم مع الفلسطينيين بالدم. ولكن، حالياً، هناك حالة ملل وحالة إنزعاج ونحاول ان نجعلهم يصبرون. حتى الآن نجحت في إقناعهم بعدم حمل السلاح ضد الفلسطينيين. السلاح الذي يعرض عليهم من الجانب الآخر، من الجانب الإسرائيلي بالطبع ولكن أيضاً من الجانب الإيراني. الشاه يحاول تقديم خدمة للسياسة الأميركية في المنطقة عبر محاولة تأليب المسلمين ضد الفلسطينيين.
                    س ـ يُفترض أن المسؤولين الفلسطينيين واعون للخطر، لماذا يضبطون قاعدتهم؟
                    ج ـ هم في أرض أجنبية ولا يتمتعون بحرية الحركة. ولكنهم خصوصاً منقسمين. في المقاومة الفلسطينية لكل بلد عربي فريق يموله لمصالحه الخاصة: هناك الفريق العراقي، الليبي، السعودي، إلخ. بعضهم يعتمد سياسة الأسوأ ليمنع أي حل وأية مفاوضات مع إسرائيل. ولكن منظمة التحرير الفلسطينية يجب أن تتمكن، برغم كل شيء، من ضبط قاعدتها وتؤمن حلاً للفوضى القائمة في الجنوب. ناقشت ذلك جدياً مع مسئوليها، قبل أيام، ويبدو أنهم عازمين على ضبط قواتهم. يجب على منظمة التحرير السماح للسلطات اللبنانية بمعاودة ممارسة مسؤولياتها في الجنوب، وإلا فالوضع سيصبح خطراً جداً. ما يحصل حالياً يثير خوفي. إذا لم يعد الهدوء سريعاً، سوف يتدخل الجيش الإسرائيلي بذريعة حماية حدود بلاده ويصفيّ المقاومة الفلسطينية. وإذا واصل ذلك الجيش تقدمه حتى الحدود اللبنانية السورية المرتفعات الإستراتيجية لجبل الشيخ، ستصبح سوريا نفسها مهددة، وحينها ستكون الحرب الشاملة في كل لبنان.
                    س ـ يُقال أن إسرائيل تريد ضم جنوب لبنان. هل يبدو لك هذا ممكناً؟
                    ج ـ إسرائيل تقول دائماً أنها تحتاج إلى مياه الليطاني، وجميع الوزارات الإسرائيلية تمتلك خرائط تتضمن جنوب لبنان حتى الليطاني. ولكن إذا غزا الإسرائيليون هذه المنطقة، فذلك ليس على غرار ما هي الحال بالنسبة لك تلك المستوطنات التي تزرع بوتيرة متسارعة في الأراضي المحتلة. غير أنه هناك فرضية أخرى أكثر إثارة للقلق: أن تكون إسرائيل تريد جعل جنوب لبنان جيباً لجمع فلسطينيي الخارج، وهو جيب يمكن لجيشها ان يضبطه بسهولة. مقابل هذا التنازل، يمكن للإسرائيليين طلب الإحتفاظ بقطاع عزة الذي يرتدي بالنسبة إليهم طابعاً إستراتيجياً مهماً.
                    س ـ فكرة إنشاء دولة فلسطينية على الضفة الغربية وغزة . . . هل تمثل الحل بالنسبة إليكم؟ وهل يمكن لتلك الدولة، بحدودها الضيقة، استيعاب جميع الفلسطينيين الذين يعيشون في الدول العربية وتحديداً في لبنان؟
                    ج ـ المهم ليس إيجاد أرض يستقر عليها جميع الفلسطينيين خذ لبنان: عدد اللبنانيين في الخارج يبلغ ضعف عددهم في لبنان. المهم، لأي شعب، هو أن يحصل على هويته. سيكون للفلسطينيين بلد ويكونون مواطنيه وإن لم يعيشوا فيه بالضرورة.
                    وهكذا لا يبقون لاجئين أزليين حول العالم.

                    تعليق


                    • سيرة الأمام الصدر ( حديث 1 )

                      الموضوع : حديث إذاعي ـ المواطن الجنوبي إذا وجد أن العالم تجاهله وتآمر عليه، سيشكل ما يهدد به العالم.
                      المكـان : مونت كارلو ـ 16/3/1978
                      المناسبـة : بعد يومين من بدء العدوان الإسرائيلي على الجنوب أجرى الإمام السيد موسى الصدر هذا الحديث مع إذاعة مونت كارلو.
                      ـ الــنـــص ـ
                      لبنان يدفع ثمن أخطاء الآخرين .
                      قال الإمام السيد موسى الصدر:
                      إن ما حصل في الجنوب كان منتظراً فلبنان منذ سنوات يدفع ثمن أخطاء الآخرين باهظاً ونرجو ألا يكلفه كيانه أو جزءاً من كيانه ثمناً لأخطاء الآخرين، ومن دون شك ان المسؤولية في الدرجة الأولى تقع على عاتق إسرائيل وعلى من يحمي موقفها ويدافع عنه. فإسرائيل تدعي أنها مهددة في أمنها من المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، لذلك في اكثر من نادٍ دولي هو مسؤولية إسرائيلية لأنها هي التي طردت الفلسطينيين من أرضها ولأنها هي التي امتنعت عن المفاوضات السلمية وإعادة الحقوق إليهم منذ 20 عاماً حتى حملوا السلاح.
                      وفي جنوب لبنان بالذات وبعد قمتي الرياض والقاهرة، ارتأت الحكومة اللبنانية في عهد الرئيس سركيس الاستعانة بقوة الردع العربية التي دخلت كل أنحاء لبنان، فعارضت إسرائيل دخول هذه القوة الجنوب، كما عارضت من قبل وجود قوات الطوارئ الدولية على الحدود، إضافة إلى أنها في المفاوضات التي كانت تجري حول اتفاق شتورا بواسطة بعض الفئات، عارضت تمركز الجيش اللبناني على الحدود ووضعت شروطاً. لذلك، فإن بقاء الوطن في شكل فوضوي وفي غياب السيادة اللبنانية في الجنوب مسؤولية إسرائيلية، فكيف يمكن أن نحمل لبنان وأهل لبنان وأهل جنوب لبنان هذه المسؤولية، أنه الظلم بعينه؟
                      لا مجال للمجاملة:
                      وأضاف: "اعتقد انه لم يبق لنا مجال للمجاملة، وعلينا أن نقول أن الجميع في المسؤولية سواء. ولا شك أن إسرائيل أعطيت أقوى فرص السلام في الفترة الأخيرة بحيث لم يبق للعرب مجال لإعطاء المزيد، ومع ذلك فإن إسرائيل تنكرت لوجود وطن للفلسطينيين وحاولت تفسير القرار 242 تفسيراً لا يشمل انسحابها من الضفة الغربية وقطاع غزة مم جعل أميركا غير راضية من هذا التصرف. إذن إسرائيل حشرت العرب ووضعتهم في مكان اليأس المطلق.
                      أما المقاومة الفلسطينية فلا شك إنها في حال التوتر القائم هذه كان لا بد أن تتحفظ في تحركاتها عندما ترى ان هذه التحركات قد تنعكس على جنوب لبنان وأبناء الجنوب، خصوصاً أن ثمة محاولات أجريت في الفترة الأخيرة كي تسود الشرعية والسيادة اللبنانية بحيث لا تتحمل المقاومة مسؤولية الأخطار التي تهدد جنوب لبنان خارجياً.
                      أما الدول العربية فلا شك في أن لها غير السلاح وغير القوة العسكرية أسلحة أخرى من علاقات دولية واقتصادية وإمكانات، لذلك فهي تستطيع وضع ثقلها أو بعض ثقلها على الولايات المتحدة والدول الكبرى ـ التي رحبت بشكل أو بآخر بالإعتداء الإسرائيلي الذي يذكر الإنسان بالقرون الوسطى من أجل اتخاذ موقف حاسم تجاه إسرائيل، ولكن، ويا للأسف، نرى أن هذا الموقف غير موجود، حتى إن الاتحاد السوفياتي الذي من المطلوب ومن الطبيعي ومن المفترض أن تكون له مواقف حاسمة من إسرائيل لا يذكر في بيانه الأخير أي ضمان أو تطبيق أو طريقة تنفيذية للانسحاب.
                      لذلك نقول أن الجميع مسؤولون ما عدا لبنان لأن الشرعية اللبنانية في الوقت الحاضر لا تملك الوسائل وكل ما نطلبه منها أن تضع العالم أمام مسؤوليته بدعوة مجلس الأمن وطرح القضية عليه ما دامت قوة الردع لم تتجاوز الليطاني وإسرائيل تقول أنها لن تصطدم بقوة الردع وعلى لبنان الذي طالما خدم العالم واشترك في حضارته وقدم نموذجا رائعاً للدول الملتزمة بقوانين الأمم المتحدة أن يضع العالم أمام مسؤولياته"وقال رداً على سؤال: لا شك في إننا إذا قدمنا شكوى إلى مجلس الأمن من دون تحضير لن نتوصل إلى نتائج. وهنا لابد للعرب من أن يضغطوا على الدول الكبرى في الدرجة الأولى. أما إذا لم يتمكن مجلس الأمن من مساعدتنا ديبلوماسياً، فإنه سيتمكن من مساعدتنا سياسياً وإعلامياً. وأتصور إن الخلافات بين الكبار قد تعرقل كل شيء إلا مشكلة الوطن، وعندما يرى مجلس الأمن ان قسما من هذا الوطن العظيم مهدد فلا شك في أنه سيتخذ قراراً حاسماً، خصوصاً إذا رأى ان قضية الأحتلال تتحول إلى قضية نزوح وتهجير قسري تهدد بدورها الأمن .
                      واغتنم هذه الفرصة للتأكد أن على العالم ألا يستغل نبل لبنان وصمته، فاللبناني والجنوبي إذا وجد أن العالم تجاهله وتآمر عليه كما هو الحال الآن، فسوف يشكل ما يهدد به أمن العالم ويخلق له متاعب أيضاً. وهذا التاريخ أمامناً سوف يثبت للعالم أن تجاهل حقوق أي شعب مهما كان نبيلاً يهدد أمن المنطقة أو حتى أمن الكبار".
                      هذا مرفوض :
                      ورداً على سؤال أخر قال: "عودتنا إسرائيل ألا تتراجع، ونحن في حل محنة الجنوب يجب ان ننطلق من أكثر الأحوال تشاؤماً ولا نكون متفائلين بسطاء. أما قضية العرض الإسرائيلي حول اتفاق وحزام أمني فهذا الطرح مرفوض لأن أي معاهدة ضمن الإحتلال غير نافذة في العالم وغير مقبولة منه. فلو أن إسرائيل لم تمانع في دخول قوة الردع إلى الجنوب ولم تخلق متاعب للجيش اللبناني ولم تمنع دخول قوة الطوارئ الدولية إلى الحدود لبقي الجنوب آمنا مطمئناً وحافظاً لمصالح لبنان ولأمن المنطقة كلها، لكن الاتفاق مع إسرائيل وهي محتلة، ومحاولتها فرض الاتفاق على المسؤولين في لبنان في الشكل الذي تطلبه، فلا أتصوره حلاً للمشكلة لأن المسؤولين في لبنان لا يملكون، إذا ما خلقت متاعب إسرائيلية لدخول الجيش اللبناني إلى الجنوب أن يحفظوا أمن لبنان إذن سوف تفتح هذه المعاهدة نوعاً من الطريق السالك أمام الجيش اللبناني لكن بمجرد أن يحصل أي حادث سيدخل الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان أو يخرج منه، لذا فهذا ليس حلاً حتماً".
                      القضية والجيش:
                      وقال:"إن الفرصة مؤاتية اليوم أكثر من أي يوم مضى ليتسلم الجيش اللبناني منطقة الجنوب لأن القضية اللبنانية أصبحت اليوم مشرقة أكثر من أي وقت آخر. وهذا الوضع قد يكون أساساً لدفع عجلة الوفاق اللبناني إلى الواجهة. وعندما تبرز القضية اللبنانية في نفس اللبنانيين سيتحمس الجيش اللبناني من مختلف الفئات ويندفع ويعالج المشكلة. ولا شك في أن أهم مشاكل الجيش اللبناني المنقسم سابقاً غياب القضية أمام هذه القضية يبدو الوقت مناسباً جداً لانطلاق الجيش اللبناني وتسلمه المسؤوليات، وسوف يلتف الجنوبيين بجميع أبنائهم حول الجيش، فيخلقوا منه قوة مقدسة حتماً، وهذا أفضل وسيلة للأمان في المنطقة".
                      أقل واجب :
                      وقال أخيراً:"ان تمسك ابن الجنوب بمنطقته وببته على رغم ما يتعرض له هو أقل واجب، لأن التجربة أكدت أن النزوح يعرض الأرض للمطامع الإسرائيلية، وشرف أبناء الجنوب وتاريخهم يثبتان انهم سيبقون متمسكين بأرضهم. ومعلوماتنا أن هناك بعض الأطفال من المدارس وبعض النساء العجز أخرجوا، وهذا يعني أن الناس يستعدون للبقاء وربما لمواجهة الاعتداءات، إذا ما وجهت إلى صدورهم، واليوم قبل ساعة اتصلت ببيروت لأنني على طريق الذهاب إلى بيروت، عائداً من أفريقيا، فأكد لي زملائي أن نسبة النزوح قليلة وهي لا تتجاوز النساء والأطفال في بعض الحالات".

                      تعليق


                      • سيرة الأمام الصدر ( نداء 14 )

                        الموضوع : نداء ـ ماذا فعلتم بجنوب لبنان. أيها العرب؟
                        المكـان : بيروت ـ 25/3/1978
                        المقدمـة : منذ أشهر وصوت الإمام موسى الصدر رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان يحذر من الكارثة في جنوب لبنان ويحث المسؤولين، لبنانيين وعرباً وفلسطينيين، على التحرك لمنع حدوث الأسوء.
                        ووقع الاجتياح الإسرائيلي على جنوب لبنان، وتحولت هذه المنطقة إلى "ضفة غربية ثانية" على حد تعبير ديبلوماسي عربي كبير.
                        وأضيفت هذه البقعة من لبنان إلى الملف الإسرائيلي الضخم، وملف الاحتلال والتصلب، إلى جانب القضايا الأخرى: الضفة الغربية وغزة، سيناء والجولان، حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، المستوطنات، التفسير الغريب للقرار 242.
                        الأمام موسى الصدر أختار "النهار العربي والدولي" منبراً ليوجه منه وعبره رسالة إلى العرب: ماذا فعلتم بالجنوب أيها العرب؟ وفي ما يأتي نص الرسالة ـ النداء:
                        ـ الــنـــص ـ
                        ماذا فعلتم بجنوب لبنان أيها العرب؟
                        ألا وقد ظهرت النتائج وتمثل أمام المتفرجين العرب فصل الجنوب اللبناني على مسرح المؤامرة الدولية ـ الإسرائيلية، ووصل الجيش الإسرائيلي إلى ضفاف الليطاني، فهل من مجال بعد للتشكيك أو التفاؤل أو المجاملة. . والإيثار؟.
                        مؤامرة: بدأت منذ 1948. بتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه إلى جنوب لبنان بالإرهاب "البيغيني ـ الإسرائيلي" أمام آمال العودة والوعود والمفاوضات، فرفضت إسرائيل الاعتراف بحقوق هذا الشعب بأرضه وممتلكاته وحتى بوجوده.
                        وبعد اضطرار الفلسطينيين إلى حمل السلاح اعتبرت إسرائيل ثورتهم إرهاباً وتخريباً على رغم قيامها بعد عشرين عاماً من الانتظار والمفاوضات.
                        وبدأت إسرائيل بالانتقام من أبناء الجنوب وقرى الجنوب، بحملات مسلحة وبالخطف والفتنة بين الناس.
                        وحولت نهر الأردن، ومنعت تحويل الروافد وبخاصة مياه الوزاني، والحاصباني، كما حالت دون استثمار مياه الليطاني أيضاً من قبل لبنان بالدس في الوقت الذي بدأت حفر القناة في امتداد الليطاني قرب موقع الخردلي تمهيداً لتنفيذ مشروع جونستون المرفوض من قبل لبنان، وأسست مؤسسات ومشاريع في بلادها.
                        وفي المحنة لبنان الأهلية استمرت في شن حرب نفسية وإثارات طائفية وإرسال عصابات وإغراء فئات، كما استغلت الخوف والفقر فسلحت جماعة ووضعت الجدار الطيب على الحدود.
                        وعندما أرادت السلطة اللبنانية إرسال قوة الردع العربية لإنهاء الحرب الأهلية في الجنوب ولحفظ الأمن، هددت إسرائيل بالحرب متذرعة بأمنها وهيبتها.
                        وحين اتجهت السلطات إلى الاستعانة بقوة الطوارئ الدولية، قوبلت برفض إسرائيل ثم بوضعها شروطاً زمانية ومكانية وقيادية على دخول الجيش اللبناني ارض لبنان الجنوبي، وخلقت بذلك أعذاراً ومخاوف للمقاومة الفلسطينية من تنفيذها اتفاق شتورا ومن خضوعها للسيادة اللبنانية.
                        وتابعت بالفتنة وإرسال السلاح إلى مختلف الأطراف في الجنوب، دون أن تسمح بمعالجة الفوضى وتوطيد الأمن فيه.
                        ومن جهة أخرى، قابل بيغن جميع مساعي السلام، وحتى المساعي التي تجاوزت حدود المعقول، بالرفض والرفض وبالإصرار على إقامة المستوطنات وبالتراجع عن القرار 242 وعن شمول القرار للضفة الغربية، وبذلك عادت إسرائيل بعد عشر سنين من النضال المسلح إلى إنكار حق الشعب الفلسطيني وفي وطنه وإنكار وجوده، فدفعته من جديد إلى أعمال يائسة وانتحارية.
                        وحملت على طريقة القرون الوسطى وبأساليب الاستعمار القديم لبنان وجنوبه مسؤولية أعمال المقاومة، واجتاحت الأرض ودنست البحر والبر، فقتلت وأحرقت ودمرت من دون استحياء، وادعت أنها أبلغت الولايات المتحدة وبريطانيا ساعة البدء بالهجوم، في الوقت الذي عرف العالم واقع الاعتداء عن طريق الأقمار المراقبة الاصطناعية.
                        وباركت الولايات المتحدة اعتداء إسرائيل وأضافت شرطين: ألا تتعرض للمدنيين وليس للأرض، وألا تصطدم مع قوة الردع العربية، وأن اصطدمت مع لبنان واستقالاته وسيادته وكرامته ووحدته أيضا.
                        والعالم في صمت رهيب، اللهم إلا تظاهرات لأجل إغلاق مكاتب منظمة التحرير في فرنسا.
                        وها هي إسرائيل في نهاية المطاف تريد الأمن وتطلب اتفاقا وتصرح أن بقاءها العسكري يحدد بتوقيعه.
                        ترى مع من تريد إسرائيل اتفاقاً؟ مع منظمة التحرير؟ وهي في رأيها غير موجودة وغير ممثلة للشعب الفلسطيني. أو مع قوة الردع العربية؟ وهي غائبة عن المنطقة المطلوب أمنها. أو مع الميليشيات والمحافظين كما يزعم وزير الدفاع الإسرائيلي؟ وحاشى أن يعاونوا مع قتلة المسيح وتجار الهيكل بالذات. (ولا أقول اليهود أو الساميين) وحاشى المحافظين في لبنان ان ينفذوا مطامع إسرائيل في أرضهم وعلى حساب وطنهم وإخوانهم. فقد أختلف اللبنانيون والعرب في كل شيء إلى في مبدأ التعاون مع إسرائيل.
                        تريد إسرائيل حزام الأمن وقوة الأمن الإسرائيلية في الأرض الإسرائيلية تمنع طلاب الأرض والقوت والحياة الكريمة من مزاولة نشاطاتهم فيكف بلبنان.
                        وماذا تريد بعد ذلك؟ الماء، وان لم تقله، لأنها استعدت قبل أن تولد الثورة الفلسطينية فوضعت الخرائط وبدأت تنفيذها.
                        وتريد أيضاً نقاطاً إستراتيجية احتلتها خمس مرات قبل الآن وفي كل مناسبة، تلك النقاط التي تمنع الحدود اللبنانية الإسرائيلية أن تكون مثالية كما قال وزير الدفاع السابق، وزير الخارجية الآن.
                        إذاً . . هناك احتلال إسرائيلي مكشوف للأرض اللبنانية.
                        وهناك مبررات للاحتلال يجب على العالم أن يشكر إسرائيل عليه وهذا هو الأهم.
                        والأخطر من كل هذا أن مجلس الأمن يتردد في إدانة الاحتلال ويتعرض لاستعمل حق النقض من إحدى الدول الكبرى أو أكثر تلك الدول التي اجتمعت بعد دمار الحرب الكونية الثانية، وعلى ساحة سقط فيها عشرات الملايين من ضحايا النازية، اجتمعت لضبط الأمن الدولي وها هي ترفض أمن واحد من اصغر أعضاء الأمم المتحدة مساحة وأكثرهم تطلعاً إلى الأمن وحاجة إلى السلام ومساهمة في حضارة الإنسان. على رغم أن هذه الدول التزمت بميثاق الأمم المتحدة وتعهدت بصيانة ارض لبنان وسيادته بالذات كما تعهدت بالمحافظة على حدود الدول في المنطقة.
                        والعرب.. ماذا يريدون وماذا يفعلون؟ بل ماذا أرادوا وماذا فعلوا بلبنان وبجنوب لبنان بالذات؟
                        الجنوب كلمة تقال، ولكنه في الحقيقة ارض الحضارات وينبوع الثقافات ومعلم الأبجديات ومكتشف المحاميات والعلاقات الدولية.. أنه ارض الإنسان والإيمان.
                        والجنوب أيضاً قلاع شامخة ونقاط إستراتيجية وأرض خصبة وملياران ونصف مليار متر مكعب من المياه العذبة.
                        فالجنوب أذن يعطي إسرائيل إمكانا لهجرة ربع مليون مهاجر جديد وتأسيس وتجهيز مائة ألف عسكري جديد وإضافة 20% إلى قواتها العسكرية والاقتصادية والبشرية.
                        والجنوب أيضاً وأيضا لقاء التاريخ مع الجغرافيا، أرض الحرب والسلام.
                        وبعد كل هذا، فإن الجنوب بالنسبة إلى العرب هو أرض الوفاء والشعلة القومية وساحة الوقفات مع آمال العرب وآلامهم منذ بداياتها، فهو تجسيد إذاً لوفاء العرب أو..؟
                        وماذا يعني سقوط الجنوب؟ وللعرب بالذات؟ انه يعني أيضاً سقوط لبنان وتقسيمه بل تشظي لبنان وانتشار شرارة التوتر في العالم العربي كله بل في العالم كله حتى في الولايات المتحدة نفسها.
                        إن تقسيم لبنان مدخل إلى انتقال العالم إلى عهد الدويلات الطائفية، ذلك العهد الذي تسوده إسرائيل.
                        وسقوط الجنوب ولبنان يعني تحول الشعب اللبناني المسالم والجنوب الوديع الموالي، إلى شعب مضطهد، قد يهدد أمن المنطقة والعالم أيضاً.
                        أليس كذلك؟.
                        والآن وبعد الاحتلال ماذا نريد؟ ماذا يريد الجنوب؟ ماذا يريد لبنان من العرب؟ وبعدها يطلب عرض الاحتلال على مجلس الأمن ويضع الدول الكبرى والآخرين أمام مسؤولياتهم.
                        إننا نعلم أن يملكون أسلحة أخرى غير القوة العسكرية، استعملت أو أستعمل قسم منها في حرب الـ 1973. إنها علاقات دولية، ديبلوماسية، اقتصادية، سياسية، بترولية، مالية وثقافية. ان علاقات العرب جيدة مع العالم الثالث، مع المسلمين، مع المسيحية؛ مع الدول الاشتراكية ومع الولايات المتحدة نفسها فهي المسؤولة وهي المتعهدة وهي المتضررة.
                        إنها أبرزت في حرب الصومال دورا يدهش العالم.
                        وماذا بعد ذلك؟ احتلال جديد لأرض جديدة. فالعالم والعرب والصديق والشقيق والمؤمن الملتزم بالقومية وبالقيم وبالمبادئ والسلام وبالحق، كل يجد مسؤوليته التاريخية أمام قضية حق وعدل في وجه ظلم مطلق شامل، يعتمد على الثلاثي التاريخي المتحالف منذ الأزل والذي نعبر عنه اليوم (بالاستعمار والاستثمار والتضليل)، والذي يعبر عنه القرآن الكريم بالاستضعاف، فلينظروا ماذا يرون؟
                        وبعد ذلك والأهم من ذلك في سبيل التنفيذ، ان على العرب، وبخاصة جبهة الصمود العربية وبخاصةً منظمة التحرير الفلسطينية، ان يتحملوا مسؤولياتهم في سبيل القضية الفلسطينية وألا يتركوا أبناء الجنوب بعد كل التضحيات وحدهم يحملون مسؤوليات أكبر قضية في عصرنا أمام أخطر عدو في التاريخ.
                        هل طلبنا الكثير؟ لا بل طلبنا، سوف يدفع الجميع ثمنه في المستقبل القريب {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (محمد:38) أي لا تبذلوا من الجهد والمال والنفس في سبيل الحق والإنسان والقيم {فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد:38)

                        صدق الله العظيم

                        تعليق


                        • سيرة الأمام الصدر (خطاب 16 ) جزء 1

                          الموضوع : خطبة الجمعة ـ احتلال الجنوب نتيجة تآمر دولي وإهمال عربي، والتحرير مسؤوليتنا وحدنا.
                          المكـان : مسجد الصفاء الكلية العاملية، بيروت ـ 31/3/1978
                          المناسبـة : خطبة صلاة الجمعة.
                          ـ الــنـــص ـ
                          بسم الله الرحمن الرحيم
                          والحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله نتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. ومن يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فما له من هاد.
                          وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره الكافرون .
                          الحمد لله، الذي لا يحمد على مكروه سواه، والشكر له على أن أنعم علينا بالإيمان، وبالوعي، وبالعدل الذي به نعبده. ونزن أمورنا، وصعوبات حياتنا، ونفكر في مستقبل أمرنا.
                          أيها الأخوة المؤمنون
                          إننا نعلم أن يوم الجمعة، في الحساب الإسلامي، هو اليوم الذي يجمع الله الناس للحساب. وهذا ما نقوله، دائماً ونكرره. ونقول أننا في يوم الجمعة، وبين يدي الله، عالم السر والخفيات، نقف ونتأمل، ونفكر في ماضينا وفي مستقبلنا، فنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الله جل وعلا، وقبل ان يحاسبنا التاريخ في مواقفنا وأعمالنا.
                          فالجمعة إذن، كانت يوم المحاسبة والتأمل والعبرة والتخطيط، فالمصائب تنتهي، وتتعالج مهما عظمت. أمام المصائب الكبرى، التي نعانيها في هذه الأيام، والتي بلغت القمة، لا يمكن للمؤمن أن يفقد أعصابه، وان يسقط أمام المصيبة، وأن يستسلم للعدو الذي سبب المصائب والكوارث لنا، ولو كان العدو أنفسنا وأهواءنا وأخطاءنا. فلا نتهم الآخرين قبل أن نبحث في أسباب المحنة فنفتش عما في نفسنا وعما حولنا وعما بيننا، قبل أن نفتش عما وراء الحدود، وعن البعيد الذي يضع خطة المؤامرة، فينفذها في أرضنا الطاهرة وفي منطقتنا العزيزة.
                          أمام المصائب، إذا جزعنا أو أسقط في يدنا، فنحن خسرنا الحال والمستقبل. بينما إذا كنا بقوة إيماننا، ذلك الإيمان الذي يجعلنا نؤمن بأن الله في قلب المؤمن، وأن قلب المؤمن عرش الرحمن، ذلك الإيمان الذي يربطنا بالله خالق الكون وبارئه ومدبره، ذلك الإيمان الذي يربطنا بعقل الكون وبقلب الكون بإرادة الكون وأحاسيس الكون، ذلك الإيمان الذي رسم لنا تاريخنا المشرق وسيرسم لنا بإذن الله مستقبلنا المشرق.
                          عندما ننظر إلى المصيبة بالإيمان نحاول ان نقيم المصيبة، وأبعاد المحنة، ونفتش عن السبب. ونحاول استخلاص العبرة والنجاة وتجاوز الآلام كلها. أما الاستسلام للمصيبة، والبكاء على الأطلال، والمحنة والجزع وفقد الأعصاب، فهذا شأن الضعفاء المهملين في التاريخ أولئك الذين ضربوا ضربة فأخرجوا من التاريخ إلى غير رجعة. ولا يمكن لنا أن نقبل ذلك على أنفسنا، لأننا أمام تاريخ كان آباؤنا وأجدادنا وكبارنا في لبنان وفي جنوبه وفي خارج لبنان، أمام تاريخ، كله وقفات عز، وكله تأملات للعلاج وللخروج من المحنة.
                          أتذكر نقطة واحدة، تلك النقطة التي نكررها باستمرار، وفي كل جلسة من مجالسنا أن نتذكر دائماً سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (ع). نتذكر تلك الوقفات ولنتذكر ظروف تلك الوقفات.
                          أيها المصابون، أيها المحزونون، أيها المظلومون من الأخ والصديق، قبل الظلم من العدو والبعيد. فلنتذكر وقفات الإمام الحسين (ع) كيف كانت ومتى كانت.
                          ففي خطوة عندما كان في طريقه من مكة إلى كربلاء، التقى الحسين (ع) بعبيد الله بن الحر الجعفي، وهو بطل من الأبطال، شجاع كريم، كبير قوم، فاستعان به الإمام الحسين وطلب منه النجدة.
                          نتأمل بعض الشيء، في وضع الإمام، في هذه اللحظة. لماذا كان الأمام الحسين (ع) هنا وفي هذا المنزل؟ لأن معاوية قد مات، ولأن يزيد، المرفوض من ضمير الإسلام، وضمير الحق، والعدل، وضمير المسلمين، استلم الخلافة، وبعث يطلب بيعة الحسين (ع) في المدينة. ومن الطبيعي أن يقول الحسين (ع): "مثلي لا يبايع مثله". ومن الطبيعي، أن يضغط يزيد وإليه ـ على الحسين أن يقول لفرض البيعة عليه، لأن خضوع الناس له ليس خضوع إرادة وقناعة، وإنما خضوع قوة ورهبة وإرهاب.
                          عرض على الحسين (ع) البيعة فرفض. ولكنه لم يتمكن من البقاء في المدينة. فخرج مع أهله وأصحابه، وأنتقل إلى مكة، إلى الحرم الإلهي، إلى بيت الله الحرام. وهناك أيضاً، بعد بقاء بضعة أشهر، عرف أن المقام، لا يمكن أن يطول، وأن الخطر محدق به. وحاشاه أن يهرب من وجه الخطر إذا كان دفع الحياة والروح ثمناً لإنقاذ الإنسان واستقامة الحق.
                          ولكن الحسين (ع) أراد أن يحفظ كرامة الكعبة وبيت الله الحرام. فلا يراق دم ابن بنت رسول الله، فتستباح الحرمات، وتصبح البلدة الآمنة، مهددة بتجاوز كل طاغٍ وباغٍ في المستقبل، فخرج من مكة.
                          إذاً الحرمان الشريفان: الحرم المكي، والحرم المدني كانا مهددين. وكان الحسين فيهما مهدداً. فخرج إلى أين؟ خرج ملبياً دعوة أهل الكوفة، حيث بعثوا له آلافاً من الرسائل يطلبون منه أن ينتقل إلى الكوفة. فهم إذا انتقل إليهم يبايعونه، وهم إذا جاء الحسين ينصرونه، وهم يقفون معه لإقامة الحق وإبطال الباطل. فخرج نحوهم.
                          وهو في وسط الطريق، عرف بأن أهل الكوفة، تحت وطأة الإرهاب أو الأغراء، نكثوا بيعتهم وقتلوا وكيل الحسين وممثل الحسين، وابن عم الحسين، مسلم بن عقيل ابن أبي طالب (ع).
                          إذاً، الحسين في الطريق يدرك أن آفاق الأرض السماء قد سدت في وجهه، فمكة والمدينة لا تحتملانه، والكوفة خانته وامتنعت عن نصرته، وها هو جيش جرار من أهل الكوفة وبقيادة أعدائه، وبأمر من يزيد الذي رفض الحسين أن يبايعه، في طريقه لحصر الحسين ولأخذ البيعة منه غصباً أو قتله، في هذه الحالة يلتقي الحسين مع عبيد الله بن الحر الجعفي، وعندما يرفض هذا نصرة الحسين يقدم للحسين هدية. فيقول له: يا ابن رسول الله، عندي فرس جيد ممتاز فوالله ما أردت أحداً، ما قدت أحداً، إلا وقد لحقت به. وما قصدني أحد إلا وفته".
                          فيقول: هذا الفرس عندما كنت، عليه، لو قصدت أي إنسان، لو قصدت أي هارب لأدركته. ومن جهة أخرى عندما كنت على هذا الفرس، إذا قصدني إنسان، تمكنت من أن أفوت عليه الفرصة وتمكنت من الفرار.
                          الإمام الحسين لمس من اقتراح عبيد الله، أنه يقترح عليه الفرار، لأن الحسين ليس في الموقع الذي يتمكن من أن يقصد أحداً أو يلاحق أحداً أو يتهجم على أحد، وأنه مطوق محاصر، وبلاد الله الواسعة ضاقت عليه بما رحبت. إذن، ليس المطلوب أن يدرك الحسين أحداً.
                          إذاً القسم الثاني من الحديث، أنه لو كان راكباً على الفرس ولحقه أي إنسان فإنه يتمكن من الهرب من وجهه. فشعر الحسين من هذه الكلمة أنه يقترح عليه الفرار، فرفض بقسوة وقال له: يا بن عبيد الله، أخرج من هذه الأرض، فوالله إذا لم تخرج فقد أكبك الله بوجهك في نار جهنم. أنت أيها الخائف القلق، أنت أيها الضعيف الجبان، يا عبد المال، يا عبيد الأعداء، تقترح على الحسين ابن بنت رسول الله صاحب التاريخ أن يهرب؟
                          ماذا صار في الدنيا؟ إن هي إلا حياة وروح ونفس فليتركها الإنسان، فليقدمها الإنسان، لأجل بناء المجد، ورضا الله، وحرير الإنسان.
                          هذه اللوحة وأمثالها من المئات التي تزين بناء تاريخنا، وغرف ذاكرتنا وواجهة نفوسنا، وإرادتنا، يوميا أمامنا، فنقول في كل مجلس، يا ليتنا كنا معك فنفوز فرزاً عظيماً.
                          نحن اليوم أمام مصيبة لاشك! ما هي هذه المصيبة؟
                          احتلال من العدو الطامع، احتلال ذو أبعاد عديدة، طمع في الأرض، طمع في المياه، طمع في القلاع، طمع في الثروات، طمع في الآثار التاريخية، طمع في التوسع كل هذا موجود بالإضافة إلى ذلك. إعتداء على البيوت، على الممتلكات، مباشرة بواسطة العدو أو غير مباشرة بواسطة عملائه.
                          في بعض الأماكن حرق للبيوت، حرق للمزارع، محاسبة، خلق مشاكل وفتن، بالإضافة إلى ذلك حصر في الأرزاق، منع للأقوات، مشكلة في العيش. يضاف إلى ذلك: ذل في توزيع المؤونة في المناطق المحتلة من قبل العدو.
                          كل هذه الأخطار، جانب، والنزوح جانب آخر، والعيش في المنفى، والعيش بعيداً عن البيت، والعيش بعيداً عن الأرض، بعيداً عن القرى خطر ذو وجهين: ذل وضياع وتعريض للانحطاط في مكان النزوح. وخطر وطمع من مختلف الفئات في الجنوب، في المكان الذي تركناه.
                          فهناك مطامع استيطانية إسرائيلية معروفة، وهناك مطامع استيطانية طائفية معروفة أيضاً. وهناك مطامع استيطانية عربية، ناتجة عن الكسل والفرار من الموقف والفرار من المسؤولية، الأرض معرضة، غيابنا عن الأرض يهدد الأرض وهذه هي المصيبة الثانية.
                          والمصيبة الثالثة والأخطر ان العدو، الطامع في أرضنا، وفي بيوتنا، وفي كرامتنا، طامع أيضاً في تاريخنا وفي شرفنا وفي عزتنا، فنسمع يوميا من إذاعاتنا ومن الإذاعات العالمية، أن مجموعة من الشيعة، مطلوب منهم أن يلتحقوا بالميليشيات المعادية والعميلة للعدو.
                          أي فرد تمكنوا خلال سنوات من الضغوط ومن الإغراء، ومن فتح الجدار الطيب ومن كل وسائلهم وإغراءاتهم وفتنهم، تمكنوا أن يجتذبوه؟ من الذي كان معهم عندما زحف الجيش الإسرائيلي وأجتاح أرضنا الجنوبية الطاهرة؟ من الذي كان معهم؟ لم يكن معهم واحد أبدا. كل الناس، الذي كانوا يتصورون أنهم غير مبالين، ومحتمل أن يعاونوا معهم، ابتعدوا عن الطريق ولم يكن معهم أحد، من أبناء الحسين وعلي، بل لم يكن أحد معهم من أبناء المسيح، لم يكن معهم من أبناء البطل لبنان الذي وجد بذاته، ووجد دينه الإسلامي والمسيحي، في مواجهة ذات إسرائيل وفي مواجهة دينهم منذ أن كان، من الأول إلى الأخير.
                          رسالتنا في لبنان تتناقض مع رسالتهم، فرسالتهم عنصرية، طائفية، رافضة للتعايش، ورسالتنا تعايش وانفتاح وإنسانية مؤمنة للعالم. وجودنا منقاض لوجودهم. مسيحنا تأمروا عليه، وحاولوا قتله. إسلامنا تآمروا عليه ودسوا فيه آلاف وعشرات الآلاف من الأحاديث.
                          إذاً، كيف يمكن للجنوبي مهما كان نوعه، ومهما تحمل من العذاب، ان يتعاون معهم، وأن ينفتح عليهم وأن يقبض منهم وأن يعطيهم شيئاً. أعداؤنا، أعداء أرضنا ومائنا ومجدنا، أعداؤنا في تاريخنا وفي كل ما نملك. إذن، ليس من المعقول هذا الذي يتهمون إنه الطمع في التاريخ، إنه الطمع في أمجادنا وفي عزتنا. إذن، العدو عدو من جميع الوجوه.
                          ومن جهة أخرى، الأخطار التي تهدد لبنان بسبب محنة الجنوب أخطار لا تحد ولا توصف أيضاً. أخطار تؤدي إلى انتشار المحنة، إلى المحنة الاجتماعية، إلى الانفجارات الداخلية، إلى المصائب الجزئية المحلية، إلى التوتر، إلى عرقلة سير الوفاق، إلى صعوبة مهمة الشرعية. هذه الأخطار أيضاً موجودة تماماً في ساحتنا.
                          أمام هذه المصائب، ماذا نعمل؟ هل نهرب من وجهة الأحداث؟ كلا! هذا الذي يريده أعداؤنا. أولئك الذين باسم الأصدقاء يشتمون ويتشفون ويهزؤون ويسخرون، أولئك الأعداء الذين يلبسون ثوب الأصدقاء. مصيبة أخرى. كلا. سنفوت عليهم وعلى العدو الحقيقي الفرص.
                          مع بعض التأمل، لماذا أصبنا بهذه المصيبة أيها الأخوة؟ لأن الجنوبي وحده تحمل عن لبنان، كل لبنان، وعن العرب، كل العرب، مسؤولية القضية المقدسة. لا أقول كلمة عابرة بل أقول شهادة يوم الجمعة وفي بيت الله، وأمام التاريخ. أقول شهادة للجنوب ولأهل الجنوب. حتى يعرف الشامتون وحتى يسمع الأعداء ماذا كان الموقف؟ ولماذا حصل ما حصل في هذه الدنيا؟
                          =يتبع =
                          التعديل الأخير تم بواسطة صدر; الساعة 14-01-2003, 02:29 AM.

                          تعليق


                          • سيرة الأمام الصدر (خطاب 16 ) جزء 2

                            منذ 1948 بدأت إسرائيل بوضع المستعمرات المسلحة في أراضها في مواجهتنا. كان من المطلوب ان نستعد، فلم نستعد. أهل الجنوب تحملوا هذه المواجهة، تجمد اقتصادهم، سيطرت الرهبة على مناطقهم، والجمود على إنتاجهم، ومنتوجاتهم. وبعد ذلكن لبنان، كعضو في الجامعة العربية، لبنان الملتزم بالميثاق العربي، وفي فترة من الزمن بالقيادة المشتركة. كان على لبنان واجب وللبنان حق.
                            واجب لبنان ان يقف في وجه عدو العرب المشترك. وكان حق لبنان ان يكون منفتحاً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، ودبلوماسياً على العالم العربي، كل العالم العربي. المفارقة ان الجنوب وحده تحمل الواجب، ولبنان كل لبنان أستلم الحق. فعندما كان يقول لبنان إنه مع القضية، وعندما كان يذهب رئيس لبنان إلى الأمم المتحدة ويتحدث عن القضية وعندما كان يشترك وفد لبنان في العالم، وفي المؤتمرات، فينطلق بإسم القضية، من الذي كان يتحمل القضية غير الجنوب وحده بدون أي مساعدة؟ إذن، الجنوب تحمل وحده عبء القضية الفلسطينية عن كل لبنان. والثمن، والحق والأرباح، والغنائم، وصلت لكل لبنان.
                            أما عن العرب. فالعرب أشقاؤنا، عزتهم عزتنا، وهزيمتهم هزيمتنا، نصاب بما يصابون. ولكن عليهم أن يقدروا المواقف حق قدرها أما القضية المشتركة التي تتفاعل منذ 1948 حتى الآن في كل أوطاننا العربية. أمام هذه القضية التي أسقطت دولاً وأنظمة ورفعت دولاً وأنظمة. كل التطورات، كل الموازنات، كل الناهج السياسية في العالم العربي تتأثر بمعاداة إسرائيل وبهذه القضية المقدسة.
                            عندما كانوا يبحثون في منع إسرائيل من تحويل نهر الأردن، لبنان شارك معهم، لبنان بفاعلية، شارك معهم، لأن روافد نهر الأردن تنطلق بعضها من أرض لبنان الجنوبي. نحن وافقنا وبدأنا نمنع الروافد، وأردنا ان نستثمر الحاصباني والوزاني والمياه التي كانت موجودة فضربتنا إسرائيل، فلم يحمنا أحد. ولم تدافع عنا أي دولة وأي جيش رغم عطائنا الكلي.
                            أردنا أن نستثمر الليطاني فنروي خمساً وأربعين ألف هكتار من أرض الجنوب. فبدأت إسرائيل، من هنا ومن هناك، تلعب وتمنع، وتهدد وتتدخل في الأوساط الدولية لمنع التمويل فلم تمولنا دولة عربية، ولم تساعدنا منظمة أو مؤسسة أو صندوق في هذا الأمر.
                            وفي محنة الحرب أيضاً، عندما كانت الجبهات الأخرى هادئة، كانت جبهتنا متفجرة. من الذي فجر الجبهة في الجنوب؟ ليس اللبنانيون! لأن اللبنانيين، أرضهم كانت موجودة، ولم تكن أرضنا محتلة في الجنوب. العرب فجروا الجبهة في الجنوب. من الذي فجر!! وبعض المسؤولين وافق على تفجير هذه الجبهة، عندما وافق على انتقال المقاومة الفلسطينية إلى الجنوب. مسؤول في الحكومة. مسؤول رسمي، وافق رسمياً على ذلك وليس أهل الجنوب، بعثوا وطلبوا، وفجروا الجبهة. إذن العالم العربي، أيضاً في تسخين الجبهة، وفي تفجير الجبهة، لم يقف مع لبنان، ومع الجنوب. وجنوب لبنان وحده دف الثمن.
                            إذاً، العبء الاجتماعي والعبء الجغرافي والعبء الديمغرافي والعبء الحربي الاقتصادي والعبء النفسي والعبء الإعلامي في العالم كان على عاتق الجنوب وحده منذ 1948 حتى يومنا هذا. فدلني بالله عليك، أي شعب، أي قبيلة، أي منطقة عربية أعطت للقضية العربية الكبرى ما أعطت ارض الجنوب وأهل الجنوب؟ ومع ذلك تطلبون منا بعد ذلك أن لا نشارك في القرارات؟ وأن لا نبحث في الأحداث؟ وأن نتحمل وحدنا الثمن. كلا. لن يكون بعد ذلك بإذن الله.
                            أيها الأخوة الأعزاء،
                            مصيبتنا أننا تحملنا وحدنا عبء لبنان، مسؤولية لبنان وواجبات لبنان تجاه أشقائه وتجاه القضية العربية وتجاه العدو المشترك. ومصيبتنا ان لبنان وحده تحمل مسؤولية هذه القضية. بالنسبة للدول العربية الأخرى. إذن نحن مصيبتنا هي مصيبة عدم التكافؤ في الحرب. وإذا كان من شماته، وإذا كان من اتهام بالضعف وإذا كان من اتهام بالخروج من الجبهة، فليتحمل المتحملون والمسؤولون هنا وهناك وهنالك هذه المسؤولية. وآخر من يتحمل مسؤولية بالخروج من الجبهة: الجنوب.
                            ونحن نقف هنا لكي نوضح هذه المصيبة حاولت أن أشرح جزءاً منها، ويشهد الله أن ما شرحته هو جزء من المصيبة، ولا أريد أن أضعف معنوياتكم. ولكن أقول لكم في نفس الوقت: نحن تاريخنا واضح يبدأ بالتضحيات، بتحمل المسؤوليات، بالمواقف العلوية الحسينية التي تقول بعد ان كانت المدينة ومكة والكوفة وكل الأرض ضاقت على الحسين بما رحبت يقول: كلا.. أخرج من هذه الأرض فالذي لا يسلك هذا السبيل ويمتنع من نصرتنا، هذا كلام الحسين لعبيد الله بن الحر الجعفي. سوف يكبه الله على وجهه في نار جهنم هذه اللوحة أمامنا ونحن نعود إلى الجنوب. علينا أن نسعى في سبيل تحرير الجنوب. ما هو السبيل؟
                            لنا دولة، لنا رئيس، لنا نظام سياسي، الحرب خطة. ما هي خطة الدولة للتحرير، لإزالة رجس المستعمر من الجنوب؟.. تختاره الدولة ونحن مع الدولة. وبنفس الوقت، مسؤولية تحرير الأرض، مسؤولية إزالة العدو، مسؤولية إرهاق العدو إذا لم يخرج من الجنوب هي مسؤوليتنا وحدنا. لا نريد من أحد من الأشقاء ولا نريد من المقاومة الفلسطينية أيضاً أن تساهم في معالجة هذا الأمر، لأن إسرائيل تتحجج إذا دخل غير اللبنانيين في سبيل تحرير الأرض. نحن سنتكفل بذلك وسنتحدى العالم بذلك. وسنقول للعالم: أرضنا احتلت ليس بسببنا. أبداً!! وليس بإرادتنا أبداً، بل تآمر دولي وإهمال عربي أديا إلى ذلك. فنحن نتكفل بإزالة أثره وبإنهائه. وهكذا نرجع نرتبط بتاريخنا ونقول لأنفسنا أولاً، وللمواطنين ثانياً، وللعرب ثالثاً، وللعالم أجمع رابعاً، نقول لهم بالحرف الواحد وبالكلمة الواحدة: إننا نحن لا يمكن أن نقبل أن التاريخ الذي كان مشرقاً، نتوارثه كابراً عن كابر، ورسمته أيادي، وأقلام، ودماء الأبطال الحسينيين العلويين، لا يمكن، أن هذا التاريخ عندما يصل إلى يدنا، إلى قبضتنا، إلى دورنا، إلى جيلنا، أن نشوه هذا التاريخ. مهما تعاظمت المصائب، فنحن سنبقى واقفين نحمل المشعل. ونحمي جنوبنا. ونحمي لبناننا ونحمي سلامة سير لبنان واستقامة سلوكه وشرعيته العادلة وتكافؤ الفرص.
                            فنحن نقف نحمل مشعلنا التاريخي. ولا يمكن ان نقبل بأن يشوه جيلنا التاريخ ويشكل ثغرة في الامتداد التاريخي. ولا يمكن أن نقبل أن تشكل منطقتنا العزيزة تشويهاً في الأرض لبنان البطلة، وتشكل ثغرة فيها. مهما قال المتخرصون الناطقون، الأعداء الحقيقيون للبنان، مهما قالوا فنحن نحترم هذه الأرض المباركة ونريد وحدتها ووحدة أبنائها، وعزة شأنها وعلو مكانها. وهكذا نؤدي واجبنا.
                            هذا الحساب، الذي يرتسم أمامنا يوم الجمعة، عندما نحاسب أنفسنا ندرس الماضي، عمق المصائب، ألم الفجيعة والمصيبة. ولكن نواجه المصيبة بعقل، بتأمل لا بجزع وبتوتر الأعصاب. وعند ذلك نتمكن من اكتشاف الخلل ومعالجة المشكلة في المستقبل.
                            أقول هذا الكلام علناً ويوم الجمعة وعلى الإذاعة. لأن هذا هو واجبنا، ومسئوليتنا، وتعهدنا التزامنا أمام التاريخ، أمام العرب، وقبل كل شيء أمام لبنان، وبعد كل شيء وفوق كل شيء أمام الله سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} صدق الله العظيم (سورة العصر)
                            الخطبة الثانية:
                            بسم الله الرحمن الرحيم
                            الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه، وخاتم رسله، محمد، وعلى أنبياء الله المرسلين. وسلام الله على آل بيته وصحبه الطاهرين، ومن أتبعه بإحسان إلى يوم الدين.
                            أشهد أن محمداً، عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وأشهد أن ما جاء به محمد بن عبد الله حق من عند الله. نؤمن به ونقدسه، ونحميه، ونتحمله إلى يوم يبعثون.
                            عباد الله! أيها الأخوة المؤمنون.
                            أمام المصاعب، تزداد المسؤوليات: المسؤوليات: الاجتماعية والمسؤوليات السياسية، والمسؤوليات الوطنية، وكلها مسؤوليات دينيه. وان الدين لا يفرق بين هذه المسؤوليات.
                            وأمام هذه المصيبة، أيضاً، نقف أمام مسؤولياتنا الشاملة، الإنسانية أيضاً. فأهلنا، هنا وهناك، بحاجة إلى رعاية. ولا أقصد بالرعاية المؤونة أو المواد الغذائية، هذه واجبات الدولة. والدولة تتحملها بإتقان. واجبنا أيضاً، سد الثغرات: من يغيب عن رؤية الدولة، من يمتنع عن الاستعانة بالدولة. من لا يكشف حاله أمام اللجان. وهؤلاء هم الكثيرون، إذا لم أقل الأكثرون.
                            أيها الأخوة الأعزاء،
                            واجبنا أن لا ننسى هؤلاء الناس. وأن نتبرك برعايتهم، والإطلاع على وضعهم، وبإيصال المساعدات غير المباشرة لهم، بدون أن يروا لنا وجهاً أمامهم. هذه المسؤولية، مسؤوليتنا. مسؤولياتنا أيضاً، أمام المساعدات المادية التي تقدم للناس، أن نحافظ على كرامتهم. هؤلاء الناس، كل منهم كان له بيت مفتوح، للقادم وللخارج، للغادي وللبادي، للذاهب والآتي. فكم دخلنا بيوتهم، واستعنا بهم، ولبثنا عندهم، وشملتنا رعايتهم، نحن ندرك ذلك في أقطار لبنان. وعلى اللبنانيين جميعاً ان يدركوا ذلك. وأن واجبنا جميعاً في هذا اليوم، ان نؤدي بعض حقوقهم، وأن نحافظ على كرامتهم. لا يمكن ان نقبل أنهم يقفون في الصفوف الطويلة، فيرفض طلبهم، أو يداس أحدهم. أو يتقدم الغير عليهم، أو يوصي بهم، أو يحاسب واحد، على حساب الآخر. أو لحساب الآخر، أو يصنف بعضهم من بعض.
                            هذه الأمور غير واردة. واجبنا الرعاية في هذه الشؤون، وحسب هذه الظروف، حفظ كرامتهم وأوضاعهم. علينا أن نمنع الاستغلال باسمهم. فقد نشاهد، في الشوارع، أناساً آخرين، رجالاً ونساءً بعيدين كل البعد عن الجنوب وعن الجنوبيين: وجههم واضح، ولسانهم واضح، وملابسهم واضحة، فيتسولون هنا وهناك. أيها الناس، هؤلاء ليسوا من الجنوبيين، والجنوبيون بعيدون عنهم. كيف لا! وهم الذين يروون عن الإمام الحسين (ع) أنه يقول : "أن أتباعنا يموتون ولا يتسولون من فقر".
                            كيف لا؟ وهم القادرون على العمل، بإمكانهم أن يعملوا. الانتباه إلى هذه النقاط، كشف هذه الأمور. إيضاح هذه النقاط. في هذه الأيام وأجبنا صيانة كرامة أبنائنا وأهلنا، في الجنوب.
                            أيها الأخوة الأعزاء:
                            نشجع كلنا ونسعى جميعنا، لتوفير وسائل العودة لهؤلاء الأخوة. ولعل الله يمن علينا، فنتمكن من العودة معهم أيضاً إلى الجنوب، لكي نخفف بعض آلامهم في هذه الظروف. فالوطن ككل مجتمع يبني ويتماسك أهله بعضهم مع بعض، بالوقفات ساعة المحنة. هذه الساعات التي تقرر مصير الوطن. ولا شك أننا فاعلون بإذن الله.
                            بسم الله الرحمن الرحيم
                            {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90) صدق الله العظيم
                            والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
                            التعديل الأخير تم بواسطة صدر; الساعة 14-01-2003, 02:36 AM.

                            تعليق


                            • سيرة الأمام الصدر ( خطاب 17 )جزء 1

                              الموضوع : خطبة الجمعة ـ الجنوب يعاني من تآمر العدو.. والسلاح يجب أن يستعمل ضد العدو الإسرائيلي.
                              المكـان : مسجد الصفا، الكلية العاملية. بيروت ـ 30/6/1978
                              المناسبـة : خطبة صلاة يوم الجمعة ومناسبة ذكرى الإسراء والمعراج.
                              المقدمـة : في مناسبة الإسراء والمعراج أكد سماحة الإمام السيد موسى الصدر أن السلاح يجب أن يستعمل ضد العدو الإسرائيلي وليس ضد أبناء الوطن الواحد. وهاجم الاستعانة بالعدو مؤكداً أن المحافظة على الأمن والحكم بين الناس هو من اختصاص الدولة وأن المطالبة بالأمن الذاتي سوف توصلنا إلى ما هو أسوأ وأبشع.
                              ـ الــنـــص ـ
                              بسم الله الرحمن الرحيم
                              الخطبة الأولى:
                              والحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله محمد، وعلى أنبياء الله المرسلين. وسلام الله على آل بيته وأصحابه الطيبين، ومن أتبعهم بإحسان وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
                              وبعد،
                              فإن هذا اليوم المبارك، يوم الجمعة، وهو يوم يذكرنا بيوم يجمع الله الناس للحساب. وهو يوم نراجع فيه حساباتنا في الماضي، ومستقبل أعمالنا. الأسبوع القادم في مثل هذا اليوم، يقترن يومنا المبارك بمناسبات خالدة، تلقي أضواء وتنير الدرب، في يومنا العتيد هذا، وفي ظروفنا القاسية اللبنانية والعربية بوجه عام.
                              ذلك لأن هذا اليوم، يقترن مع يوم السابع والعشرين من شهر رجب، ويوم السابع والعشرين من شهر رجب، يجمع المناسبات الثلاث:
                              1ـ مناسبة المبعث النبوي الشريف.
                              2ـ الإسراء.
                              3ـ المعراج.
                              محطات ومفاخر ثلاث لرسول الإسلام، تلتقي في يوم السابع والعشرين من شهر رجب. ففي هذه اليوم، بدأ المبعث، بدأ التحرك الرسالي، بدأ إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل تفصيلي ونزولي، على حد تعبير القرآن الكريم. ففي رمضان نزل القرآن دفعة واحدة، أو ما يسميه القرآن "بإنزاله" لقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر:1). ولكن، بعث الرسول ودعوته للناس، بدأت في اليوم السابع والعشرين كما ورد في السير المباركة. وبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو بعث الأمة، يذكرنا من خلال اللغة والمحتوى، بأن الأمة بعد الدعوة المحمدية، بدأت تأخذ طابعاً جديداً، وحياة جديدة، وكأنها انتقلت من طور الغياب إلى طور الحضور، ومن طور الإهمال إلى الفاعلية. وبتعبير آخر، بعثت الأمة من جديد لكي تكون شهيدة على الخلق وعلى الناس، ويكون الرسول شهيداً عليها.
                              إذاً يوم السابع والعشرين، يوم بعث هذه الأمة. والبعث لهذه الأمة معنى حقيقي، وليس صدفة تاريخية. كلما أرادت الأمة، أن تلتقي، أن تقوم أن تنهض، أن تتحرك، أن تقوم برسالتها، وتتحمل دورها، فالأمر ممكن، وليس هناك من عقبات واستحالة في وجه الأمة لكي تبعث من جديد.
                              والمناسبة الثانية، في تاريخ الرسول، أو المسؤولية الثانية في حياة الرسول التي حصلت في يوم السابع والعشرين هي الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء:1).
                              هذا الانتقال إشارة إلى معنى كبير في تاريخ الرسالة المحمدية. هذا الرمز، وهذا التنقل، ليست الغاية منه مجرد المعجزة والكرامة، وإظهار أمر مستحيل على الناس، سهل على الله سبحانه وتعالى أن يمكن رسوله من ذلك، الغاية من هذا التنقل كانت، لمحمد عليه الصلاة والسلام، كما يصف القرآن الكريم، أن يريه الله سبحانه وتعالى من آياته، وأن يفتح آفاق محمد الفكرية والنفسية، وأن يدله على ما كان لا يعرفه قبل هذا اليوم. فإن الإسراء، في منطقة الأمة، وفي منطق الرسالة، معنىً خالد، يستمر مع استمرار الأمة، ويتم مع تمام الرسالة. هذا المعنى هو: تلاقي المسجد الحرام والمسجد الأقصى. فالمسجد الأقصى، كما نعلم، ملتقى الرسالات السماوية السابقة. المسجد الأقصى مهد المسيح، والمسجد الأقصى مكان رسالة موسى (ع). عندما كان يتنقل بين النهرين، وفلسطين، والحجاز، حيث بيت الله الحرام.
                              إذا المسجد الأقصى، رمز الرسالات السابقة، تعبير عن الرسالات الإلهية السابقة. والإسلام عندما يؤكد في القرآن الكريم، أن دين الله واحد، لأن الله واحد، ولأن الخلق واحد، ولأن الكون واحد. يؤكد إن رسالة الله الواحدة يحملها رسل ودعاة ومعلمون حسب مستوى التفكير، ومستوى تقدم المجتمع عبر الزمن، من الأزل إلى الأبد. فالرسالة واحدة.
                              إذاً لقاء المسجد الأقصى مع المسجد الحرام، بشخص الزائر، وفي ليلة واحدة، تعبير عن ارتباط الإسلام بالأديان السابقة. وهذا الربط واضح في القرآن الكريم. فكل نبي في المفهوم القرآني وفي منطق القرآني، مصدق لما بين يديه ومبشر لما يأتي من بعده، فالرسالات الواحدة، بالتعبير القرآني، تجسدت في هذه الليلة، وفي مفهوم الإسراء في هذه الليلة المباركة، عندما انتقل النبي الكريم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
                              إذاً الإسلام، ليس ديناً بدعاً جديداً، ومنحسراً على نفسه، إنما هو الحلقة الأخيرة، الكاملة من حلقات رسالة الله الواحدة، التي أنعم الله على عباده بإرسال الأنبياء، وبدعوة الناس إليها.
                              وكانت هذه الليلة، بالإضافة إلى لقاء الإسلام مع الأديان السابقة، لقاء محمد عليه الصلاة والسلام مع الرسل السابقين، كما ورد في روايات الإسراء والمعرج.
                              إذاً الرسالات الملتقية، بالإضافة إلى ذلك، تلاقي وتقبل وتوجيه الإسلام ودين الله مع الحضارات جميعاً. فالإنسان عندما يدرس تاريخ الحضارات الكبرى في العالم، الحضارات التي نبعت من هذه الأرض، ومن مناطق شواطئ الفرات، ومن المناطق الإغريقية والمصرية، ومن مختلف المناطق في العالم، عندما ندرسها دراسة تفصيلية، ندرك أن هذه الحضارات ينبوعها هذه المنطقة المباركة من الله سبحانه وتعالي. وهذا بحث تاريخي وعلمي واسع، يتمكن الإنسان من الإطلاع عليه، عندما يرى أن دين الله، ودعوة الله، ورسالة الله، ورسل الله هم الذين رفعوا العراقيل من وجه الإنسان، ودفعوه باتجاه التفاعل مع الطبيعة، واكتشاف حقائق الكون، تلك العلوم، التي يلخصها القرآن الكريم بكلمة "سجود الملائكة" في بداية القرآن الكريم، وتمكين الإنسان من التسلط على القوى الكونية، وتفجير الطاقات الكونية، وتسخير الطاقات الطبيعية. عند ذلك ندرك أن دين الله، أن عبادة الله الواحد، إن تحطيم الأصنام التي كانت تقف في وجه الإنسان وتعرقل سير الإنسان، وهو الذي فتح الإنسان على الكون، ومكنه من التسلط على الطبيعة وبالتالي من التقدم في مجالات الحضارة المختلفة. وهذه الرسالات ينبوعها هذه الأرض المقدسة، أرض المسجد الأقصى وما حوله، عندما باركه الله وتمكن العلم من الانتشار في العالم.
                              إذاً! انتقال الرسول الأكرم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، تعبير واضح لدعم هذا الدين، للعلم والتقدم البشري. كيف لا!؟ وهو الدين الذي يعتبر الإنسان خليفة الله في الأرض وموجهاً لكل قوة كونية. كل موجود له دوره في الطبيعية. وكل موجود له دور إلهين ينفذ هذا الدور الإتقان. ويعبر القرآن عن الأدوار "بالسجود" إذا قال سبحانه وتعالى :{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} (الحج:18). ولكن دور الإنسان، سجود الإنسان، صلاة الإنسان تسبيح الإنسان هو دور خلافة الله في الأرض، تسخير القوى الكونية، تفجير الطاقات الكونية رفع مستوى نفسها، توجيهها نحو قافلة واحدة، تبدأ من الله وإلى الله تعود.
                              إذاً هذا الرمز، هذا المعنى، هذه المناسبة، مناسبة الإسراء، عبارة عن انتقال الرسول من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وبالتالي عن تلاقي الإسلام مع الأديان السابقة، وعن دف الإسلام وتبني الإسلام وتوجيه الإسلام للحضارات الإنسانية الكبرى، التي كانت قبل الإسلام.
                              أما المعراج، المناسبة الثالثة. فهو الصعود إلى الآفاق العلى، المعراج فهو مقام الدنو، {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (النجم:8-9).
                              أما المعراج فهو انتقال الرسول من أفقنا ومن عالمنا إلى آفاق أخرى، لا نعرف أبعادها، ولكننا نعرف إنها الآفاق العليا. تلك الآفاق، بالإضافة إلى نفس النتيجة، حتى يرى الرسول آيات ربه الكبرى، بالإضافة إلى ذلك له معنى رسالي، وله معنى في حياة الإسلام، وفي حياة الأمة، معنى الصعود، معنى الخلود، معنى الانتقال إلى السماء، معنى تحول الإنسان المشتت الأناني، أسير الأرض، إلى الإنسان الذي يلتقي تحت حماية الله، وفي كنف الله: {عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169). خلود الإسلام. دوام الإسلام، سمو الإسلام، عمق الإسلام، معنويات الإسلام، معان تظهر من كلمة المعراج.
                              إذا راجعنا الروايات الواردة عن الرسول في مشاهداته، ليلة المعراج، نرى معنى "تفاوت الأفق". كيف كانت رؤية الرسول على الأرض، وكيف كانت رؤيته ليلة المعراج: ماذا شاهد؟ وكيف شاهد؟ وكيف نظر إلى الشؤون المادية بعين معنوية ثاقبة. تدخل في أعماق آثار الطبيعة وأعمال الإنسان.
                              هذه المعاني الثلاثة، المناسبة الثلاث، تلتقي في يوم السابع والعشرين من شهر رجب، اليوم الذي بعث فيه محمد، اليوم الذي بعث محمد بأمر الله، هذه الأمة أحياها من جديد. ثم أكد صلتها بالأمم السابقة، بالأديان السابقة، بالرسالات السابقة، وأكد صلتها بالحضارات العالمية الكبرى، بتبنيها لها واحتضانها لها، ودفعها لها.
                              بالإضافة إلى ان هذه المناسبة، جعلت هذا الدين، أبناء هذا الدين، جعلت الإنسان والإسلام دين فطرته وخلقه، وجعلته خالداً، سامياً، ينظر إلى الأمور بمنظار أساسي. وعميق ويبقى على الدهر يدعو كل يوم إلى بعث جديد، وإلى إسراء جديد. كل يوم يدعو أبناء هذه الأمة إلى التحرك، والتقاط هذه المعاني، والسير في المسير الذي سلكه الرسول عليه الصلاة والسلام.
                              = يتبع =

                              تعليق


                              • سيرة الأمام الصدر ( خطاب 17 ) جزء 2

                                مناسبة كريمة، تقترب من يومنا هذا، وتلقي أضواء على يومنا هذا، وتجعل من يومنا هذا يوماً مباركاً حياً. نفكر، بعض الشيء، بالانبعاث من جديد، وبالانتقال من جديد، وبالخلود من جديد. يوم يدعونا إلى الخروج من التشتت، والتنابذ، والتفرق، إلى الانتهاء من عهد الدويلات، والفئات والفئويات والتناقضات، إلى عهد الأمة الواحدة. ويدعونا إلى تحمل مسؤولياتنا، للإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لكي ندرك أهمية فلسطين، وأهمية المسجد الأقصى في تاريخنا، وفي حياتنا.
                                أننا لا ننظر إلى هذه القضية المقدسة، بمنظار سياسي. ما نعطي؟ وماذا نأخذ؟ ماذا يؤثر في حياتنا؟ وماذا لا يؤثر؟ انه ديننا إيماننا، أساس تفكيرنا وابتغاؤنا وانبعاثنا من جديد. نؤمن بذلك، ونعاهد الله على ذلك، ونسلك هذا الطريق. ولذلك ترون أن دعوتنا للعودة إلى فلسطين ليست دعوة سياسة كدعوة الناس الآخرين، الذين هم خبراء في شؤون السياسة، أفراداً وجماعات، وشخصيات أو أحزاباً.
                                كلا!؟ إن العودة إلى فلسطين صلاتنا، وإيماننا، ودعاؤنا. نتحمل في سبيلها ما نتحمل، ونتقرب إلى الله في سبيلها بما نتحمله من متاعب، حتى ولو كانت المتاعب من أهلها. معان تبرز في مثل هذا اليوم. والمعراج هو الدعوة إلى الخلود، والدعوة إلى السماء، والدعوة إلى الرؤية الحقيقة للشعور.
                                كما أن هذا اليوم، في شهر رجب، شهر مولد الإمام أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب (ع). ففي روايات آل البيت، إن شهر رجب هو شهر علي، وأن شهر شعبان هو شهر محمد عليه الصلاة والسلام.
                                هذا الشهر، شهر علي بما لعلي من معانٍ. فماذا نعرف نحن عن علي؟ هل نعرف لون عينيه، أو طول قامته، أو طول أصابعه؟ أو ضخامة جسمه؟ أو مقدار وزنه؟
                                أبداً! نحن نعرف علياً بمعنى الشجاعة، نحن نعرف علياً بمعنى الكرم، نعرفه بمعنى البطولة، نعرفه بمعنى العبادة، نعرفه بمعنى التسامي والتسامح، نعرفه بمعنى الصدقة السرية المجهولة، نعرفه بفصاحته، نعرفه بعلمه.
                                هذه المعاني تتراكم وتتجسد، وتكون لنا صورة علي. فنقف أمامه بإجلال واحترام، نواليه، ونعاهده أن نتبع طريقه في حياتنا دائماً. هذا هو شهره.
                                إذاً أيها الأخوة المؤمنون، في هذا اليوم، يوم الجمعة، يوم مراجعة الحسابات، حسابات الأسبوع السابق نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، كما يقول الحديث الشريف، والتفكير في الأسبوع القادم. يوم مراجعة الحسابات، نحن نتذكر إننا في شهر علي، وإننا في شهر المناسبات الثلاث، بعث الأمة، حياة الأمة من جديد. وإسراء رسول الله، بما له من معنى ينعكس على الأمة، وعلى مفاهيم حياتنا، وتعاليمنا، وثم معراجه المبارك.
                                ومن خلال هذه الأبعاد نتزود من قيادة علي، نأخذ من إمامة علي، نستقي من غدير علي، من بركة علي، من حوض علي، من كوثر علي. نأخذ زاداً، بطولة، قوة أعصاب. ذلك الرجل الذي يقول: "لو اجتمعت العرب عليَ، لا أبالي أوقعت على الموت، أو وقع الموت عليَ". ذلك الرجل الذي يطلب منه أحدهم شيئاً، فيقول له: ما هكذا يؤخذ السيف! ويأخذ سيف من عدوه. ذلك الرجل الذي من كرمه، لا يفرق بين التبن أو التبر، بين التبن أو الذهب، عندما ينفق في سبيل الله. بهذه القوة، بهذه العبادة، بهذه الجرأة، بهذا الإخلاص، بهذه الرؤية الثاقبة.
                                هذه هي أسلحة علي. نأخذ هذه الأسلحة، نأخذ هذه الوسائل، هذه القوة لكي نؤدي واجبنا المثلث، الآتي يوم المبعث والإسراء والمعراج، فنضيء بذلك ليلنا ونشرف بذلك حياتنا، ونرفع بذلك الكابوس الذي طالما أستمر على وطننا ومنطقتنا.
                                إذن هذه الوسيلة، وهذه الطريق، وهذه المناسبة، وفي ويوم الجمعة المبارك، يوم قبول الدعاء، ويوم التقرب من الله، وفي المسجد، في بيت الله الكريم الذي لا يرفع، ولا يردع، ولا يبعد السائل عن بابه، نطلب أن يلهمنا، وأن يزودنا، وأن يمكننا من أن نكون بجد من أصحاب محمد وعلي.
                                فمحمد عليه الصلاة والسلام، وعلي تابعه، وتلميذه، وصهره، وأبن عمه، والمؤمن به. هذان ومن معهما عاشا في المتجمع الصعب، عاشا في مجتمع لم يكن يرضي طموحهما، ويقنع أفكارهما. هما غيرا المجتمع. هما وضعا آثارهما على المجتمع، فحولاه مجتمعاً على شكلهما.
                                إذن! لا يدعو المبعث، ولا الإسراء، ولا المعراج، ولا مولد علي (ع) ولا يوم الجمعة، لا تدعو هذه المناسبة إلى الإتكالية وتوقع التغيير وانتظار التحسن ووضعنا في وضع التفاؤل أو التشاؤم.
                                كلا إن المناسبات تقول لنا: غيروا مسيركم، غيروا أنفسكم، غيروا وسائلكم حتى تتمكنوا من ان تكونوا مجتمعاً سعيداً لأنفسكم، ولأولادكم. أما الاعتماد على ما سيحصل، وماذا يقوم به الآخرون، فليست هذه طريقة محمد وعلي، ونحن بإذن الله على طريقها سائرون.
                                بسم الله الرحمن الرحيم. {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (سورة العصر) "نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق في حياتنا".
                                الخطبة الثانية من خطبة يوم الجمعة:
                                بسم الله الرحمن الرحيم
                                أيها الأخوة الأعزاء.
                                نحن في هذه الظروف، وانطلاقا من المعاني السامية التي درسناها ولاحظناها، ورأيناها، في مناسبة هذا اليوم المبارك، من أفقنا، من رؤيتنا المشرقة، ننتقل إلى واقعنا القاسي الصعب، لكي نجد أن مجتمعنا محاط بأنواع من الأخطار، والمخاطر.
                                نشاهد جنوبنا لا يزال، رغم جميع المساعي، يعاني ما يعاني من تآمر العدو. ونشاهد مناطق أخرى من وطننا الحبيب معرضة لظروف ومخاطر وصعوبات.
                                في كل يوم، نشاهد محنة جديدة، ومأساة جديدة. وفي كل يوم نسمع من هنا وهناك آلاماً كثيرة كثيرة. لأننا في يوم الجمعة، ولأننا في يوم الحساب، نتذكر من هذه النقطة بالذات، من مسجد الصفا بالعاملية، عندما كنت معتصماً، صائماً لرفض العمل المسلح والحرب الأهلية التي كانت دائرة في بيروت، وفي مناطق أخرى. سمعنا بالتجاوزات والاختلافات في بقاعنا الحبيبة.وكانت لي الكلمة المعروفة التي انتقدتها جماعة. وقبلتها جماعة ولكن التجارب أثبتت صحتها.
                                عندما قلت، إن الذين يطلقون النار على "القاع" وعلى "دير الأحمر" وعلى "شليفا" وعلى "الفاكهة" وعلى "جديدة". وأمثال ذلك، إنما يطلقون النار على قلبي، وأولادي، وعلى محرابي ومنبري، لم يكن يعني ذلك إن الاعتداء على القرى التي تسكنها الأكثرية المسيحية، من أبنائنا، ومن إخواننا، هي أولى من قرانا! لم يكن يعني أننا أمام مأساة "النبعة" و"بطشاي" و"سبنيه" و"حارة الغوارنة". وغير ذلك من المآسي التي حصلت. كنا نقف وقلوبنا تتمزق من الآلام نعمل ونسعى. وكنا ننتظر أن يتحدث الآخرون، فيستنكرون، ويقولون ما قلنا بالنسبة لتلك القرى.
                                نحن نعتقد أن السلاح يجب ان يكون في وجه العدو. أما الذي يستعمل السلاح ضد مواطنه، ضد جاره، ولا يستعمله في وجه العدو. يضطر أن يصافح العدو ضد صديقه وجاره وأخيه.
                                القرآن الكريم ينقل لنا تلك الصورة التاريخية المعروفة، عندما اختلف اليهود، بين "الفريسيين" و "الصدوقيين"، بين الكهنة والفريسيين، بين الفئات المختلفة من اليهود. إختلفوا فاستعانت كل فئة بالعدو، لكي ينقذها من الفئة الأخرى، فدخل العدو، إمبراطور الروم الشرقية، وأذلها، أذل الفريقين، الفئتين، مع بعضها البعض.
                                عندما يستعين الإنسان بالعدو، ضد الأخ، والمواطن، والصديق، فالعدو يغتنم الفرصة، ولا يوفر الإنسان، ولا عدو الإنسان، يذلهما.
                                نحن كنا نقول أن السلاح، ليس للأخ، ولا للجار، ولا للصديق، ولا للمواطن. فالسلاح يجب أن يوفر لإسرائيل، للعدو، للمعتدي، للمتجاوز، لجنود الشيطان. أما الإخوان فعليهم ان يناقشوا المسائل بالحوار، وبالأبحاث. المواطنون عليهم أن يجتمعوا، ويتناقشوا، ويبحثوا، ويخضعوا للشرعية، ولسلطات الدولة، وللأكثرية. أما إذا أرادوا، أن يستعملوا السلاح لفرض مواقفهم، ولفرض آرائهم، فالنتائج معروفة في الأفق البعيد.
                                قالوا إن الحرب اللبنانية، حرب طبقية. قالوا إنها حرب بين اللبنانيين والفلسطينيين. قالوا إنها حرب بين المسلمين والمسيحيين. وقالوا وقالوا!! أشياء. وأشياء! ولكن كلما مر الزمن تبين ان السلاح الذي يستعمل، من قبل المسلم في وجه المسيحي أو قبل المسيحي في وجه المسلم، وهما أبناء وطن واحد، غداً سيستعمل بينهم أيضاً.
                                ولأن طريقة التخاطب والحوار، عندما تكون خاطئة، يحصل انحراف. الانحرافات، كما يعرف الشباب كالزاوية. الزاوية، الفاصلة بين خطي الزاوية تبدأ بشيء صغير جداً، ولكن كلما يتقدم الخطان كلما يبتعد الفصل بينهما. طريقة التعامل في هذا البلد، غلط. والنتائج تشاهدها، كل يوم مجزرة، كل يوم مأساة، كل يوم أمهات يلبسن السواد، وكل يوم بيوت تتفرغ من القوة، ومن الطاقة. أمور تدمي القلوب، من أولها إلى آخرها.
                                أما آن لنا ان ندرك ان هذا الأسلوب خاطيء من الأساس. إن المحافظة على الأمن، إن الإدارة العامة للمواطنين. إن الحكم بين الناس، يجب ان يكون لقوة، هي الدولة وسلطان الدولة. أما الذين يطالبون بالأمن الذاتي، ماذا يقولون؟ أي أمن ذاتي؟ فالطريق إذا أستمر بهذه الطريقة، فسوف نصل إلى ما هو أبشع وأسوأ، لا سمح الله.
                                أعتقد ان هذه المناسبة، مناسبة هذا الشهر، وهو شهر الدولة، وهو شهر للبنان، ومناسبة لجميع الناس. دعوة إلى إعادة التقييم للشؤون وللأمور، لكي نتمكن من تصحيح المسيرة، لكي نتمكن من التأكد، من ان السلاح ليس للمواطنين، وإنما يجب ان يتوفر للعدو. المواطن يجب ان يثق بأخيه المواطن، ويجب ان يقف إلى جانبه، ويجب ان يبقى على صلة متينة معه، لكي يتمكنا من بناء وطنهما، وأمتهما.
                                هذا هو الطريق. وإلا فالطريق وعر صعب. ولا أظن ان اللبنانيين، بعد التجارب المريرة التي عانوها، لا يعودون إلى الصراط المستقيم، والطريق القويم. طريق التعامل، طريق الأخوة، طريق الخضوع لسلطان الدولة، طريق الحوار باللغة، بالكلمة، بالمخاطبة، بالإقناع، وليس طريق فرض المواقف والآراء بالقوة وبالسلاح.
                                هذا الفرق بين الأمة، وبين الغابة. هذا هو الفرق بين الفئات المشتتة، وبين الوطن الواحد. هذا هو الفرق بين العناصر المتخاصمة وبين المجتمع الذي هو مثله كمثل الجسم الواحد، إذا أشتكى منه عضو، تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
                                فنحن بقلوب متألمة، نواسي أهل المقتولين، والمحزونين. نواسيهم ونسأل الله سبحانه وتعالى ان يمن على هذا البلد بالهداية والصبر، وأن يربط على قلوب أبنائه جميعاً، لكي يصححوا الطريق ويصبروا ويتمكنوا من معالجة الشؤون والأمور، بأسلوب صحيح وسليم، لكي ينقذوا هذا الوطن مما بقي من الأخطار المحيطة به.
                                بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص)
                                والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                                يعمل...
                                X