سيرة الأمام الصدر (بحث 1 ) جزء 1
الموضوع : بحث ـ ضرورة تقيد أساليب التربية بأصول الدين.
المكـان : القاهرة ـ 23/10/1977
المناسبـة : انعقاد المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية.
المقدمـة : المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية أنعقد في القاهرة بدعوة من الأزهر بحضور ممثلين من 56 بلداً من القارات الخمس بالإضافة إلى ممثلين عن جميع الدول العربية والإسلامية. وكان في وفد بريطاني، نمساوي، يوغسلافي، يوناني، قبرصي، سوفياتي، تنزاني، موريشس، صومالي، نيجيري، توغالي، سنغالي، سيلاني، هندي، ماليزي، إندونيسي، جزر القمر. وكان المؤتمر برئاسة شيخ الأزهر يساعده أمين عام مجمع البحوث الدكتور عبد الجليل الشلبي.
جدول أعمال المؤتمر وأبحاثه تنحصر في: مشكلات العالم الإسلامي إمكانية تطبيق الإسلام لمعالجة مشكلات العصر، قضايا تربوية معاصرة، موقف الإسلام من التيارات السياسية والعقدية المعاصرة.
بدأ المؤتمر عمله بإقامة صلاة الجمعة في جامع الأزهر، ثم استمرت طوال الأسبوع يوم الجمعة أيضاً.
تتألف الوثيقة من:
1 ـ مقدمة استهل سماحة الإمام محاضرته.
2 ـ نص المحاضرة.
ـ الــنـــص ـ
1ـ مقدمة المحاضرة: إسرائيل انتقمت من العرب في لبنان:
سماحة الإمام السيد موسى الصدر استهل كلمته في المؤتمر بقوله:
يختلف المؤتمر الثامن عن المؤتمر السابع بأمور عديدة. منها أننا فقدنا خلال هذه المدة، أي منذ 1972 حتى 1977 مجموعة من زملائنا : الشيخ محمد أبو زهرة، الشيخ عبد الله غوشه، الأستاذ صالح بويصير والأستاذ مالك بني يني نترحم عليهم.
ومنها أن المؤتمر السابع كان في أجواء احتلال القنال وسيناء، وكنا نزور مدينة السويس ولا نجد فيها موجوداً حياً، عدا الجنود والضباط والذين كنا نلتقي بهم في مسجد الشهداء، وكان كالقلعة الراسخة في وجه العدو محفوفاً بأكياس الرمل.
أما اليوم فإن القنال وقسماً من سيناء قد تحرر، وكذلك قسماً من الجولان، ومدينة السويس عادت إلى طبيعتها.
لم يكن هذا هو النصر الوحيد للعرب والمسلمين، بل كان بداية انتصارات لهم وهزائم للعدو الإسرائيلي، سياسية، دبلوماسية، بترولية، واقتصادية.
وكان آخرها ثقافية إيديولوجية حيث طردت إسرائيل من منظمة الأونيسكو واعتبرت الأمم المتحدة الصهيونية نوعاً من العنصرية، وهذه بداية النهاية لإسرائيل حيث أن العالم لفظها واعتبرها غريبة عن العائلة البشرية التي ترفض التصنيف العنصري.
ولذلك فإن إسرائيل انتقمت من العرب في لبنان، حيث شنّت عليه حرباً غير مباشرة وأصابت العرب ولبنان بخسائر بشرية ومادية تفوق جميع ما أصيب به الجانبان في جميع الحروب العربية الإسرائيلية.
وأضاف الإمام: ولا تزال الحرب مستعرة في جنوب لبنان حيث تريد إسرائيل فرض التعامل على أبناء الجنوب وتطمع في مياه الجنوب وتريد خلق حزام أمني لها في وجه الفلسطينيين، ولكن أبناء الجنوب صامدون يفضلون التشريد والخسائر والموت على ذلك.
وقد أصابت إسرائيل العرب بخسائر معنوية أهمها خلق فتنة طائفية وإيجاد اهتزاز في الوحدة الوطنية الأمر الذي يشكل خطراً على العرب ويؤكد الوجود العنصري لها، ولم تزل إسرائيل بالمرصاد للعرب وللمسلمين وللمسيحيين بالمرصاد، حيث أنها تستعمل أنواعاً من الحرب المتنوعة ضدهم جميعاً، وهي الآن تدعي حماية المسيحيين في الجنوب وهي الخطر الأكبر لهم، وهي تحرض وتفتن وتخلق مشاكل وتيارات حضارية وثقافية، ولذلك فإن القيادة الإسلامية تعيش اليوم أخطر مراحل حياتها. وهذه تستدعي اليقظة "الحذر والارتفاع بمستوى العصر".
ثم بدأ الإمام موسى الصدر محاضرته عن قسم المشاكل التربوية المعاصرة وحلولها وقدم المقترحات.
2ـ نص المحاضرة:
قد يبدو في الوهلة الأولى أن أساليب التربية بعيدة عن أصول الدين حيث أن الفقه الإسلامي يبحث في قسم الآداب والسنن وفي مسائل الولادة من كتاب النكاح عن تربية الطفل مثلاً، بينما الأصول هي الجذور العقيدية والثقافية للإسلام وهي الأوليات والبدايات فيه.
ولكن المزيد من التأمل يكشف أن القرآن الكريم نفسه يعتمد في تربية المسلمين أفراداً وجماعات، أسلوب التقيد بالأصول كما نشاهد خلال هذه الدراسة، كما تثبت أن فصل الأساليب التربوية من الأصول هو جزء من المأساة الكبرى لاستيعاب الإسلام وللدعوة إليه.
إن هذه الدراسة تعرض أولاً أساليب التربية المختلفة ثم تحاول اكتشاف الأسلوب القرآني وهو الترابط المتين بين الأسلوب التربوي وبين الأصول وهنا تلقي الدراسة أضواء على طريقة القرآن لعرض الإسلام والدعوة إليه، وهي طريقة تختلف كلياً عن الطريقة الأكاديمية. وتقسيم الإسلام إلى مسائل العقيدة والشريعة وتفصيل الشريعة إلى الفقه والأخلاق. ثم تقسيم الفقه إلى كتب في العبادات والمعاملات.. والسياسات والأحكام وهكذا.
وفي نهاية الدراسة نبحث عن الضرورات التربوية الحادة المعاصرة وعن بعض المقترحات لمواجهتها.
أولاً: الأساليب التربوية والأسلوب القرآني:
إن الأسلوب البدائي للتربية هو توجيه الأمر والنهي إلى موضوع التربية (المربي) ولا شك أن له تأثير محدوداً ومضاعفات سلبية أحياناً سيما عندما يستعمل العنف في سبيله وعندما لا يؤخذ وضع المربي النفسي بعين الاعتبار.
أما الأسلوب الثالث الذي يعتز به أصحاب المدارس الاجتماعية الحديثة فهو التوجه أولاً إلى البيئة بالمربي فرداً كان أو جماعة، لتصبح مناخا للهدف التربوي وليتكون تيار نحوه يسهل على المربي العمل والإقناع.
والقرآن الكريم يستعمل هذه الأساليب الثلاثة في آن معاً ويضيف أسلوباً رابعاً هو من اختصاصاته ويعتبر أنه من معجزات الإسلام تحاول المدارس الإصلاحية والثورية المتأخرة أن تقتبس منه.
إن القرآن الكريم يأمر وينهى بمختلف التعابير والوسائل، ويذكر الدليل ويعتمد على الفطرة وعلى المرتكزات الراسخة عند الشعوب وعلى العبر التي يمكن استخلاصها من الأمم السالفة ويستعمل ألفاظاً تشبه الأدلة، مثل كلمات "الطيبات والخبائث" ويذكر دائماً برحمة الله ومحبته ونعمه وعلمه بمصالح الناس كل ذلك، حتى يكون القناعة المقترنة بالمشاعر نحو الوظائف (الأسلوب الثاني).
ولقد أعلن الرسول الأعظم في خطبة الوداع "أيها الناس ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة إلاّ وقد نهيتكم عنه".
أما اهتمام الإسلام بتكوين البيئة الصالحة فيبدو من تعاليمه القاطعة حول وجوب إقامة المجتمع الإسلامي ومن توجيه التام من أجل مناخات ملائمة كالجماعة والجمعة والحج وشهر رمضان والأعياد ورفض التحجب عن الناس وعدم اعتزال الجماعة والمنع عن عشرة المفسدين والفسقة والعصاة إلاّ لإصلاحهم وهكذا.
ومع ذلك كله يستعمل القرآن الكريم أسلوبه الخاص الذي يمكن أن نسميه ثورة في المفاهيم أو تحولاً عميقاً في الرؤية العامة للكون والحياة وارتباط الهدف التربوي.
وعندما يرسم القرآن الكريم صورة الخلق والموجودات والحياة من خلال العقائد ومن خلال المعلومات التي تضيفها آياته البينات إلينا، فإنه يحاول خلق مناخ كوني عام في ذهن الإنسان يحس معه بأن البقاء والنجاح والخلود في الالتزام بالتوجيهات الإسلامية وان الوجود ينبذ كل فرد وكل جماعة لا تنسجم مع هذه القواعد وان الفناء والنسيان مصيرها.
في سورة الرحمن وفي آية منها نتلو: { وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن:7ـ9). نلاحظ الربط بين عدم الطغيان في الميزان وإقامة الوزن بالقسط وبين رفع السماء ووضع الميزان الذي هو تعبير عن الحساب والنظام والعدالة الكونية.
وفي سورة آل عمران وبعد الآية {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} (آل عمران:18). والتأكيد على قائمية الله بالقسط نجد آيات أخرى كنتيجة للآية الأولى وأوضحها {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (سورة آل عمران:21). حيث أن الإدانة لمعادي القسط ولخصوم العدالة معللة بقائمية الله بالقسط وثمرة من ثمارها.
وفي سورة الأنبياء آية 16 نقرأ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} وفي الآية 18 نصل إلى بعض نتائج هذا المبدأ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (آل عمران:21) .
وفي بعض المقامات ترد النتائج قبل المبادئ ومنها الآيات 26 آية 32 {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ . وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ . مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ . وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. حيث أن فناء الذين يتركون الجنات والعيون دون أي رد فعل لأن قوم تبع كانوا أقوى منهم وأنهم يتنكرون للبعث والحساب، أقول أن فناء هؤلاء أثر طبيعي لخلق السموات والأرض مبنية على الحق.
الآيات التي تؤكد أن الخلق كان في ستة أيام وأنه كان خلال أجل مسمى مع وضوح معنى الأيام في المصطلح القرآني وأن المقصود منها في المراحل والعهود كما يتضح ذلك في مقدمة سورة فصلت. أقول أن التأكيد على كون الخلق خلال أجل مسمى، ستة أيام، تمهيد للنتائج المهمة التربوية التي تنتج عنها وهي حسب الوصف القرآني انهزام الروم بعد غلبتهم وأنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا (سورة الروم) وضرورة التوجه إلى الله ودعائه تضرعاً وخفية وخوفاً وطمعاً (سورة الأعراف) وتشجيع المؤمنين العالمين بالقسط والملتزمين بالسنن والحساب والمتفكرين في اختلاف الليل والنهار والظواهر الكونية الأخرى (سورةيونس) والاختبار في العمل السباق نحو الصالحات (سورة هود).
وأخيراً وليس آخراً للتوكل على الله وتسبيحه وذكره والصبر على ما يقولون استهزاء وشماتة وافتراء (سورة الفرقان وق).
ومجمل القول أن التربية القرآنية تعتمد على توفير الوسائل التربوية المعتمدة بالإضافة إلى التقيد بأصول الدين وما تعكسه أصول هذه من القواعد العامة للخلق وتأسيسه على الحق والعدل والأجل المسمى وغير ذلك من الأساسات التي يعلنها القرآن ويربط بينها وبين المطالب التربوية وتوجيه حياة الإنسان الذي يريد النجاح نحو المسلك القائم على العدل والحق والمنطبق على صفات الله وتعليمه باعتماد خطة عمل قائم على أساس جدول زمني لا متنكراً للزمن ولا مهملاً للتحديد كما هو الحال في الخلق.
= يتبع =
الموضوع : بحث ـ ضرورة تقيد أساليب التربية بأصول الدين.
المكـان : القاهرة ـ 23/10/1977
المناسبـة : انعقاد المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية.
المقدمـة : المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية أنعقد في القاهرة بدعوة من الأزهر بحضور ممثلين من 56 بلداً من القارات الخمس بالإضافة إلى ممثلين عن جميع الدول العربية والإسلامية. وكان في وفد بريطاني، نمساوي، يوغسلافي، يوناني، قبرصي، سوفياتي، تنزاني، موريشس، صومالي، نيجيري، توغالي، سنغالي، سيلاني، هندي، ماليزي، إندونيسي، جزر القمر. وكان المؤتمر برئاسة شيخ الأزهر يساعده أمين عام مجمع البحوث الدكتور عبد الجليل الشلبي.
جدول أعمال المؤتمر وأبحاثه تنحصر في: مشكلات العالم الإسلامي إمكانية تطبيق الإسلام لمعالجة مشكلات العصر، قضايا تربوية معاصرة، موقف الإسلام من التيارات السياسية والعقدية المعاصرة.
بدأ المؤتمر عمله بإقامة صلاة الجمعة في جامع الأزهر، ثم استمرت طوال الأسبوع يوم الجمعة أيضاً.
تتألف الوثيقة من:
1 ـ مقدمة استهل سماحة الإمام محاضرته.
2 ـ نص المحاضرة.
ـ الــنـــص ـ
1ـ مقدمة المحاضرة: إسرائيل انتقمت من العرب في لبنان:
سماحة الإمام السيد موسى الصدر استهل كلمته في المؤتمر بقوله:
يختلف المؤتمر الثامن عن المؤتمر السابع بأمور عديدة. منها أننا فقدنا خلال هذه المدة، أي منذ 1972 حتى 1977 مجموعة من زملائنا : الشيخ محمد أبو زهرة، الشيخ عبد الله غوشه، الأستاذ صالح بويصير والأستاذ مالك بني يني نترحم عليهم.
ومنها أن المؤتمر السابع كان في أجواء احتلال القنال وسيناء، وكنا نزور مدينة السويس ولا نجد فيها موجوداً حياً، عدا الجنود والضباط والذين كنا نلتقي بهم في مسجد الشهداء، وكان كالقلعة الراسخة في وجه العدو محفوفاً بأكياس الرمل.
أما اليوم فإن القنال وقسماً من سيناء قد تحرر، وكذلك قسماً من الجولان، ومدينة السويس عادت إلى طبيعتها.
لم يكن هذا هو النصر الوحيد للعرب والمسلمين، بل كان بداية انتصارات لهم وهزائم للعدو الإسرائيلي، سياسية، دبلوماسية، بترولية، واقتصادية.
وكان آخرها ثقافية إيديولوجية حيث طردت إسرائيل من منظمة الأونيسكو واعتبرت الأمم المتحدة الصهيونية نوعاً من العنصرية، وهذه بداية النهاية لإسرائيل حيث أن العالم لفظها واعتبرها غريبة عن العائلة البشرية التي ترفض التصنيف العنصري.
ولذلك فإن إسرائيل انتقمت من العرب في لبنان، حيث شنّت عليه حرباً غير مباشرة وأصابت العرب ولبنان بخسائر بشرية ومادية تفوق جميع ما أصيب به الجانبان في جميع الحروب العربية الإسرائيلية.
وأضاف الإمام: ولا تزال الحرب مستعرة في جنوب لبنان حيث تريد إسرائيل فرض التعامل على أبناء الجنوب وتطمع في مياه الجنوب وتريد خلق حزام أمني لها في وجه الفلسطينيين، ولكن أبناء الجنوب صامدون يفضلون التشريد والخسائر والموت على ذلك.
وقد أصابت إسرائيل العرب بخسائر معنوية أهمها خلق فتنة طائفية وإيجاد اهتزاز في الوحدة الوطنية الأمر الذي يشكل خطراً على العرب ويؤكد الوجود العنصري لها، ولم تزل إسرائيل بالمرصاد للعرب وللمسلمين وللمسيحيين بالمرصاد، حيث أنها تستعمل أنواعاً من الحرب المتنوعة ضدهم جميعاً، وهي الآن تدعي حماية المسيحيين في الجنوب وهي الخطر الأكبر لهم، وهي تحرض وتفتن وتخلق مشاكل وتيارات حضارية وثقافية، ولذلك فإن القيادة الإسلامية تعيش اليوم أخطر مراحل حياتها. وهذه تستدعي اليقظة "الحذر والارتفاع بمستوى العصر".
ثم بدأ الإمام موسى الصدر محاضرته عن قسم المشاكل التربوية المعاصرة وحلولها وقدم المقترحات.
2ـ نص المحاضرة:
قد يبدو في الوهلة الأولى أن أساليب التربية بعيدة عن أصول الدين حيث أن الفقه الإسلامي يبحث في قسم الآداب والسنن وفي مسائل الولادة من كتاب النكاح عن تربية الطفل مثلاً، بينما الأصول هي الجذور العقيدية والثقافية للإسلام وهي الأوليات والبدايات فيه.
ولكن المزيد من التأمل يكشف أن القرآن الكريم نفسه يعتمد في تربية المسلمين أفراداً وجماعات، أسلوب التقيد بالأصول كما نشاهد خلال هذه الدراسة، كما تثبت أن فصل الأساليب التربوية من الأصول هو جزء من المأساة الكبرى لاستيعاب الإسلام وللدعوة إليه.
إن هذه الدراسة تعرض أولاً أساليب التربية المختلفة ثم تحاول اكتشاف الأسلوب القرآني وهو الترابط المتين بين الأسلوب التربوي وبين الأصول وهنا تلقي الدراسة أضواء على طريقة القرآن لعرض الإسلام والدعوة إليه، وهي طريقة تختلف كلياً عن الطريقة الأكاديمية. وتقسيم الإسلام إلى مسائل العقيدة والشريعة وتفصيل الشريعة إلى الفقه والأخلاق. ثم تقسيم الفقه إلى كتب في العبادات والمعاملات.. والسياسات والأحكام وهكذا.
وفي نهاية الدراسة نبحث عن الضرورات التربوية الحادة المعاصرة وعن بعض المقترحات لمواجهتها.
أولاً: الأساليب التربوية والأسلوب القرآني:
إن الأسلوب البدائي للتربية هو توجيه الأمر والنهي إلى موضوع التربية (المربي) ولا شك أن له تأثير محدوداً ومضاعفات سلبية أحياناً سيما عندما يستعمل العنف في سبيله وعندما لا يؤخذ وضع المربي النفسي بعين الاعتبار.
أما الأسلوب الثالث الذي يعتز به أصحاب المدارس الاجتماعية الحديثة فهو التوجه أولاً إلى البيئة بالمربي فرداً كان أو جماعة، لتصبح مناخا للهدف التربوي وليتكون تيار نحوه يسهل على المربي العمل والإقناع.
والقرآن الكريم يستعمل هذه الأساليب الثلاثة في آن معاً ويضيف أسلوباً رابعاً هو من اختصاصاته ويعتبر أنه من معجزات الإسلام تحاول المدارس الإصلاحية والثورية المتأخرة أن تقتبس منه.
إن القرآن الكريم يأمر وينهى بمختلف التعابير والوسائل، ويذكر الدليل ويعتمد على الفطرة وعلى المرتكزات الراسخة عند الشعوب وعلى العبر التي يمكن استخلاصها من الأمم السالفة ويستعمل ألفاظاً تشبه الأدلة، مثل كلمات "الطيبات والخبائث" ويذكر دائماً برحمة الله ومحبته ونعمه وعلمه بمصالح الناس كل ذلك، حتى يكون القناعة المقترنة بالمشاعر نحو الوظائف (الأسلوب الثاني).
ولقد أعلن الرسول الأعظم في خطبة الوداع "أيها الناس ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة إلاّ وقد نهيتكم عنه".
أما اهتمام الإسلام بتكوين البيئة الصالحة فيبدو من تعاليمه القاطعة حول وجوب إقامة المجتمع الإسلامي ومن توجيه التام من أجل مناخات ملائمة كالجماعة والجمعة والحج وشهر رمضان والأعياد ورفض التحجب عن الناس وعدم اعتزال الجماعة والمنع عن عشرة المفسدين والفسقة والعصاة إلاّ لإصلاحهم وهكذا.
ومع ذلك كله يستعمل القرآن الكريم أسلوبه الخاص الذي يمكن أن نسميه ثورة في المفاهيم أو تحولاً عميقاً في الرؤية العامة للكون والحياة وارتباط الهدف التربوي.
وعندما يرسم القرآن الكريم صورة الخلق والموجودات والحياة من خلال العقائد ومن خلال المعلومات التي تضيفها آياته البينات إلينا، فإنه يحاول خلق مناخ كوني عام في ذهن الإنسان يحس معه بأن البقاء والنجاح والخلود في الالتزام بالتوجيهات الإسلامية وان الوجود ينبذ كل فرد وكل جماعة لا تنسجم مع هذه القواعد وان الفناء والنسيان مصيرها.
في سورة الرحمن وفي آية منها نتلو: { وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن:7ـ9). نلاحظ الربط بين عدم الطغيان في الميزان وإقامة الوزن بالقسط وبين رفع السماء ووضع الميزان الذي هو تعبير عن الحساب والنظام والعدالة الكونية.
وفي سورة آل عمران وبعد الآية {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} (آل عمران:18). والتأكيد على قائمية الله بالقسط نجد آيات أخرى كنتيجة للآية الأولى وأوضحها {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (سورة آل عمران:21). حيث أن الإدانة لمعادي القسط ولخصوم العدالة معللة بقائمية الله بالقسط وثمرة من ثمارها.
وفي سورة الأنبياء آية 16 نقرأ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} وفي الآية 18 نصل إلى بعض نتائج هذا المبدأ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (آل عمران:21) .
وفي بعض المقامات ترد النتائج قبل المبادئ ومنها الآيات 26 آية 32 {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ . وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ . مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ . وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. حيث أن فناء الذين يتركون الجنات والعيون دون أي رد فعل لأن قوم تبع كانوا أقوى منهم وأنهم يتنكرون للبعث والحساب، أقول أن فناء هؤلاء أثر طبيعي لخلق السموات والأرض مبنية على الحق.
الآيات التي تؤكد أن الخلق كان في ستة أيام وأنه كان خلال أجل مسمى مع وضوح معنى الأيام في المصطلح القرآني وأن المقصود منها في المراحل والعهود كما يتضح ذلك في مقدمة سورة فصلت. أقول أن التأكيد على كون الخلق خلال أجل مسمى، ستة أيام، تمهيد للنتائج المهمة التربوية التي تنتج عنها وهي حسب الوصف القرآني انهزام الروم بعد غلبتهم وأنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا (سورة الروم) وضرورة التوجه إلى الله ودعائه تضرعاً وخفية وخوفاً وطمعاً (سورة الأعراف) وتشجيع المؤمنين العالمين بالقسط والملتزمين بالسنن والحساب والمتفكرين في اختلاف الليل والنهار والظواهر الكونية الأخرى (سورةيونس) والاختبار في العمل السباق نحو الصالحات (سورة هود).
وأخيراً وليس آخراً للتوكل على الله وتسبيحه وذكره والصبر على ما يقولون استهزاء وشماتة وافتراء (سورة الفرقان وق).
ومجمل القول أن التربية القرآنية تعتمد على توفير الوسائل التربوية المعتمدة بالإضافة إلى التقيد بأصول الدين وما تعكسه أصول هذه من القواعد العامة للخلق وتأسيسه على الحق والعدل والأجل المسمى وغير ذلك من الأساسات التي يعلنها القرآن ويربط بينها وبين المطالب التربوية وتوجيه حياة الإنسان الذي يريد النجاح نحو المسلك القائم على العدل والحق والمنطبق على صفات الله وتعليمه باعتماد خطة عمل قائم على أساس جدول زمني لا متنكراً للزمن ولا مهملاً للتحديد كما هو الحال في الخلق.
= يتبع =
تعليق