سيرة الأمام الصدر (محاضرة 10) جزء 1
الموضوع : محاضرة ـ الجنوب أمانة يجب أن تحفظ من الله والوطن.
المكـان : كاتدرائية مار لويس اللاتينية للأباء الكبوشيين في بيروت ـ 19/2/1975.
المناسبـة : بدعوة من المطران باسيم في سلسلة محاضرات الصوم الكبير.
المقدمـة : "هذا حدث يحصل للمرة الأولى في تاريخ الكثلكة، يجتمع في الكنيسة مؤمنون لسماع كلمة الله من مرجع ديني غير كاثوليكي… ويقابل ذلك لا بالإعجاب فحسب، بل بالتأمل الطويل. ومن الطبيعي إن يكون موطن الحدث هو لبنان، بلد اللقاء والأخوة والتوحيد".
هذا ما قاله الرئيس شارل حلو بعد سماعه محاضرة الإمام السيد موسى الصدر بعنوان "القوى التي تسحق والقوى التي تفرق" مساء أمس في كاتدرائية مار لويس اللاتينية للآباء الكبوشيين، وهي أولى سلسلة من محاضرات تلقى لمناسبة الصوم الكبير…
وجاء لسماع الآتي من هناك…
من الجنوب، من الأرض التي مشى عليها السيد المسيح… يحكي عن الحرية والظلم والطغيان والعنصرية، وعن الجنوب وإنسانه الذي يظل شاهداً على لبنان يتحدى إسرائيل وكيانها العنصري جاء لسماع الصدر عدد كبير من الراهبات والرهبان والمواطنين. وكان في مقدم الحضور المونسنيور بولس باسيم مطران اللاتين ورئيس المحكمة الروحية اللاتينية الأب إبراهيم عياد والنائب حسين الحسيني والأمير عبد العزيز شهاب والنقيب رياض طه والبروفسور فيليب الخازن والزميل جبران الحايك.
وبعد لقاء بين الصدر والرئيس حلو والمطران باسيم وعدد من الشخصيات في صالة الإستقبال في الكنيسة، إنتقلوا إلى قاعة الصلاة. وعند دخول الإمام الصدر وإلى جانبه الرئيس حلو، كانت علامات الفرح ممزوجة بعلامات الدهشة ترتسم على وجوه الحاضرين… وساد صمت خاشع عندما إلتفت الصدر إلى الذين وقفوا عند دخوله وحياهم وجلس فجلسوا.
ـ الــنـــص ـ
"نحمدك اللهم ونشكرك، ربنا، إله إبراهيم وإسماعيل. إله موسى وعيسى ومحمد، رب المستضعفين وإله الخلق أجمعين...
الحمد لله الذي يؤمن الخائفين، وينجي الصالحين، ويرفع المستضعفين، ويضع المستكبرين، ويهلك ملوكاً ويستخلف آخرين.
والحمد لله قاصم الجبارين، مبيد الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الطاغين، صريخ المستصرخين.
نحمدك اللهم ربنا على أن وفقتنا بعنايتك، وجمعتنا بهدايتك، ووحدت قلوبنا بمحبتك ورحمتك.
وها نحن نجتمع بين يديك في بيت من بيوت، وفي أوقات الصيام من أجلك.
قلوبنا تهفو إليك، وعقولنا تستمد النور والهداية منك، معتبرين أنك دعوتنا الى أن نسير جنباً الى جنب في خدمة خلقك، وان نلتقي على كلمةٍ سواء لأجل سعادة خليقتك. فإلى بابك إتجهنا، وفي محرابك صلينا. إجتمعنا من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان، وكانت واحدة آنذاك، يبشر بعضها ببعض، ويصدق أحدها الآخر، فأخرج الله الناس بها من الظلمات الى النور بعد أن أنقذهم بها من الخلافات الكثيرة الساحقة والمفرقة، وعلمهم السلوك في سبيل السلام.
كانت الأديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد: دعوة الى الله وخدمة للإنسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة.
ثم إختلفت عندما اتجهت الى خدمة نفسها أيضاً، ثم تعاظم اهتمامها بنفسها حتى كادت أن تنسى الغاية، فتعاظم الخلاف وأشتد، وازدادت محنة الإنسان وآلامه.
كانت الأديان واحدة تهفو الى غاية واحدة: حرب على آلهة الأرض والطغاة، ونصرة للمستضعفين والمضطهدين، وهما أيضاً وجهان لحقيقة واحدة. ولما إنتصرت الأديان وأنتصر معها المستضعفون وجدوا أن الطغمة غيروا اللباس وسبقوهم الى المكاسب، وأنهم بدأوا يحكمونهم بإسم الأديان ويحملون سيفها، فكانت المحنة المتعاظمة للمضطهدين، وكانت محنة الأديان والخلافات فيما بينها، ولا خلاف إلا في مصالح المستغلين.
كانت الأديان واحدة، لأن المبدأ الذي هو الله واحد. والهدف الذي هو الإنسان واحد. والمصير الذي هو الكون واحد. وعندما نسينا الهدف وأبتعدنا عن خدمة الإنسان، نسينا الله وأبتعد عنا، فأصبحنا فرقاً وطرائق قدداً، وألقى بأسنا بيننا فاختلفنا ووزعنا الكون الواحد، وخدمنا المصالح الخاصة، وعبدنا آلهة من دون الله، وسحقنا الإنسان فتمزق.
والآن نعود الى الطريق، نعود الى الإنسان المعذب لكي ننجو من عذاب الله.
نلتقي لخدمة الإنسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء، ولكي نلتقي في الله فتكون الأديان واحدة.
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة:48). هذا ما قاله القرآن الكريم.
وفي هذه الساعة، في الكنيسة، في أيام الصيام، وخلال موعظة دينية، وبدعوة من المسؤولين الملتزمين، أجد نفسي في وسط الطريق الى جانبكم. أجد نفسي واعظاً، قائلاً ومستمعاً. أقول بلساني وأستمع بحناني. يشهد لنا التاريخ، نستمع له فيستمع لنا. يشهد التاريخ للبنان، بلد اللقاء بلد الإنسان، وطن المضطهدين ومأمن الخائفين. وفي هذه الأجواء، وفي هذا الأفق السامي، نتمكن من أن نستمع الى النداءات الأصيلة السماوية، لأننا اقتربنا من الينابيع.
ها هو السيد له المجد في محبته الغاضبة يصرخ:" لا! لا يجتمع حب الله مع كره إنسان" فيدوي صوته في الضمائر ويرتفع صوت آخر لنبي الرحمة:"ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع".
ويتفاعل الصوتان عبر الزمن، فإذا بالصدى يرتفع على لسان الحبر الأعظم وبمناسبة الصيام أيضاً، فيقول: "إن المسيح والفقير شخص واحد". بل وفي رسالته الشهيرة "ترقي الشعوب" يغضب لكرامة الإنسان، ويقول كالمسيح في الهيكل، عظيمة كانت التجربة بأن تدفع بالعنف مثل تلك المذلات للكرامة الإنسانية.
ويقول: "أحط إنسانية هي الأنظمة الغاشمة، تنجم عن استغلال حق الملك والسلطان، عن إمتصاص حقوق العمال وجور المعاهدات".
هل يختلف هذا الصوت الطاهر عما ورد في الأثر الإسلامي الثابت عن الهدف: "أنا، أي الله عند المنكسرة قلوبهم، أنا كنت عند المريض عندما عدته وعند الفقير عندما ساعدته ومع المحتاج عندما سعيت لقضاء حاجته".
أما عن الوسيلة، فقد اعتبر كل سعي لإقامة الحق وكل جهد لنصرة المظلوم جهاداً في سبيله، وصلاة في محرابه، وهو الكفيل بالنصر.
خلال هذه الشهادات نعود الى إنساننا لنبحث عن القوى التي تُسحق، وعن القوى التي تفرق، الإنسان، هذا العطاء الإلهي، هذا المخلوق الذي خلق على صورة خالقه من الصفات، خليفة الله في الأرض، الإنسان هذا، هدف الوجود، وبداية المجتمع، والغاية منه، والمحرك للتاريخ. الإنسان هذا، يعادل ويساوي مجموعة طاقاته لا ما اتفقت عليه الفلسفة والفيزياء في قرننا هذا من إمكانية تحول المادة، كل مادة، الى الطاقة، بل لما تؤكده الأديان والتجارب العلمية {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم:39). وإن الأعمال تخلد. وأن الإنسان عدا إشعاعاته في مختلف الآفاق لا يساوي شيئاً. لذلك فبقدر ما صنا طاقات الإنسان ونميناها، بقدر ما كرمناه وخلدناه، وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يعطي الإنسان اللانهائية في الإحساس واللانهائية في الطموح. وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يحفظ للإنسان الأمل الدائم ،عندما تسقط الأسباب، ويزيل عنه القلق، وينسق بينه وبين بني نوعه من جهة وبينه وبين الموجودات كلها من جهة أخرى. إذا كان الإيمان، بهذا البعد، يعطي الإنسان هذا الجلال وهذا الجمال فإن الإيمان ببعده الآخر يسعى لصيانة الإنسان وحفظه، ويفرض المحافظة عليه، ويؤكد عدم وجود الإيمان دون الالتزام بخدمة الإنسان.
إن طاقات الإنسان كلها، وطاقات كل إنسان، يجب صيانتها وتنميتها، ومن أجل ذلك نجد مبدأ الإستكمال سار منذ أيام الرسالات الأولى إلى هذه الرسالة الصادرة حيث ورد فيها: "لكي يكون ترقياً أصيلاً ينبغي أن يكون كاملاً، أي أن يقوم كل إنسان والإنسان كله". لذلك، فإننا نجد أيضاً أنّ السرقة من باب المثال حرمت، وها هي اليوم تظهر بصورة الاستثمار والاحتكار، وبحجة التقدم الصناعي، أو عن طريق الحاجات المصطنعة التي تفرض على الإنسان من خلال وسائل الإنتاج عندما يشعر باشتهاء كاذب فيضطر الى المزيد من الاستهلاك. فالحاجات، اليوم، ليست نابعة من ذات الإنسان وإنما اصطُنعت اصطناعاً بواسطة الإعلام التابع لوسائل الإنتاج.
= يتبع =
الموضوع : محاضرة ـ الجنوب أمانة يجب أن تحفظ من الله والوطن.
المكـان : كاتدرائية مار لويس اللاتينية للأباء الكبوشيين في بيروت ـ 19/2/1975.
المناسبـة : بدعوة من المطران باسيم في سلسلة محاضرات الصوم الكبير.
المقدمـة : "هذا حدث يحصل للمرة الأولى في تاريخ الكثلكة، يجتمع في الكنيسة مؤمنون لسماع كلمة الله من مرجع ديني غير كاثوليكي… ويقابل ذلك لا بالإعجاب فحسب، بل بالتأمل الطويل. ومن الطبيعي إن يكون موطن الحدث هو لبنان، بلد اللقاء والأخوة والتوحيد".
هذا ما قاله الرئيس شارل حلو بعد سماعه محاضرة الإمام السيد موسى الصدر بعنوان "القوى التي تسحق والقوى التي تفرق" مساء أمس في كاتدرائية مار لويس اللاتينية للآباء الكبوشيين، وهي أولى سلسلة من محاضرات تلقى لمناسبة الصوم الكبير…
وجاء لسماع الآتي من هناك…
من الجنوب، من الأرض التي مشى عليها السيد المسيح… يحكي عن الحرية والظلم والطغيان والعنصرية، وعن الجنوب وإنسانه الذي يظل شاهداً على لبنان يتحدى إسرائيل وكيانها العنصري جاء لسماع الصدر عدد كبير من الراهبات والرهبان والمواطنين. وكان في مقدم الحضور المونسنيور بولس باسيم مطران اللاتين ورئيس المحكمة الروحية اللاتينية الأب إبراهيم عياد والنائب حسين الحسيني والأمير عبد العزيز شهاب والنقيب رياض طه والبروفسور فيليب الخازن والزميل جبران الحايك.
وبعد لقاء بين الصدر والرئيس حلو والمطران باسيم وعدد من الشخصيات في صالة الإستقبال في الكنيسة، إنتقلوا إلى قاعة الصلاة. وعند دخول الإمام الصدر وإلى جانبه الرئيس حلو، كانت علامات الفرح ممزوجة بعلامات الدهشة ترتسم على وجوه الحاضرين… وساد صمت خاشع عندما إلتفت الصدر إلى الذين وقفوا عند دخوله وحياهم وجلس فجلسوا.
ـ الــنـــص ـ
"نحمدك اللهم ونشكرك، ربنا، إله إبراهيم وإسماعيل. إله موسى وعيسى ومحمد، رب المستضعفين وإله الخلق أجمعين...
الحمد لله الذي يؤمن الخائفين، وينجي الصالحين، ويرفع المستضعفين، ويضع المستكبرين، ويهلك ملوكاً ويستخلف آخرين.
والحمد لله قاصم الجبارين، مبيد الظالمين، مدرك الهاربين، نكال الطاغين، صريخ المستصرخين.
نحمدك اللهم ربنا على أن وفقتنا بعنايتك، وجمعتنا بهدايتك، ووحدت قلوبنا بمحبتك ورحمتك.
وها نحن نجتمع بين يديك في بيت من بيوت، وفي أوقات الصيام من أجلك.
قلوبنا تهفو إليك، وعقولنا تستمد النور والهداية منك، معتبرين أنك دعوتنا الى أن نسير جنباً الى جنب في خدمة خلقك، وان نلتقي على كلمةٍ سواء لأجل سعادة خليقتك. فإلى بابك إتجهنا، وفي محرابك صلينا. إجتمعنا من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان، وكانت واحدة آنذاك، يبشر بعضها ببعض، ويصدق أحدها الآخر، فأخرج الله الناس بها من الظلمات الى النور بعد أن أنقذهم بها من الخلافات الكثيرة الساحقة والمفرقة، وعلمهم السلوك في سبيل السلام.
كانت الأديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد: دعوة الى الله وخدمة للإنسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة.
ثم إختلفت عندما اتجهت الى خدمة نفسها أيضاً، ثم تعاظم اهتمامها بنفسها حتى كادت أن تنسى الغاية، فتعاظم الخلاف وأشتد، وازدادت محنة الإنسان وآلامه.
كانت الأديان واحدة تهفو الى غاية واحدة: حرب على آلهة الأرض والطغاة، ونصرة للمستضعفين والمضطهدين، وهما أيضاً وجهان لحقيقة واحدة. ولما إنتصرت الأديان وأنتصر معها المستضعفون وجدوا أن الطغمة غيروا اللباس وسبقوهم الى المكاسب، وأنهم بدأوا يحكمونهم بإسم الأديان ويحملون سيفها، فكانت المحنة المتعاظمة للمضطهدين، وكانت محنة الأديان والخلافات فيما بينها، ولا خلاف إلا في مصالح المستغلين.
كانت الأديان واحدة، لأن المبدأ الذي هو الله واحد. والهدف الذي هو الإنسان واحد. والمصير الذي هو الكون واحد. وعندما نسينا الهدف وأبتعدنا عن خدمة الإنسان، نسينا الله وأبتعد عنا، فأصبحنا فرقاً وطرائق قدداً، وألقى بأسنا بيننا فاختلفنا ووزعنا الكون الواحد، وخدمنا المصالح الخاصة، وعبدنا آلهة من دون الله، وسحقنا الإنسان فتمزق.
والآن نعود الى الطريق، نعود الى الإنسان المعذب لكي ننجو من عذاب الله.
نلتقي لخدمة الإنسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء، ولكي نلتقي في الله فتكون الأديان واحدة.
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة:48). هذا ما قاله القرآن الكريم.
وفي هذه الساعة، في الكنيسة، في أيام الصيام، وخلال موعظة دينية، وبدعوة من المسؤولين الملتزمين، أجد نفسي في وسط الطريق الى جانبكم. أجد نفسي واعظاً، قائلاً ومستمعاً. أقول بلساني وأستمع بحناني. يشهد لنا التاريخ، نستمع له فيستمع لنا. يشهد التاريخ للبنان، بلد اللقاء بلد الإنسان، وطن المضطهدين ومأمن الخائفين. وفي هذه الأجواء، وفي هذا الأفق السامي، نتمكن من أن نستمع الى النداءات الأصيلة السماوية، لأننا اقتربنا من الينابيع.
ها هو السيد له المجد في محبته الغاضبة يصرخ:" لا! لا يجتمع حب الله مع كره إنسان" فيدوي صوته في الضمائر ويرتفع صوت آخر لنبي الرحمة:"ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع".
ويتفاعل الصوتان عبر الزمن، فإذا بالصدى يرتفع على لسان الحبر الأعظم وبمناسبة الصيام أيضاً، فيقول: "إن المسيح والفقير شخص واحد". بل وفي رسالته الشهيرة "ترقي الشعوب" يغضب لكرامة الإنسان، ويقول كالمسيح في الهيكل، عظيمة كانت التجربة بأن تدفع بالعنف مثل تلك المذلات للكرامة الإنسانية.
ويقول: "أحط إنسانية هي الأنظمة الغاشمة، تنجم عن استغلال حق الملك والسلطان، عن إمتصاص حقوق العمال وجور المعاهدات".
هل يختلف هذا الصوت الطاهر عما ورد في الأثر الإسلامي الثابت عن الهدف: "أنا، أي الله عند المنكسرة قلوبهم، أنا كنت عند المريض عندما عدته وعند الفقير عندما ساعدته ومع المحتاج عندما سعيت لقضاء حاجته".
أما عن الوسيلة، فقد اعتبر كل سعي لإقامة الحق وكل جهد لنصرة المظلوم جهاداً في سبيله، وصلاة في محرابه، وهو الكفيل بالنصر.
خلال هذه الشهادات نعود الى إنساننا لنبحث عن القوى التي تُسحق، وعن القوى التي تفرق، الإنسان، هذا العطاء الإلهي، هذا المخلوق الذي خلق على صورة خالقه من الصفات، خليفة الله في الأرض، الإنسان هذا، هدف الوجود، وبداية المجتمع، والغاية منه، والمحرك للتاريخ. الإنسان هذا، يعادل ويساوي مجموعة طاقاته لا ما اتفقت عليه الفلسفة والفيزياء في قرننا هذا من إمكانية تحول المادة، كل مادة، الى الطاقة، بل لما تؤكده الأديان والتجارب العلمية {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم:39). وإن الأعمال تخلد. وأن الإنسان عدا إشعاعاته في مختلف الآفاق لا يساوي شيئاً. لذلك فبقدر ما صنا طاقات الإنسان ونميناها، بقدر ما كرمناه وخلدناه، وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يعطي الإنسان اللانهائية في الإحساس واللانهائية في الطموح. وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يحفظ للإنسان الأمل الدائم ،عندما تسقط الأسباب، ويزيل عنه القلق، وينسق بينه وبين بني نوعه من جهة وبينه وبين الموجودات كلها من جهة أخرى. إذا كان الإيمان، بهذا البعد، يعطي الإنسان هذا الجلال وهذا الجمال فإن الإيمان ببعده الآخر يسعى لصيانة الإنسان وحفظه، ويفرض المحافظة عليه، ويؤكد عدم وجود الإيمان دون الالتزام بخدمة الإنسان.
إن طاقات الإنسان كلها، وطاقات كل إنسان، يجب صيانتها وتنميتها، ومن أجل ذلك نجد مبدأ الإستكمال سار منذ أيام الرسالات الأولى إلى هذه الرسالة الصادرة حيث ورد فيها: "لكي يكون ترقياً أصيلاً ينبغي أن يكون كاملاً، أي أن يقوم كل إنسان والإنسان كله". لذلك، فإننا نجد أيضاً أنّ السرقة من باب المثال حرمت، وها هي اليوم تظهر بصورة الاستثمار والاحتكار، وبحجة التقدم الصناعي، أو عن طريق الحاجات المصطنعة التي تفرض على الإنسان من خلال وسائل الإنتاج عندما يشعر باشتهاء كاذب فيضطر الى المزيد من الاستهلاك. فالحاجات، اليوم، ليست نابعة من ذات الإنسان وإنما اصطُنعت اصطناعاً بواسطة الإعلام التابع لوسائل الإنتاج.
= يتبع =
تعليق