وثانيا: انّ حصول التصرفات المعصومة في الخارج ليس من ماهية الإمامة بشيء ولا لازمة لها كالعصمة كما حاول المستشكل إيهام ذلك بنقوضاته, بأن جعل عدم حصول التصرف للإمام وعدم بسط اليد دليل على عدم وجوب الإمامة وعدم حصول العصمة, إيهاماً بوجود التلازم بينهما! فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
وذلك لأنا نقول: بأنّ وجود الإمام لطف, وتصرفه لطف آخر.
وبيان ذلك: أن لطف الإمامة متقوم بثلاث جهات: جهة مختصة بالله وهي بأن يوجد الإمام, وجهة مختصة بالإمام نفسه بأن يهيء نفسه للإمامة, وجهة مختصة بالأمة بأن تكون قابلة لأتباع الإمام.
فالجهتان الأولى والثانية وهي المختصة بالله وبالإمام نفسه هي الأصل, وقد تمت وحصلت, فالله قد أوجد الإمام والإمام هـّيء نفسه حتى لا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل, ولكن بقيت الجهة المختصة بالأمة وهي الفرع, فهي إما شرط, أو عدم مانع, بأن يكون عدم استعداد مواليه واتحادهم أو خوفه من أعدائه مثلاً مانع من تحقق لطف الإمامة في الخارج وحصول التصرف المعصوم وبسط اليد.
ولا يقال: انّ الله قادر بأن يهيء الأمة, لأن ذلك يؤدي إلى بطلان الإختيار! حيث جعل الله إطاعة أوامره التشريعية بالإختيار لا الإجبار. ولا يقال: انّ عدم تهيّء الأمة يؤدي إلى عدم وجود الإمام, لأن تهيء الأمة فرع مترتب على وجود الإمام من قبل الله, فلا يتقدم الفرع على الأصل, إذ يجب حصول الأصل في اللطف ثم حصول الفرع, فإذا لم يحصل الفرع بتقصير الأمة لا يلزم منه عدم حصول الأصل من قبل الله, وذلك حتى لا يبقى للناس على الله حجة بعد الرسل.
السادس:
ونبدأ بالإجابة على ما أثاره من نقاط بالترتيب:
1- قال: ((الأخذ عن المجتهدين المعصومين: من الأفكار الخيالية التي يعيشها الشيعة كأنها حقائق لا تقبل الشك قولهم: اننا نأخذ ديننا من أئمة معصومين فنحن واثقون من صحته بينما غيرنا يأخذ دينه عن رجال غير معصومين فلا ثقة بما يقولون)).
نقول: انه أوّل ما بدأ كلامه بمغالطة! فشيعة اليوم وقبلهم إلى ما بعد الغيبة الصغرى لا يقولون أننا نأخذ ديننا من معصومين, بل يقولون أننا أخذنا ديننا من معصومين لمدّة تزيد على ثلاثمائة عام, وغيرنا لم يأخذه عن معصوم إلا لمدّة عشرين سنة, بل عشر سنوات وهي سنوات الهجرة إلى المدينة, ومن بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذناه عن أشخاص ثقات لا يمتنع عليهم الخطأ والكذب بل التحريف كما هو الواقع. والفرق واضح في درجة الوثوق والإطمئنان في أخذ الدين بين الطريقين, فإن في المدّة الممتدة قرابة ثلاثمائة عام ثبتت وترسخت مفاهيم الدين الكلية والمتوسطة بل ومعظم الجزئيات عن طريق الأئمة (عليهم السلام), لكثرة ما كرروها وأكدوا عليها بالنص المعصوم منهم, وبالتالي حصول القطع لنا في كثير من أمور الدين, بخلاف مخالفينا إذ أكثر ما يدعون القطع به لا يتجاوز عدّة عشرات من المسائل, بل انّ منهم كأبي حنيفة ردّ معظم السنة لأنه أتهم أسلافه بإخفائها بعد المنع من التدوين! فالفرق بيننا واضح في درجة الوثوق لمن هو منصف.
وقال: ((ويقولون: أن وجود المعصوم يحصل به رفع الخلاف وعند عدمه تقع الأمة في التنازع والاختلاف)).
نقول: هذه الشبهة أخذها من القاضي عبد الجبار وأجابه عليها السيد المرتضى (ره). وإنا لا نقول أنّه يرتفع الاختلاف جملة, بل نقول: انّ الإمام رافع للخلاف عندما يكون المفزع إليه عند وقوع الخلاف, كما قال الله تعالى: (( فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً )) (النساء:59), ولا يقع القرآن في مكان الإمام كما يدعي البعض لأنه حمال أوجه, وقد رجعت الأمة إليه من أوّل وقتها إلى الآن ولم يرفع خلافها.
كما أنه خلط بين زمن حضور الإمام (عليه السلام) - فانه رفع الخلاف بين الشيعة - وبين زمن غيبته وعدم الوصول إليه وعدم بسط يده! وهذا ناتج من تقصير الأمة كما قدمنا.
ففي زمن حضور الإمام لا يصح كلامه في ما يحاول من نقض على فكرة العصمة, لأنها كانت متحققة عند الشيعة. نعم له أن يسأل عن زمن الغيبة؟ ولكن هذا لا ينقض أصل الفكرة كما يحاول دون جدوى, فهو قد أدعى مدعاً عاماً وأقام عليه الدليل خاصاً وهذا من أوضح المغالطات المعروفة.
فأنظر إليه كيف حصر إستدلاله في زمن الغيبة إذ يقول: ((ولو غادر أحدهم ميدان الفكر المجرد ونظر إلى الواقع لوجد نفسه عملياً لا يختلف عن أولئك الذين ينتقدهم ويتبجح عليهم لأنه سيجد نفسه كغيره تماماً يقلد رجلاً يطلق عليه أسم المجتهد يخطيء ويصيب وليس إماماً معصوماً وهذا المجتهد غير معصوم فاين يوجد اليوم ذلك المعصوم الذي ياخذ عنه الشيعي دينه حتى يصح قوله السابق))! فإنّ الشيعة في زمن حضور المعصوم يتبعون المعصوم فلا يرجع عليهم هذا النقص, وبالتالي فإنّ فكرة العصمة وثبوت الإمامة في ذلك الزمن لا خدشه فيها, وهذا يكفي لنقض مذهب مخالفينا.
نعم له أن يناقش تطبيق هذه الفكرة في عصر الغيبة, وهذا لا يكون مناقشة في أصل العصمة والإمامة, بل في الغيبة ووقوعها, بل أن ثبوت الإمامة وعصمة الأئمة بالأدلة وتطبيقها زمن الحضور يجعلنا نقطع بوجوب وجود إمام وإن كان غائباً, ثم نفسر غيبته بأدلة أخرى.
هذا وانّ تقليد المجتهدين اليوم يختلف جذرياً عن تقليد مجتهدي العامة! فكما أوضحنا أن النص المعصوم لمدّة ثلاثمائة عام أوسع دائرة بكثير وأوثق من النص عند مخالفينا, وبالتالي تم حصر دائرة الخلاف بين المجتهدين في دائرة ضيقة وهامش محدود حصل التسامح به لوقوع الغيبة وظروفها, وما فات في هذا الهامش لطف فوتته الأمة على نفسها ولا يرجع على الله - نعوذ بالله - هذا أولاً.
وثانياً: قد خفي عليه أصل أصيل عند الشيعة! وهو أنّ المجتهدين يقومون مقام النائب عن الإمام, ولا تكون الحاكمية والفتوى لهم بالإستقلال حتى على مبنى ولاية الفقية, على العكس من مخالفينا.
هذا والمجتهد عندنا نتيجة لضيق دائرة إجتهاده في الجزئيات لا يتعدى إلى كليات الدين والقوانين المتوسطة التي رسخها أئمتنا (عليهم السلام), على العكس من غيرنا.
وإن كانت الكليات موجودة في القرآن وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله) وكذلك بعض المتوسطات, ولكنها أولاً غير مبينة بشكل كامل كما وضحه الأئمة لنا, وثانياً لم تصل إليهم بالشكل القطعي الراسخ أو المطمأن إليه.
ومن هنا قد نجد مناسبة لما هو المبنى عند الطرفين, فإنّ الإمامية تبني على التخطئة في الإجتهاد - أي أن المجتهد قد يصيب الواقعة الجزئية أو يخطئها ويكون الرأي الإجتهادي ظاهريّاً على كلّ حال ـ, بخلاف مخالفينا فإنّ مبناهم التصويب للمجتهد - أي أنه إذا إجتهد واستنبط فانه يقع على الواقع, أو أن الله ينشيء حكماً على طبق فتواه فتكون فتواه صحيحة على كلّ حال ـ, ولعل ما ألجأهم إلى هذا الأمر قلّة القوانين المتوسطة لديهم فإحتاجوا إلى إنشائها بالإجتهاد ومن ثم التصويب.
وقال: ((ولا يمكن لهم غير ذلك لأن المعصوم إما مفقود وكما عليه الحال اليوم وإما على افتراض وجوده فان التقاء الناس به غير ممكن ...الخ)).
نقول: كأنه تنبه هنا لعموم الدعوى وخصوص النقض السابق الذي أورده, فأراد أن يستدرك, ولكنه جاء بالطامة! فأوّل ما ينقضه عصمة الرسول(صلى الله عليه وآله), فما يقوله هناك نقوله هنا, إذ من الواضح أن النقض هنا مبني على عصمة التشريع وهم يقولون بها في الرسول(صلى الله عليه وآله), مع أنّ الجواب عليه قد ذكره المرتضى في الشافي رداً على القاضي عبد الجبار.
فإننا أوّلاً لا نوجب إماماً واحداً بالدليل العقلي الذي نعتمده على وجوب الإمامة وهو اللطف, بل ما اقتضاه اللطف, فانه ربما اقتضى أكثر من إمام بصفاته في عدّة أماكن, وإنما نقول بإمام واحد بأدلة أخرى, ولما ثبت بالقطع عند المسلمين بأنّ الإمام واحد, وثانياً أن وجود إمام معصوم واحد وتحته الأمراء والولاة يرجعون إليه يسددهم ويرد المخالف منهم يكفي في إتمام الغرض, كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفعله, فمن هو بعيد عن الإمام وداخل تحت سلطة الإسلام لابد أن تصله أوامره ونواهيه وأقواله وأفعاله وإن كان بالتتابع والتدريج, وهذا كاف في البين إذ لا يوجب العقل أكثر من ذلك, فإن وجود الأمراء والولاة في كلّ بلدة يقوم مقام الرئيس والإمام, ولا نثبت العصمة إلا لإمام الكلّ, لأنّ ما تحته من أمراء وولاة يقعون تحت أمره ونهيه وردعه وحثه, وليس فوق الإمام إمام, فتثبت العصمة له وحدّه بالعقل.
وقوله: (( فما الفرق بينهم وبين بقية المسلمين الذين يتبعون العلماء والمجتهدين ولا يؤمنون بمعصومين غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) )).
نقول: فقد بيّنا الفرق, ولكنه هو لم يبين الفرق بين إثبات العصمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي وقت معين, وبين عدم إثباتها للأئمة (عليهم السلام), أو في كلّ وقت, مع أن الدليل والمناط العقلي واحد والحاجة حاصلة في كلّ وقت وعلى الدوام!
وما أورده من نقوضات - لو قلنا أنها نقوضات - فهي واردة أيضاً على قولهم بعصمة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
2- قال: ((استحالة تواجد المعصوم في كلّ زمان ومكان ..الخ)).
نقول: هذا تكرار لما سبق في النقطة التي قبلها وقد أجبنا عليه. والظاهر أنّ هذا المستشكل يفهم من القول بالعصمة بوجوب مباشرة كلّ الناس للمعصوم في كلّ حركاتهم وسكناتهم وعلى طول اللحظات الزمنية في حياتهم وكأنهم مكائن آلية, أو أنّ الغرض من وجود المعصوم لكي يجعلهم معصومين مثله, وأن فائدة العصمة لا تتم إلا بهذا التصور الذي هو أحق أن نقول فيه أنه خيال.
ومن الواضح أنّه لم يفهم دليلنا على وجوب الإمام, ودليلنا على عصمته! فإنّ جهة حكمنا بكون الإمامة لطف هو حكم العقل بوجوب وجود رئيس للناس, وأنهم أقرب لصلاح الحال معه لو كانوا بدون رئيس يردعهم عن الخطأ والتجاوز والتقصير, وسبب احتياجهم إلى رئيس بهذا الشكل هو عدم عصمتهم فيحتاجون إلى رئيس يقومهم, ولازم ذلك ثبوت العصمة لهذا الرئيس, وإلا كان كأحدهم يحتاج إلى إمام وهلم جراً فيتسلسل.
ودليل العقل هذا من جهة اللطف لا يثبت أكثر من وجوب العصمة للإمام, بحيث يستطيع أن يسودهم بأعوانه من الأمراء والولاة ما تصل إليه سلطته وأخباره, كما هو الحال مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي يثبت كلّ المسلمين عصمته, ولو تأمل هذا المستشكل قليلاً لرأى أن كلامه يعود بالنقض عليه من جهة رسول الله (صلى الله عليه وآله)!
أمّا الإشكال في زمن الغيبة, فقد أجبنا عليه سابقاً أيضاً, وأنّه لطف ضيّعه الناس على أنفسهم بمقدار ما, مع أنّ الإمام تدارك هذا اللطف بلطفٍ أضعف منه, ولكن مما لا بد منه وهو نصبه للسفراء, وعندما امتنع هذا اللطف أيضاً تداركه بلطف آخر أضعف من الأولين وهو نصبه للفقهاء بالنيابة العامة, على أنّ هذا المستشكل لم يعرف طريقة إنزال الشرائع من قبل الله وكيفية تبليغها وجهات قبول الناس لها.
3- هنا نقدم أولاً تقرير الإستدلال على ما ذكره المرتضى (ره) في (الشافي) حتى يتضح مراد الشيعة منه:
قال المرتضى (ره): ((قد علمنا أن شريعة نبينا عليه السلام مؤيدة غير منسوخة ومستمرة غير منقطعة فان التعبد لازم للمكلفين إلى أوان قيام الساعة ولابد لها من حافظ لأن تركها بغير حافظ إهمال لأمرها وتكليف لمن تعبد بها ما لا يطاق وليس يخلو أن يكون الحافظ معصوماً أو غير معصوم فان لم يكن معصوماً لم يؤمن من تغييره وتبديله وفي جواز ذلك عليه وهو الحافظ لها رجوع إلى أنها غير محفوظة في الحقيقة, لأنه لا فرق بين أن تحفظ بمن جائز عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ وبين أن لا تحفظ جملة, إذا [إذ] كان ما يؤدي إليه القول بتجويز ترك حفظها يؤدي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم, وإذا ثبت أن الحافظ لابد أن يكون معصوماً استحال أن تكون محفوظة بالأمة وهي غير معصومة والخطأ جائز على آحادها وجماعتها, وإذا بطل أن يكون الحافظ هو الأمة فلا بد من إمام معصوم حافظ لها))(الشافي في الإمامة 1/179).
وننبه هنا: انّ هذه الشبهات قد أثارها كلها القاضي عبد الجبار المعتزلي من قبل وأجاب عليها السيد المرتضى (ره) في (الشافي) بما لا مزيد عليه. ولكن لا ينقضي عجبنا من هؤلاء السلفية أو الأشاعرة أنهم بعد عجزهم في مقام الدليل يلجؤون إلى إنتحال قول من يكفرونهم كالمعتزلة!! وليس إلا من أجل الرد على الشيعة .
وذلك لأنا نقول: بأنّ وجود الإمام لطف, وتصرفه لطف آخر.
وبيان ذلك: أن لطف الإمامة متقوم بثلاث جهات: جهة مختصة بالله وهي بأن يوجد الإمام, وجهة مختصة بالإمام نفسه بأن يهيء نفسه للإمامة, وجهة مختصة بالأمة بأن تكون قابلة لأتباع الإمام.
فالجهتان الأولى والثانية وهي المختصة بالله وبالإمام نفسه هي الأصل, وقد تمت وحصلت, فالله قد أوجد الإمام والإمام هـّيء نفسه حتى لا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل, ولكن بقيت الجهة المختصة بالأمة وهي الفرع, فهي إما شرط, أو عدم مانع, بأن يكون عدم استعداد مواليه واتحادهم أو خوفه من أعدائه مثلاً مانع من تحقق لطف الإمامة في الخارج وحصول التصرف المعصوم وبسط اليد.
ولا يقال: انّ الله قادر بأن يهيء الأمة, لأن ذلك يؤدي إلى بطلان الإختيار! حيث جعل الله إطاعة أوامره التشريعية بالإختيار لا الإجبار. ولا يقال: انّ عدم تهيّء الأمة يؤدي إلى عدم وجود الإمام, لأن تهيء الأمة فرع مترتب على وجود الإمام من قبل الله, فلا يتقدم الفرع على الأصل, إذ يجب حصول الأصل في اللطف ثم حصول الفرع, فإذا لم يحصل الفرع بتقصير الأمة لا يلزم منه عدم حصول الأصل من قبل الله, وذلك حتى لا يبقى للناس على الله حجة بعد الرسل.
السادس:
ونبدأ بالإجابة على ما أثاره من نقاط بالترتيب:
1- قال: ((الأخذ عن المجتهدين المعصومين: من الأفكار الخيالية التي يعيشها الشيعة كأنها حقائق لا تقبل الشك قولهم: اننا نأخذ ديننا من أئمة معصومين فنحن واثقون من صحته بينما غيرنا يأخذ دينه عن رجال غير معصومين فلا ثقة بما يقولون)).
نقول: انه أوّل ما بدأ كلامه بمغالطة! فشيعة اليوم وقبلهم إلى ما بعد الغيبة الصغرى لا يقولون أننا نأخذ ديننا من معصومين, بل يقولون أننا أخذنا ديننا من معصومين لمدّة تزيد على ثلاثمائة عام, وغيرنا لم يأخذه عن معصوم إلا لمدّة عشرين سنة, بل عشر سنوات وهي سنوات الهجرة إلى المدينة, ومن بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذناه عن أشخاص ثقات لا يمتنع عليهم الخطأ والكذب بل التحريف كما هو الواقع. والفرق واضح في درجة الوثوق والإطمئنان في أخذ الدين بين الطريقين, فإن في المدّة الممتدة قرابة ثلاثمائة عام ثبتت وترسخت مفاهيم الدين الكلية والمتوسطة بل ومعظم الجزئيات عن طريق الأئمة (عليهم السلام), لكثرة ما كرروها وأكدوا عليها بالنص المعصوم منهم, وبالتالي حصول القطع لنا في كثير من أمور الدين, بخلاف مخالفينا إذ أكثر ما يدعون القطع به لا يتجاوز عدّة عشرات من المسائل, بل انّ منهم كأبي حنيفة ردّ معظم السنة لأنه أتهم أسلافه بإخفائها بعد المنع من التدوين! فالفرق بيننا واضح في درجة الوثوق لمن هو منصف.
وقال: ((ويقولون: أن وجود المعصوم يحصل به رفع الخلاف وعند عدمه تقع الأمة في التنازع والاختلاف)).
نقول: هذه الشبهة أخذها من القاضي عبد الجبار وأجابه عليها السيد المرتضى (ره). وإنا لا نقول أنّه يرتفع الاختلاف جملة, بل نقول: انّ الإمام رافع للخلاف عندما يكون المفزع إليه عند وقوع الخلاف, كما قال الله تعالى: (( فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً )) (النساء:59), ولا يقع القرآن في مكان الإمام كما يدعي البعض لأنه حمال أوجه, وقد رجعت الأمة إليه من أوّل وقتها إلى الآن ولم يرفع خلافها.
كما أنه خلط بين زمن حضور الإمام (عليه السلام) - فانه رفع الخلاف بين الشيعة - وبين زمن غيبته وعدم الوصول إليه وعدم بسط يده! وهذا ناتج من تقصير الأمة كما قدمنا.
ففي زمن حضور الإمام لا يصح كلامه في ما يحاول من نقض على فكرة العصمة, لأنها كانت متحققة عند الشيعة. نعم له أن يسأل عن زمن الغيبة؟ ولكن هذا لا ينقض أصل الفكرة كما يحاول دون جدوى, فهو قد أدعى مدعاً عاماً وأقام عليه الدليل خاصاً وهذا من أوضح المغالطات المعروفة.
فأنظر إليه كيف حصر إستدلاله في زمن الغيبة إذ يقول: ((ولو غادر أحدهم ميدان الفكر المجرد ونظر إلى الواقع لوجد نفسه عملياً لا يختلف عن أولئك الذين ينتقدهم ويتبجح عليهم لأنه سيجد نفسه كغيره تماماً يقلد رجلاً يطلق عليه أسم المجتهد يخطيء ويصيب وليس إماماً معصوماً وهذا المجتهد غير معصوم فاين يوجد اليوم ذلك المعصوم الذي ياخذ عنه الشيعي دينه حتى يصح قوله السابق))! فإنّ الشيعة في زمن حضور المعصوم يتبعون المعصوم فلا يرجع عليهم هذا النقص, وبالتالي فإنّ فكرة العصمة وثبوت الإمامة في ذلك الزمن لا خدشه فيها, وهذا يكفي لنقض مذهب مخالفينا.
نعم له أن يناقش تطبيق هذه الفكرة في عصر الغيبة, وهذا لا يكون مناقشة في أصل العصمة والإمامة, بل في الغيبة ووقوعها, بل أن ثبوت الإمامة وعصمة الأئمة بالأدلة وتطبيقها زمن الحضور يجعلنا نقطع بوجوب وجود إمام وإن كان غائباً, ثم نفسر غيبته بأدلة أخرى.
هذا وانّ تقليد المجتهدين اليوم يختلف جذرياً عن تقليد مجتهدي العامة! فكما أوضحنا أن النص المعصوم لمدّة ثلاثمائة عام أوسع دائرة بكثير وأوثق من النص عند مخالفينا, وبالتالي تم حصر دائرة الخلاف بين المجتهدين في دائرة ضيقة وهامش محدود حصل التسامح به لوقوع الغيبة وظروفها, وما فات في هذا الهامش لطف فوتته الأمة على نفسها ولا يرجع على الله - نعوذ بالله - هذا أولاً.
وثانياً: قد خفي عليه أصل أصيل عند الشيعة! وهو أنّ المجتهدين يقومون مقام النائب عن الإمام, ولا تكون الحاكمية والفتوى لهم بالإستقلال حتى على مبنى ولاية الفقية, على العكس من مخالفينا.
هذا والمجتهد عندنا نتيجة لضيق دائرة إجتهاده في الجزئيات لا يتعدى إلى كليات الدين والقوانين المتوسطة التي رسخها أئمتنا (عليهم السلام), على العكس من غيرنا.
وإن كانت الكليات موجودة في القرآن وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله) وكذلك بعض المتوسطات, ولكنها أولاً غير مبينة بشكل كامل كما وضحه الأئمة لنا, وثانياً لم تصل إليهم بالشكل القطعي الراسخ أو المطمأن إليه.
ومن هنا قد نجد مناسبة لما هو المبنى عند الطرفين, فإنّ الإمامية تبني على التخطئة في الإجتهاد - أي أن المجتهد قد يصيب الواقعة الجزئية أو يخطئها ويكون الرأي الإجتهادي ظاهريّاً على كلّ حال ـ, بخلاف مخالفينا فإنّ مبناهم التصويب للمجتهد - أي أنه إذا إجتهد واستنبط فانه يقع على الواقع, أو أن الله ينشيء حكماً على طبق فتواه فتكون فتواه صحيحة على كلّ حال ـ, ولعل ما ألجأهم إلى هذا الأمر قلّة القوانين المتوسطة لديهم فإحتاجوا إلى إنشائها بالإجتهاد ومن ثم التصويب.
وقال: ((ولا يمكن لهم غير ذلك لأن المعصوم إما مفقود وكما عليه الحال اليوم وإما على افتراض وجوده فان التقاء الناس به غير ممكن ...الخ)).
نقول: كأنه تنبه هنا لعموم الدعوى وخصوص النقض السابق الذي أورده, فأراد أن يستدرك, ولكنه جاء بالطامة! فأوّل ما ينقضه عصمة الرسول(صلى الله عليه وآله), فما يقوله هناك نقوله هنا, إذ من الواضح أن النقض هنا مبني على عصمة التشريع وهم يقولون بها في الرسول(صلى الله عليه وآله), مع أنّ الجواب عليه قد ذكره المرتضى في الشافي رداً على القاضي عبد الجبار.
فإننا أوّلاً لا نوجب إماماً واحداً بالدليل العقلي الذي نعتمده على وجوب الإمامة وهو اللطف, بل ما اقتضاه اللطف, فانه ربما اقتضى أكثر من إمام بصفاته في عدّة أماكن, وإنما نقول بإمام واحد بأدلة أخرى, ولما ثبت بالقطع عند المسلمين بأنّ الإمام واحد, وثانياً أن وجود إمام معصوم واحد وتحته الأمراء والولاة يرجعون إليه يسددهم ويرد المخالف منهم يكفي في إتمام الغرض, كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفعله, فمن هو بعيد عن الإمام وداخل تحت سلطة الإسلام لابد أن تصله أوامره ونواهيه وأقواله وأفعاله وإن كان بالتتابع والتدريج, وهذا كاف في البين إذ لا يوجب العقل أكثر من ذلك, فإن وجود الأمراء والولاة في كلّ بلدة يقوم مقام الرئيس والإمام, ولا نثبت العصمة إلا لإمام الكلّ, لأنّ ما تحته من أمراء وولاة يقعون تحت أمره ونهيه وردعه وحثه, وليس فوق الإمام إمام, فتثبت العصمة له وحدّه بالعقل.
وقوله: (( فما الفرق بينهم وبين بقية المسلمين الذين يتبعون العلماء والمجتهدين ولا يؤمنون بمعصومين غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) )).
نقول: فقد بيّنا الفرق, ولكنه هو لم يبين الفرق بين إثبات العصمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي وقت معين, وبين عدم إثباتها للأئمة (عليهم السلام), أو في كلّ وقت, مع أن الدليل والمناط العقلي واحد والحاجة حاصلة في كلّ وقت وعلى الدوام!
وما أورده من نقوضات - لو قلنا أنها نقوضات - فهي واردة أيضاً على قولهم بعصمة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
2- قال: ((استحالة تواجد المعصوم في كلّ زمان ومكان ..الخ)).
نقول: هذا تكرار لما سبق في النقطة التي قبلها وقد أجبنا عليه. والظاهر أنّ هذا المستشكل يفهم من القول بالعصمة بوجوب مباشرة كلّ الناس للمعصوم في كلّ حركاتهم وسكناتهم وعلى طول اللحظات الزمنية في حياتهم وكأنهم مكائن آلية, أو أنّ الغرض من وجود المعصوم لكي يجعلهم معصومين مثله, وأن فائدة العصمة لا تتم إلا بهذا التصور الذي هو أحق أن نقول فيه أنه خيال.
ومن الواضح أنّه لم يفهم دليلنا على وجوب الإمام, ودليلنا على عصمته! فإنّ جهة حكمنا بكون الإمامة لطف هو حكم العقل بوجوب وجود رئيس للناس, وأنهم أقرب لصلاح الحال معه لو كانوا بدون رئيس يردعهم عن الخطأ والتجاوز والتقصير, وسبب احتياجهم إلى رئيس بهذا الشكل هو عدم عصمتهم فيحتاجون إلى رئيس يقومهم, ولازم ذلك ثبوت العصمة لهذا الرئيس, وإلا كان كأحدهم يحتاج إلى إمام وهلم جراً فيتسلسل.
ودليل العقل هذا من جهة اللطف لا يثبت أكثر من وجوب العصمة للإمام, بحيث يستطيع أن يسودهم بأعوانه من الأمراء والولاة ما تصل إليه سلطته وأخباره, كما هو الحال مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي يثبت كلّ المسلمين عصمته, ولو تأمل هذا المستشكل قليلاً لرأى أن كلامه يعود بالنقض عليه من جهة رسول الله (صلى الله عليه وآله)!
أمّا الإشكال في زمن الغيبة, فقد أجبنا عليه سابقاً أيضاً, وأنّه لطف ضيّعه الناس على أنفسهم بمقدار ما, مع أنّ الإمام تدارك هذا اللطف بلطفٍ أضعف منه, ولكن مما لا بد منه وهو نصبه للسفراء, وعندما امتنع هذا اللطف أيضاً تداركه بلطف آخر أضعف من الأولين وهو نصبه للفقهاء بالنيابة العامة, على أنّ هذا المستشكل لم يعرف طريقة إنزال الشرائع من قبل الله وكيفية تبليغها وجهات قبول الناس لها.
3- هنا نقدم أولاً تقرير الإستدلال على ما ذكره المرتضى (ره) في (الشافي) حتى يتضح مراد الشيعة منه:
قال المرتضى (ره): ((قد علمنا أن شريعة نبينا عليه السلام مؤيدة غير منسوخة ومستمرة غير منقطعة فان التعبد لازم للمكلفين إلى أوان قيام الساعة ولابد لها من حافظ لأن تركها بغير حافظ إهمال لأمرها وتكليف لمن تعبد بها ما لا يطاق وليس يخلو أن يكون الحافظ معصوماً أو غير معصوم فان لم يكن معصوماً لم يؤمن من تغييره وتبديله وفي جواز ذلك عليه وهو الحافظ لها رجوع إلى أنها غير محفوظة في الحقيقة, لأنه لا فرق بين أن تحفظ بمن جائز عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ وبين أن لا تحفظ جملة, إذا [إذ] كان ما يؤدي إليه القول بتجويز ترك حفظها يؤدي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم, وإذا ثبت أن الحافظ لابد أن يكون معصوماً استحال أن تكون محفوظة بالأمة وهي غير معصومة والخطأ جائز على آحادها وجماعتها, وإذا بطل أن يكون الحافظ هو الأمة فلا بد من إمام معصوم حافظ لها))(الشافي في الإمامة 1/179).
وننبه هنا: انّ هذه الشبهات قد أثارها كلها القاضي عبد الجبار المعتزلي من قبل وأجاب عليها السيد المرتضى (ره) في (الشافي) بما لا مزيد عليه. ولكن لا ينقضي عجبنا من هؤلاء السلفية أو الأشاعرة أنهم بعد عجزهم في مقام الدليل يلجؤون إلى إنتحال قول من يكفرونهم كالمعتزلة!! وليس إلا من أجل الرد على الشيعة .
تعليق