إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

الامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــامـــــــــــــــــة

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    المسألة الثانية: الرد بالآية على من زعم أن النبي صلى الله عليه وآله قد سُحِر:

    فقد استدل عددٌ من علماء الفريقين بالآية على كذب الروايات التي تزعم أن يهودياً قد سحر النبي صلى الله عليه وآله فأخذ مشطه صلى الله عليه وآله وبعض شعره، وجعل فيه سحراً ودفنه



    في بئر.. وزعموا أن ذلك السحر أثَّر في النبي صلى الله عليه وآله فصار يتخيل أنه فعل الأمر ولم يفعله!! وأنه بقي مدةً على تلك الحالة رجلاً مسحوراً! حتى دله رجل أو ملك أو جبرئيل، على الذي سحره وعلى البئر التي أودع المشط والمشاطة، فذهب النبي صلى الله عليه وآله الى البئر، ولكنه لم يستخرج المشط منها، لأنه كان شفي من السحر، ولم يرد أن يثير فتنة، فأمر بدفن البئر!!

    فقد روى البخاري هذه التهمة عن عائشة في خمس مواضع من صحيحه، ففي: 4|91:

    عن عائشة قالت: سُحِرَ النبى صلى الله عليه وسلم، وقال الليث كتب الى هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه عن عائشة قالت سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل اليه أنه يفعل الشىَ وما يفعله، حتى كان ذات يوم دعا ودعا، ثم قال: أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي ؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما للآخر:

    ما وجع الرجل ؟

    قال: مطبوب!

    قال: ومن طَبَّهُ ؟

    قال: لبيد بن الأعصم ؟

    قال: في ماذا ؟

    قال: في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر!

    قال: فأين هو ؟

    قال: في بئر ذروان!

    فخرج اليها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع فقال لعائشة حين رجع: نخلها كأنها روس الشياطين!

    فقلت: استخرجته ؟

    فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً، ثم

    دفنت البئر!! انتهى. ورواه في: 4|68، و: 4|28 ـ 29 و164، ورواه مسلم في: 7|14، وغيره.. وغيره.

    وقد رد هذه التهمة علماء الشيعة قاطبةً، وقد تجرأ قليل من العلماء السنيين على ردها! ومما استدلوا به آية (والله يعصمك من الناس).

    ـ قال الطوسي في تفسير التبيان: 1|384

    ماروي من أن النبي صلى الله عليه وآله سحر ـ وكان يرى أنه يفعل مالم يفعله ـ فأخبار آحادٍ لايلتفت اليها، وحاشا النبي صلى الله عليه وآله من كل صفة نقصٍ، إذ تنفر من قبول قوله، لأنه حجة الله على خلقه، وصفيه من عباده، واختاره الله على علمٍ منه، فكيف يجوز ذلك مع ما جنبه الله من الفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأخلاق الدنيئة والخلق المشينة، ولا يجوِّز ذلك على الأنبياء إلا من لم يعرف مقدارهم، ولا يعرفهم حقيقة معرفتهم. وقد قال الله تعالى: والله يعصمك من الناس، وقد أكذب الله من قال: إن يتبعون إلا رجلاً مسحوراً فقال: وقال الظالمون إن يتبعون إلا رجلاً مسحورا. فنعوذ بالله من الخذلان.

    ـ وقال ابن إدريس العجلي في السرائر: 3|534

    والرسول عليه السلام ما سُحِر عندنا بلا خلاف، لقوله تعالى: والله يعصمك من الناس. وعند بعض المخالفين أنه سُحر، وذلك بخلاف التنزيل المجيد!

    ـ وقال المجلسي في بحار الأنوار: 60|38

    ومنها سورة الفلق، فقد اتفق جمهور المسلمين على أنها نزلت فيما كان من سحر لبيد بن أعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وآله حتى مرض ثلاث ليال.

    ومنها ما روي أن جارية سحرت عايشة، وأنه سحر ابن عمر حتى تكوعت يده!

    فإن قيل: لو صح السحر لأضرت السحرة بجميع الأنبياء والصالحين، ولحصلوا لأنفسهم (على) الملك العظيم، وكيف يصح أن يسحر النبي صلى الله عليه وآله وقد قال الله: والله يعصمك من الناس، ولا يفلح الساحر حيث أتى! وكانت الكفرة يعيبون النبي صلى الله عليه وآله بأنه مسحور، مع القطع بأنهم كاذبون. انتهى.



    وممن رد هذه التهمة من السنيين: النووي في المجموع: 19|243، قال:

    قلت: وأكتفي بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول صلى الله عليه وآله... تنبيه: قال الشهاب بعد نقل في التأويلات: عن أبي بكر الأصم أنه قال: إن حديث سحره صلى الله عليه وسلم المروي هنا متروكٌ لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه.

    ونقل الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلةٌ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: والله يعصمك من الناس، وقال: ولا يفلح الساحر حيث أتى، ولأن تجويزه يفضي الى القدح في النبوة، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا الى ضرر جميع الأنبياء والصالحين. انتهى.

    ـ والرازي في تفسيره: 16 جزء 32|187 قال: قول جمهور المسلمين أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبى صلى الله عليه وآله فى إحدى عشرة عقدة... فاعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم. وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: والله يعصمك من الناس... قال الأصحاب: هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل... الخ. انتهى.

    ولكن هؤلاء قلة من علماء السنة، فأكثرهم يقبلون أحاديث سحر نبيهم!!

    وأصل المشكلة عندهم أنهم يقبلون كلام عائشة وكلام البخاري مهما كان، ولا يسمحون لأنفسهم ولا لأحدٍ أن يبحثه وينقده.. وقد أوقعهم هذا المنهج في مشكلات عقائدية عديدة، في التوحيد والنبوة والشفاعة.. ومنها أحاديث بدء الوحي وورقة بن نوفل، وحديث الغرانيق الذي أخذه المرتد سلمان رشدي وحرفه وسماه الآيات الشيطانية.. ومنها أحاديث أن اليهود سحروا النبي صلى الله عليه وآله التي رواها البخاري عن عائشة!

    وقد تحيروا فيها كما رأيت، ولم يجرأ أحد منهم على القول إنها من المكذوبات على عائشة، أو من خيالات النساء..


    والرد الصحيح أن تهمة السحر تتنافى مع أصل النبوة، وأنها تهمة الكفار التي برأ الله نبيه صلى الله عليه وآله، منها بنص القرآن، كما تقدم.

    أما ردها بآية العصمة فهو ضعيف، لأنه قد يجاب عنه بأن آية العصمة نزلت في آخر عمره صلى الله عليه وآله، وقصة السحر المزعومة كانت قبلها.

    وأما على تفسيرنا للآية، فقد عرفت أن القدر المتيقن من العصمة فيها عصمته صلى الله عليه وآله من ارتداد قريش والمسلمين في حياته، بسبب تبليغه ولاية عترته من بعده.. فيقتصر فيها على هذا القدر المتيقن، ما لم يقم دليل على شمولها لغيره.

    وقد أكثر المفسرون والشراح السنييون من الكلام في هذا الموضوع، وتجشموا احتمالات كثيرة.. كل ذلك بسبب تفسيرهم الخاطىَ للآية وتصورهم أنها تفيد عصمته صلى الله عليه وآله من القتل والسم والجرح والأذى.

    ومن ذلك أنهم تصوروا أن الآية تعارض الرواية القائلة إن موته صلى الله عليه وآله استند الى اللقمة التي أكلها من الشاة المسمومة التي قدمتها اليه اليهودية، ثم أتاه جبريل عليه السلام فأخبره فامتنع عن الأكل، فانتقض عليه سم تلك اللقمة بعد سنة فتوفي بسببه..

    ـ قال في هامش الشفا 1|317:

    فإن قيل: ما الجمع بين قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) وبين هذا الحديث المقتضي لعدم العصمة، لأن موته عليه السلام بالسم الصادر من اليهودية ؟

    والجواب: أن الآية نزلت عام تبوك، والسم كان بخيبر قبل ذلك.


    ***
    ومن ذلك ما تحيروا فيه من أن النبي صلى الله عليه وآله قد تمنى القتل في سبيل الله تعالى، مع أنه الآية تدل على عصمته من القتل، فهل يجوز أن يتمنى النبي شيئاً وهو يعلم أنه لا يكون ؟! قال في فتح الباري في شرح البخاري: 8|2644: عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول.. والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله....



    استشكل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يقتل، وأجاب بن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى: والله يعصمك من الناس، وهو متعقب فإن نزولها كان في أوائل ما قدم المدينة، وهذا الحديث صرح أبو هريرة بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع من الهجرة.

    والذي يظهر في الجواب: أن تمنى الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: وددت لو أن موسى صبر، كما سيأتي في مكانه، وسيأتي في كتاب التمني نظائر لذلك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه، قال بن التين: وهذا أشبه.

    وحكى شيخنا بن الملقن أن بعض الناس زعم أن قوله (ولوددت) مدرج من كلام أبي هريرة، قال: وهو بعيد. ونحوه في عمدة القاري: 7 جزء 14|95

    . ونقول: لو ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وآله لكان تمنياً حقيقياً، لأن الآية إنما تضمن عدم ردة الناس في حياته صلى الله عليه وآله، ولا ربط لها بضمان عدم القتل والجرح والأذى.

    تعليق


    • #17
      قريش في حجة الوداع

      رأيت في أحاديث حجة الوداع كيف ركز النبي صلى الله عليه وآله في خطبه وكلامه وتصرفاته على مقام أهل بيته عليهم السلام فبشر الأمة بالائمة الإثني عشر منهم.. وبلغها أن الله تعالى جعل وجوب طاعتهم الى جانب القرآن، فسماهم مع القرآن (الثقلين)، وأنه تعالى حرم عليهم الصدقات وجعل لهم مالية خاصة هي: الخمس.. الخ.

      لقد كانت خطبه صلى الله عليه وآله في الحج، وما رافقها من أعماله وأقواله، في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، أقصى ما يمكن أن تتحمله قريش من ترسيخ قيادة بني هاشم، و (حرمان) بقية قبائل قريش من القيادة حسب زعمهم، بل تكريس قريش عبيداً طلقاء لبني هاشم!!

      ولا تذكر المصادر السنية ردة الفعل الصريحة لزعماء قريش المعروفين على هذه الخطب والأعمال النبوية في حجة الوداع.

      ومن الطبيعي أن لا تذكر ذلك.. فهل تريد من مصدر قرشي أن يعترف لك بأن

      قريشاً لم تكن مرتاحة لكلام النبي صلى الله عليه وآله؟! وأن سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية بن خلف، وحكيم بن حزام، وصهيب بن سنان، وأبا الأعور السلمي... وغيرهم، وغيرهم.. كانوا مكفهري الوجوه من تمهيد النبي صلى الله عليه وآله لبني هاشم، وأنهم نشطوا في اتصالاتهم مع القرشيين المهاجرين، من غير بني هاشم لمعالجة هذا الإتجاه النبوي الخطير ؟!!

      أما مصادرنا الشيعية فتذكر أنهم نشطوا ضد بني هاشم في حجة الوداع، وأن نشاطهم زاد في منى في أيام التشريق، وكانت نتيجة مشاوراتهم ومحادثاتهم أن كتبوا بينهم صحيفة تسميها مصادرنا (الصحيفة الملعونة) لأنهم تعاهدوا فيها أن لا يسمحوا لبني هاشم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة!

      وتذكر أن بضعة نفر من ممثليهم انسلوا خفيةً من منى الى مكة، ووقعوا الصحيفة في داخل الكعبة!

      فكانت صحيفة قرشية جديدة ضد بني هاشم، ولكنها هذه المرة ليست لمحاصرتهم في الشعب باسم اللات والعزى.. بل لعزلهم سياسياً وحرمانهم من القيادة بعد النبي صلى الله عليه وآله، باسم الإسلام!!

      وذكرت مصادرنا أن الله تعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وآله على هذه الصحيفة، فأخبر أصحابها بفعلتهم، فارتعدت فرائصهم!

      ولكنه صلى الله عليه وآله اكتفى بإتمام الحجة عليهم، وترك لهم حرية العمل وفق قانون تبليغ الأنبياء عليهم السلام وواجبهم في إقامة الحجة لله تعالى على عباده!

      وإذا كان ما ذكرته الصحاح السنية من لغطٍ وكلامٍ وضجةٍ وصراخٍ في وسط خطبة النبي صلى الله عليه وآله في عرفات، عندما وصل الى نسب الأئمة الإثني عشر من بعده ـ إذا كان ذلك واحداً من فعاليات قريش المنظمة ضد بني هاشم ـ فلا بد أن يكون النبي صلى الله عليه وآله أنبهم عليه أيضاً، وعرفهم أنه مطلعٌ عليه جيداً!!

      تعليق


      • #18
        نتائج حجة الوداع

        على أي حال، فقد اعتبر القرشيون أن حجة الوداع مرَّت بسلامٍ نسبياً، فقد تحدث النبي صلى الله عليه وآله كثيراً عن بني هاشم وعن عترته وعن ذريته من فاطمة، وعن اختيار الله تعالى لهم، وللأئمة منهم، وعن تحريم الصدقات عليهم، وفرض الخمس لهم.. ولكنه لم يتخذ إجراءً عملياً والحمد لله، ولم يطلب من قريش والمسلمين أن يبايعوا علياً كبير العترة، بصفته الإمام الأول من العترة!

        أما النبي صلى الله عليه وآله فقد اعتبر أنه بلغ رسالة ربه في عترته بأقصى ما يمكنه، وأن قريشاً لا تتحمل أكثر من ذلك.. فقد وصل الأمر عندها الى آخر حدود الصبر، ولو طلب منها بيعة علي بخلافته، فإنها قد تطعن في نبوته وتتهمه بأن هدفه إقامة ملك لبني هاشم، شبيهاً بملك كسرى وقيصر!!

        وبذلك تستطيع قريش أن تقود حركة ردة في العرب، وتخوفهم من القبول بملك بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه وآله، ملك يبدأ بعلي ثم يكون للحسن ثم للحسين، ثم لا يخرج من أبناء فاطمة الى يوم القيامة!

        وقد سجلت المصادر شبيه هذه العبارات، على ألسنة زعماء قريش! وكأن الملك ملك محمد صلى الله عليه وآله وكأنه هو الذي أعطاه أو يريد أن يعطيه لعترته عليهم السلام !!

        تعليق


        • #19
          بارك الله لك اخي ابن النجف جعلها الله في ميزان حسناتك

          تعليق


          • #20
            المشاركة الأصلية بواسطة حسين90
            بارك الله لك اخي ابن النجف جعلها الله في ميزان حسناتك
            شكرا اخي العزيز

            تعليق


            • #21
              الوحي يوقف القافلة النبوية

              ورحل النبي صلى الله عليه وآله من مكة وهو ناوٍ أن يكون أول عمل يقوم به في المدينة إعلان ولاية عترته، كما أمره ربه تعالى.

              لكن في اليوم الثالث من مسيره، عندما وصل الى كراع الغميم، وهو كما في مراصد الإطلاع: موضع بين مكة والمدينة، أمام عسفان بثمانية أميال.. جاءه جبرئيل عليه السلام لخمس ساعات مضت من النهار، وقال له: يامحمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك (ياأيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لايهدي القوم الكافرين).

              فخاف النبي صلى الله عليه وآله وخشع لربه، وتَسَمَّرَ في مكانه، وأصدر أمره الى المسلمين بالتوقف، وكان أولهم قد وصل الى مشارف الجحفة، وكانت الجحفة بلدةً عامرةً على بعد ميلين أو أقل من كراع الغميم، ولكن النبي صلى الله عليه وآله أراد تنفيذ الأمر الإلَهي المشدد، فوراً في المكان الذي نزل فيه الوحي.. !



              قال صلى الله عليه وآله للناس: أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي.. وأمرهم أن يردوا من تقدم من المسلمين اليه، ويوقفوا من تأخر منهم حين يصلون اليه..

              ونزل صلى الله عليه وآله عن ناقته، وكان جبرئيل الى جانبه، ينظر اليه نظرة الرضا، وهو يراه يرتجف من خشية ربه، وعيناه تدمعان خشوعاً وهو يقول: تهديدٌ.. ووعدٌ ووعيدٌ.. لأمضين في أمر الله، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبنى العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة!

              وقبل أن يفارقه جبرئيل أشار اليه فنظر النبي صلى الله عليه وآله فإذا على يمينه دوحة أشجار، فودع جبرئيل ومال اليها، وحطَّ رحال النبوة عند غدير خُمٍّ.

              قال بعض المسلمين: فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ينادي: أيها الناس أجيبوا داعي الله.. فأتيناه مسرعين في شدة الحر، فإذا هو واضعٌ بعض ثوبه على رأسه.

              ونادى منادي النبي صلى الله عليه وآله في الناس بالصلاة جامعة، ووقت الصلاة لم يحن بعد ولكن حانت قبلها (صلاة) أخرى لا بد من أدائها قبل صلاة الظهر.

              إنها فريضة ولاية عترته الطاهرة، ولا بد أن يبلغها عن ربه الى المسلمين مهما قال فيه قائلون، وقال فيهم قائلون.. فقد شدد عليه ربه في ذلك: وأفهمه أن مسألة عترته ليست مسألةً شخصيةً تخصه.. وأنك إن كنت تخشى الناس، فالله أحق أن تخشاه وسيعصمك منهم، فاصدع بما تؤمر!!

              ونزل المسلمون حول نبيهم صلى الله عليه وآله، وكان ذلك اليوم قائظاً شديد الحر، فأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبة الولاية، ثم للصلاة في ذلك الهجير، وأمرهم أن ينصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر، ليشرف على الناس..

              ورتب المسلمون المكان والمنبر، ووضعوا على أحجاره حدائج الإبل، فصار منصةً أكثر ارتفاعاً، وحسناً..


              وورد المسلمون ماء الغدير فشربوا منه، واستقوا، وتوضؤوا.. وتجمعوا لاستماع الخطبة قبل الصلاة، ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير، وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة، فجلس كثير منهم في الشمس، أو استظل بظل ناقته..

              عرف الجميع أن أمراً قد حدث، وأن النبي صلى الله عليه وآله سيخطب.. فقد نزل عليه وحيٌ أو حدث أمرٌ مهمٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير، ولا يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة العامرة، التي تبعد عنهم ميلين فقط!

              كان مجموع المشاركين في حجة الوداع من مئة ألف الى مئة وعشرين ألفاً كما ذكرت الروايات، ولكن هذا العدد كان في عرفات ومنى.. أما بعد تمام الحج فقد توزعوا، فمنهم من أهل مكة وقد رجعوا اليها، ومنهم بلادهم عن طريق الطائف فسلكوا طريقها، وآخرون بلادهم عن طريق جدة وما اليها..

              والذين هم مع الرسول صلى الله عليه وآله عن طريق الجحفة والمدينة ألوفٌ كثيرةٌ أيضاً.. نحو عشرة آلاف.. فقد قال الإمام الصادق عليه السلام مؤرخاً تضييع قريش لحادثة الغدير:

              العجب مما لقي علي بن أبي طالب! إنه كان له عشرةُ آلافِ شاهدٍ ولم يقدر على أخذ حقه، والرجل يأخذ حقه بشاهدين!! الوسائل: 18|174



              ***
              لم يدم طويلاً تطلع المسلمين الى ما سيفعله النبي صلى الله عليه وآله وما سيقوله.. فقد رأوه صعد على منبر الأحجار والأحداج، وبدأ باسم الله تعالى، وأخذ يرتل قصيدةً نبويةً في حمد الله تعالى، والثناء عليه.. ويشهد الله والناس على عبوديته المطلقة لربه.

              ثم قدم لهم عذره، لأنه اضطر أن ينزلهم في مكان قليل الماء والشجر، وما أمهلهم حتى يصلوا الى بلدة الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبيرة، المتوفر فيها ما يحتاج اليه المسافر.. ولا انتظر بهم وقت الصلاة، بل ناداهم قبل وقتها، وكلفهم الإستماع اليه في حر الظهيرة..




              وأخبرهم أنه نزل عليه جبرئيل عليه السلام في مسجد الخيف، وأمره أن يقيم علياً للناس.. ثم قال لهم: إن الله عز وجل بعثني برسالةٍ فضقت بها ذرعاً، وخفت الناس أن يكذبوني، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني: أمتي حديثو عهد بالجاهلية، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي، يقول قائل، ويقول قائل! فأتتني عزيمة من الله بتلة (قاطعة) في هذا المكان، وتواعدني إن لم أبلغها ليعذبني.

              وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة من الناس، وهو الكافي الكريم، فأوحى إلي: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لايهدي القوم الكافرين.

              ثم قال صلى الله عليه وآله: لا إلَه إلا هو، لا يؤمن مكره، ولا يخاف جوره، أقرُّ له على نفسي بالعبودية، وأشهد له بالربوبية، وأؤدي ما أوحى إلي، حذراً من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعةٌ، لا يدفعها عني أحدٌ، وإن عظمت حيلته.

              أيها الناس: إني أوشك أن أدعى فأجيب، فما أنتم قائلون ؟

              فقالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت.

              فقال: أليس تشهدون أن لا إلَه إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق ؟

              قالوا: يا رسول الله بلى.

              فأومأ رسول الله الى صدره وقال: وأنا معكم.

              ثم قال رسول الله: أنا لكم فرط، وأنتم واردون عليَّ الحوض، وسعته مابين صنعاء الى بصرى، فيه عدد الكواكب قدحان، ماؤه أشد بياضاً من الفضة.. فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.

              فقام رجل فقال: يارسول الله وما الثقلان ؟

              قال: الأكبر: كتاب الله، طرفه بيد الله، وسبب طرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا.



              والأصغر: عترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.. سألت ربي ذلك لهما فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.

              أيها الناس: ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأني أولى بكم من أنفسكم ؟

              قالوا: بلى يا رسول الله.

              قال: قم يا علي. فقام علي، وأقامه النبي صلى الله عليه وآله عن يمينه، وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما، وقال:

              من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.

              فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر، وعلى الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، والصغير والكبير.

              فقام أحدهم فسأله وقال: يارسول الله ولاؤه كماذا ؟

              فقال صلى الله عليه وآله: ولاؤه كولائي، من كنت أولى به من نفسه فعليٌّ أولي به من نفسه!

              وأفاض النبي صلى الله عليه وآله في بيان مكانة علي والعترة الطاهرة والأئمة الإثني عشر من بعده: علي والحسن والحسين، وتسعة من ذرية الحسين، واحدٌ بعد واحد، مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم، حتى يردوا عليَّ حوضي

              ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه.. فشهدوا له..

              وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب.. فوعدوه وقالوا: نعم..

              وقام اليه آخرون فسألوه... فأجابهم..




              وما أن أتم خطبته، حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: ألله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، وولاية علي بعدي...

              ونزل عن المنبر، وأمر أن تنصب لعلي خيمة، وأن يهنئه المسلمون بولايته عليهم.. حتى أنه أمر نساءه بتهنئته، فجئن الى باب خيمته وهنأنه!

              وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له: بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة!

              وجاء حسان بن ثابت، وقال: إئذن لي يارسول الله أن أقول في علي أبياتاً تسمعهن، فقال: قل على بركة الله، فأنشد حسان:

              يـناديهمُ يوم الغـدير نبيُّهُمْ بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديءا
              بقول فمن مـولاكمُ ووليُّكُمْ فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
              إلَهـك مـولانا وأنت ولينا ولم ترَ منا في الولاية عاصيا
              فقال لـه قم يا عليُّ فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
              فمن كنت مولاه فهذا وليه فكونوا له أنصار صدق مواليا
              هناك دعا اللهم وال وليـه وكن للذي عادى علياً معاديا


              أخذنا هذا التسلسل في قصة الغدير من مصادرنا المتعددة مثل: كمال الدين وتمام النعمة للصدوق|276، والإحتجاج للطبرسي: 1|70، وروضة الواعظين للنيسابوري|89، والمسترشد|117، وغيرها.

              وقد روت مصادر السنة حديث الغدير قريباً مما في مصادرنا، وتجد ذلك في كتاب الغدير للأميني.

              ونكتفي هنا بنقل رواية مسلم في صحيحه: 7|122 قال:

              عن يزيد ابن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم، الى زيد بن أرقم، فلما جلسنا اليه قال له حصين:




              لقد لقيت يازيد خيراً كثيراً، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً.

              حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

              قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا، فلا تكلفونيه.

              ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً، بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:

              أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين:

              أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:

              وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.

              فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟

              قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

              قال: ومن هم ؟

              قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.

              قال: كل هؤلاء حرم الصدقة

              قال: نعم. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: 2|366، وغيره.. وغيره.

              ـ وقال الحاكم في المستدرك 3|148

              عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض.

              هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. انتهى.




              وقد رأيت أن مسلماً رواه، ولكن لفظ الحاكم فيه إخبارٌ نبوي باستمرار وجود إمام من أهل بيته صلى الله عليه وآله الى يوم القيامة.

              ـ وانظر كيف صوَّر ابن كثير القضية في بدايته: 5|408، قال:

              لما تفرغ النبي من بيان المناسك، ورجع الى المدينة خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدير خم، تحت شجرة هناك، فبين فيها أشياء، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه، وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه، وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري، فجمع فيه مجلدين، وأورد فيها طرقه وألفاظه، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة. انتهى.

              فقد جعل القضية أن كثيراً من المسلمين كانوا غاضبين من علي بن أبي طالب، متحاملين عليه في أنفسهم، فأوقف النبي المسلمين صلى الله عليه وآله في غدير خم، لكي يثبت لهم براءة علي ويرضِّيهم عنه، فذكر فضله وقربه منه (وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه) وبين في خطبته (أشياء) من هذا القبيل! وكان الله يحب المحسنين!

              إن هذا الأسلوب إنما يكتب به مؤرخٌ من عشيرة بني عبد الدار، الذين قتل علي منهم بضعة عشر فارساً منهم حملوا لواء قريش في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن المؤرخ المسلم لا يستطيع أن يكتب به إلا.. إذا كان مبغضاً لعلي بن أبي طالب!

              فهل عرفت لماذا يحب (السلفيون) ابن كثير ويهتمون بنشر كتبه ؟!

              تعليق


              • #22
                لماذا الجحفة وغدير خم

                والسؤال هنا: لماذا الوحي في طريق المدينة.. والصحراء والظهيرة ؟

                والجواب: أن الله تعالى قال بذلك لرسوله: المدينة أيها الرسول مثل مكة، فإن بلغت ولاية عترتك فيها، فقد تعلن قريش معارضتها ثم ردتها! فموقفها من عترتك جازم، ومستميت.. وبما أن واجبك التبليغ مجرد التبليغ، وإنما بعثت للتبليغ، فهو ممكنٌ هنا.. والزمان والمكان هنا مناسبان من جهات شتى، فبلغ ولا تؤخر.



                ومن أجل أن تكمل التبليغ وتوصل لهم رسالتي.. سوف أعصمك من قريش، وأمسك بقلوبها وأذهانها، وألجم شياطينها الحاضرين، وأعالج آثار التبليغ، وأحفظ نبوتك فيها.. ثم أملي لها بعدك، فتأخذ دولتك وتضطهد عترتك.. حتى يتحقق في أمتك وفي عترتك ما أريد! ولا أسأل عما أفعل، وهم يسألون.


                ***

                والسؤال هنا: كيف تمت عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله من قريش، فلم يحدث تشويش، ولم يقم معترض.. ! صحيح أن ثقل زعماء قريش كانوا في مكة، لكن بعضهم كان في قافلة الرسول صلى الله عليه وآله، وكان فيها قرشيون مهاجرون مؤيدون لهم !فكيف سكتت قريش وضبطت أعصابها، وهي تسمع تبليغ الرسول في علي والعترة ؟! ثم أشهدها النبي صلى الله عليه وآله على تبليغ ذلك.. فشهدت.

                ثم طلب منها أن تبلغ الغائبين.. فوعدت.

                ثم جاءت الى خيمة علي وهنأته بالولاية، وإمرة المؤمنين!!

                الجواب: أنه تعالى أراد للرسالة أن تصل، وللحجة أن تقام، وأن يبقى رسوله صلى الله عليه وآله محفوظ الشخصية سالم النبوة.. فأسكت قريشاً بقدرته المطلقة، وكمَّمَ أفواهها في غدير خم.

                والظاهر أن قريشاً أخذت تقنع نفسها بأن المسألة في غدير خم، ليست أكثر من إعلانٍ وإعلامٍ يضاف الى إعلانات حجة الوداع.. وأن النبي صلى الله عليه وآله مازال حياً.. فإن مات، فلكل حادثٍ حديث..

                وعندما أرادت قريش أن تخرج عن سكوتها، وتخطو خطوةً نحو الردة.. أنزل الله على ناطقها الرسمي النضر بن الحارث حجراً من سجيل فأهلكه، وأرسل على آخر ناراً فأحرقته!! فزاد ذلك من قناعة قريش بالسكوت فعلاً عن ولاية العترة!

                أما النبي صلى الله عليه وآله فكان تفكيره رسولياً، وليس قرشياً..



                لقد ارتاح ضميره بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره، واتقى غضب ربه وعذابه..

                واغرورقت عيناه بدموع الفرح والخشوع، لأن الله رضي عنه بإعلان ولاية علي، وأنزل عليه آية إكمال الدين وإتمام النعمة، فأخبره بأن مهمته وصلت الى ختامها..

                كان النبي صلى الله عليه وآله في عيدٍ، لأنه أدى رسالة من أصعب رسالات ربه، فرضي عنه، وقد تكون أصعب رسالةٍ عليه في عمره النبوي على الإطلاق.. وتمت المسألة بسلامٍ ولم تقم قائمة قريش، ولم يصب جابر بن سمرة وغيره بالصمم من لغط الناس عند سماع كلمة عترتي، أو كلمة علي، أو بني هاشم.

                ولم تحدث حركة عصيان منظمة، كما حدثت في المدينة عندما طلب النبي صلى الله عليه وآله قبل وفاته بأربعة أيام، أن يأتوه بدواة وقرطاسٍ ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً.. ولم تحدث حركة ردة نهائياً، والحمد لله!

                ارتاح ضمير النبي صلى الله عليه وآله بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره.. وهذه هي الرسالة التي روى الحسن البصري أن الله أمر رسوله بها فضاق بها صدره، فتوعده ربه بالعذاب إن لم يبلغها، فخاف ربه وصدع بها.. ولكن الحسن البصري كما قال الراوي راوغ فيها وراغ عنها، ولم يخبرهم ما هي! وكل غلمان قريش إخوان الحسن البصري، من الفرس وغيرهم، يراوغون فيها وفي أمثالها، ويخفون ما أنزل الله تعالى في عترة نبيه صلى الله عليه وآله !

                كان النبي صلى الله عليه وآله يفكر ربانياً بأعلى مستوى من البيعة.. يفكر على مستوى الأمر الإلَهي والإختيار الإلَهي، الذي لا خيرة فيه لأحد، ولا محل فيه للبيعة، إلا إذا طلبها من الناس النبي أو الوصي، فتجب.

                فهذا هو منطق التبليغ، وحسب!

                ولذلك لم يشاورهم النبي صلى الله عليه وآله في بيعة علي، لأن اختيار الله تعالى لا يحتاج الى مشورتهم، ولا بيعتهم، ولا رضاهم..

                لقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله أن يشاورهم ليتألفهم، ويسيروا معه في الطريق الصحيح.. أما إذا عزمت فتوكل، ولا تسمع لكلام مخلوق لأنك تسير بهدى الخالق!




                أما إذا عزم الله تعالى واختار للأمة ولياً بعد نبيه صلى الله عليه وآله، وقال لنبيه بلغ ولا تخف، ولست مسؤولاً عن إطاعة من أطاع ومعصية من عصى.. فهل يبقى للمشاورة محلٌّ من الإعراب! وهل يبقى للبيعة محلٌّ من الإعراب!

                لقد طلب منهم الرسول صلى الله عليه وآله تهنئة علي عليه السلام إقراراً بالإختيار الإلَهي، وهي تهنئةٌ أقوى من البيعة، وألزم منها للأعناق.. ثم ليفعلوا بعدها ما يحلو لهم.. فإنما على النبي صلى الله عليه وآله أن يبلغهم، وحسابهم على من يملك كل الأوراق، ويملك الدنيا والآخرة، ويفعل ما يريد.. سبحانه وتعالى!

                وتدل رواياتنا على أنه صلى الله عليه وآله طلب منهم مع التهنئة البيعة، فيكون معناها أنه طلب منهم أيضاً إعلان التزامهم بإطاعة علي عليه السلام.. فأعلنوا!

                ولكن الأمر من ناحية شرعية وحقوقية، لا يختلف، سواء أمرهم النبي صلى الله عليه وآله ببيعة علي عليه السلام أم أمرهم بتهنئته فقط.. فإن تبليغ الولاية أقوى من التهنئة، والتهنئة أقوى من البيعة.. فالتبليغ اصطفاء، والتهنئة خضوع، والبيعة وعدٌ بالإلتزام.

                لقد سكتت قريش آنياً بسبب أنها لم تكن حاضرةً كلها في الجحفة.. وبسبب عنصر المفاجأة، وظرف المكان والزمان.

                ولعلها كانت تقنع نفسها بأن منطق التفكير النبوي يبقي لها مساحة للعمل..

                ذلك أن التبليغ وإتمام الحجة كلامٌ تركيٌّ عند قريش الناطقة بالضاد!

                وحتى البيعة المأمور بها من النبي صلى الله عليه وآله يمكن لقريش أن تجعلها مثل المراسم الدينية الأخرى، وتجردها من معنى إمامة علي وقيادة عترة النبي صلى الله عليه وآله من بعده!

                فالباب في تصور قريش مازال مفتوحاً أمامها للتصرف!!

                تعليق


                • #23
                  المنطق النبوي حقق أهدافه وفضح قريشاً

                  نقلت المصادر السنية ندم الخليفة القرشي أبي بكر على إصداره أمراً بمهاجمة بيت علي وفاطمة عليهما السلام في اليوم الثاني أو الثالث لوفاة النبي صلى الله عليه وآله.
                  ـ ففي مجمع الزوائد: 5|202

                  عن عبدالرحمن بن عوف قال: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفي فيه، فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟

                  فاستوى جالساً فقال: أصبحت بحمد الله بارئاً، فقال: أما إني على ما ترى وجع وجعلتم لي شغلاً مع وجعي!

                  جعلت لكم عهداً من بعدي، واخترت لكم خيركم في نفسي، فكلكم ورم لذلك أنفه، رجاء أن يكون الأمر له!

                  ورأيت الدنيا أقبلت، ولما تقبل، وهي خائنة، وستنجدون بيوتكم بستور الحرير ونضائد الديباج، وتألمون النوم على الصوف الأذربي، كأن أحدكم على حسك السعدان (يقصد أنكم من ترفكم سترون السجاد الأذربيجاني خشناً لمنامكم مثل الشوك).

                  والله لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه في غير حد، خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا.

                  ثم قال: أما إني لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن.

                  فأما الثلاث التي وددت أني لم أفعلهن: فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته، وإن أغلق على الحرب.

                  ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة، قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين، أبي عبيدة أو عمر، وكان أمير المؤمنين وكنت وزيراً.

                  ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى أهل الردة، أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإلا كنت ردءاً ومدداً.

                  وأما الثلاث اللاتي وددت أني فعلتها: فوددت أني يوم أتيت بالأشعث أسيراً ضربت عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يكون شرٌّ إلا طار إليه.


                  --------------------------------------------------------------------------------
                  الصفحة 236
                  --------------------------------------------------------------------------------

                  ووددت أني يوم أتيت بالفجاءة السلمي، لم أكن أحرقته، وقتلته سريحاً أو أطلقته نجيحاً.

                  ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى الشام، وجهت عمر الى العراق فأكون قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله عز وجل.

                  وأما الثلاث اللاتي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن:

                  فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فلا ينازع أهله.

                  ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر سبب؟

                  ووددت أني سألته عن العمة وبنت الأخ، فإن في نفسي منهما حاجة. انتهى.

                  وغرضنا من النص بيان حالة الخليفة وأنه يقصد بقوله (وددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وإن أغلق على الحرب) أنه نادمٌ على مهاجمة البيت، حتى لو كان أهله يعدون العدة لحربه!

                  وخلاصة القصة: أن أبا بكر أرسل الى علي عليه السلام يطلب منه أن يبايعه، فامتنع علي عن بيعته، وأجابهم جواباً شديداً، اتهمهم فيه.

                  وبلغ أبا بكر أن عدداً من الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في بيت علي الذي كان يعرف ببيت فاطمة عليهما السلام، فأشار عليه عمر بأن يهاجموا البيت ويهددوهم بإحراقه عليهم، إن لم يخرجوا ويبايعوا!

                  وبالفعل هاجمت مجموعة بقيادة عمر بن الخطاب بيت الزهراء عليها السلام وحاصروه وجمَّعوا الحطب على باب داره، وهددوا علياً وفاطمة عليهما السلام والذين كانوا في البيت ـ ومنهم مؤيدون لموقف علي، ومنهم جاؤوا معزين بوفاة النبي صلى الله عليه وآله ـ هددوهم بأنهم إما أن يخرجوا ويبايعوا أبا بكر، أو يحرقوا عليهم الدار بمن فيه!

                  وبالفعل أشعلوا الحطب في باب الدار الخارجي !!

                  ولم يشأ علي عليه السلام أن يخرج اليهم بذي الفقار عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وآله، حيث كان أخبره بكل ما سيحدث، وأمره فيه بأوامره.. فخرجت اليهم فاطمة الزهراء عليها السلام




                  فأهانوها وضربوها، حتى أسقطت جنينها.. الى آخر تلك الأحداث المؤلمة لقلب كل مسلم..

                  في ذلك الظرف، قرر علي وفاطمة عليهما السلام أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعة العقبة، التي شرط عليهم النبي صلى الله عليه وآله فيها أن يحموه وأهل بيته وذريته، مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم، فبايعوه على ذلك!

                  وكانت فاطمة عليها السلام مريضة مما حدث لها في الهجوم على بيتها، فأركبها علي عليه السلام على دابة، وأخذا معهما أولادهما الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وجالوا على بيوت رؤساء الأنصار في تلك الليلة والتي بعدها، وكلمتهم فاطمة عليها السلام فكان قول أكثرهم: يا بنت رسول الله، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر، ما عدلنا بعلي أحداً! فقالت الزهراء عليها السلام:


                  وهل ترك أبي يوم غدير خمٍّ لأحدٍ عذراً !! (الخصال|173)

                  إن منطق الزهراء عليها السلام هو منطق أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله تماماً.. فهي بضعةٌ منه، وهي مطهرةٌ من منطق المثَّاقلين الى الأرض وتفكيرهم.. وكل تكوينها وتفكيرها ومشاعرها وتصرفاتها ربانية، ولذلك قال عنها أبوها (إن الله يرضى لرضا فاطمة، ويغضب لغضبها!) ذلك أنها ليس لها شخصيتان: واحدةٌ رسالية والأخرى شخصية، فتغلبُ هذه مرةً وهذه مرة، بل وجودها موحدٌ منسجمٌ دائماً.. فهي أَمَةُ هذا الرب العظيم لا غير، وتابعةُ هذا الرسول والأب الحبيب لا غير.. صلى الله عليه وآله.

                  وفاطمة الزهراء تعرف أنه سبحانه يتعامل مع الناس بإقامة الحجة عليهم في أصول الإسلام وتفاصيله، في أسس العقيدة وجزئيات الشريعة، وفيما يجب على الأمة في حياة نبيها، وبعد وفاته..

                  وقد أقام أبوها الحجة لربه كاملةً غير منقوصة، في جميع الأمور، ومن أعظمها حق زوجها علي، وولديها الحسن والحسين عليهم السلام الذين أعطاهم الله حق الولاية على الأمة بعد أبيها!




                  بهذا المنطق قالت الزهراء عليها السلام للأنصار: إن جوابكم لي جواب سياسي.. ومنطق الحجة الإلَهية أعلى من منطق اللعب السياسية، ومهيمنٌ عليه، ومتقدم عليه رتبةً، وفاضحٌ له.. فقد بلَّغَ أبي صلى الله عليه وآله عن ربه، وأخبركم أن المالك العظيم سبحانه قد قضى الأمر، وجعل لأمة رسوله ولياً.. فمتى كان لكم الخيرة من أمركم حتى تختاروا زيداً أو عمراً، بعد أن قضى الله ورسوله أمراً !!

                  فالحجة عليكم تامةٌ من أبي، والآن مني، ونعم الموعدُ القيامة، والزعيمُ محمد صلى الله عليه وآله وعند الساعة يخسر المبطلون!


                  ***
                  لقد كان إعلان غدير خمٍّ عملاً ربانياً خالداً، بمنطق التبليغ والأعمال الرسولية.. وكانت الأعمال المقابلة له أعمالاً قويةً بمنطق الأعمال السياسية، وفرض الأمر الواقع.. والعمل السياسي قد يغلب العمل الرسولي.. ولكنها غلبةٌ سياسيةٌ جوفاء بلا حجة! ولو استمرت سنين، أو قروناً، أو الى ظهور المهدي الموعود عليه السلام.

                  تعليق


                  • #24
                    ..................................

                    .................................................. .

                    تعليق


                    • #25
                      المنطق النبوي حقق أهدافه وفضح قريشاً

                      نقلت المصادر السنية ندم الخليفة القرشي أبي بكر على إصداره أمراً بمهاجمة بيت علي وفاطمة عليهما السلام في اليوم الثاني أو الثالث لوفاة النبي صلى الله عليه وآله.
                      ـ ففي مجمع الزوائد: 5|202

                      عن عبدالرحمن بن عوف قال: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفي فيه، فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟

                      فاستوى جالساً فقال: أصبحت بحمد الله بارئاً، فقال: أما إني على ما ترى وجع وجعلتم لي شغلاً مع وجعي!

                      جعلت لكم عهداً من بعدي، واخترت لكم خيركم في نفسي، فكلكم ورم لذلك أنفه، رجاء أن يكون الأمر له!

                      ورأيت الدنيا أقبلت، ولما تقبل، وهي خائنة، وستنجدون بيوتكم بستور الحرير ونضائد الديباج، وتألمون النوم على الصوف الأذربي، كأن أحدكم على حسك السعدان (يقصد أنكم من ترفكم سترون السجاد الأذربيجاني خشناً لمنامكم مثل الشوك).

                      والله لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه في غير حد، خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا.

                      ثم قال: أما إني لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن.

                      فأما الثلاث التي وددت أني لم أفعلهن: فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته، وإن أغلق على الحرب.

                      ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة، قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين، أبي عبيدة أو عمر، وكان أمير المؤمنين وكنت وزيراً.

                      ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى أهل الردة، أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإلا كنت ردءاً ومدداً.

                      وأما الثلاث اللاتي وددت أني فعلتها: فوددت أني يوم أتيت بالأشعث أسيراً ضربت عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يكون شرٌّ إلا طار إليه.




                      ووددت أني يوم أتيت بالفجاءة السلمي، لم أكن أحرقته، وقتلته سريحاً أو أطلقته نجيحاً.

                      ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى الشام، وجهت عمر الى العراق فأكون قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله عز وجل.

                      وأما الثلاث اللاتي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن:

                      فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فلا ينازع أهله.

                      ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر سبب؟

                      ووددت أني سألته عن العمة وبنت الأخ، فإن في نفسي منهما حاجة. انتهى.

                      وغرضنا من النص بيان حالة الخليفة وأنه يقصد بقوله (وددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وإن أغلق على الحرب) أنه نادمٌ على مهاجمة البيت، حتى لو كان أهله يعدون العدة لحربه!

                      وخلاصة القصة: أن أبا بكر أرسل الى علي عليه السلام يطلب منه أن يبايعه، فامتنع علي عن بيعته، وأجابهم جواباً شديداً، اتهمهم فيه.

                      وبلغ أبا بكر أن عدداً من الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في بيت علي الذي كان يعرف ببيت فاطمة عليهما السلام، فأشار عليه عمر بأن يهاجموا البيت ويهددوهم بإحراقه عليهم، إن لم يخرجوا ويبايعوا!

                      وبالفعل هاجمت مجموعة بقيادة عمر بن الخطاب بيت الزهراء عليها السلام وحاصروه وجمَّعوا الحطب على باب داره، وهددوا علياً وفاطمة عليهما السلام والذين كانوا في البيت ـ ومنهم مؤيدون لموقف علي، ومنهم جاؤوا معزين بوفاة النبي صلى الله عليه وآله ـ هددوهم بأنهم إما أن يخرجوا ويبايعوا أبا بكر، أو يحرقوا عليهم الدار بمن فيه!

                      وبالفعل أشعلوا الحطب في باب الدار الخارجي !!

                      ولم يشأ علي عليه السلام أن يخرج اليهم بذي الفقار عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وآله، حيث كان أخبره بكل ما سيحدث، وأمره فيه بأوامره.. فخرجت اليهم فاطمة الزهراء عليها السلام




                      فأهانوها وضربوها، حتى أسقطت جنينها.. الى آخر تلك الأحداث المؤلمة لقلب كل مسلم..

                      في ذلك الظرف، قرر علي وفاطمة عليهما السلام أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعة العقبة، التي شرط عليهم النبي صلى الله عليه وآله فيها أن يحموه وأهل بيته وذريته، مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم، فبايعوه على ذلك!

                      وكانت فاطمة عليها السلام مريضة مما حدث لها في الهجوم على بيتها، فأركبها علي عليه السلام على دابة، وأخذا معهما أولادهما الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وجالوا على بيوت رؤساء الأنصار في تلك الليلة والتي بعدها، وكلمتهم فاطمة عليها السلام فكان قول أكثرهم: يا بنت رسول الله، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر، ما عدلنا بعلي أحداً! فقالت الزهراء عليها السلام:


                      وهل ترك أبي يوم غدير خمٍّ لأحدٍ عذراً !! (الخصال|173)

                      إن منطق الزهراء عليها السلام هو منطق أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله تماماً.. فهي بضعةٌ منه، وهي مطهرةٌ من منطق المثَّاقلين الى الأرض وتفكيرهم.. وكل تكوينها وتفكيرها ومشاعرها وتصرفاتها ربانية، ولذلك قال عنها أبوها (إن الله يرضى لرضا فاطمة، ويغضب لغضبها!) ذلك أنها ليس لها شخصيتان: واحدةٌ رسالية والأخرى شخصية، فتغلبُ هذه مرةً وهذه مرة، بل وجودها موحدٌ منسجمٌ دائماً.. فهي أَمَةُ هذا الرب العظيم لا غير، وتابعةُ هذا الرسول والأب الحبيب لا غير.. صلى الله عليه وآله.

                      وفاطمة الزهراء تعرف أنه سبحانه يتعامل مع الناس بإقامة الحجة عليهم في أصول الإسلام وتفاصيله، في أسس العقيدة وجزئيات الشريعة، وفيما يجب على الأمة في حياة نبيها، وبعد وفاته..

                      وقد أقام أبوها الحجة لربه كاملةً غير منقوصة، في جميع الأمور، ومن أعظمها حق زوجها علي، وولديها الحسن والحسين عليهم السلام الذين أعطاهم الله حق الولاية على الأمة بعد أبيها!




                      بهذا المنطق قالت الزهراء عليها السلام للأنصار: إن جوابكم لي جواب سياسي.. ومنطق الحجة الإلَهية أعلى من منطق اللعب السياسية، ومهيمنٌ عليه، ومتقدم عليه رتبةً، وفاضحٌ له.. فقد بلَّغَ أبي صلى الله عليه وآله عن ربه، وأخبركم أن المالك العظيم سبحانه قد قضى الأمر، وجعل لأمة رسوله ولياً.. فمتى كان لكم الخيرة من أمركم حتى تختاروا زيداً أو عمراً، بعد أن قضى الله ورسوله أمراً !!

                      فالحجة عليكم تامةٌ من أبي، والآن مني، ونعم الموعدُ القيامة، والزعيمُ محمد صلى الله عليه وآله وعند الساعة يخسر المبطلون!


                      ***
                      لقد كان إعلان غدير خمٍّ عملاً ربانياً خالداً، بمنطق التبليغ والأعمال الرسولية.. وكانت الأعمال المقابلة له أعمالاً قويةً بمنطق الأعمال السياسية، وفرض الأمر الواقع.. والعمل السياسي قد يغلب العمل الرسولي.. ولكنها غلبةٌ سياسيةٌ جوفاء بلا حجة! ولو استمرت سنين، أو قروناً، أو الى ظهور المهدي الموعود عليه السلام.

                      تعليق


                      • #26
                        آية إكمال الدين واللحوم المحرمة

                        أول ما يواجه الباحث في آية إكمال الدين غرابة مكانها في القرآن، فظاهر ما رواه المحدثون والمفسرون عنها، أنها نزلت في حجة الوداع آية مستقلة لا جزء آية.. ثم يجدها في القرآن جزءً من آية اللحوم المحرمة، وكأنها حشرت حشراً في وسطها، بحيث لو رفعنا آية إكمال الدين منها لما نقص من معناها شيء، بل لاتصل السياق !!




                        فما هي الحكمة من هذا السياق؟ وهل كان هذا موضعها الأصلي من القرآن، أم وضعت هنا باجتهاد بعض الصحابة ؟!

                        نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى، معاذ الله، لكن نتساءل عسى أن يعرف أحد الجواب: ما هو ربط آية إكمال الدين باللحوم المحرمة؟

                        ألا يحتمل أن تكون بالأساس في خاتمة سورة المائدة مثلاً، ولم يلتفت الى ذلك الذين جمعوا القرآن، فوضعوها هنا.

                        ثم.. قد يقبل الإنسان أن تكون الآية نزلت بعد آيات بيان أحكام اللحوم، ولكن كيف يمكن أن ينزلها الله تعالى في وسط أحكام اللحوم! فإذا قال الله تعالى: أكملت لكم دينكم، فقد تمت الأحكام، فكيف يقول بعدها مباشرة: فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإن الله غفور رحيم ؟! ثم يقول بعدها مباشرة: يسألونك ماذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات وما علمتم... الى آخر أحكام الدين الذي قال عنه أحكم الحكماء سبحانه قبل لحظات: إنه قد أكمله وأتمه؟ !!

                        ـ قال في الدر المنثور: 2|259:

                        وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم قال: هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حرامٌ ولا حلالٌ. انتهى.

                        ـ وقال في: 2|257

                        وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس.... فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله: اليوم أكملت لكم دينكم، يقول حلالكم وحرامكم، فلم ينزل بعد هذا حلالٌ ولا حرامٌ. انتهى.

                        والأحاديث والأقوال في عدم نزول أحكام بعد الآية كثيرة، وقد مر بعضها، ولا تحتاج الى استقصائها بعد أن كان ذلك يفهم من الآية نفسها.. ويؤيده ماذكره اللغويون في معنى الكمال والتمام



                        ـ قال الزبيدي في تاج العروس: 8|103:

                        (الكمال: التمام) وهما مترادفان كما وقع في الصحاح وغيره، وقد فرق بينهما بعض أرباب المعاني، وأوضحوا الكلام في قوله تعالى اليوم: أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، وبسطه في العناية، وأوسع الكلام فيه البهاء السبكي في عروس الأفراح. وقيل: التمام الذي تجزأ منه أجزاؤه كما سيأتي، وفيه ثلاث لغات (كمل كنصر وكرم وعلم) قال الجوهري والكسر أردؤها، وزاد ابن عباد: كمل يكمل مثل ضرب يضرب، نقله الصاغاني (كمالاً وكمولاً فهو كامل وكميل) جاؤوا به على كمل.

                        وقال في ص 212: (وتمام الشىَ وتمامته وتتمته ما يتم به) وقال الفارسي: تمام الشىَ ماتم به بالفتح لا غير يحكيه عن أبي زيد. وتتمة كل شيء ما يكون تمام غايته، كقولك هذه الدراهم تمام هذه المائة، وتتمة هذه المائة.

                        قال شيخنا: وقد سبق في كمل أن التمام والكمال مترادفان عند المصنف وغيره، وأن جماعة يفرقون بينهما بما أشرنا اليه. وزعم العيني أن بينهما فرقا ظاهراً ولم يفصح عنه.

                        وقال جماعة: التمام الإتيان بما نقص من الناقص، والكمال الزيادة على التمام، فلا يفهم السامع عربياً أو غيره من رجل تام الخلق إلا أنه لا نقص في أعضائه، ويفهم من كامل، وخصه بمعنى زائد على التمام كالحسن والفضل الذاتي أو العرضي. فالكمال تمامٌ وزيادة، فهو أخص.

                        وقد يطلق كل على الآخر تجوزاً، وعليه قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. كذا في كتاب التوكيد لابن أبي الإصبع.

                        وقيل التمام يستدعي سبق نقص، بخلاف الكمال. وقيل غير ذلك، مما حرره البهاء السبكي في عروس الأفراح، وابن الزملكاني في شرح التبيان، وغير واحد.



                        قلت وقال الحراني: الكمال: الإنتهاء الى غاية ليس وراءها مزيد من كل وجه. وقال ابن الكمال: كمال الشىَ: حصول ما فيه الغرض منه، فإذا قيل كمل فمعناه حصل ما هو الغرض منه. انتهى.

                        وبعد السؤال عن مكان الآية يواجهنا السؤال عن معناها، وسبب نزولها.. وفي ذلك ثلاثة أقوال:

                        تعليق


                        • #27
                          القول الأول

                          قول أهل البيت عليهم السلام أنها نزلت يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة في الجحفة، في رجوع النبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع، عندما أمره الله تعالى أن يوقف المسلمين في غدير خم، قبل أن تتشعب بهم الطرق، ويبلغهم ولاية علي عليه السلام من بعده، فأوقفهم وخطب فيهم وبلغهم ما أمره به ربه. وهذه نماذج من أحاديثهم:

                          فقد تقدم ما رواه الكليني في الكافي: 1|289

                          عن الإمام محمد الباقر عليه السلام وفيه (وقال أبو جعفر عليه السلام: وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، قال أبو جعفر عليه السلام: يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.

                          ـ وعن علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: كنت عنده جالساً فقال له رجل: حدثني عن ولاية علي، أمن الله أو من رسوله؟

                          فغضب ثم قال: ويحك كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخوف (لله) من أن يقول ما لم يأمره به الله !! بل افترضه الله، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.

                          ـ وفي الكافي: 1|198

                          أبو محمد القاسم بن العلاء رحمه الله رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا مع الرضا عليه السلام بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر


                          الامامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي عليه السلام فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسم عليه السلام ثم قال:

                          يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى الله عليه وآله حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً، فقال عز وجل: ما فرطنا في الكتاب من شيء، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره صلى الله عليه وآله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.

                          وأمر الامامة من تمام الدين، ولم يمض صلى الله عليه وآله حتى بين لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم علياً عليه السلام علماً وإماماً، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر به.

                          هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة، فيجوز فيها اختيارهم ؟!

                          إن الامامة أجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أويقيموا إماماً باختيارهم.

                          إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة، مرتبةً ثالثة، وفضيلة شرفه بها، وأشاد بها ذكره فقال: إني جاعلك للناس إماماً، فقال الخليل عليه السلام سروراً بها: ومن ذريتي؟ قال الله تبارك وتعالى: لا ينال عهدي الظالمين. فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم الى يوم القيامة، وصارت في الصفوة.

                          ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال: ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاًّ جعلنا صالحين. وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين.

                          فلم تزل في ذريته، يرثها بعض عن بعض، قرناً فقرناً، حتى ورثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله فقال جل وتعالى: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين، فكانت له خاصة فقلدها صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الاَصفياء الذين آتاهم الله العلم والاِيمان، بقوله تعالى: قال الذين أوتوا العلم والاِيمان لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث، فهي في ولد علي عليه السلام خاصة الى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله.

                          فمن أين يختار هؤلاء الجهال!. انتهى.

                          تعليق


                          • #28
                            القول الثاني

                            قول المفسرين السنيين الموافق لقول أهل البيت عليهم السلام:

                            وأحاديثهم في بيعة الغدير تبلغ المئات، وفيها صحاح من الدرجة الاَولى عندهم وقد جمعها عددٌ من علمائهم القدماء منهم الطبري المؤرخ في كتابه (الولاية) فبلغت طرقها ونصوصها عنده مجلدين، وتنص رواياتها على أن النبي صلى الله عليه وآله أصعد علياً معه على المنبر، ورفع يده حتى بان بياض إبطيهما، وبلغ الاَمة ما أمره الله فيه... الخ. وقد انتقد الطبري بعض المتعصبين السنيين لتأليفه هذه الكتاب في أحاديث الغدير، التي يحتج بها الشيعة عليهم، ويجادلوهم بها عند ربهم!

                            وتنص بعض روايات الغدير عندهم على أن آية إكمال الدين نزلت في الجحفة يوم الغدير بعد إبلاغ النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام.

                            لكن ينبغي الاِلتفات الى أن أكثر السنيين الذين صحت عندهم روايات الغدير، لم يقبلوا الاَحاديث القائلة بأن آية إكمال الدين نزلت يوم الغدير، بل أخذوا بقول الخليفة عمر ومعاوية، أنها نزلت يوم عرفة، كما سيأتي.

                            وقد جمع أحاديث بيعة الغدير عدد من علماء الشيعة القدماء والمتأخرين، ومن أشهر المتأخرين النقوي الهندي في كتاب عبقات الاَنوار، والشيخ الاَميني في كتاب الغدير، والسيد المرعشي في كتاب شرح إحقاق الحق، والسيد الميلاني في كتاب نفحات الاَزهار.


                            وقد أورد صاحب الغدير عدداً من الروايات من مصادر السنيين، ذكرت أن آية إكمال الدين نزلت في يوم الغدير، بعد إعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام..

                            ـ وهذه خلاصة ما ذكره في الغدير: 1|230:

                            ومن الآيات النازلة يوم الغدير في أميرالمؤمنين عليه السلام قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا.... ثم ذكر الاَميني رحمه الله عدداً من المصادر التي روتها، نذكر منها:

                            1 ـ الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 روى في كتاب الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم نزول الآية الكريمة يوم غدير خم في أمير المؤمنين عليه السلام...

                            2 ـ الحافظ ابن مردوية الاَصفهاني المتوفى 410، روى من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري... ثم رواه عن أبي هريرة...

                            3 ـ الحافظ أبو نعيم الاِصبهاني المتوفى 430، روى في كتابه (ما نزل من القرآن في علي)... عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس الى علي في غدير خم، أمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمَّ، وذلك يوم الخميس فدعا علياً فأخذ بضبعيه فرفعهما، حتى نظر الناس الى بياض إبطي رسول الله، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم.. الآية.. الخ.

                            4 ـ الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي المتوفى 463، روى في تاريخه 8|290... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم... قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخٍ بخٍ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، فأنزل الله: اليوم أكملت لكم دينكم.. الآية.

                            5 ـ الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى 477، في كتاب الولاية بإسناده عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي، عن قيس بن الربيع، عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري...

                            6 ـ أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي المتوفى 483، روى في مناقبه عن أبي بكر
                            أحمد بن محمد بن طاوان قال: أخبرنا أبوالحسين أحمد بن الحسين بن السماك قال: حدثني أبومحمد جعفر بن محمد بن نصير الخلدي، حدثني علي بن سعيد بن قتيبة الرملي، قال:.. عن أبي هريرة....

                            7 ـ الحافظ أبو القاسم الحاكم الحسكاني.... عن أبي سعيد الخدري: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم، قال: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي.

                            8 ـ الحافظ أبو القاسم بن عساكر الشافعي الدمشقي المتوفى 571، روى الحديث المذكور بطريق ابن مردوية، عن أبي سعيد وأبي هريرة، كما في الدر المنثور 2| 259.

                            9 ـ أخطب الخطباء الخوارزمي المتوفى 568، قال في المناقب|80.... عن أبي سعيد الخدري إنه قال: إن النبي صلى الله عليه وآله يوم دعا الناس إلي غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ، وذلك يوم الخميس ثم دعا الناس الى علي، فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس الى إبطيه، حتى نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم.. الآية...

                            وروى في المناقب|94.... عن ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر الوارق. الى آخر ما مر عن الخطيب البغدادي سندآ ومتناً.

                            10 ـ أبو الفتح النطنزي روى في كتابه الخصايص العلوية، عن أبي سعيد الخدري بلفظ مر|43، وعن الخدري وجابر الاَنصاري...

                            11 ـ أبو حامد سعد الدين الصالحاني، قال شهاب الدين أحمد في توضيح الدلايل على ترجيح الفضايل: وبالاِسناد المذكور عن مجاهد رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم، بغدير خم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي. رواه الصالحاني.


                            12 ـ شيخ الاِسلام الحمويني الحنفي المتوفى 722، روى في فرايد السمطين في الباب الثاني عشر، قال: أنبأني الشيخ تاج الدين... الخ. انتهى.

                            تعليق


                            • #29
                              القول الثالث

                              قول الخليفة عمر بأنها نزلت في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة، وهذا هو القول المشهور عند السنيين فقد رواه البخارى في صحيحه: 1|16

                              عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا !! قال أي آية؟ قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذى نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائمٌ بعرفة، يوم جمعة.

                              ـ وفي البخاري 5|127

                              عن طارق بن شهاب إن أناساً من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال عمر: أية آيةٍ؟

                              فقالوا: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا.

                              فقال عمر: إني لا علم أي مكان أنزلت، أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة...

                              عن طارق بن شهاب: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً!

                              فقال عمر: إني لاَعلم حيث أنزلت وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت. يوم عرفة وأنا والله بعرفة ـ قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة، أم لا ـ اليوم أكملت لكم دينكم.




                              وفي البخاري: 8|137:

                              عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين لو أن علينا نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا.. لاتخذنا ذلك اليوم عيداً!

                              فقال عمر: إني لاعلم أي يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة. سمع سفيان من مسعر، ومسعر قيساً، وقيس طارقاً. انتهى.

                              وقد روت عامة مصادر السنيين رواية البخاري هذه ونحوها بطرقٍ متعددة، وأخذ بها أكثر علمائهم، ولم يديروا بالاً لتشكيك بعضهم في أن يكون يوم عرفة في حجة الوداع يوم جمعة، مثل سفيان الثوري والنسائي! ولا لرواياتهم المؤيدة لرأي أهل البيت عليهم السلام، التي تقدمت.. وذلك بسبب أن الخليفة عمر قال إنها لم تنزل يوم الغدير بل نزلت في عرفات قبل الغدير بتسعة أيام، وقوله مقدم عندهم على كل اعتبار.

                              ـ قال السيوطي في الاِتقان 1|75 عن الآيات التي نزلت في السفر:

                              منها: اليوم أكملت لكم دينكم. في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وله طرقٌ كثيرة.

                              لكن أخرج ابن مردوية عن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت يوم غدير خم.

                              وأخرج مثله من حديث أبي هريرة وفيه: أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع. وكلاهما لا يصح. انتهى.

                              وقال في الدر المنثور: 2|259

                              أخرج ابن مردوية، وابن عساكر بسند ضعيف، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم، فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم.

                              وأخرج ابن مردوية، والخطيب، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: لما كان غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله: اليوم أكملت لكم دينكم. انتهى.




                              وموقف السيوطي هو الموقف العام للعلماء السنيين.. ولكنه لا يعني أنهم يضعفون حديث الغدير كما تقدم، بل يقولون إن حديث الغدير صحيحٌ، ولكن الآية نزلت قبل ذلك اليوم، تمسكاً بقول الخليفة عمر الذي روته صحاحهم، حتى لو خالفه حديثٌ صحيحٌ، وحتى لو خالفه الحساب والتاريخ!

                              ومن المتعصبين لرأي عمر المذكور: ابن كثير، وهذه خلاصة من تفسيره: 2|14:

                              قال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً، رواهما ابن جرير.

                              ثم ذكر ابن كثير رواية مسلم وأحمد والنسائي والترمذي المتقدمة وقال:

                              قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا: اليوم أكملت لكم دينكم الآية.

                              وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورُّعٌ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله فإن هذا أمر معلومٌ مقطوعٌ به، لم يختلف فيه أحدٌ من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة، لا يشك في صحتها، والله أعلم. وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر.

                              وقال ابن جرير... عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب قال: قال كعب لو أن غير هذه الاَمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه !!

                              فقال عمر: أي آيةٍ يا كعب؟

                              فقال: اليوم أكملت لكم دينكم.

                              فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ....(ورواه في مختصر تاريخ دمشق 2 جزء 4|309)




                              وقال ابن جرير:....حدثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة...

                              وقال ابن جرير: وقد قيل ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند الناس !!

                              ثم روى من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم يقول ليس بيومٍ معلومٍ عند الناس. قال: وقد قيل إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره (الى) حجة الوداع.

                              ثم قال ابن كثير:

                              قلت: وقد روى ابن مردوية من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم، حين قال لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه. ثم رواه عن أبي هريرة، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع.

                              ولا يصح لا هذا ولا هذا، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية، أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأول ملوك الاِسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنه، وأرسله الشعبي، وقتادة بن دعامة، وشهر بن حوشب، وغير واحد من الاَئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله. انتهى.

                              وتلاحظ أن ابن كثير لا يريد الاِعتراف بوجود تشكيكٍ في أن يوم عرفة كان يوم جمعة، لاَن ذلك يخالف قول عمر، وقد صعب عليه تشكيك سفيان الثوري الصريح فالتفَّ عليه ليخربه !!

                              ومما يدل على أن الرواة كانوا في شكٍّ من أن يوم عرفات كن يوم جمعة ما رواه الطبري في تفسيره: 4|111 مما لم يذكره ابن كثير قال:




                              حدثنا ابن المثنى قال: ثنا عبد الوهاب قال: ثنا داود قال قلت لعامر: إن اليهود تقول: كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه ؟!

                              فقال عامر: أو ما حفظته؟

                              قلت له: فأي يوم؟

                              قال: يوم عرفة أنزل الله في يوم عرفة !!

                              وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية، أعني قوله: اليوم أكملت لكم دينكم يوم الاِثنين، وقالوا: أنزلت سورة المائدة بالمدينة.

                              ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: ثنا إسحاق قال: أخبرنا محمد بن حرب قال: ثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش عن ابن عباس: ولد نبيكم صلى الله عليه وآله يوم الاِثنين، وخرج من مكة يوم الاِثنين، ودخل المدينة يوم الاِثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم، ورفع الذكر يوم الاِثنين.

                              ثم قال الطبري: وأولى الاَقوال في وقت نزول الآية القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده وهي أسانيد غيره. انتهى.

                              تعليق


                              • #30
                                الموقف العلمي في سبب نزول الآية

                                بإمكان الباحث أن يفتش عن الحقيقة في سبب نزول الآية في أحاديث حجة الوداع، لاَن هذا الوداع الرسولي المهيب قد تم بإعلانٍ ربانيٍّ مسبق، وإعدادٍ نبوي واسع.. وقد حضره مابين سبعين ألفاً الى مئة وعشرين ألفاً من المسلمين، ونقلوا العديد من من أحداث حجة الوداع، وأقوال النبي صلى الله عليه وآله وأفعاله فيها، بشىٍَ من التفصيل، ورووا أنه خطب في أثنائها خمس خطب أو أكثر.. وسجلوا يوم حركته من المدينة، والاَماكن التي مر عليها أو توقف فيها، ومتى دخل مكة، ومتى وكيف أدى المناسك.. ثم رووا حركة رجوعه وما صادفه فيها.. الى أن دخل الى المدينة المنورة وعاش فيها نحو شهرين بقية عمره الشريف صلى الله عليه وآله.




                                وعلى هذا، فإن عنصر التوقيت والتاريخ حاسمٌ في المسألة، وهو الذي يجب أن يكون مرجحاً للرأي الصحيح من الرأيين المتعارضين.

                                وعنصر التوقيت هنا يرجح قول أهل البيت عليهم السلام والروايات السنية الموافقة لهم، مضافاً الى المرجحات الاَخرى المنطقية، التي تنضم اليه كما يلي:


                                أولاً:

                                أن التعارض هنا ليس بين حديثين أحدهما أصح سنداً وأكثر طرقاً كما توهموا.. بل هو تعارض بين حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وبين قولٍ للخليفة عمر.

                                فإن الاَحاديث التي ضعفوها هي أحاديث نبوية مسندة، بينما أحاديث البخاري وغيره هي قول لعمر، لم يسنده الى النبي صلى الله عليه وآله!

                                فالباحث السني لا يكفيه أن يستدل بقول عمر في سبب نزول القرآن، ويردَّ به الحديث النبوي المتضمن سبب النزول، بل لا بد له أن يبحث في سند الحديث ونصه، فإن صح عنده فعليه أن يأخذ به ويترك قول عمر.. وإن لم يصح رجع الى أقوال الصحابة المتعارضة، وجمع بين الموثوق منها أِن أمكن الجمع، وإلا رجح بعضها وأخذ به، وترك الباقي.. ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع الاَسف!


                                ثانياً:

                                لو تنزلنا وقلنا إن أحاديث أهل البيت عليهم السلام في سبب نزول الآية والاَحاديث السنية المؤيدة لها ليست أكثر من رأي لاَهل البيت ومن أيدهم في ذلك، وأن التعارض يصير بين قولين لصحابيين في سبب النزول، أو بين قول صحابي وقول بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام.

                                فنقول: إن النبي صلى الله عليه وآله أوصى أمته بأخذ الدين من أهل بيته عليهم السلام ولم يوصها بأخذه من أصحابه.. وذلك في حديث الثقلين الصحيح المتواتر عند الجميع، وهو كما في مسند أحمد: 3|14: عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تاركٌ فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء الى الاَرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. انتهى.




                                ورواه أيضاً في: 3|17 ـ 26 و59، و: 4|366، و371، والدارمي: 2|431، ومسلم 7|122، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين وغيرهما في: 3|109 و 148، والبيهقي في سننه: 2|148، وغيرهم.

                                وهذا الحديث الصحيح بدرجة عالية يدل على حصر مصدر الدين بعد النبي صلى الله عليه وآله بأهل بيته صلى الله عليه وعليهم، أو يدل على الاَقل على ترجيح قولهم عند تعارضه مع قول غيرهم!


                                ثالثاً:

                                أن الرواية عن الخليفة عمر نفسه متعارضة، وتعارضها يوجب التوقف في الاَخذ بها، فقد رووا عنه أن يوم عرفة في حجة الوداع كان يوم خميس، وليس يوم جمعة. قال النسائي في سننه: 5|251:

                                أخبرنا إسحق بن إبراهيم قال: أنبأنا عبدالله بن إدريس، عن أبيه، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قال يهودي لعمر: لو علينا نزلت هذه الآية لاتخذناه عيداً: اليوم أكملت لكم دينكم.

                                قال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والليلة التي أنزلت، ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات!

                                والطريف أن النسائي روى عن عمر في: 8|114، أنها نزلت في عرفات في يوم جمعة!


                                رابعاً:

                                تقدم قول البخاري في روايته أن سفيان الثوري وهو من أئمة الحديث والعقيدة عندهم، لم يوافق على أن يوم عرفة كان يوم جمعة (قال سفيان وأشك كان يوم الجمعة أم لا..) وهناك عددٌ من الروايات تؤيد شك سفيان، بل يظهر أن سفياناً كان قاطعاً بأن يوم عرفة في حجة الوداع لم يكن يوم جمعة، وإنما قال (أشك) مداراةً لجماعة عمر، الذين رتبوا كل الروايات لاَحداث حجة الوداع، بل وأحداث التاريخ الاِسلامي كلها.. على أساس أن يوم عرفات كان يوم جمعة، كما ستعرف.


                                خامساً:

                                أن عيد المسلمين هو يوم الاَضحى، وليس يوم عرفة، ولم أجد روايةً

                                تدل على أن يوم عرفة عيدٌ شرعي، فالقول بذلك مما تفرد به الخليفة عمر، ولم يوافقه عليه أحدٌ من المسلمين! وهو عند السلفيين يدخل في باب البدعة!

                                أما إذا أخذنا برواية النسائي القائلة إن عرفة كان يوم خميس، وأن الآية نزلت ليلة عرفة.. فلا يبقى عيدٌ حتى يصطدم به العيد النازل من السماء، ولا يحتاج الاَمر الى قانون إدغام الاَعياد الاِلَهية المتصادمة، كما ادعى الخليفة!.

                                فيكون معنى جواب الخليفة على هذه الرواية أن يوم نزول آية إكمال الدين يستحق أن يكون عيداً، ولكن آيته نزلت قبل العيد بيومين، فلم نتخذ يومها عيداً!

                                وهذا كلام متهافت!


                                سادساً:

                                أن قول عمر يناقض ما رووه عن عمر نفسه بسندٍ صحيحٍ أيضاً.. فقد فهم هذا اليهودي من الآية أن الله تعالى قد أكمل تنزيل الاِسلام وختمه في يوم نزول الآية، وقبل عمر منه هذا التفسير.. فلا بد أن يكون نزولها بعد نزول جميع الفرائض، فيصح على رأيه ما قاله أهل البيت عليهم السلام وما قاله السدي وابن عباس وغيرهما من أنه لم تنزل بعدها فريضةٌ ولا حكم.

                                مع أن الخليفة عمر قال إن آية إكمال الدين نزلت قبل آيات الكلالة، وأحكام الاِرث، وغيرها، كما تقدم.. فوجب على مذهبه أن يقول لليهودي: ليس معنى الآية كما ظننت، بل كان بقي من الدين عدة أحكامٍ وشرائع نزلت بعدها، وذلك اليوم هو الجدير بأن يكون عيداً!

                                وعندما تتعارض الروايات عن شخصٍ واحد وتتناقض، فلا بد من التوقف فيها جميعاً، وتجميد كل روايات عمر في آخر ما نزل من القرآن، وفي وقت نزول آية إكمال الدين!

                                ومن جهة أخرى، فقد أقر الخليفة أن (اليوم) في الآية هو اليوم المعين الذي نزلت فيه، وليس وقتاً مجملاً ولا يوماً مضى قبل سنة كفتح مكة، أو يأتي بعد شهور


                                مثلاً. فهو يستوجب رد قول الطبري الذي تعمد اختياره ليوافق عمر، ويستوجب رد كل الروايات التي تريد تعويم كلمة (اليوم) في الآية، أو تريد جعله يوم فتح مكة.

                                قال القرطبي في تفسيره: 1|143

                                وقد يطلق اليوم على الساعة منه قال الله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم.

                                وقال في: 2|61

                                واليوم قد يعبر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه تقول: فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة، وذلك مستعملٌ في لسان العرب والعجم.


                                سابعاً:

                                أن جواب الخليفة لليهودي غير مقنعٍ لا لليهودي ولا للمسلم!

                                فإن كان يقصد الاِعتذار بأن نزولها صادف يوم عيد، ولذلك لم نتخذ يومها عيداً!

                                فيمكن لليهودي أن يجيبه: لماذا خرَّب عليكم ربكم هذا العيد وأنزله في ذلك اليوم ؟!

                                وإن كان يقصد إدغام عيد إكمال الدين بعيد عرفة، حتى صار جزءً منه!

                                فمن حق سائلٍ أن يسأل: هذا يعني أنكم جعلتم يوم نزولها نصف عيد، مشتركاً مع عرفة.. فأين هذا العيد الذي لا يوجد له أثر عندكم، إلا عند الشيعة ؟!

                                وإن كان يقصد أن هذا اليوم الشريف والعيد العظيم، قد صادف يوم جمعة ويوم عرفة، فأدغم فيهما وذاب، أو أكلاه وانتهى الاَمر!

                                فكيف أنزل الله تعالى هذا العيد على عيدين، وهو يعلم أنهما سيأكلانه!

                                فهل تعمد الله تعالى تذويب هذا العيد، أم أنه نسي والعياذ بالله فأنزل عيداً في يوم عيد، فتدارك المسلمون الاَمر بقرار الدمج والاِدغام، أو التنصيف !!

                                ثم من الذي اتخذ قرار الاِدغام؟ ومن الذي يحق له أن يدغم عيداً إلهياً في عيد آخر، أو يطعم عيداً ربانياً لعيد آخر!




                                ومابال الاَمة الاِسلامية لم يكن عندها خبر من حادثة اصطدام الاَعياد الربانية في عرفات، حتى جاء هذا اليهودي في خلافة عمر ونبههم! فأخبره الخليفة عمر بأنه يوافقه على كل ما يقوله، وأخبره وأخبر المسلمين بقصة تصادم الاَعياد الاِلَهية في عرفات! وأن الحكم الشرعي في هذا التصادم هو الاِدغام لمصلحة العيد السابق، أو إطعام العيد اللاحق للسابق!

                                وهل هذه الاَحكام للاَعياد أحكامٌ إسلامية ربانية، أم استحسانية شبيهاً بقانون تصادم السيارات، أو قانون تصادم الاَعياد الوطنية والدينية ؟! !

                                إن المشكلة التي طرحها اليهودي، ما زالت قائمة عند الخليفة وأتباعه، لاَن الخليفة لم يقدم لها حلاً.. وكل الذي قدمه أنه اعترف بها وأقرها، ثم رتب عليها أحكاماً لا يمكن قبولها، ولم يقل إنه سمعها من النبي! صلى الله عليه وآله

                                . فقد اعترف خليفة المسلمين بأن يوم نزول الآية يوم عظيمٌ ومهمٌ بالنسبة الى المسلمين، لاَنه يوم مصيري وتاريخي أكمل الله فيه تنزيل الاِسلام، وأتمَّ فيه النعمة على أمته، ورضيه لهم ديناً يدينونه به، ويسيرون عليه، ويدعون الاَمم اليه.

                                وأن هذا اليوم العظيم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للاَمة الاِسلامية تحتفل فيه وتجتمع فيه، في صف أعيادها الشرعية الثلاث: الفطر والاَضحى والجمعة، وأنه لو كان عند أمة أخرى يوم مثله، لاَعلنته عيداً ربانياً، وكان من حقها ذلك شرعاً..

                                لقد وافق الخليفة محاوره اليهودي على كل هذا، وبذلك يكون عيد إكمال الدين في فقه إخواننا عيداً شرعياً سنوياً، يضاف الى عيدي الفطر والاَضحى السنويين وعيد الجمعة الاَسبوعي.

                                إن الناظر في المسألة يلمس أن الخليفة عمر وقع في ورطة (آية علي بن أبي طالب) من ناحيتين: فهو من ناحية ناقض نفسه في آخر مانزل من القرآن.. ومن ناحية فتح على نفسه المطالبة بعيد الآية الى يوم القيامة !! وصار من حق المسلم أن يسأل أتباع عمر من الفقهاء عن هذا العيد الذي لا يرى له عيناً ولا أثراً ولا اسماً في تاريخ المسلمين، ولا في حياتهم، ولا في مصادرهم.. إلا.. عند الشيعة!




                                ثم.. إن الاَعياد الاِسلامية توقيفية، فلا يجوز لاَحد أن يشرع عيداً من نفسه.. وحجة الشيعة في جعل يوم الغدير عيداً، أن أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله أن يوم الآية أي يوم الغدير عيدٌ شرعي، وأن جبرئيل أخبره بأن الاَنبياء عليهم السلام كانوا يأمرون أممهم أن تتخذ يوم نصب الوصي عيداً.

                                فماهي حجة الخليفة في تأييد كلام اليهودي، وموافقته له بأن ذلك اليوم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة الاِسلامية! ثم أخذ يعتذر له بأن مصادفة نزولها في عيدين أوجبت عدم إفراد المسلمين ليومها بعيد.. الخ.

                                فإن كان الخليفة حكم من عند نفسه بأن يوم الآية يستحق أن يكون عيداً، فهو تشريع وبدعة، وإن كان سمعه من النبي صلى الله عليه وآله، فلماذا لم يذكره، ولم يرو أحدٌ من المسلمين شيئاً عن عيد الآية، إلا ما رواه الشيعة ؟!


                                ثامناً:

                                لو كان يوم عرفة يوم جمعة كما قال عمر في بعض أقواله، لصلى النبي صلى الله عليه وآله بالمسلمين صلاة الجمعة، مع أن أحداً لم يرو أنه صلى الجمعة في عرفات، بل روى النسائي وغيره أنه قد صلى الظهر والعصر!

                                والظاهر أن النسائي يوافق سفيان الثوري ولا يوافق عمر، فقد جعل في سننه: 1| 290 عنواناً باسم (الجمع بين الظهر والعصر بعرفة).

                                وروى فيه عن جابر بن عبد الله قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له، حتى إذا انتهى الى بطن الوادي خطب الناس، ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً !! انتهى.

                                ـ وكذلك روى أبو داود في سننه: 1|429

                                عن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منزل الاِمام الذي ينزل بعرفة،
                                الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة. انتهى.

                                وأما الجواب بأن الجمعة تسقط في السفر، فهو أمر مختلفٌ عندهم فيه، ولو صح أن يوم عرفة كان يوم جمعة ولم يصل النبي صلى الله عليه وآله صلاة الجمعة، لذكر ذلك مئات المسلمين الذين كانوا في حجة الوداع!

                                وقد تمحل ابن حزم في الجواب عن ذلك فقال في المحلى: 7|272:

                                مسألة: وإن وافق الاِمام يوم عرفة يوم جمعةٍ جهرِ وهي صلاة جمعة! ويصلي الجمعة أيضاً بمنى وبمكة، لاَن النص لم يأت بالنهي عن ذلك، وقال تعالى: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع، فلم يخص الله تعالى بذلك غير يوم عرفة ومنى.

                                وروينا... عن عطاء بن أبي رباح قال: إذا وافق يوم جمعة يوم عرفة، جهر الاِمام بالقراءة... فإن ذكروا خبراً رويناه... عن الحسن بن مسلم قال: وافق يوم التروية يوم الجمعة وحجة النبي عليه السلام فقال: من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل، فصلى الظهر بمنى ولم يخطب... فهذا خبرٌ موضوعٌ فيه كل بلية: ابراهيم بن أبي يحيى مذكور بالكذب متروك من الكل، ثم هو مرسل، وفيه عن ابن الزبير، مع ابن أبي يحيى الحجاج بن أرطاة، وهو ساقط، ثم الكذب فيه ظاهر، لاَن يوم التروية في حجة النبي عليه السلام إنما كان يوم الخميس، وكان يوم عرفة يوم الجمعة، روينا ذلك من طريق البخارى...

                                فإن قيل: إن الآثار كلها إنما فيها جمع رسول الله عليه السلام بعرفة بين الظهر والعصر؟

                                قلنا: نعم وصلاة الجمعة هي صلاة الظهر نفسها! وليس في شيَ من الآثار أنه عليه السلام لم يجهر فيها، والجهر أيضاً ليس فرضاً، وإنما يفترق الحكم في أن ظهر يوم الجمعة في الحضر والسفر للجماعة ركعتان. انتهى.




                                وجواب ابن حزم: أنه صادر على المطلوب، لاَنه رد الرواية لمجرد مخالفتها لقول عمر بأن يوم عرفة لم يكن يوم جمعة!

                                فلماذا لم يرد قول عمر بقوله الثاني بأن عرفة كانت يوم خميس، وروايته صحيحة؟

                                أو بقول النسائي والثوري، والاَقوال العديدة التي ذكرها الطبري وغيره؟

                                ولو صح ماقاله من أن النبي صلى الله عليه وآله اعتبر ركعتي الظهر في عرفة صلاة جمعة لاَنه جهر فيهما، لاشتهر بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله جهر في صلاة الظهر التي لا يجهر بها لتصبح (أتوماتيكياً) صلاة جمعة!

                                بل إن الرواية التي كذبها وهاجمها بسبب مخالفتها لرواية عمر تنص على أنه صلى الله عليه وآله صلى الجمعة في منى، وهي أقرب الى حساب سفره صلى الله عليه وآله من المدينة الذي كان يوم الخميس لاَربع بقين من ذي القعدة، ووصوله الى مكة يوم الخميس لاَربع مضين من ذي الحجة، وأن أول ذي الحجة كان يوم الاِثنين، فيوم عرفة يوم الثلاثاء، وعيد الاَضحى الاَربعاء، ويوم الجمعة كان ثاني عشر ذي الحجة كما سيأتي.. فيكون قول الراوي إن الجمعة كانت في منى قولاً صحيحاً، ولكنه اشتبه وحسبها قبل موقف عرفات، مع أنها كانت بعده!


                                تاسعاً:

                                إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة، تعارضه رواياتهم التي تقول إنه صلى الله عليه وآله عاش بعد نزول الآية إحدى وثمانين ليلةً أو ثمانين!

                                فقد ثبت عندهم أن وفاة النبي صلى الله عليه وآله في اليوم الثاني عشر من ربيع الاَول ومن 9 ذي الحجة الى 12 ربيع الاَول أكثر من تسعين يوماً.. فلا بد لهم إما أن يأخذوا برواية وفاته قبل ذلك فيوافقونا على أنها في 28 من صفر، أو يوافقونا على نزول الآية في يوم الغدير 18 ذي الحجة.

                                ـ قال السيوطي في الدر المنثور: 2|59

                                وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم. انتهى.

                                ـ وذكر نحوه في: 2|257 عن البيهقي في شعب الاِيمان.




                                ـ وقال ابن حجر في تلخيص الحبير بهامش مجموع النووي: 7|3

                                وروى أبو عبيد، عن حجاج، عن ابن جريح أنه صلى الله عليه وسلم لم يبق بعد نزول قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم إلا إحدى وثمانين ليلة. ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم 12984، ورواه الطبري في تفسيره: 4|106 عن ابن جريح قال: حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج عن ابن جريج قال: مكث النبي صلى الله عليه وآله بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم.

                                ـ وقال القرطبي في تفسيره: 20|223:

                                وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزلت: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً. ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم. فعاش بعدها خمسه وثلاثين يوماً. ثم نزل واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا. انتهى.

                                ورواية ابن عمر تؤيد قول أبيه بنزول آية الكلالة بعد آية إكمال الدين، ولكنه نسي آية الربا التي قال أبوه أيضاً إنها آخر آية، ومن ناحية أخرى خالف أباه في أن آية إكمال الدين نزلت في عرفة، وقال إنها نزلت بعد سورة النصر بمنى، يعني بعد انتهاء حجة الوداع وسفر النبي صلى الله عليه وآله، واقترب من القول بنزولها في الغدير !!

                                ـ وقال الاَميني في الغدير: 1|230

                                وهو الذي يساعده الاِعتبار ويؤكده النقل الثابت في تفسير الرازي: 3|529 عن أصحاب الآثار: إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً، أو اثنين وثمانين، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي: 3|523، وذكر المؤرخون منهم أن وفاته صلى الله عليه وآله في الثاني عشر من ربيع الاَول، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاِثنين وثمانين يوماً، بعد إخراج يومي الغدير والوفاة..




                                وعلى أي فهو أقرب الى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة، كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما لزيادة الاَيام حينئذ. انتهى.

                                كما تعارض قول عمر بأن يوم عرفات كان يوم جمعة، رواياتهم التي تنص على أن الآية نزلت يوم الاِثنين.. ففي دلائل البيهقي: 7|233: عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وآله يوم الاِثنين، ونبىَ يوم الاِثنين، وخرج من مكة يوم الاِثنين، وفتح مكة يوم الاِثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم وتوفي يوم الاِثنين.

                                ـ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1|196

                                رواه أحمد والطبراني في الكبير وزاد فيه: وفتح بدراً يوم الاِثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح. انتهى.

                                وللحديث طرقٌ ليس فيها ابن لهيعة.. ولكن علته الحقيقية عندهم مخالفته لما قاله الخليفة عمر، كما صرح به السيوطي وابن كثير! فقد قال ابن كثير في سيرته: 1| 198: تفرد به أحمد، ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة، وزاد: نزلت سورة المائدة يوم الاِثنين: اليوم أكملت لكم دينكم، وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به، وزاد أيضاً: وكانت وقعة بدر يوم الاِثنين. وممن قال هذا يزيد بن حبيب. وهذا منكرٌ جداً!! قال ابن عساكر: والمحفوظ أن بدراً ونزول: اليوم أكملت لكم دينكم يوم الجمعة وصدق ابن عساكر. انتهى.

                                وقد تقدم أن علة نكارته عند ابن كثير أنه مخالف لقول عمر، وقول معاوية! وقد كان ابن عساكر أكثر اتزاناً منه حيث لم يصف الخبر بالضعف أو النكارة، بل قال إنه مخالفٌ للمحفوظ، أي المشهور عندهم، وهو قول عمر.

                                وينبغي الاِلفات الى أن الاِشكال عليهم بأحاديث نزول الآية في يوم الاِثنين إنما هو إلزامٌ لهم بما التزموا به، وإلا فنحن لا نقبل أنه صلى الله عليه وآله لم يبق بعد الآية إلا ثمانين يوماً


                                لاَن المعتمد عندنا أن الآية نزلت يوم الثامن عشر من ذي الحجة، وأن وفاته صلى الله عليه وآله كانت في يوم الثامن والعشرين من صفر، فتكون الفاصلة بنحو سبعين يوماً.

                                وقد ثبت عندنا أن الآية نزلت يوم الخميس، وفي رواية يوم الجمعة، كما ثبت عندنا أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله كانت يوم الاِثنين، وأن علياً عليه السلام صلى معه يوم الثلاثاء، وأن وفاته صلى الله عليه وآله كانت في يوم الاِثنين أيضاً، وقد تكون سورة المائدة نزلت يوم الاِثنين أي أكثرها، ثم نزلت بقيتها بعد ذلك، ومنها آية التبليغ، وآية إكمال الدين.


                                عاشراً:

                                إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة، تعارضه الروايات التي سجلت يوم حركة النبي صلى الله عليه وآله من المدينة، وأنه كان يوم الخميس لاَربعٍ بقين من ذي القعدة. وهو الرواية المشهورة عن أهل البيت عليهم السلام، وهي منسجمةٌ مع تاريخ نزول الآية في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة.

                                وذلك، لاَن سفر النبي صلى الله عليه وآله كان في يوم الخميس، أي في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة، لاَربع بقين من ذي القعدة هي: الخميس والجمعة والسبت والاَحد.. ويكون أول ذي الحجة يوم الاِثنين، ووصول النبي صلى الله عليه وآله الى مكة عصر الخميس الرابع من ذي الحجة في سلخ الرابع، كما في رواية الكافي: 4|245، ويكون يوم عرفة يوم الثلاثاء، ويوم الغدير يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة. وهذه نماذج من روايات أهل البيت عليهم السلام في ذلك:

                                ـ ففي وسائل الشيعة: 9|318

                                محمد بن إدريس في (آخر السرائر) نقلاً من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله لاَربعٍ بقين من ذي القعدة، ودخل مكة لاَربعٍ مضيْن من ذي الحجة، دخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين، وخرج من أسفلها.

                                ـ وفي الكافي: 4|245

                                عن أبي عبد الله عليه السلام قال: حج رسول الله صلى الله عليه وآله عشرين حجة... إن رسول الله صلى الله عليه وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج، ثم أنزل الله عز وجل عليه: وأذن في الناس بالحج

                                يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق، فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله يحج في عامه هذا، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والاَعراب، واجتمعوا لحج رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه، أو يصنع شيئاً فيصنعونه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله في أربع بقين من ذي القعدة، فلما انتهى الى ذي الحليفة زالت الشمس فاغتسل، ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر، وعزم بالحج مفرداً، وخرج حتى انتهى الى البيداء عند الميل الاَول فصف له سماطان، فلبى بالحج مفرداً، وساق الهدي ستاً وستين أو أربعاً وستين، حتى انتهى الى مكة في سلخ أربع من ذي الحجة فطاف بالبيت سبعة أشواط، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام، ثم عاد الى الحجر فاستلمه...

                                ـ وفي المسترشد|119:

                                العبدي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا الناس الى علي عليه السلام بغدير خم، وأمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ، وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس، وأخذ بضبعيه ورفعه حتى نظر الناس الى بياض إبطيه، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام ديناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي. انتهى.


                                ***
                                ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام ماروته مصادر الفريقين من أن النبي صلى الله عليه وآله كان لا يبدأ سفره إلا يوم الخميس، أو قلما يبدأه في غيره، كما في صحيح البخاري: 4|6 وسنن أبي داود 1|586، وتنص رواية ابن سيد الناس في عيون الأثر: 2|341 على أن سفر النبي من المدينة كان يوم الخميس.




                                وروى في بحار الأنوار: 16|272 عن الكافي بسندٍ مقبول عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا خرج في الصيف من البيت خرج يوم الخميس، وإذا أراد أن يدخل في الشتاء من البرد، دخل يوم الجمعة. انتهى.

                                ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام أيضاً ما رووه عن جابر بأن حركته صلى الله عليه وآله كانت لاَربعٍ بقين من ذي القعدة، كما يأتي من سيرة ابن كثير.

                                بل يؤيده أيضاً، أن البخاري وأكثر الصحاح رووا أن سفره صلى الله عليه وآله كان كان لخمسٍ بقين من ذي القعدة، بدون تحديد يوم راجع البخاري: 2|146 و 184 و 187 و: 4|7 وفيه (وقدم مكة لاَربع ليالٍ خلون من ذي الحجة)، والنسائي: 1|154 و 208 و: 5|121، ومسلم: 4|32، وابن ماجه: 2|993، والبيهقي: 5|33، وغيرها.

                                ويؤيده أيضاً أن مدة سيره صلى الله عليه وآله من المدينة الى مكة لا تزيد على ثمانية أيامٍ، وذلك بملاحظة الطريق الذي سلكه، والذي هو في حدود 400 كيلو متراً، وملاحظة سرعة السير، حتى أن بعض الناس شكوا له تعب أرجلهم فعلمهم شدها.

                                وملاحظة أن أحداً لم يرو توقفه في طريق مكة أبداً.

                                وملاحظة روايات رجوعه ووصوله الى المدينة أيضاً، مع أنه توقف طويلاً نسبياً في الغدير.. الخ.

                                ثم بملاحظة الروايات التي تتفق على وصوله الى مكة في الرابع من ذي الحجة. كما رأيت في روايات أهل البيت عليهم السلام ورواية البخاري الآنفة.

                                وبذلك تسقط رواية خروجه من المدينة لستٍ بقين من ذي الحجة، كما في عمدة القاري، وإرشاد الساري، وابن حزم، وهامش السيرة الحلبية: 3|257، لاَنها تستلزم أن تكون مدة السير الى مكة عشرة أيام!


                                ***



                                وبهذا يتضح حال القول المخالف لرواية أهل البيت عليهم السلام الذي اعتمد أصحابه رواية (خمس بقين من ذي القعدة) وحاولوا تطبيقها على يوم السبت، ليجعلوا أول ذي الحجة الخميس، ويجعلوا يوم عرفة يوم الجمعة تصديقاً لقول عمر، بل تراهم ملكيين أكثر من الملك، لما تقدم عن عمر من أن يوم عرفة كان يوم الخميس.

                                وممن قال برواية السبت ابن سعد في الطبقات: 2|124، والواقدي في المغازي: 2| 1089 وكذا في هامش السيرة الحلبية: 3|3، والطبري: 3|148، وتاريخ الذهبي: 2|701، وغيرهم.

                                وعلى هذه الرواية يكون الباقي من شهر ذي القعدة خمسة أيام هي: السبت والاَحد والاِثنين والثلاثاء والاَربعاء، ويكون أول ذي الحجة الخميس، ويكون يوم عرفة يوم الجمعة، وتكون مدة السير الى مكة تسعة أيام، إلا أن يكون الراوي تصور أن ذي القعدة كان تاماً، فظهر ناقصاً.

                                وقد حاول ابن كثير الدفاع عن هذا القول، فقال في سيرته: 4|217:

                                وقال أحمد... عن أنس بن مالك الاَنصاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات، ثم صلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين آمناً لا يخاف، في حجة الوداع. تفرد به أحمد من هذين الوجهين، وهما على شرط الصحيح. وهذا ينفي كون خروجه عليه السلام يوم الجمعة قطعاً.

                                ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس كما قال ابن حزم، لاَنه كان يوم الرابع والعشرين من ذي القعدة، لاَنه لا خلاف أن أول ذي الحجة كان يوم الخميس لما ثبت (بالتواتر والاِجماع) من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة، وهو تاسع ذي الحجة بلا نزاع.

                                فلو كان خروجه يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة، لبقي في الشهر ست ليال قطعاً: ليلة الجمعة والسبت والاَحد والاِثنين والثلاثاء والاِربعاء. فهذه ست ليال. وقد قال ابن عباس وعائشة وجابر إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة وتعذر


                                أنه يوم الجمعة لحديث أنس، فتعين على هذا أنه عليه السلام خرج من المدينة يوم السبت، وظن الراوي أن الشهر يكون تاماً فاتفق في تلك السنة نقصانه، فانسلخ يوم الاَربعاء واستهل شهر ذي الحجة ليلة الخميس. ويؤيده ما وقع في رواية جابر: لخمس بقين أو أربع.

                                وهذا التقريب على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه. والله أعلم. انتهى.

                                ويظهر من كلام ابن كثير عدم اطمئنانه بهذه التقديرات، لاَنه رأى تشكيك الخليفة عمر نفسه، وتشكيك سفيان الثوري الذي رواه البخاري، وتشكيك النسائي. وجزم ابن حزم بأن سفره صلى الله عليه وآله كان يوم الخميس.

                                ونلاحظ أن ابن كثير استدل على أن خروج النبي صلى الله عليه وآله يوم الخميس بالمصادرة على المطلوب فقال (لما ثبت بالتواتر والاِجماع من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة) فأي تواترٍ وإجماعٍ يقصد، وما زال في أول البحث ؟!

                                كما أنه استدل على أن سفر النبي صلى الله عليه وآله لم يبدأ من المدينة يوم الجمعة برواية أنس أن النبي صلى الظهر والعصر ولم يصل الجمعة، وهو استدلالٌ يرد نفسه ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام بأن بدء سفره كان الخميس لاَربعٍ بقين من ذي القعدة!

                                وتقدمت الرواية عندنا أنه صلى الله عليه وآله صلى الظهر والعصر في ذي الحليفة.

                                ولو صحت رواية أنس بأنه صلى الظهر في مسجده في المدينة، ثم صلى العصر في ذي الحليفة، فلا ينافي ذلك أن يكون سفره الخميس، بل يكون معناه أنه أحرم بعد العصر من ذي الحليفة، وواصل سفره صلى الله عليه وآله


                                ***
                                والنتيجة: أن القول بنزول آية إكمال الدين في يوم عرفة، يرد عليه إشكالاتٌ عديدةٌ، سواء في منطقه، أم في تاريخه وتوقيته.. تستوجب من الباحث المنصف أن يتوقف ولا يأخذ به.



                                فيبقى رأي أهل البيت عليهم السلام ومن وافقهم في سبب نزول الآية بدون معارض، لاَن المعارض الذي لا يستطيع النهوض للمعارضة كعدمه.. والمتن الكسيح لا ينفع معه السند الصحيح !!


                                وفي الختام:

                                فإن المجمع عليه عند جميع المسلمين أن يوم نزول الآية عيدٌ إلَهيٌّ عظيمٌ (عيد إكمال الدين وإتمام النعمة) بل ورد عن أهل البيت عليهم السلام أنه أعظم الاَعياد الاِسلامية على الاطلاق، ودليله المنطقي واضحٌ، حيث ارتبط العيد الاَسبوعي للمسلمين بصلاة الجمعة، وارتبط عيد الفطر بعبادة الصوم، وارتبط عيد الاَضحى بعبادة الحج.. أما هذا العيد، فهو مرتبطٌ بإتمام الله تعالى نعمة الاِسلام كله على الاَمة، وقد تحقق في رأي إخواننا السنة بتنزيل أحكام الدين وإكماله من دون تعيين آليةٍ لقيادة مسيرته..


                                وتحقق في رأينا بإكمال تنزيل الاَحكام، ونعمة الحل الاِلَهي لمشكلة القيادة وإرساء نظام الاِمامة الى يوم القيامة، في عترة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله.

                                ومادام جميع المسلمين متفقون على أنه عيدٌ شرعي، فلماذا يقبل علماء المسلمين ومفكروهم ورؤساؤهم أن تخسر الاَمة أعظم أعيادها، ولا يكون له ذكرٌ في مناسبته، ولا مراسمُ تناسب شرعيته وقداسته ؟!

                                فهل يستجيب علماء إخواننا السنة الى دعوتنا بالبحث في فقه هذا العيد المظلوم المغيب.. وإعادته الى حياة كل المسلمين، بالشكل الذي ينسجم مع عقائدهم وفقه مذاهبهم!

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                x

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة

                                اقرأ في منتديات يا حسين

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, اليوم, 07:21 AM
                                ردود 2
                                12 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة ibrahim aly awaly
                                بواسطة ibrahim aly awaly
                                 
                                يعمل...
                                X