الأساس الثاني: وحدة الأمة الإسلامية
وقد روى المسلمون فقرات الخطب التي تتعلق بالمبادىَ الخمس الأولى من هذا الأساس بكثرةٍ وحفظوها وكرروها، حتى ليتصور الإنسان لأول وهلة أنها الموضوع الوحيد في خطب حجة الوداع!
والسبب في ذلك: أن المجتمع العالمي كان في عصره صلى الله عليه وآله مجتمع تمييز حاد على أساس قومي وقبلي وطبقي.. كما أنه كان مجتمع (قانون الغلبة والقوة) فالغالب على حق دائماً، سواء كان حاكماً، أو قبيلة، أو فارساً، أو صعلوكاً.. لأنه استطاع أن يقهر الآخرين، أو يغزوهم ويقتلهم ويسرق أموالهم، أو يغصبها منهم عنوةً، أو يحتال عليهم بحيلة!
فجاءت تشريعات الإسلام لتلغي ذلك كله، وتعلن تساوي الناس أمام الشرع، وتحرم كل أنواع الإعتداء على الحقوق الشخصية، وتركز احترام الإنسان وملكيته وكرامته.
فالأمر الذي جعلهم يحفظونها أكثر من غيرها من كلمات النبي صلى الله عليه وآله، هو إعجاب المسلمين المؤمنين بها، وكونها تمثل الحل لمشكلة الغزو والقتل التي كانوا يعانون منها في الجاهلية القريبة.
وقد كان لهذه التوجيهات بصيغها الإلَهية والنبوية البليغة، تأثيرٌ كبيرٌ على مجرى احترام الإنسان وماله وعرضه ورأيه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، إذ لولاها لساء وضع مجتمع المسلمين أضعافاً مضاعفة عما وصل اليه من سوء، ولعادت النظرة الى الإنسان والتصرف معه الى الحالة الجاهلية مئة بالمئة!!
والملاحظ بعد النبي صلى الله عليه وآله أن أكثر الناس احتراماً للإنسان وحرياته المشروعة، هم عترته وأهل بيته الطاهرون، فعلي عليه السلام هو الحاكم الوحيد بعد النبي صلى الله عليه وآله الذي لم يستعمل قانون الطوارىَ أو الأحكام العرفية، ولا أي قانون استثنائي، حتى مع
خصومه والممتنعين عن بيعته، بل حتى في حالات الحرب.. مع أنه ابتلي بثلاثة حروب استوعبت مدة خلافته كلها!
بينما استعمل أبو بكر وعمر منطق القوة والقهر في السقيفة ضد الأنصار، وهموا بقتل سعد بن عبادة، ثم هاجموا الممتنعين عن بيعتهم وهم مجتمعون في بيت علي وفاطمة عليهما السلام، وكانوا في تعزية بوفاة النبي صلى الله عليه وآله! بل روي أن جنازته كانت مسجاةً لم تدفن بعد! وهددوهم بإحراق البيت عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا! ولما تأخروا عن الخروج أشعلوا النار في الحطب وأحرقوا الباب.. الخ. !!
***
وأما المبدأ السادس من هذا الأساس (من قال: لا إله إلا الله فقد عصم ماله ودمه) فقد جاء في رواية تفسير علي بن ابراهيم القمي بصيغة (وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله). وهو مبدأ له ثلاثة أبعاد:
الأول:
أن من أعلن الشهادتين من أي دين أو قبيلة كان فهو مسلم، يحرم ماله ودمه وعرضه، إلا إذا انطبقت عليه مواد الفئة الباغية، أو المفسد في الأرض، أو قتل أحداً عمداً، أو ارتد عن الإسلام، أو زنى وهو محصن...
الثاني:
أن أهل الكتاب مستثنوْن من هذه القاعدة، والموقف منهم في الحرب والسلم حسب أحكام التعايش الإسلامية الخاصة بهم.
الثالث:
أن النبي صلى الله عليه وآله أشهد أمته أنه تقيد في الجهاد بأمر ربه عز وجل، ولم يتعداه .. فمهمته في الجهاد إنما كانت على تنزيل القرآن، وتحقيق إعلان الشهادتين فقط، أي لتكوين الشكل الكلي للأمة، ولم يؤمر بقتال المنحرفين، أو الذين يريدون أن ينحرفوا من المسلمين، لأن ذلك قتالٌ على التأويل، يكون من بعده، لا في عهده.
***
وأما المبدأ السابع (ختام النبوة به صلى الله عليه وآله وختام الأمم بأمته) فقد ورد في رواية مجمع الزوائد المتقدمة وغيرها (فقال لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، فاعبدوا ربكم، وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ولاة أمركم، ثم ادخلوا جنة ربكم).
وهو مبدأ هيمنة شريعته صلى الله عليه وآله على شرائع الأنبياء السابقين عليهم السلام.. وردُّ مدعي النبوة الكذابين، الذين ظهر بعضهم في زمنه صلى الله عليه وآله، وظهر عددٌ منهم بعده.
كما أنه يعطي الأمة الإسلامية شرف ختام أمم الأنبياء عليهم السلام، ويلقي عليها مسؤولية هذه الخاتمية في هداية الأمم الأخرى.
وقد حدد النبي صلى الله عليه وآله لهم الخطوط العامة بعبادة الله تعالى والصلاة والصوم وإطاعة ولي الأمر.. ولكن لا يبعد أن الراوي نقل ماحفظه من كلامه صلى الله عليه وآله ونسي بعضه كالزكاة والحج.
ومن الملاحظ في هذه المبدأ وجود فريضة إطاعة ولي الأمر على لسان النبي صلى الله عليه وآله وإذا أوجب الله تعالى إطاعة أحدٍ بدون شروط، فمعناه أنه معصومٌ لا يظلم ولا يأمر ولا ينهى إلا بالحق.. وبما أن النص النبوي لم يذكر شروطاً لإطاعة أولي الأمر، فيكون مقصوده الإثني عشر إماماً المعينين من الله تعالى، الذين بشر الأمة بهم.
***
وأما المبدأ الثامن (شهادة النبي صلى الله عليه وآله على الأمة في الآخرة، وموافاتها له على الحوض) فقد ورد في مصادر متعددة كما مر، وفي بعضها (ألا وإني فرطكم علىالحوض وأكاثر بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي) وفي بعضها (وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تقتتلن بعدي) وهو أسلوبٌ نبوي فريدٌ في التأكيد على الأمة في وداعها، بأنها ستوافي نبيها بين يدي ربها، ويكون كل فردٍ منها بحاجة ماسةٍ الى أن يسقى من حوض الكوثر، شربةً لا يظمأ الإنسان بعدها أبداً، ويصلح بها بدنه لدخول الجنة.
فهذا التوجيه منه صلى الله عليه وآله كمثل أبٍ يقول لأولاده: إعملوا بوصيتي، فإني مسافرٌ عنكم، وسوف أرجع اليكم وآتي بأموالٍ كثيرة، وتكونون في حالة فقرٍ شديدة، وسأعرف من يعمل بوصيتي منكم، ومن يخالفني!
وأما المبدأ التاسع (تحذير الأمة من محقرات الأعمال) ففيه إلفاتٌ الى قاعدة مهمة في السلوك الفردي والإجتماعي، وهي أن الإنحراف يبدأ بأمر صغير، أو أمور تبدو بسيطة، يحتقرها الإنسان ولا يراها مهمةً في ميزان التقوى.. وإذا بها تستتبع أموراً أخرى، وتجره الى هاوية الهلاك الأخروي، أو الدنيوي!
وهو أمرٌ مشاهد سواءً في حالات الهلاك الفردي أو الإجتماعي..
فقد يتسامح المسلم في النظر الى امرأة أجنبية تعجبه، ويتسامح في الحديث معها، ثم في التصرف.. حتى ينجر أمره الى الفاحشة!
وقد يتسامح في اتخاذ صديق سوء، ولا ينصت الى صوت ضميره الديني، ونصح ناصحيه.. حتى يغرق معه في بحر ظلمه للناس، أو بحر انحرافه ورذيلته!
وقد تتسامح الأمة في اعتداء الأجانب عليها، أو في نفوذهم السياسي، أو الإقتصادي أو الثقافي في بلادها.. فينجر الأمر الى تسلطهم على مقدراتها، وسيطرتهم عليها!
أو يتسامح المجتمع في مظهر من مظاهر الفساد والمنكر أول ما يحدث في محلة أو منطقة منه، أو في فئة من فئاته..
أو يتسامح المجتمع في شروط حاكمه، ووزرائه وقضاته، أو في ظلمهم وسوء سيرتهم.. فينجر ذلك الى شمول الفساد في المجتمع، وتسارع هلاكه!
فالمحقرات من الذنوب هي المواقف أو التصرفات الصغيرة، التي تكون في منطق الأحداث والتاريخ بذوراً غير منظورة، لشجرة شرٍّ كبيرة، على المستوى الفردي أو الإجتماعي!!
وبهذا ورد تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وآله في مصادر الطرفين..
ـ ففي الكافي 2|288، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: إئتوا بحطبٍ، فقالوا: يارسول الله نحن بأرضٍ قرعاء ما بها من حطب! قال: فليأت كل إنسانٍ بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات
من الذنوب، فإن لكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين. انتهى.
ـ وفي سنن البيهقي: 10|188
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم ومحقرات الأعمال، إنهن ليجمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً، كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل يجىَ بالعويد، والرجل يجىَ بالعويد، حتى جمعوا من ذلك سواداً، ثم أججوا ناراً، فأنضجت ما قذف فيها. انتهى.
وهذان الحديثان الشريفان ناظران الى التراكم الكمي للذنوب والأخطاء المحقرة، وكيف تتحول الى خطر نوعي في حياة الفرد والمجتمع.
وقد يكون الحديثان التاليان ناظرين الى التراكم الكيفي في نفس الإنسان والمجتمع، وشخصيتهما..
ـ ففي الكافي: 2|287
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: اتقوا المحقرات من الذنوب، فإنها لا تغفر! قلت: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك!
ـ وفي سنن ابن ماجة: 2|1417
عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً. في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات. انتهى. ورواه الدارمي: 2|303، وأحمد: 6|70 و 151
ومن القواعد الهامة التي نفهمها من هذا التوجيه النبوي: أن الشيطان عندما ييأس من السيطرة على أمة في قضاياها الكبيرة، يتجه الى التخريب والإضلال عن طريق المحقرات! (ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعةٌ في بعض ما تحتقرون من أعمالكم، فيرضى بها (سنن ابن ماجة: 2|1015)
فقد كان الإسلام الذي أنزله الله تعالى، وبناه رسوله صلى الله عليه وآله صرحاً كبيراً وقلعةً محكمة، يئس الشيطان من قدرته على هدمها، فاتجه الى إقناع شخص من أهلها بسحب حجر واحدٍ صغير من جنب الجدار، ثم حجرٍ آخر.. وآخر.. حتى يفرغ تحت الأساس فينهار الصرح على من فيه!
ومن الأمور الملفتة التي وردت في التوجيه النبوي في رواية علي بن ابراهيم أن إطاعة الشيطان في محقرات الذنوب عبادةٌ له، فالذين يبدؤون بالإنحراف في مجتمع، إنما يعبدون الشيطان ولا يعبدون الله تعالى، وهم بدعوتهم الى انحرافهم يدعون الأمة العابدة لله تعالى الى عبادة الشيطان.. (ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد!).
كما أن شهادة النبي صلى الله عليه وآله بأن الشيطان راض بما تحتقرون من أعمالكم، شهادةٌ خطيرة يخبر بها عن ارتياح الشيطان من نجاحه في مشروعه في إضلال الأمة، وهدم صرحها عن طريق المحقرات.. وهو ينفع في تفسير قوله تعالى: ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين. سبأ ـ 20
أما أهل البيت عليهم السلام فقد اعتبروا أن طمع الأمة بالسلطة بعد النبي صلى الله عليه وآله وصراعها عليها، كان أعظم المحقرات التي ارتكبتها بعد نبيها.. ففي بحار الأنوار: 28|217 عن الإمام الباقر عليه السلام قال في تفسير قوله تعالى: ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس قال: ذلك والله يوم قالت الأنصار: منا أميرٌ ومنكم أمير! انتهى.
***
وأما المبدأ العاشر (تحذير النبي صلى الله عليه وآله من الكذب عليه) فقد ورد في روايتي أحمد المتقدمتين وغيرهما، ووردت فيه أحاديث كثيرة مشددة في مصادر الشيعة والسنة، تدل على أن هذه المشكلة كانت موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وآله، وأنه أخبر بأنها ستزداد من بعده، ويكثر الكذابون عليه!
والمتأمل في هذه المشكلة ينفر من هؤلاء الكذابين، لأن عملهم عملٌ شيطاني من شأنه أن يشوه الإسلام ويزوره، ويمنع وصوله الى الأجيال.. خاصة أن النبي صلى الله عليه وآله لم يكن مأموراً بفتح جبهة داخلية مع أصحابه أبداً، ولم يؤمر بفضح هؤلاء الكذابين ولا بمعاقبتهم على كذبهم الماضي أو الآتي!!
فهل يكفي في معالجة المشكلة تحذير الكذابين، وتحذير الأمة منهم؟!
من الواضح أن ذلك العلاج لا يؤثر إلا تقليل حجم المشكلة الكمي، ولذا فإن تصريح النبي صلى الله عليه وآله بوجودها، وإخباره باستمرارها وتفاقمها بعده، دليلٌ على أنه وضع لها بأمر ربه الحكيم، علاجاً كافياً..
وقد كان العلاج وجوب عرض أحاديثه التي تروى عنه على الثقلين اللذين تركهما في الأمة وأوصاها بهما.. فكل حديث خالف كتاب الله تعالى فهو زخرفٌ باطل، يستحيل أن يكون صادراً من النبي صلى الله عليه وآله، لأنه لا يقول مايخالف القرآن.. وكل حديث يخالف ماثبت عن عترته الذين هم مع القرآن، فهو باطلٌ أيضاً لأنهم مع القرآن دائماً، ولأنهم ورثة النبي صلى الله عليه وآله والمبينون علومه للأمة من بعده.
تعليق