بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وال محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مشاركة سابقة لي في موضوع الحياة والوجود ربما تضيف بعض الشرح لما يحاول الإخوة الوصول إليه من الصورة الإجمالية للوجود والخلق والمخلوقات أدرجها هنا مع بعض التعديل ربما تفيد في اكمال الصورة أو على الأقل تفيد في تعديلها عندي اذا اعترض على بعض تفاصيلها بعض الإخوة الأفاضل.
لقد لخص أهل البيت في أكثر من موضع عملية الخلق بشكل لا يقبل الخلط، فقالوا أن الخلق هو قدر فقضاء فامضاء، والرواية التالية مثال لما أوضحوه سلام الله عليهم أجمعين:
عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (إن الله إذا أراد شيئاً قدّره, فإذا قدّره قضاه, فإذا قضاه أمضاه).
وعليه فإن الحياة أو بث الحياة في الموجودات أو المخلوقات ينحصر بين هذه الأفعال الثلاثة فإمّا يكون هو التقدير أو هو القضاء أو هو الإمضاء
أما القدر فهو ما كتبه القلم في الألواح
فمما جاء في البحار
عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون ) فقال : إن أول ما خلق الله القلم ، ثم خلق النون ، وهي الدواة ، ثم خلق الالواح فكتب الدنيا وما يكون فيها حتى تفنى ، من خلق مخلوق ، وعمل معمول ، من بر أو فجور وما كان من رزق حلال أو حرام ، وما كان من رطب ويابس ، ثم ألزم كل شئ من ذلك شأنه ، دخوله في الدنيا متى ، وبقاؤه فيها كم ، وإلى كم يفنى ، ثم وكل بذلك الكتاب الملائكة ، ووكل بالخلق ملائكة فتأتي ملائكة الخلق إلى ملائكة ذلك الكتاب فينسخون ما يكون في كل يوم وليلة مقسوم على ما وكلوا به ، ثم يأتون إلى الناس فيحفظونهم بأمر الله ويستبقونهم إلى ما في أيديهم من تلك النسخ .
فقام رجل فقال : يا ابن عباس ما كنا نرى هذا ! أتكتب الملائكة في كل يوم وليلة ؟ فقال : ابن عباس : ألستم قوما عربا ؟ ! ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) هل يستنسخ الشئ إلا من كتاب ؟ !
وهذا المعنى نجده واضحا في قوله تعالى :
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
ونجده كذلك واضحا في الكثير من روايات أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين، مثل ما جاء عن أمير المؤمنين سلام الله عليه في إسألوني قبل أن تفقدوني
فالقدر أو الأقدار إذن هي ما كتبه القلم في الألواح، وهي هندسة المخلوقات من طولها وعرضها وآجالها و و و،
ولا أعتقد أن الحياة تكمن في الأقدار أو عملية التقدير أو الكتابة، لأن الحياة قد دبت بنفس تلك التقديرات أو بنفس تلك الكلمات والحروف والآجال وهي تلك المخلوقات، برّها وفاجرها، والتي كتب القلم أقدارها في الالواح،
نأتي للقضاء وهذا الفعل يأتي ثانيا بعد الكتابة أو التقدير كما تقول الرواية ونحاول أن نعرف إن كانت الحياة معلولة للقضاء،
فما هو القضاء؟
القضاء حسب فهمي له هو اعتماد ما كتبه القلم في اللوح وإثباته ناموسا للخلق ونظاما للحياة التي يريد الله تبارك وتعالى أن يجريها بعد أن كتبها القلم، فالقضاء هو بمثابة الحاكم على القلم وما يكتبه في الألواح من أقدار،
مثال ذلك أن يكتب مؤلف ما قصة ما بنية إخراجها كفلم سينمائي، فبعد أن يكتب قلم الكاتب النص ويحدد به مقادير وآجآل وتوقيت وتسلسل الأحداث يعرضه حينها على القادر الذي بيده القرار في قبول أو رفض هذا النص كما قُدم له، فهو الحاكم على صلاحية ما كتبه القلم في النص من أحداث ومقادير وتسلسل الأحداث ومدى موافقته للحكمة التي يريد اظهارها في النص
لذلك لا أعتقد أن الحياة تنبع أو أنها معلولة للقضاء بشكل مباشر
يبقى عندنا الإمضاء
وهو كما أفهمه المباشرة ببدء عملية الخلق كما كتبها وقدرها العليم بعلمه في لوحه،
إعتمادا على موافقة القدير وقضائه باعتماد ما كتبه القلم في اللوح أساسا ونظاما للخلق والتصوير وتنزّل الملآئكة بتلك المقادير بنفس التسلسل الذي كتبه القلم في اللوح بدون زيادة أو نقصان
وما يدفعني لهذ الإعتقاد هو مضمون الرواية التالية عن أهل بيت العصمة سلام الله عليهم أجمعين
حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد بن عامر، عن معلى بن محمد، قال: سئل العالم عليه السلام كيف علم الله؟ قال: علم، وشاء، وأراد، وقدر، وقضى، وأبدى، فأمضى ما قضى، وقضى ما قدر، وقدر ما أراد، فبعلمه كانت المشية، وبمشيته كانت الإرادة، وبإرادته كان التقدير، وبتقديره كان القضاء، وبفضائه كان الامضاء، فالعلم متقدم المشية والمشية ثانية، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع على القضاء بالامضاء، فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء، فالعلم بالمعلوم قبل كونه، والمشية في المنشأ قبل عينه، والإرادة في المراد قبل قيامه، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا وقياما، والقضاء بالامضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام المدركات بالحواس من ذي لون وريح ووزن وكيل وما دب ودرج من إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس، فلله تبارك وتعالى فيه البداء مما لا عين له، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء، والله يفعل ما يشاء، وبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وبالمشية عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها وبالإرادة ميز أنفسها في ألوانها و صفاتها وحدودها، وبالتقدير قدر أوقاتها وعرف أولها وآخرها، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلهم عليها، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها، وذلك التقدير العزيز العليم.انتهى
وبكلمات أخرى سأحاول أن أبين الفكرة إن شاء الله
فالله خلق المشيئة بذاتها
وبالمشيئة قدر وأثبت بالألواح أو في ليلة القدر من علمه أقدار كل شيئ ما كان وما يكون وما سيكون إلى قيام الساعة،
ثم قضى بقدرته اعتماد تلك المقادير أو اعتماد هياكل التوحيد في الألواح،
فتقادير ما كان وما يكون منذ بدء الخليقة موجودة فيها ومقضي حدوثها،
أما الإمضاء فهو سقوط نور ذلك النور الذي أشرق منذ الأزل على تلك المقادير،
أو بتعبير أمير الموحدين على هياكل التوحيد،
فما أشرق عليه النور المشرق من صبح الأزل أو الإمضاء من تلك المقادير دبت به الحياة وظهرت به الحركة والزمن أو الحياة،
فإذا مر ذلك النور أو الإمضاء من على تلك المقادير وجاوزها عادت لحالتها السابقة مجرد مقادير،
ولكنها هذه المرة مقادير محفوظة في كتاب الله لحين الحاجة إليها مرة أخرى في موقف آخر،
فهي كانت مقادير مقضي حدوثها
فإذا أشرق علي بعضها الإمضاء أو النور حدثت ودبت بها الحياة
فإذا جاوزها النور أصبحت من الماضي أو من المقادير المخزونة في كتاب الله
وكمثال حسّيّ لتوضيح هذه الفكرة أضرب المثال التالي:
شريط فيديو مرقوم digital
فالأحداث المخزونة عليه قبل أن يمر رأس الفيديو على ذلك الموضع المرقوم تكون مجرد مقادير مقدرة ومثبتة،
ولكن الحياة تدب بتلك المقادير المقدرة والمثبتة على الشريط بمجرد مرور الرأس عليها
لتتحول حينها تلك الأرقام المثبتة على الشريط الممغنط لأحداث متحركة ومتتابعة بشكل سيّال
فإذا تعدّاها رأس الفيديو عادت لما كانت عليه مجرد مقادير مقدرة ومثبتة،
فالحركة أو الزمن أو الحياة من هذا المثال الحسّي هي أثر إشراق النور الأزلي على بعض تلك المقادير المقدرة بعلمه والمقضي حدوثها بقدرته في ليلة القدر،
فالزمن أو الحياة إذن هو أثر إمضاء المقادير المقضي حدوثها أو أثر إشراق النور على هياكل التوحيد
فإذن جميع المخلوقات المقدسة أو غير المقدسة أو حتى المحتقرة تتساوى في رتبة وجودها في الألواح قبل أن تدب الحياة بها بالإمضاء
فجميعها فيه مجرد مقادير مقدرة ومقضي حدوثها بالإمضاء، وهي بهذا الإعتبار كلها جميلة تكوينا ولا قبح تكويني بها
والقبح الإعتباري أو التشريعي لتلك المقادير يكون فقط في حالة الإمضاء وليس قبله أو بعده، فقبله وبعده هي مجرد مقادير مثبتة ومحفوظة في كتاب الله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.
تعليق