جاء في الرواية (... فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي بكر: أخْرِج منْ عندك، فقال أبو بكر: إنّما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله )، وقد إ حتاروا في تفسير قول أبي بكر رضي الله عنه ( إنّما هم أ هلك )، وهناك إ تجاهان بشكل عام: ــ
الإتجاه الأول: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد عقد على عائشة بنت أبي بكر قبل الهجرة، وقد كانت أبنة ست سنين.
الإتجاه الثاني: أنّه على وزان قول الشخص لآخر: أهلي أهلك.
من الواضح أن التوجيه الأول لا يستقيم، ففي البيت أسماء بنت أبي بكر وأخاها عبد الله فضلاً عن إبن فهيرة، ولتوجيه الثاني مجرّد ظن لا دليل عليه.
مفارقتان أخريتان
تقول الرواية في الجامع (... إنّما هم أهلك... )، فيما في السيرة الهشامية نقرأ (... إنّما هما إبنتاي... ) رغم وحدة السند، وتقول الرواية في الجامع ( ... ولم يمر علينا يوم إلاّ يأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيّة )، فيما في السيرة الهشاميّة وبنفس السند نطالع (... لا يخطيء أن يأتي رسول الله صلى ا لله عليه وسلم بكرة أو عشيّاً... ) ولم يستطع الحلبي الجمع بينهما .
منطقة فراغ مجهولة
تقول الرواية أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بيت أبي بكر في نحر الظهيرة أي وقت الزوال حيث أشد ما يكون الحر، وفي تلك الفترة تمّ إستئجار الدليل وإعداد الطعام فضلاً عن الحوار حول الهجرة والصحبة، وبذلك فأن المعقول يفيد بأنّهما خرجا من البيت وقت العتمة على أقل التقادير، وهو ما جاء في طبقات إبن سعد ( قدم رسول االله صلى الله عليه وسلم الى منزل أبي بكر فكان فيه إلى الليل ثمّ خرج هو وأبو بكر إلىغار ثور فدخلاه ) 37 الطبقات 1 / 288. ولكن في السيرة التي كتبها دحلان نقرأ (... وفي رواية أحمد: حتى لحق ــ أي رسول الله ــ بالغار فأفاد أنّه توارى فيه حتى أتى أبا بكر منه في نحر الظهيرة ثمّ خرج إليه هو وأبو بكر ثانيا... ) 38 سيرة دحلان على هامش الحلبية 1 / 307، وعليه وحسب رواية أحمد التي ينقلها دحلان، يكون النبيّ الكريم قد توجّه في الوهلة الأولى إلى الغار، وبقي فيه الى اليوم الثاني، وفي اليوم الثاني خرج من الغار إلى بيت أبي بكر ، ومن هناك أنطلقا سوية من جديد إلى الغار ! ورواية عائشة رضي الله عنها خالية من هذا التفصيل. وفي خصائص النسائي (... تشاور المشركون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلع الله نبيّه على ذلك فخرج تلك الليلة حتى أتى الغار ) 39 نقلا عن السيرة الحلبيّة 3 / 34، فلم نجد تفاصيل الرواية كما يُنقل عن عائشة، كانت هجرة مباشرة من البيت الى الغار كما يستفاد من ظاهر الكلام، وقد حاول الحلبي أن يجمع بين هذه المتضادات والمفارقات بقوله (... وقد يُقال: لا منافاة لأنّ قوله حتى لحق بالغار غاية لمطلق الخروج من بيته، لا في خصوص تلك الليلة، أي: خرج من بيته واستمرّ على خروجه حتى لحق بالغار، وذلك في الليلة الثانية، ولكن تقدّم أنّه صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر متقنّعاً في وقت الظهيرة فليتأمل )40 نفس المصدر 3 / 35 ومن الواضح أعترافه بالعجز
الرواية ومنطق الأشياء
تواجه رواية عائشة رضي الله عنها أكثر من مشكلة يقتضيها منطق الأشياء، فمن حقنا ان نسأل عن المدّة الزمنية المحصورة بين اللحظة التي ترك بها الرسول بيته الشريف ( العتمة الأولى، منتصف الليل، التعتمة الآخرة )، واللحظة التي وصل فيها بيت أبي بكر ( الهاجرة )، تُرى أين أمضاها ؟ نعتقد أنّه سؤال مهم ومشروع إذ لاحظنا بدقة طرف الحدث، فهو هروب أو فرار، والمشركون كانوا يتربصون به المنون، وأصحابه أمّا في الحبشة أو المدينة أو متوارين في مكّة، مستضعف لا حول له ولا قوّة، ولذا هي فترة حرجة جداً بالنسبة للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وأعتقد أنّ رواية أحمد بن حنبل التي ينقلها دحلان والتي يقول فيها أنّ النبيّ الكريم توجّه في الليلة الأولى مباشرة إلى الغار ثم في اليوم النهار التالي ذهب إلى بيت أبي بكر إنّما جيئ بها لمعالجة هذه الثغرة، ولكنّه علاج بارد بل يعقّد المشكلة، خاصّة وأنّ تكاليف هذا السلوك كثيرة وخطيرة، ولعلّ إشارة النسائي الى أن الهجرة كانت في الليلة الأولى ، أي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم هاجر مباشرة من البيت الى الغار، إنّما هي محاولة للتغلب على هذه المشكلة أو مصادرتها، ومهما يكن من أمر، فإن رواية عائشة رضي الله عنها تستدعي مثل هذا السؤال، وهو سؤال لم نجد له حلاّ.
إن الأقرب للواقعية أن ينأى النبي الكريم من الذهاب إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، لانّ بيته كان مراقبا على أغلب الظن، ومن الصعب التخفي بالتقنّع، والبيت حتما مراقب ومرصود باعتبار العلاقة بين النبي وأبي بكر، ممّأ يذكر هنا أن بيت آل أبي بكر تعرّض لهجوم مباغت، ففي سيرة إبن هشام ( فحدّثت عن أسماء بنت أبي بكر أنّها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت لهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر ؟ قالت: قلتُ: لا أدري والله أين ؟ قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خديّ لطمة طرح منها عقدي ) 41 السيرة الهشامية 2 / 131. وقصدي من هذا الشاهد أن عمليّة الرصد والملاحقة قائمة، ولعلّ الإشارة إلى ( تقنّع ) الرسول في الرواية يعزّز هذا الرأي بل هو بديهي، إلأ أن التقنّع لا يحل المشكلة أبداً، لان العرب أهل قافة ومعرفة، ومحمّد صلى الله عليه وآله وسلم لا يخفى عليهم متقنّعاً، وحاسّتهم الفطرية تشخّصه من قامته ومشيته وغيرها من مشخّصات الفراسة التي عُرف بها العرب، بل أكثر من ذلك أن عمليّة التقنّع ذاتها مثيرة.
إن نظرة سريعة في تضاعيف الرواية تكشف بوضوح عن تصعيد مرسوم لبيت معيّن، وذلك بشكل وآخر، فاسماء بنت أبي بكر هي التي جهّزت السُفرة، وعبد الله بن أبي بكر كان أمين السر، ولاننسى وصفه بالمتن على لسان أخته رضي الله عنها بالثقف اللقن، وعامر بن فهيرة الذي مارس دور التمويه هو مولى أبي بكر، وسند الرواية ينتهي إلى عروة إلى عائشة، وعروة هو إبن أسماء بنت أبي بكر، وكان قد تربّى في أحضان عائشة، وبهذا نكتشف عناصر التجاذب بن المتن و السند.
تعليق